يقدم محرر (الكلمة) هنا قراءته لواحدة من الروايات الفرنسية الباكرة التي أسست للتفكير العقلي والنقدي، وساهمت في زعزعة الفكر الديني ولاهوته العقيم. فقد كتبها أحد أبرز مفكري الاستنارة الفرنسية قبل الثورة الفرنسية، وما أحوجنا للتعلم منها عقب ثورات الربيع العربي والتي تحتاج منا إعادة تأسيس قواعد التفكير.

«جاك القدري» وسحر بنية الاستطرادات المتقاطعة

ديدرو وتأسيس السرد المبكر للتفكير العقلي والنقدي

صبري حافظ

بصدفة سعيدة وقعت في يدي الترجمة المصرية الأولى لواحدة من روائع الأدب الفرنسي، طالما تمنيت ترجمتها للغة العربية، وهي رواية «جاك القدري» لأحد أبرز فلاسفة الثورة الفرنسية وهو ديني ديدرو (1713 – 1784). وهي الرواية التي صدرت مؤخرا ضمن سلسلة «المائة كتاب» التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة في ترجمة سلسة لحسن عبدالفضيل. وترجع هذه السعادة ليس فقط لأهمية هذه الرواية الباكرة في تاريخ الرواية فحسب، فما أن صدرت حتى تلقفها جوته وشيلر وترجماها للألمانية؛ حيث تقف جنبا إلى جنب مع رواية لوارنس ستيرن (تريسترام شاندي) 1759 التي أرجو أن تظهر هي الأخرى في هذه السلسلة الجيدة، باعتبارها من الروايات السابقة لعصرها؛ ولكن أيضا لأنها من الروايات التي أرست فكر الاستنارة العقلي وأهمية الحرية والإرادة الإنسانية المستقلة، وقدمته بنصاعة ويسر إلى القارئ العادي، بل أقول وحببته فيه. وقد استمتعت كثيرا بقراءة هذه الرواية في تلك الترجمة العربية لأنها وقد صدرت في سياق التمهيد للاستنارة والثورة الفرنسية في العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر، تأتي بعد ثورة 25 يناير المصرية التي نحتاج معها إلى تأسيس الكثير مما حاولت هذه الرواية تكريسه من أسس التفكير العقلي والمنطقي. وأن تشجع القارئ العادي على طرح الأسئلة المنطقية والمدببة في مواجهة تصاريف القدر دون تردد أو وجل.

والواقع أن هناك اتفاق بين الكثيرين ممن كتبوا عن الثورة الفرنسية على الدور المهم الذي لعبته المجموعة التي تعرف بمصطلح الفلاسفة Les Philosophes أو بالأحرى فلاسفة الاستنارة والتي تضم عددا من أبرز أعلام فكر تلك المرحلة، وعلى رأسهم مونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو الذين أرسوا دعائم فكر الحرية والحكم الديموقراطي الرشيد. بدءا من كتاب مونتسكيو (روح الشرائع) الذي أسس مبدأ الحكم الدستوري والسلطات المنفصلة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإن أبقت شرائعه على روح السطلة القديمة سواء أكانت سلطة النبلاء الذين ينتمي إليهم أو رجال الدين. لكن أفكاره الأساسية عن الحكم الدستوري سرعان ما تطورت على أيدي روسو وفلسفته في الحرية التي غيرت شرائع مونتسكيو واستبدلت بها (العقد الاجتماعي) كأساس لحياة المجتمع، بالصورة التي أجهزت كلية وإلى الأبد على الأسس الفكرية للحكم الملكي، معتبرة الشعب مصدر كل السلطات، مؤكدة حق الفرد في أن يحكم نفسه بنفسه، ويعيش وفق القوانين التي يسنها لنفسه، حيث لا يستطيع أن يكون حرا إلا إذا حكم نفسه بنفسه. وصولا إلى فولتير وأفكاره عن «سلطة الاستنارة المطلقة» والاعتماد على العلم في القضاء على الميتافيزيقا التقليدية وتحقيق التقدم والسيطرة على الطبيعة لخلق عالم أفضل على جميع المستويات المعيشية والصحية، التي اعتمد عليها نابليون في انقلابه على الثورة، ومواصلته لمسيرتها في آن، عبر ما دعاه بـ«الحكومة العلمية» القوية القادرة على تحقيق أهدافها. وقد ركز فولتير على روح التسامح وضرورة تحقيق وحدة المجتمع حتى ولو بالقوة، لأن الدولة المركزية القوية هي الضمانة الأساسية لحماية حرية المواطنين. حيث لا يقبل فكرة السلطات المنفصلة التي تراقب كل منها الأخرى بغية تحقيق الحرية عبر توازناتها المختلفة، وإنما يفضل قوة مركزية قادرة على القضاء على أخطار القوى الأخرى التي تتهدد الحرية.

ويعود الفضل لديدرو الذي مات قبل اندلاع الثورة الفرنسية بخمسة أعوام في تحويل الكثير من أفكار الاستنارة المهمة تلك إلى أدوات فاعلة في الواقع وقادرة على إلهامه وتغييره. فقد بدأ عام 1751 في تحرير الموسوعة وكرس القسم الأكبر من طاقته طوال ما بقي من حياته بعدها لتحريرها. بالصورة التي كرست سلطة العلم والمعرفة بشكل كامل. وأحالت تمحيص الحقائق بشكل علمي ومنهجي إلى أساس لأي جدل فكري أو سياسي. وأرست الأسس الموضوعية والمعيارية لأي خلاف، وجعلت القضاء على الخرافة والميتافيزيقا واقعا ملموسا. فلا يدخل إلى ساحتها إلا كل ما يتم تمحيصه فكريا وعلميا باعتباره حقائق لا مماراة فيها، ويمكن بالتالي الاعتماد عليها. بالصورة التي يعتبره الكثيرون معها مسؤولا عن تحقيق النقلة الفكرية مما يعرف بالكوجيتو الديكارتي الشكي الذي أسسه رينيه ديكارت (1596 – 1650) René Descartes قبل ذلك بقرن كامل «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، إلى الكوجيتو العقلاني المعرفي الذي تبلور بعده بشكل ناصع في سفري كانت (1724 – 1804) الكبيرين: (نقد العقل الخالص) 1781 و(نقد العقل العملي) 1788. بل يعتبره البعض مسؤولا عن وضع بذور فكرة الجدل الفلسفية التي بلورها هيجل فيما بعد، فوق ميراث كانت العقلي، والتي نجد تجلياتها الناصعة في روايته تلك.

فقد كان ديدرو كاتبا موسوعيا بمعنى الكلمة، ومفكرا متعدد المواهب، ومبدعا خلاقا يكرس أعماله الإبداعية في المسرح والرواية لنشر أفكاره والبرهنة عليها. وكأي فيلسوف بارع يستطيع أن يكشف لقرائه مدى تغلغل تلك الأفكار الجديدة في واقع حياتهم اليومية البسيطة، والبرهنة عليها من خلال أدق تفاصيل الحياة الصغيرة وتصرفات البشر فيها؛ وأن يقدم تلك الأفكار الفلسفية لهم بشكل سهل وملموس معا. وتنطوي روايته الجميلة والممتعة معا (جاك القدري وسيده Jacques le Fataliste et son Maitre) على الكثير من تلك الأفكار، دون أي تعمّل أو سفسطة. فهي رواية تنتمي إلى جنس رواية المغامرات الشعبية التهكمية الساخرة المعروفة باسم البيكاريسك Picaresque والتي يرجع بعض الدارسين جذورها إلى تأثيرات الأدب العربي القديمة في الأندلس، وخاصة مقامات بديع الزمان الهمذاني، ومغامرات بطله الشهير عيسى بن هشام، وما يتعرض له من مواقف مختلفة لا رابط بينها، مما يضع أساس البنية المفككة «الإبيسودية» لهذا الشكل السردي. لكن البيكاريسك الأوروبية تستمد معظم خطوطها الأساسية، وملامحها الفنية، من رواية ميجيل دي سيرفانتس (1547 – 1616) الشهيرة (دون كيخوته Don Quixote)؛ وهو الأمر الذي نلمس آثاره في (جاك القدري) التي تنطوي على الكثير من ملامح رواية البيكاريسك. من الافتقاد إلى الحبكة الكلية والمحكمة للعمل، والاعتماد على سلسلة من الحكايات التي لا نجد بينها إلا أوهن الروابط، إلى رواية هذه الحكايات بلغة سلسلة بسيطة، والاهتمام بما يمكن دعوته بمضاهاة الواقع وصدقية أو معقولية ما ترويهِ؛ إلى التركيز على سيرة بطل ومغامراته التي مهما بلغت درجة غرابتها فإنها تحرص على ألا تقع بها في وهاد الجريمة. وهو بطل نرى الأحداث كلها من منظوره سواء أرواها بضمير المتكلم أو الغائب؛ ولا ينتمي عادة لفئة الأبطال التقليدية، وإنما لطبقات أقرب إلى القاع الاجتماعي المهمش؛ وحتى الولع بالمفارقات والسخرية التهكمية اللاذعة، وعدم الاهتمام بتطور الشخصيات وإنما تقديمها كحالات أو نماذج نمطية إلى حد ما. وكان هذا الجنس السردي شائعا في عصر ديدرو بالطبع وقبل ميلاد الرواية بمعناها الحديث. وإليه تنتمي روايته (جاك القدري) التي تحكي لنا فصولا عديدة، يبدو ألا رابط بينها إلا تدفق الحكي، من حياة بطلها جاك في المحل الأول، وسيده في المحل الثاني، وما يكشف عنه الحكي من شغف الفرنسي الدائم، مهما كانت خلفيته الاجتماعية، بما يدعوه الفرنسيون ببهجة الحياة Joie de vivre والاستمتاع بها وتذوق كل أطايبها، من طعام وشراب وصحبة وحديث، وكل ما يدخل على الفرد المتعة ويجعل حياته رخية وجديرة بأن تعاش.

لكن الفارق الكبير بين الكثير من روايات البيكاريسك و(جاك القدري) هو قدرة هذه الرواية البديعة على اقتناص القارئ في شبكة أحداثها المغوية، وتوظيف هذا الشكل الشعبي المترع بثرثرات جاك التي تبدو طبيعية وتلقائية في تكريس الكثير من أفكار الاستنارة الفرنسية الأساسية بدءا من فكرة تعدد الاحتمالات المستمرة لكل واقعة؛ وضرورة تعريض الكثير من المسلمات لضوء الشك العقلي لزعزعة الرواسخ القديمة والمستقرة؛ والسخرية التهكمية من الحتمية والتراتبات الاجتماعية الثابتة؛ وحتى الكشف عما يخفيه رجال الدين وراء أرديتهم المهيبة من رياء داعر وفجور، أو ما ينطوي عليه كثير من الجدل الكنسي واللاهوتي الدائر بينهم من هراء ونفاق؛ أو ما تدبره النساء من مكائد كاشفة عن الخلل الكبير في بنية العلاقات الاجتماعية السائدة؛ وحتى المناداة بحق المواطن في الحرية والمساواة والعدل كأساس لتحقيق السلام الاجتماعي المنشود.

وتفعل الرواية هذا كله بمنطق السرد الشيق البسيط، وبما أود أن أدعوه بسحر بنية الاستطرادات السردية المتقاطعة، جريا على ألغاز الكلمات المتقاطعة، التي يمكن قراءتها رأسيا وأفقيا. لأن بنية هذه الرواية الشيقة تنهض على الاستطرادات السردية التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها مجرد سرد مرسل عفو الخاطر، ولكنك ما أن تتأمل تلك الاستطرادات حتى تكتشف أنها تتقاطع وتتحاور وتتصادى بشكل جدلي وحواري مبكر، قبل أن يبلور باختين مفهومه عن الخيال الحواري في الرواية. وأنها كألغاز الكلمات المتقاطعة يمكن قراءتها رأسيا وأفقيا، بالصورة التي تنتج كل قراءة معانيها المتفاعلة وتأويلاتها المحاورة. حيث يمكن قراءتها رأسيا في الزمان وما ينطوي عليه تتابع تلك المسرودات خطيا من منطق عقلي مضمر؛ كما يمكن قراءتها أفقيا على مستوى كل قصة أبيسودية على حدة، أو حتى على مستوى المكان، أو تجاور وتحاور الأمكنة التي تستكشفها على مد الرحلة.

فالرواية، ككثير من روايات البيكاريسك، هي رواية تصف مغامرات جاك مع سيده في ارتحالاتهما المختلفة، فالرحلة من عناصر ذلك الجنس الأدبي المهمة، وفيما يتعرضان له من أحداث ومواقف تكشف لنا عن أن جاك أكثر حصافة وخبرة بالحياة من سيده، وبالتالي أجدر باحترام القارئ، وفي نهاية الأمر باحترام سيده نفسه. حيث تتغير صيغة التخاطب اللغوية بينهما قرب نهاية الرواية إلى صيغة الندية والمساواة. ويبدأ ديدرو منذ عنوان الرواية وعتبتها الأولى (جاك القدري وسيده) في قلب البنية السائدة التي تقدم السيد على التابع منذ (دون كيخوته) وحتى (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) لبريخت والتي استقى منها ألفريد فراج عنوانه (على جناح التبريزي وتابعه قفة). لأن روايته هي رواية قلب التراتبات الاجتماعية وتعريض مسلماتها لضوء العقل الشكي. فالسيد هنا يتقهقر لغة إلى مكان «المعطوف» بعد واو العطف، بل يختفي كلية من العنوان الشائع للرواية والذي يكتفي بجاك القدري، ويهمل سيده. لأن جاك البسيط الذكي هو بطل النص وليس سيده الذي نكتشف كيف يتزايد اعتماده على جاك كلما تقدم بنا السرد في الرواية. ولابد أن هذا النص البديع كان من النصوص التي ألهمت هيجل في دراسته اللامعة للعلاقة الجدلية بين السيد والعبد، والكشف عن مدى اعتماد السيد على العبد، قدر اعتماد العبد على السيد، وربما أكثر، في تلك العلاقة الجدلية المعقدة. لأنك ما أن تفرغ من قراءة هذه الرواية البديعة حتى تكتشف ضرورة إعادة التفكير في الكثير من علاقات التراتب الاجتماعية القديمة تلك، سواء تلك التي تحكم العلاقة بين السيد والتابع، أو بين الرجل والمرأة، أو بين المواطن العادي والكنيسة وغير ذلك من العلاقات المستقرة في المجتمع.

هذا وقد كتب الكثير من النقاد عن علاقة هذه الرواية الجميلة برواية معاصر ديدرو في انجلترا لورانس شتيرن  Laurence Sterne(1713 – 1768)، لكننا، وعلى العكس مما نجده في رواية (ترسترام شاندي The Life and Opinions of Tristram Shandy) 1759 التي قورنت بها كثيرا، والتي تدخلنا في غابة من الاستطرادات السردية التي لا تنهي الكثير منها، نجد أنفسنا في رواية ديدرو، وبرغم الاستطرادات الكثيرة التي ترتوي منها بنية العمل الأبيسودية، بإزاء رواية ذات بنية سردية محكمة، وإن بدت مثلها في ذلك مثل (تريسترام شاندي) وكأنها بنية استطرادات متقاطعة. لأن البنية الاستطرادية هنا ليست مقصودة لذاتها كما هو الحال في (تريسترام شاندي)، وليس محتوى الشكل فيها من العناصر الأساسية في العمل كما هي الحال مع شتيرن، وإنما هي أداة من أدوات بلورة بنية سردية أعمق وأشد إحكاما، تتصادى فيها الحكايات وتتحاور في جدل روائي خلاق كما ذكرت. فعلى العكس من (تريسترام شاندي) تشبع الرواية توقعاتنا بشأن قصة قائد جاك، وقصة مغامراته العاطفية. بل إنها تهتم بأن تقدم لنا مسيرة حياة جاك في تناظرها مع قصة حياة سيده في لعبة مرايا تهتم بالجدل المستمر بين الحياتين، وتتغيا إقناع القارئ بجدارة جاك بأن يتصدى لقيادة السرد، وأن يحظى بعنوانه، ألم يقارنه سيده بسقراط؟! (راجع ص 134 /135). فهي حياة غنية بحق بدءا من تجربة أخيه الأكبر «جان» في سلك الكهنة والتي تمكن عبرها من تزويج أخواته، وتزويد جاك برأسماله المحدود، مرورا بتجاربه الجنسية الشيقة الأولى، وصولا إلى مغامرته العاطفية التي تتشابك مع قصة علاج ساقه المكسورة وتجبيرها، وبرئه من جناية قائده العسكري غير المبررة عليه.

أما الحكايات الكثيرة الأخرى فإنها تلعب دورا مهما في تلك البنية الروائية المحكمة. وتقدم الكثير منها إضاءات مهمة حول القضايا التي يسعى ديدرو إلى طرحها على قرائه سواء أكانت تلك المتعلقة بالحروب الأوروبية (فالرواية تقع بين ميدان معركة «فونتنوا» وجدران السجن الكبير الذي سجن فيه جاك بدلا من سيده) أو بالخيانات الزوجية، كما في حالة قصة مدبر منزل كبير الكهنة «دوسان فلورنتان» مع زوجة الحلواني، ولعبة المأمور لإنقاذ الحلواني من مكائدهما، وإيقاع العشيق في شر أعماله. لكن لتلك الحكايات الكثيرة التي يعج بها النص دور كبير فيما يمكن تسميته بمحتوى الشكل الفني، وفي تخليق الحبكة الروائية الثرية في هذه الرواية.

فلو أخذنا مثلا الحكايتين البارزتين في العمل – باستثناء حكاية جاك نفسه – ألا وهما: حكاية السيدة دولابوميراي مع الماركيز ديزارسيس، وحكاية الأب هودسون رئيس دير الرهبان الداعر مع مفوضي الرئيس الأعلى للرهبنة اللذين أرسلا للتفتيش على مخالفاته، سنجد أنفسنا بإزاء مبدأ الجدل التكراري في البناء الروائي، والذي تتكشف عبره بعض استراتيجيات بنية الاستطرادات المتقاطعة. إذ توشك كل حكاية أن تكون تكرارا للحكاية الأخرى من حيث براعة ما تنطوي عليه كل منهما من مكائد، وكأننا في قاعة مرايا روائية تستعرض فيها السيدة دولابوميراي براعتها في كيد النساء، ثم يسعى الأب هودسون إلى أن يتفوق عليها في مكائده، كي لا يكون كيد الرجال أقل حنكة وتعقيدا من كيد النساء. لكن تأمل العلاقة الجدلية بين الحكايتين يكشف لنا عن الرسالة التنويرية للعمل. فإذا كانت حكاية السيدة دولابوميراي تشكل استسلاما للسائد عن كيد النساء، فإنها تنطوي في النص على دفاعها القوي عن المرأة، وإدانتها للممارسات الاجتماعية التي تستهل العبث بمشاعرها، ووصمها بكل السلبيات إذا ما فكرت في رد إهانات الرجل عنها. اقرأ دفاع ديدرو المجيد عن السيدة دولابوميراي وهو يعقب على قصتها في النص: «قد يطعن رجل رجلا آخر بسبب إيماءة ما، أو بسبب كذبة، ولا يُغفر لامرأة شريفة تعرضت للتضليل، للفضيحة، وللخيانة، أن تلقي بهذا الخائن في براثن إحدى العاهرات؟ آه أيها القارئ، إنك طائش جدا في لومك ... فإن رد فعل السيدة دولابوميراي والنساء اللواتي على شاكلتها طويل المدى، إن أرواحهن تظل في بعض الأحيان، وطوال حياتهن، مثلما لحظة وقوع الإساءة .. وكنت سأقدر بشدة صدور قانون يعاقب الرجل الذي يغوي امرأة شريفة ويهجرها بالاقتران بعاهرة. فالإنسان الوضيع يستحق امرأة وضيعة». (ص 246)

أما حكاية الأب هودسون الماجن الداعر فإنها تقدم للقارئ العام رسالة التنوير الأساسية التي نادت بفصل الكنيسة عن الدولة، والتي استلزمت أن تعري الكنيسة من أي قداسة، وتؤكد أن رجالها ككل البشر، فيهم الصالح والطالح. وأنهم لذلك ليسوا بأي حال من الأحوال ظل الله على الأرض كما كانوا يدّعون. وهو أمر تنطوي عليه بعض جوانب قصة دولابوميراي لأن قصة البنت الصغيرة فيها، الآنسه دايسنون، التي أوقعت الماركيز في حبها: كانت «قد شغفت برجل دين صغير السن ذي مكانة مرموقة، ولكنه ملحد، كافر، ماجن، منافق، كاره للفلسفة، ولن أذكر لك اسمه؛ لكنه شخص أخير في طابور هؤلاء الأشخاص الذين ينتهجون في سبيل الوصول للولاية الأسقفية، أضمن طريق والذي يتطلب – في نفس الوقت – أقل قدر من الموهبة» (ص198) لكن يبدو أن هذا كان مجرد تمهيد للكشف عن مساوئ رجال الدين. لأن ما تنطوي عليه قصة الأب هودسون فاق كل ما قدمه لنا النص من قبل في هذا المجال. فقد نجح في الزج بالمفتشين اللذين أرسلا للكشف عن مخالفاته في السجن، لذلك «أشاعت تلك المغامرة الوجوم بين اعداء هودسون، ولم يعد هناك أي راهب في ديره إلا وقد زاغ بصره من الرعب، وبعد عدة أشهر قُلد رئاسة أحد الأديرة الغنية، ولهذا السبب انتابت الرئيس الأعلى للطائفة حالة مميته من الغم». (ص284)

فمجون الأب هدسون وعربداته، واستحواذ فكرة الانتقام على السيدة ديلابوميراي ليسا في بنية الرواية العميقة سوى نموذجين ينجح ديدرو في توصيل بعض أسس فكر الاستنارة العقلي إلى القارئ من خلالهما. وحتي لا يفوتنا الرباط بين القصتين، فإنه يتوجه إلى القارئ بهذا السؤال الافتراضي: «أيها القارئ، فيما ينام هؤلاء الرجال الصالحون لدي موضوع بسيط أقترح عليك أن نناقشه وأنت على وسادتك: ماذا يمكن أن تكون صفات الطفل المولود لرئيس الدير هودسون والسيدة دولابوميراي؟ ربما يكون شريفا – وربما يكون نذلا عظيما – ستخبرني برأيك في صباح الغد» (ص290). وكأنه يريد من قارئه التفكير في تصاريف أقدار محتمله، أو يريد إدخاله في لعبة السرد واحتمالاتها اللامتناهية.

والواقع أن براعة ديدرو السردية جعلتني أشعر وأنا استمتع بقراءة نصه الجميل، بأنني لا أقرأ رواية كتبت في القرن الثامن عشر، وإنما رواية حديثة تستخدم الكثير من تقنيات سرد ما بعد الحداثة المعاصر، من إرجاء التوقعات وأحباطها العمدي، إلى طرح تعدد المنظور في مواجهة الرؤية الواحدة، إلى إراقة الشك على الأحداث والوقائع والتشكيك في مصداقية الراوي. لأننا بإزاء رواية تطرح بحس تهكمي نادر مسألة القدر، وقدرة الإنسان على أن يرسم أقداره وعلى أن يتحكم فيها. رواية تنفتح على الإنسانية كلها وعلى كثير مما فيها من إيجابيات وسلبيات، تمر عليك فيها كل الطبقات الفرنسية، النبيلة منها والحقيرة، السعيدة منها والمنحوسة، وتعرض عليك تفاصيل تصرفات شخصيات بالغة الطيبة وأخرى تجسد الشر كله، دون أن تخفق في تقديم هذه الشخصيات من الداخل بصورة تكتسب تعاطف القارئ معها مهما كانت حقيقتها. وفي مقدمة هذه الشخصيات بالطبع، بطله: جاك الذي قدم عبره نموذجا للتحرر المطلق والمنشود. يقول النص وهو ينشد تحقيق تماهي القارئ مع بطله جاك: «كان إنسانا طيبا، صريحا، صادقا، ذكيا، مغرما، مخلصا، عنيدا جدا، وفوق كل ذلك ثرثارا، وموجوعا مثلك ومثلي، لأنه بدأ قصة حب، بدون أدنى أمل في أن تكتمل» (ص269) إن ديدرو يقدم لنا في هذا العمل المادة الأولية للمراهنة على الإنسان، وينجح بقوة فنه، وبراعة عرضه التهكمي لتصاريف القدر والإنسان، في أن يجعلنا نحب هذا المراهنة، ونقدر أهميتها الفكرية المطلقة.