على مهلٍ أقرأ في رواية )أنـبـئـوني بالرؤيا( للأستاذ المغربي القدير "عبد الفتاح كيليطو"، مستمتعاً بالعكوف وبالاصطبار اللذين منحهما المؤلِّفُ لسِفرِه المرموق ذي الصفحات القليلة؛ وقد انجذبتُ أثناء قراءتي لهذا الكتاب إلى كتابة تنويهٍ عنه، لأجل إفادة نفسي أولاً، ثم لأجل تنظيم غنائم الكتاب المتكاثرة.
من المألوف أن يرى أحدُهم في المنام رؤيا، ثم يلتمسُ أو يطلبُ من أصحاب العلم تأويل رؤياه. لكن ماذا عن الموقف إذا تجاوز رائي الرؤيا حدَّ الالتماس أو الطلب فيصدر أمرَه إلى أصحاب العلم لا بتأويل رؤياه فحسب بل بإنبائه أولاً بالرؤيا التي رآها هو وحده، والتي لن يذكرها لهم مُطلقاً، ثم ثانياً بتأويلها له بعد ذلك!
- أنبِئوني بالرؤيا ثم أخبِروني تأويلها.
هذا الموقف هو نتفةٌ من موضوعات الرواية كما أنه ملمحٌ معماري من ضمن بناءاتها؛ ويكون على القارئ المكترث أن يطلع من الكتاب بالرواية الأخرى المحجوبة المدسوسة والـمُخفاة فيها إخفاءً تاما. لعل هذا هو بعض مقتضيات المقامرة الأدبية النفيسة والخطيرة التي اختارها الكاتبُ كيليطو الذي لا يبالي بأن العين لا ترى إلا ما تعرفه مُسبقاً، إنما بإيمانٍ يراهنُ ليس فقط على مَن سوف يفهم ويعطي التأويل (وهذا كثيرٌ) بل على مَن سيجد الرواية التي تكتَّم هو عليها. كيليطو يطلِق إيمانَه؛ إنَّ صاحب الجدارة على تأويل عمل أدبي هو مَن يقدر على استرداد هذا العمل إذا انفقد، ويقدر على كتابته مُجدَّدا.
صاحب الرؤيا يستدعي بقوة سُلطته أصحابَ العِلم، وحين يمتثلون أمامه يهددهم بالقتل إنْ هم فشلوا في إنبائه برؤياه أولاً قبل التصدي لتأويلها. فعَلَها "هارونُ الرشيد" في "ألف ليلة وليلة"، وفَعَلَها "نبو خذ نصر" في "التوراة"، أمَّا كيليطو، صاحب الرواية، فإن تهديده المستتر إنما هو بـ"قتْل" القراء وذلك بإدامة حجب الرواية الأخرى عنهم، وكأنه يقابل مسألة "موت المؤلِّف" بمسألة "موت القارئ"؛ واحدة بواحدة، أو بالأحرى فإنه يعيدُ إحياءَهما – المؤلِّف والقارئ - سوياً بنَفَسٍ روائيٍّ مُنعِشٍ ونادر.
جديرٌ بالملاحظة أيضاً أن المؤلِّف قد قام بزحزحة بعض عناوين الفصول الأربعة لروايته، ففي الفصل الأول، «إيدا في النافذة»، لا تظهر "إيدا" أو "عايدة" في أية نوافذ، لكن ذلك يحدث لاحقاً في الفصل الثالث، وعنوانه هو «معادلة الصيني».
المؤلِّف لا يموت، كما أشاع السيد "رولان بارت" والسيد "ميشيل فوكو" وغيرهما، وليس من الممكن التخلي عنه أو تنحيته أو مساواته بغيره أو إماتته مجازيا. لكن من الممكن القول إن المؤلِّف قد يُنفى عن كتبه وعن أعماله لصالح مؤلِّف آخر، إذ قد ترى «الجماعةُ الأدبية» أن المؤلِّف الأصلي «غير لائق» فتطيح به، كأنما تقتله ذلك القتل البارد الشنيع أو تتواطأ على قتله بالإشاحة عنه ونَسْبِ كتبه وأعماله إلى مؤلِّف آخر، مُنتحِل، أكثر لياقة أو ذي وجاهة، حتى لو كانت هذه الوجاهة لا تتجاوز نُطْق حرف "الراء" الفرنسي باللثغة اللطيفة، بأثرها الصوتي المحبوب، مثلما حدث في "أنبئوني بالرؤيا" بين الشاعر الأصلي وسارق أعماله "عمر لوبارو". قتْلُ مؤلِّفٍ لصالح واحدٍ آخر تعزِّز ضرورةَ "المؤلِّف"، ضرورة وجود مؤلِّفٍ ما، حتى لو اعتُبِر ذلك مجرد رغبة تافهة في البقاء. وكيليطو يقذف الكرة في ملاعب "بارت" و"فوكو" وأتباعهما، ويحرز.
هنالك سطرٌ في صفحة 99 لا يُغفَل؛ يقول المؤلِّف كيليطو: «ما عدا الأساسي؛ بالفعل هناك شيء لا يمكن أبداً أن يُكشف عنه». ولهذا السطر سياقان، أحدهما في الرواية الخفية والثاني في الرواية الظاهرة، المطبوعة.
لستُ أدَّعي أني جلوتُ هذه «الرواية الخفية»، أو حذقتُ الإمساك بخيوطها التي تنزلق من مُمسِكِها بمثل انزلاق "عايدة"/ "إيدا"/ "إيدَّا"/ "آدا"، المرأة التي هي فاتنة الرواية المطبوعة، من كل لقاء يصدف أن تتواجه فيه مع البطل. وفي المرة التي سعت هي فيها إلى لقائه فإن النوم، نوم البطل، قد غلبه في النهاية وأبطلَ السعيَّ. البطل الذي اعتنى بدراسة «النوم» في بحثٍ أكاديمي محكّم ورصين لا يسلم من مقالب "النوم" فيه، وكأنها انتقامات. تتبدى "عايدة" مرات قليلة، هنا وهناك، كمثل طيفٍ رزينٍ أحياناً تحضر بالخصوص في لحظات الرواية التي يُحتاج فيها إلى إقرار ما يمكن أن يُسمى بـ«العدالة الأدبية»، كما تتبدى كمثل طيفٍ نزقٍ أحياناً أخرى حاملة روح ما يمكن أن يُسمى بـ«الغوغائية الأدبية» أو روح قُطعان الأدب غير المتبصِّرة. إنَّ "عايدة" لا يُمكن الاستغناء عنها، فلعلها ضمير في طور التكوين، أو عساها ظاهرة دورية. "عايدة" هي أيضاً، في أحد تجلياتها، طالبة سابقة للبطل، الأستاذ الأكاديمي، وهي التي أهدى إليها "إسماعيل كملو" أطروحتَه الجامعية وقتما نشرَها ككتاب غير أكاديمي. ليس بعد؛ لأن "عايدة" أو "إيدا" هي أيضاً تذكيرٌ بـ"إيما" بطلة رواية "مدام بوﭬـاري" لـ"جوستاﭪ فلوبير". "إيدا" قرأت "مدام بوﭬـاري" إبَّان مراهقتها، وأُصيبت وأَلِمَت وتوجَّعت وتساوقت مع "إيما". انتحرت "إيما"، وغدت "إيدا" عصيَّة.
البطل!
البطل هو أيضاً ينفذُ من شخصية إلى شخصية، لكنه يترك لنا بصماتٍ نتحرَّى فيها بصمات كيليطو بالذات، المؤلِّف الكائن خارج الأوراق. في صفحة التمهيد، قبل بدء الرواية، اختار كــيليطو مقتطفاً صغيراً من كلمتين؛ «سَـمُّوني إسماعيل» (و يُشار إلى أنه مأخوذ من رواية "موبي ديك" لـ"هرمان ميلـﭭـيل"). وسنلاحظ لاحقاً أن البطل، وهو باحث ومحاضِر أكاديمي متخصص في "الليالي"، يتحدث عن أستاذٍ له، وقد أشار إليه بحرف"كـ"، وفيما بعد يتحدث عن أحد طلبته، الذي سيتخصص هو أيضاً في "الليالي" اسمه "إسماعيل كَــمْلُو"، وقد احتوى اسمُه على الإشارتيْن؛ "إسماعيل" و"كـ". ثمة نفاذية بين هؤلاء جميعاً تضطلع بها "أنبئوني بالرؤيا". يتداخل الأبطالُ؛ فالراوي المتكلم يكون نفسَه أحياناً، وأحياناً يحيلُ إلى "كيليطو"، وأحياناً إلى "إسماعيل كملو"، وأحياناً إلى الشاعر الذي هو الصاحب الحقيقي لديوان «رغبة تافهة في البقاء». وجود "عايدة" هو الذي يُلاشي عتمةَ هذا الأمر، على نحوٍ ما. عايدة بمثابة مسطرة، إذْ أن لها مع كل منهم (عدا كيليطو، الكائن خارج الأوراق) محاذاة.
لكن هذه الرواية تسعى أساساً في تلافيف "ألف ليلة وليلة"، "الليالي"، وتومئ في مكرٍ كأنها تقول: حتى لو أنك أشبعتَ "الليالي" بحثاً وقراءةً فلسوف تعثرُ في كل مرة على حكاية جديدة تستوجب القراءة والتمحيص والدرس. وأظن أن "عايدة" - التي كانت تتسمَّع من نافذتها إلى حكايات طالب الدكتوراه في نافذته عن رحلات ابن بطوطة - ليست إلا "شهر زاد" وقد انعتقت من "الليالي" بعد انقضائها، وغدت تتجول في البلاد والقارات وتتصيَّد حكايا الحياة مثلما صارت تتربَّص بالدارسين المرموقين المختصين بـ"الليالي"، تُوقِعهم في غرامها حالاً، ثم لا تكلِّف نفسَها حتى عبء التملُّص منهم أو الاعتراف بوجودهم. وفي أحد دهاليزها تحكي روايةُ "أنبئوني بالرؤيا" حكايةَ العاشق الصيني الذي اشترطت عليه معشوقته الصينية أن يبيت لمدة ثلاث سنوات ليلة بعد ليلة جالساً ساهراً حتى مطلع كل فجر – مهما كانت الأنواء - على مقعدٍ تحت نافذتها حتى تمنحه حبَّها في النهاية، ولقد أوفى الصينيُّ العاشق بشرط الغرام بانضباطٍ فائق وبرضا وطواعية، إلا أنه بعد إتمامه مدة السهر – مماثلة تقريباً لعدد ليالي ألف ليلة وليلة – قام فحمل مقعدَه، ومضى، من دون أن ينظر وراءه أو أن يسائل عن الحب المستحَق له. لَكأن الرواية تشي بأن "شهر زاد" كانت هي ذلك الصيني الجالس على مقعده خلال مدة الألف ليلة وليلة، لكن بعد إتمام هذه المحكومية حدث لها التحوُّلُ نفسُه الذي حدث للعاشق الصيني. كانت "شهر زاد" إذاً هي ذلك الصيني الجالس على مقعده بينما غدت "عايدة" هي ذلك الصيني المغادِر حاملاً مقعده، الزاهد في مكافأته، الذي سهونا عن أن نعلم ماذا كان أثر سهر الألف ليلة وليلة عليه، وعلى "شهر زاد" بالمثل.
"شهريار" هو أيضاً لم ينم الليل، مثل ذلك العاشق الصيني، على مدى الثلاث سنوات التي كانت تحكي له فيها "شهر زاد" ليلاً حتى يدركها الصباحُ، وبالطبع فإن المهام اليومية لإدارة مملكته لم تكن لِتسمح له بالنوم نهاراً، وتتوجس الروايةُ في فصلها الثاني من «الجنون الثاني لشهريار»، بعد جنونه الأول باستئصال خيانة النساء عن طريق التزوج بهن ثم قتلهن قبل أن يسمح الوقتُ لهن بالخيانة.
قرب نهاية الفصل الثاني كان البطلُ يستغرب ويتساءل عن معنى اسم "نَهَى"، اسم راوٍ شعبي من رواة ألف ليلة وليلة كان "إسماعيل كملو" قد استعان بمروياته كثيراً في أطروحته، وتقول الرواية بلسان البطل: «في تلك اللحظة، استشعرتُ مثل هزَّة في كلِّ كياني. كنت أصغي لزملائي وإذا بترابط غير متوقَّع يفرض عليَّ نفسَه. استنارةُ بداهةٍ مبهمة. نحى: ألا يكون بالفرنسية جناساً مقلوباً لاسم الماروني حنا، الراوي الذي عرَّف "كَالّان"، أول مترجم لـ الليالي، بمقدارٍ كبيرٍ من الحكايات الجميلة؟». يستشري في هذه الرواية نوعٌ من الجناس، ليس بالطبع لغوياً ولا بلاغياً، إنما هو جناسٌ في طبقات المعاني، جناسٌ في الحوادث والأحداث، جناسٌ في الأفكار، جناسٌ حتى في الشخصيات، وهكذا اكتنزت الرواية ثراءَ الـ"كاليدوسكوب" الذي مع كل تحريكٍ له ينبعثُ منه الجديدُ.
تمَّ تجريب النوم في الرواية ، وكان للوقوع تحت سلطانه حسرات وخسارات.
تمَّ تجريب الشعر، وكان للوثوق به نجاعة.
«اسمعْ الآن ما كتبه شاعرٌ قديمٌ آخر:
إنْ يوماً أحببتَ امرأةً لا تسْعَ إليها مُنتابا
أُمكث في بيتِكَ لا تبرحْ هي يوماً تطرق البابا» (صفحة 37).
الشعر لكَ ، معكَ ، يا أيها العاشق ، أمَّا النوم فعليكَ.
في الختام، أرتضي باقتباس هذا السطر من الرواية، وقد صدر بلسان الراوي الباحث الأكاديمي في "الليالي": «وكما يحدث غالباً، لا تحضر فكرةٌ جيدة إلا بعد أن يكون العمل قد نُشِر أو نُوقِش»، صفحة 14.
هذا الكتاب الروائي له حِسٌ وسحرٌ منذ أولى كلماته. كتابٌ يُودي بنظرية «موت المؤلِّف» إلى العدم ويناوئ تيارات نقدية دون أن يثقلك، ودون أن تشعر أن أمراً ما مُقحَمٌ عليك.
كتابٌ يعطيك الهدأة والرغبة في لو أنه لا ينتهي.
atif_sol@yahoo.com
_____________
* رواية "أنـبـئـونـي بالـرؤيـا" للكاتب المغربي "عبد الفتاح كيليطو". ترجمة عن الفرنسية: "عبد الكبير الشرقاوي". إصدار: دار الآداب، بيروت، 2011. صدر النص الأصلي بعنوان "Dites-moi le songe" في فبراير 2010، عن دار نشر "Actes Sud".