تتناول الباحثة الجزائرية في هذه الدراسة إشكالية تلقي النقد العربي المعاصر لمصطلح العجائبية والتعامل النقدي معه، من خلال توقفها أولا عند تعريف تودوروف له باعتباره مصدر جل التعريفات العربية التي تناولته، ثم تمحص بعد ذلك مختلف تعاملات النقاد العرب مع هذا المصطلح وتعريبهم له.

إشكالية تلقي العجائبية مصطلحا ومفهوما

في النقد العربي المعاصر

بهاء بن نوار

تعدّ العجائبيّة أحدَ المصطلحات النقديّة والروائيّة المستحدثة، الجديدة على قِدَمِها، ورسوخها في التراثيْن: العربيّ، والعالميّ، حيث نجد لها حضورا طاغيا في جميع مناحي الحياة، ومشاربها؛ في حياة الفرد اليوميّة بما يعتريها من تهاويم خيال، وأحلام يقظة، ونوبات كوابيس، وفي حياته الفكريّة العميقة بما يسودها من قلق وجوديّ، ونزوع استباقيّ، ورغبة جامحة في تحطيم أسوار كلّ ما هو متداوَلٌ، ومألوف. وما يعنينا هو البحث في موضوع تلقي النقد العربيّ مصطلحَ العجائبيّة الأدبيّة والروائيّة تحديدا، التي من الصعب جدا تحديد مفهومها تحديدا دقيقا، نظرا لتنوّع موضوعاتها، وتعدّد أساليبها، وتداخل العلاقات فيها بين العالم الذي يقدّمه الخيال من جهة، وذاك الذي يخصّ القارئَ من جهة أخرى.(1(

ويُعدّ كتاب تودوروف (Todorov) "مدخل إلى الأدب العجائبيIntroduction à la  Littérature Fantastique المطبوع سنة 1970، من أبرز الآثار النقديّة المنظرة لموضوع العجائبيّة، والمحدّدة أطرَه، وضوابطه، وجميعَ تفرّعاته النظريّة، والتطبيقيّة. وقبل التعرّض إلى أهمّ ما تطرّق إليه تودوروف في نظريّته التي تفرّد بها عن بقيّة المنظرين، فإنّ علينا أن نتتبّع تطوّر هذا المصطلح في مفهومه العام أولا، فمفهومه الخاص، الذي تكوّنت منه رؤية النقاد المعاصرين له الآن. وفي هذا السياق، نجد في القواميس التاريخيّة للغة الفرنسيّة أنّ أصل كلمة العجائبية (Fantastique) يعود إلى المفردة اللاتينيّة (Phantasticus) المأخوذة بدورها عن الإغريقيّة (Phantastikos) التي تخصّ "المخيّلة"، وتعني في القرن السادس عشر كلَّ ما هو "شارد الذهن"، و"أخرق"، و"خارق"، ثمّ "خياليّ".(2) وكذلك نجد في قاموس لغة القرن السابع عشر أنّ العجائبيّة تعني كلَّ ما يقع خارج الواقع، وكلّ ما هو مستبعَد، وشاذ، وخارق. (3)

فالعجائبيّة في معناها العام، والبسيط تعني اختراق كلِّ ما هو واقعيٌّ، ومعقول، ومعانقة كلّ ما يتجاوز هذا الواقع، ويستبقه، سواء كان هذا الاستباق سلبيّا بالوقوع في بؤرة "الشاذ"، و"الأخرق"، و"الشارد"، أم إيجابيّا بالانفتاح على كلِّ ما هو خارق، ومنفلتٌ من قيود المنطقيّ، واليوميّ، حيث تعدّ العجائبيّة هنا فسحة تحرّر، وتنفيس، يتخفف فيها المبدع من قيود العرف، وضوابطه الثقيلة. وقد ازدهر هذا النزوعُ العجائبيّ الجامح نحو الخارق والخياليّ في أدب القرون الوسطى، حيث لا زالت العقولُ مرتبطة بالأسطورة، وحيث الحدودُ غير واضحة بين المنطقيّ واللامنطقيّ، فكان العجيب يُدرَك تقريبا على أنه حقيقيّ، لتتقلّص مكانته في الفترة الكلاسيكيّة الديكارتيّة، وما أن يحلّ القرن الثامن عشر حتى يستعيدها، فيقتحم الأدبَ، ويغدو المجال المفضّل للرومانسيّة. (4)

هذا على المستوى العام، أمّا على المستوى الخاص؛ المستوى التنظيريّ الذي تناوله النقاد، والدارسون بوصفه تقنيةً أدبيّة، كثيرا ما يلجأ إليها المبدعون في تمرير رسائلهم الفنيّة، فلعلّ من أبرز من تناول هذا الجانب – إلى جانب تودوروف – روجيه كايوا (Roger Caillois) في مقالة له كتبها سنة 1966، ويحدّده من خلالها بأنه اقتحام الممنوع، الذي لا يمكن أن يحدث، ولكنه رغم ذلك يحدث، في نقطة، وفي لحظة دقيقة، وفي قلب عالم متجدّد بامتياز [...] حيث يُعَدُّ وليدَ استقرار فظّ لما فوق الواقع في عالم عاديّ. (5) وما يوحي به تعريف "كايوا" هو أنّ العجائبيّ وليد اختراق مطلق، وصدع مستديم في بنية الواقع، ببعثرة قوانينه الطبيعيّة، والهزء منها، وبثّ روحٍ جديدة فيها، جوهرها الاقتحام، والمغامرة، والتجدّد الدّائم.

وما نلحظه على هذا التعريف أنّه يرتكز على ماهية العجائبيّ بوصفه صدعا يتبطّن جسدَ المألوف، ويخترقه، وينشر الفوضى، والانقباض فيه.  وهذا ما يختلف عن رؤية تودوروف، الذي يركّز على زمن امتداد العجائبيّ، ويسعى جاهدا إلى حصره بدقة ضمن لحظة زئبقيّة، تتوسّط عالميْن مختلفيْن، أو جنسيْن متباينيْن هما: "الغريب"L'étrange ، و"العجيب "Le merveilleux حيث "يستغرق العجائبيّ زمن التردّد أو الريب؛ وحالما يختار المرء هذا الجواب أو ذاك، فإنه يغادر العجائبيّ كيما يدخل في جنس مجاور هو الغريب، أو العجيب.  فالعجائبيّ هو التردّد الذي يحسّه كائنٌ لا يعرف غير القوانين الطبيعيّة، فيما يواجه حدثا فوق طبيعيّ حسب الظاهر.(6)

وهنا لا بدّ من تعريف الحدَّيْن الآخريْن، اللذيْن يؤطران مفهوم العجائبيّ، ويسيّجانه: الغريب، والعجيب: حيث يعرّف تودوروف أوّلهما بأنه ذاك الذي تتلقى فيه الأحداث التي تبدو على طول القصة فوق طبيعيّة، تفسيرا عقلانيّا في النهاية.(7) أمّا ثانيهما، فيعرّفه بأنه ذاك الذي يقترح علينا وجود فوق الطبيعيّ، من جرّاء بقائه غير مفسَّر، وغير متعقّل.(8) وهذا يعني أنّ تودوروف يضع العجائبيّ في لحظة زئبقيّة منفلتة، يحتار معها المتلقي بين قبول التفسير الطبيعيّ المنطقي (الغريب) أو الارتماء في أحضان التفاسير الخرافيّة، واللاعقلانيّة (العجيب)؛ أي أنّ الشكَّ، والحيرة هما جوهر العجائبيّ، وصميم تكوينه.

ونلاحظ من خلال تمييز تودوروف بين حدَّيْ: العجيب، والغريب، وجعله العجائبيّ حالا وسطى بينهما، أنه يشقّ لنفسه طريقا بكرا، ويبتدع تنظيرات جديدة، تختلف عن التنظيرات القديمة المتداولة في مختلف القواميس، حيث لا نكاد نجد أيَّ فرق واضح بين موضوعيْ: العجيب، والغريب، بل يكادان يغدوان مترادفيْن: فالغريب "الذي توضّح معناه مع القرن الحادي عشر مأخوذٌ عن الأصل اللاتينيّ: (Extraneus) الذي يعني كلَّ ما هو خارجيٌّ، ليتطوّر إلى كلِّ ما هو خارج المتداوَل، وفوق المألوف، فالشاذ، والمتفرّد. (9) أمّا العجيب، الذي ترسّخ في القرن نفسه، فمأخوذٌ عن أصل لاتينيّ آخر دارج وكلاسيكيّ (Mirabilia) الذي يخصّ الأشياء المذهلة، والمدهشة، ليرتبط مع اللاتينيّة المسيحيّة بالمعجزات، ثمّ يشمل بعد ذلك جميعَ الأحداث المدهشة، والغريبة، وغير المألوفة. (10)

ولا يكاد يختلف قاموس لغة القرن السابع عشر عن هذا التحديد، حيث نجد أنّ الغريب يفيد كلَّ ما هو خارج الشروط التي نحياها عادة، وكلّ ما هو غير مألوف.(11) في حين يفيد العجيب جميعَ الظواهر فوق الطبيعيّة، أو تلك المنجزة بفضلٍ إلهيّ، أو معجزة. (12) والفرق الوحيد الذي نلمسه بينهما هو أنّ العجيب يميل إلى المعجزات الإلهيّة، وإلى الإدهاش بمعناه المشرق، والإيجابيّ، بعكس الغريب، الذي تشوبه غالبا بصمةٌ من قلق هنا، أو شذوذ هناك.  ممّا يعني – إن صحّ التعبير – أنَّ العجيب يمثل الجانبَ الحلميّ من الخارق، في حين يمثل الغريب الجانبَ الكابوسيّ.

وكما رأينا فإنّ تودوروف لا يلتزم بهذه المعاني الأوّليّة، بقدر ما يضيف إليها معانٍ جديدة، يجعل فيها من فهم القارئ، وتلقيه، محكَّ التجربة ومعيارها؛ فما يهتدي إلى منطقيّته، ومعقوليّته يُعدّ غريبا، وما لا يهتدي منه إلى ذلك يُعدّ عجيبا، علما أنّ معايير الفهم، والتفسير تختلف من فرد إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن، ممّا يطبع نظريّة تودوروف ورؤيته لكلٍّ من العجائبيّ، والغريب، والعجيب بطابع النسبيّة، والتزأبق، والتمنّع على أيّة محاولة للحصر الشامل، والدّقيق.

ولا يكاد يختلف أبتر (Apter) عن تودوروف في تأكيده على ضرورة توافر عنصر التردّد، والشكّ في خضم الأدب العجائبيّ؛ حيث "في أعماق الفنتازيا في القصّ الحديث ثمّة شكٌّ بخصوص العالم الذي تنتمي إليه: أهو هذا العالم، أم عالمٌ مغايرٌ تماما." (13) ونلاحظ أنّ أبتر برغم اتفاقه المفاهيميّ مع تودوروف إلا أنّه يختلف عنه في بناء المصطلحات، وتوليدها؛ فما يسمّيه تودوروف "فانتاستيكًا" هو لدى أبتر "فنتازيا"، وما يصطلح عليه تودوروف بالتردّد (Hésitation) هو ما يصطلح عليه أبتر ب"المأزق الإدراكيّ". (14) وأيّا كان اختلافهما حول المصطلح، فإنّ ثمّة اختلافات أخرى كثيرة، يمكن تلمّسها، والحكم من خلالها بانفصال كلتا النظريّتيْن، رغم تشابههما الظاهر؛ فما يؤكد عليه تودوروف من ضرورة التمييز بين جنسَيْ: "الغريب"، و"العجيب"، وحصر كلٍّ منهما في نطاق محدّد لا يتعدّاه، لا نجد له أيَّ حضور في نظريّة أبتر، الذي يبني رؤيته على نظريّة التحليل النفسي، وعلى تحليل نماذج تطبيقيّة، كبعض أعمال پو (Poe) وهوفمان (Hoffmann) وبورخيس (Borges) وغيرهم، انطلاقا من هذه النظريّة، ومن تشخيصات فرويد  (Freud)، وتأويلاته.

وما نلحظه على جهود الدارسين العرب المعاصرين أنّ أغلبهم يجعل من نظريّة تودوروف – لا أبتر – مرجعا، وأساسا، لا سبيل إلى تجاوزه، وتناسيه، في سياق التنظير، أو التطبيق لموضوع العجائبيّة، وتجلّيها في القصة، أو الرواية، أو حتى الشعر العربيّ. وقبل التعرّض إلى آراء هؤلاء، فإنّ السؤال المطروح هو عن مدى حضور مصطلح العجائبيّة في التراث العربيّ: هل لهذا المصطلح، وهذه النظريّة من صدى في ذاك التراث؟ أم أنها وليدة الفكر الغربيّ، وأحد نتاجاته الكثيرة، التي امتصصناها منه، وتمثلناها، دون أيّة محاولة للإضافة، والتجديد؟ ولمناقشة هذا الإشكال، لا بدّ من التعرّض إلى المستوى المعجميّ الأوّليّ، الذي خير ما يمثله معجم "لسان العرب" لابن منظور، الذي نجد فيه من معاني مادة: ع ج ب: العُجْب، والعَجَب: إنكار ما يرد عليك لقلّة اعتياده، وجمع العجَب: أعْجابٌ. قال [الشاعر]:

يا عجَبا للدّهر ذي الأعْجابِ         الأحدب البرغوث ذي الأنياب

والاسم: العجيبة، والأعْجوبة.  والتعاجيب: العجائب، لا واحد لها من لفظها. [...] العجيب: الأمر يُتعجّب منه.  وأمرٌ عجيبٌ: معجِبٌ، وقولهم: عجَبٌ عاجبٌ كقولهم: ليلٌ لائلٌ، يُؤكّد به.  والعجَب: النظر إلى شيء غير مألوف، ولا معتاد. (15)

ونجد في مادة غ ر ب: الخبر المُغرِب: الذي جاء غريبا، حادثا، طريفا. [...] وأغرب الرّجل: جاء بشيء غريب، وأغرب عليه، وأغرب به: صنع به صنعا قبيحا.  الأصمعي: أغرب الرجل في منطقه: إذا لم يبق شيئا إلا تكلّم به. (16)

ونلاحظ أنّ المعنى العام الذي أرساه لسان العرب، لا يكاد يختلف عن المعنى الأجنبيّ العام، الذي لمسناه في بعض قواميس اللغة الفرنسيّة؛ حيث لا يتجاوز معنى العجيب الاصطدامَ بكلِّ ما هو غير مألوف، وغير دارج الحدوث.  ولا يتنزّه الغريب عن بعض المعاني السلبيّة المعتمة. ونلمس تعريفا آخر أكثر تخصيصا في كتاب "عجائب المخلوقات" للقزويني (ت682هـ)، الذي يذكر في مقدمته أنّ العجب هو "الحيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء، أو عن معرفة كيفيّة تأثيره فيه، مثاله أنّ الإنسان إذا رأى خليّة النحل، ولم يكن شاهده من قبل لكثرت حيرته، لعدم معرفة فاعله، فلو علم أنّه من عمل النحل، لتحيّر أيضا من حيث أنّ ذلك الحيوان الضعيف كيف أحدث هذه المسدّسات المتساوية الأضلاع" (17) وفي سياق تعريفه للغريب يقول: "الغريب كلّ أمر عجيب، قليل الوقوع، مخالف للعادات المعهودة، والمشاهدات المألوفة، وذلك إمّا من تأثير نفوس قويّة، وتأثير أمور فلكيّة، أو أجرام عنصريّة.  كلّ ذلك بقدرة الله تعالى، وإرادته." (18)

وفضلا عن التباس معنييْ: العجيب، والغريب، وتداخل مدلولاتهما، فيما أورده ابن منظور، والقزويني، فإننا نلاحظ غياب صيغة "العجائبي" لديهما معا، ممّا يرجّح أنّها من اجتهاد بعض النقاد المعاصرين، الذين لجأوا إليها إمعانا في مجاراة تودوروف، وتمييزا لهذا المصطلح عن صنوه الآخر: "العجيب". وممّا يؤكد هذا أننا لا نجد هذه الصيغة أيضا في القرآن الكريم، حيث يتراوح حضور مادة "ع ج ب" بين الفعل في مختلف أزمنته، كقوله تعالى: «أوَعَجِبْتم أنْ جاءَكمْ ذكرٌ من ربِّكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم تـُرحمون»(19) وقوله أيضا: «قلْ لا يستوي الخبيثُ والطيِّبُ ولو أعْجَبَكَ كثرةُ الخبيث»(20) أمّا الصيغة الاسميّة، فنلمسها مثلا في قوله:

«أمْ حسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهف والرَّقيم كانوا مِنْ آياتنا عَجَبا»(21) وقوله أيضا: «بل عجبوا أنْ جاءهمْ منذرٌ منهمْ فقالَ الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ»(22)

وعليه يمكن القول بأنّ مصطلح "العجائبيّة"، أو "العجائبيّ" بصيغته هذه، ما هو إلا محاولةٌ لخلق تواطؤٍ منهجيّ بين المفهوم الأجنبيّ، الذي أرسى معالمَه تودوروف، والمفهوم العربيّ، الذي برغم تملّصه النظريّ من التحديدات التودوروفية، فإنه بما يمتلكه من ثراء، وشساعة، وتنوّع في الرّؤى والمصادر، يستوعب النظريّة الغربيّة، ويفيض عنها. وبعيدا عن التراث القديم، المليء بما لا يمكن حصرُه من الصّور، والأخيلة، والمشاهد العجائبيّة الطافحة، فإنّ الرواية العربيّة المعاصرة، تعجّ بدورها بكثير من تلك الصور، والأخيلة، والمشاهد، وإن أتت معها بعيدةً عن عفويّتها الأولى، وتلقائيّتها، التي نلمسها من خلال التراث؛ بسِيَره الشعبيّة، ولياليه، وأساطيره، وخرافاته، حيث يميل الروائيّ المعاصر في سياق نزوعه التجريبيّ، ورغبته الجامحة في اختراق جميع الأطر، والمعايير، إلى الاستئناس بعجائب الموروث العربيّ – والإنسانيّ عامّةً – ونفض الغبار عنها، بغية إعادة توظيفها، واستلهام أبعادها اللانهائيّة الفيض، والإيحاء.

وبالاطلاع على أكثر الدراسات النقديّة، المهتمّة بموضوع التجريب الرّوائي، ونزعات تحديث الشكل، والمضمون كليْهما، نجد أنّ "العجائبيّة" تقع منها موقعا مفصليّا، من إيجابيّاته الكثيرة محاولةُ البحث، والسعي نحو تأصيل، وتثبيت هذا النزوع الإبداعيّ الجديد/ القديم، بالعودة إلى التراث من جهة، والانفتاح على أحدث النظريّات الغربيّة من جهة ثانية. ومن سلبيّاتها الكثيرة أيضا – وهي من سلبيات صناعة المصطلح النقديّ العربيّ بعامة – اختلافُ أو عدم توحيد المصطلح فيما بين المنظرين، على عدم استحالة ذلك، بل إمكانه، إلى جانب ضبابيّة المفهوم، والتخبّط، والضياع بين رصانة التراث من جهة، وإغراءات الحداثة من جهة ثانية، ممّا لا ضرورة أبدا إلى التورّط فيه.

وأوّل ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا الصّدَد اختلافٌ كبيرٌ، وتبايُنٌ شديد بين الدّارسين حول تكوين المصطلح، بغضّ النظر عن المفهوم المتفق عليه، والذي غالبا ما يكون مجرّد نقل، وإعادة إنتاج لمفهوم تودوروف. ومن أمثلة ذلك ما نجده في "معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة" للدكتور "سعيد علوش"، الذي من بين ما جاء فيه ما يلي: الفانتاستيك: Fantastique

1. نوعٌ أدبيّ، يوجد في لحظة تردّد القارئ بين انتماء القصة إلى الغرائبيّ، أو العجائبيّ.

2. و(القصة الفانتاستيكيّة) هي قصةٌ تضخّم عالمَ الأشياء، وتحوّلها عبر عمليّات مسخيّة.

3. ويُعدّ (هوفمان) من بين كتاب هذا النوع القصصيّ." (23)

حيث نلاحظ أنه اعتمد كلَّ الاعتماد على تعريف تودوروف، وعمد إلى تعريب المصطلح بالفانتاستيك، مصطلحا في الوقت نفسه على العجيب – وبالمعنى نفسه الذي أرساه تودوروف – بالعجائبيّ، وعلى الغريب بالغرائبيّ. ولعلّه فعل هذا اجتنابا لما يمكن أن يحدثه التشابه الصوتيّ والاشتقاقيّ بين "العجائبيّ" و"العجيب" من تداخل، والتباس، قد لا ينجو منهما القارئ غير المتخصّص، وغير الملمّ بخبايا تلك النظريّة.

ومثله يفعل الدكتور "شعيب حليفي" في كتابه "شعريّة الرواية الفانتاستيكيّة"، حيث يتبع هو أيضا طريقة التعريب، معرِّفا الفانتاستيكيّ بأنّه "يتموضع بين ما هو عجائبي وغرائبي، ويجعل القارئ كما يجعل الحدث ونهايته عاملين في تحديد فانتاستيكية العمل الروائي، فإذا انتهت الرواية إلى تفسير طبيعي فإنها تنتمي إلى الأدب الغرائبي [...] أما العجائبي فهو حدوث أحداث، وبروز ظواهر غير طبيعية؛ مثل تكلم الحيوانات، ونوم أهل الكهف لزمن طويل، والطيران في السماء، أو المشي فوق الماء."(24) ويجاريهما "المصطفى مويڤن في كتابه "بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة"، الذي يقول فيه: "يتموقع الفانتاستيك بين العجائبي والغرائبي، حينما يكون المتلقي والحدَث عنصريْن أساسيْن في تحديد فانتاستيك العمل برمّته؛ فإذا ما انتهينا مع العمل الإبداعيّ إلى تفسير، ونتيجة طبيعيّتيْن، كنّا إزاء أدب غرائبي، بعدما نكون قد صادفنا أحداثا ذات بُعْد فوق طبيعيّ، غير أنها تجد لها حلا طبيعيّا.  أمّا العجائبيّ فيكون مع حدوث أحداث ووقائع غير طبيعيّة، تنتهي بتفسير فوق طبيعيّ."(25) وإن كان بعكسهما – علوش وحليفي – لم يلتزم بهذه الصيغ، ولم يوحّد رؤيته، وموقفه من اشتقاقاتها؛ فنجده تارةً يعمد إلى التعريب: "الفانتاستيك"، وأخرى يترجم ترجمات متباينة: "العجيب"، "العجائبيّ"، ممّا يشكل أكبر مأخذ يمكن أن يؤخذ عليه.(26)

ونجد الدكتور "لطيف زيتوني" في "معجم مصطلحات نقد الرواية" يتنبّه كذلك – وإن لم يذكر هذا – إلى مزالق التداخل الذي يستجلبه تجاور مصطلحَيْ: العجائبي، والعجيب، فيعمد إلى تفادي ذلك، لا بالاعتماد على التعريب، بل باتباع طريق الترجمة، واختيار مصطلح: "الخارق" مقابلا لـ: Fantastique  «يقوم الخارق على تقاطع نقيضيْن: العقلانيّة، التي ترفض كلَّ ما لا يقبل التفسير، واللاعقلانيّة، التي تقبل بوجود عالم غير عالمنا، له نظامه، ومقاييسه المخالفان لتجربتنا البشريّة، ومبادئنا العقلانيّة.»(27)

وبالموازاة مع هؤلاء الدّارسين، نجد آخرين يستعملون مصطلح العجائبية، أو العجائبيّ، مع العناية اللازمة بشرح المصطلحيْن الآخريْن الملازميْن له: العجيب، والغريب. ومن أبرز هؤلاء الدكتور محمد الباردي، في كتابه: "الرواية العربيّة والحداثة"، الذي يقف في كثير من صفحاته وقفة متأنية أمام المصطلح، وأمام كثير من إشكالاته: «لقد استعملنا مصطلح العجائبي بالمعنى نفسه الذي يؤدّيه المصطلح الفرنسيّ  Le Fantastiqueونحن نميّز بينه وبين المصطلحيْن القريبيْن منه، وهما: حكاية الخوارق Le merveilleux والحكاية الغريبة L'étrange» (28)ونلاحظ رغم اجتهاده في ترجمة العجيب بحكاية الخوارق، أنه يحتذي خطوات تودوروف احتذاءً شبه حرفيّ، لعلّ من أبرز ملامحه ما جاء في كتابه الآخر: "إنشائيّة الخطاب في الرواية العربية الحديثة"، الذي يتمثل فيه أهمَّ شروط تودوروف لتحقق العجائبي – شرط التردّد والشكّ بين التفسير الطبيعيّ، أو التفسير الخرافيّ – فينفي عجائبيّة رواية "أبواب المدينة" لإلياس خوري (29): «إنّ الفنَّ العجائبيّ يعرف كيف يبقى في الالتباس.  اعتمادا على هذا المفهوم، لا نجد في رواية "أبواب المدينة" أيَّ إشارة سرديّة تضع حدّا فاصلا للأحداث التي تخرق الطبيعة، فالسارد ينهي أحداثه وهو يوهم القارئ بأنها وقعت فعلا. ولذلك هي أقرب إلى حكاية الخوارق منها إلى الحكاية العجيبة، رغم توفر شرط يعتبره جلُّ النقاد أساسيّا في الحكاية العجائبيّة، وهو معنى الخوف.»(30)

ونجد الدكتور "لؤي علي خليل" في كتابه: "عجائبية النثر الحكائي؛ أدب المعراج والمناقب" يحاكي بدوره وبدقة شديدة ما جاء في نظرية تودوروف، لا على مستوى التنظير فحسب، بل على مستوى التطبيق أيضا، حيث عمد إلى تقسيم موضوعات العجائبيّ في نصوص المعراج والمناقب على الغرار نفسه اتبعه تودوروف في كتابه، وكذلك فعل لدى حديثه عن "الوظائف".(31) ويُعَدّ كتابه: "تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث؛ المصطلح والمفهوم" من أبرز الدراسات العربيّة المهتمّة بموضوع تلقي العجائبية لدى النقاد العرب، وعلى حدِّ تعبير الدكتور "علي أبو زيد" في تقديمه للدراسة، فإنّ هذا الكتاب يُعدّ "أوّلَ دراسة عربيّة تبحث في مفهوم العجائبي، وتلقيه عند الدارسين والنقاد العرب، على الرغم من وجود بعض الدراسات التي تناولت جانبا منه، أو طبّقته في جانب، إلا أنها لم تكن على مستوى شموليّة هذا الكتاب."(32)

ونلمس في هذه الدراسة تتبّعا دقيقا لتلقي المصطلح والمفهوم كليْهما لدى النقاد العرب، مع محاولة شرح، وتحليل أهمّ خفايا النظرية التودوروفيّة، ومناقشة أبرز إشكالاتها. وإلى جانبه نجد الدكتور "سعيد يقطين" يتبنى الرؤية التودوروفيّة أيضا في كتابه: "السرد العربي؛ مفاهيم وتجليات" – وإن لم يكن مقتصرا على موضوع العجائبية فحسب – حيث يشرح لنا تعريف العجائبي حسبها، ويؤكد تماما مثلما فعل تودوروف على ضرورة توافر عنصر الشك، أو الحيرة في صميم السرد والوصف كليْهما، كي تتحقق صفة العجائبية: «إنّ حصول هذه "الحيرة"، أو "العجز" عن معرفة كيفيّة وقوع الفعل "العجيب" هو الذي يولّد، ويحدّد "العجائبيّ" كما تقدّمه لنا مختلف "الحكايات" أو "الأخبار" التي تزخر بها كتب العجائب العربيّة.»(33)

وغير بعيد عنه نجد الدكتور "فوزي الزمرلي" في كتابه: "شعرية الرواية العربية"، الذي يتبنى فيه مصطلح العجائبية وفق رؤية تودوروف، ويتعمّق في شرح أبعاد نظريّته، وحدودها، فيشير كما فعل سابقوه إلى الفرق بينه وبين العجيب والغريب من جهة، ويؤكد على ضرورة توافر عنصر الشك والحيرة من جهة ثانية، ويلمح كذلك – واقتداءً بتودوروف – إلى أنّ العجائبيّ ليس بالجنس الأدبيّ المستقلّ بنفسه، "بما أنه يقيم في واقع الأمر على تخوم جنسيْن أدبيّيْن مجاوريْن له: وهما الغريب، والعجيب."(34) وهو ما أشار إليه قبله د. شعيب حليفي في "أنه ليس جنسا أدبيا قائما بذاته، ولكنه صيغة،[...] والحقيقة أنه يسم كل الأجناس الأخرى، بل إنه يدخل في باب تشكيل النص في الشعر، والمسرحية، وفي الرواية الواقعية والرومانسية، ومعنى هذا أنه ليس هناك جنس الفانتاستيك، بل هناك تقنية الفانتاستيك."(35) وهذا هو عين ما ذهب إليه تودوروف حين أشار إلى أنّ اقتصار ديمومة العجائبي على زمن تردّد القارئ، وحيرته في تفسير الظواهر الخارقة للواقع هو ما يؤدي إلى نزع صفة الجنس أو النوع الأدبي عنه؛ فهو "يحيى حياة ملؤها المخاطر، وهو معرَّضٌ للتلاشي في كلِّ لحظة.  يظهر أنه ينهض بالأحرى في الحدِّ بين نوعيْن؛ هما العجيب والغريب، أكثر ممّا هو جنسٌ مستقلٌّ بذاته."(36)

أمّا الدكتور "نضال الصالح" في كتابه: "النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة"، فنجده يقف أمام مصطلحَيْ: العجائبي، والغرائبيّ – وإن لم تكن وقفته هذه مقصودة لذاتها بل أتت في سياق تنظيره لهاجس النزوع الأسطوريّ وحده – شارحا أولهما وفق رؤية تودوروف، وثانيهما وفق رؤية أبتر، ونجده يعنى بالتفريق بين الأسطوريّ والعجائبيّ، اللذين كثيرا ما يختلط مفهوماهما، وكثيرا ما تضيع الحدودُ الفاصلة بينهما، نظرا لتشابههما في تقديم عوالم فوق واقعيّة، ونظرا لتعدّد مستويات التأويل في كليْهما، ورغم كلّ هذا فإنّ القطيعة بينهما واضحة، ويمكن إرجاعها إلى شرط التردّد، أو المأزق الإدراكيّ – كما يصطلح عليه أبتر – الذي يعدّ أحد شروط العجائبي، في الوقت الذي تنبذه فيه الذهنيّة الأسطوريّة، القائمة على تلاشي الحدود بين ما هو واقعيّ وفوق واقعيّ، بل اعتبار هذا الأخير حقيقة لا مجال أبدا إلى الشكّ فيها.(37)

وبهذا نكون قد عرضنا لبعض الآراء التي تمثلت رؤية تودوروف، واحتذت خطواته.  وعلى الرغم من التباين الشديد بينهم في تلقي المصطلح، والتراوح بين ترجمته حينا، وتعريبه حينا آخر، فإنّ المفهوم يكاد يكون موحّدا فيما بينهم، وبعيدا عن أيِّ تفاوت، واختلاف. وغير بعيد عن هؤلاء نجد باحثين آخرين، يعملون على التنظير والتطبيق لبنية الخارق، والخياليّ، وما فوق الواقعيّ، في بعض الأعمال الأدبيّة العربيّة، من قصة قصيرة، ورواية، ومسرح، وغيرها، ولكنهم بعيدون كلَّ البعد عن مصطلحات تودوروف، وتحديداته المنهجيّة. فلا نجد مثلا في "معجم المصطلحات الأدبيّة" لإبراهيم فتحي أيّة إشارة إلى مصطلح "العجائبيّة"، وصنوَيْه: العجيب، والغريب، وفق ما حدّده تودوروف، وأقرب إشارة إليه نجدها لدى حديثه عن مصطلح: "الحكاية العجيبة Tall Tale" «سردٌ قصصيٌّ، يروي أحداثا ووقائع حافلة بالمبالغة، ويصعب تصديقها، ومن أشهر أمثلتها: "الضفدعة الشهيرة النطاطة من بلاد كالا فاريس.»(38)

ونلاحظ هنا تركيزا مطلقا على عنصرَيْ المبالغة، وصعوبة التصديق، اللذيْن يشكلان مفصلَ هذا المصطلح، ويؤطران جميعَ تخومه، وحدوده؛ فما يصنع عجائبيّة هذا النوع من الحكايات هو خروجه عن ضوابط العقل، والمنطق، وعلوّ سمة التضخّم، والاختراق فيه؛ تضخم الأحداث أو الشخصيات، وبلوغها حدَّ الوهم، والخرافة، واختراق بلادة الواقع، وجموده. ونجد كذلك الباحثيْن: "أحمد جاسم الحميدي"، و"محمد جاسم الحميدي" في كتابهما المشترك: "الرواية ما فوق الواقع"، يعملان على إرساء حدود مصطلح جديد، هو "ما فوق الواقع"، ويحاولان من خلاله التحرّرَ من رؤية تودوروف، والتركيز على أهمية ذلك النوع من الروايات ما فوق الواقعيّة، التي "استطاعت أن تتجاوز عقدة (السرد الحكائيّ الأليف) وبناء معماريّة خاصة بها، كما أنها فصلت العالم الروائي عن العالم الفعليّ." (39) والتي يعلو فيها ويتزايد "تطلّع الفنان إلى ريادة أرض بكر، واكتشاف أشكال جديدة، أكثر اقترابا من المخيلة العربية، والمناخات العربية، بأجوائها، وميثولوجياتها، وأساطيرها."(40) ويبدو جليّا من خلال ما سبق، ابتعادُ الباحثيْن عن تنظيرات تودوروف، في مقابل ما يبدو من إصرارهما الشديد على ضرورة التمرّد على أطر الرواية التقليديّة الجامدة، التي تحاكي الواقعَ وأحداثه محاكاةً حرفيّة، تخلو من أيِّ بادرة توهّج، أو إدهاش، ممّا يمسخ خصوصيّة الفنِّ الروائيّ من فنٍّ تخييليّ، يتراوح حضوره بين الإحالة إلى الواقع من جهة، وتجاوزه واستباقه من جهة ثانية، إلى عمليّة نسخيّة باهتة، تتكرّر فيها إلى حدِّ السأم، والابتذال رتابة الواقع، ونشازاته.

ونجد الأستاذ "فاضل ثامر" في كتابه: "المقموع والمسكوت عنه في السرد العربيّ"، يراوح بين مصطلحيْ: "الغرائبيّة"، و"الفنطازيّة" في سياق تحليله لتجلياتهما في نماذج من القصة القصيرة الأردنيّة، مؤكدا على ضرورة توافر البعد السحريّ في الأعمال الأدبيّة، لأنه السبيل الأوحد لتفادي نمطيّة التقليد، والنسج على منوالٍ واحد، أحاديِّ البعد، مسطح الإيحاءات: «فبدلا من الامتثال لتقديم لوحة سوداء، مليئة بمظاهر الاختناق، والاستلاب، [...] وبدلا من التمسّك برومانسيّة ثوريّة، قد تصبح ساذجة في تفاؤليّتها أحيانا، تتحدّى البنية الواقعيّة/ الغرائبيّة الجديدة الواقعَ الضاغط، المهيمن بامتداداته الخارجيّة، المرتبطة بالآخر، وجذوره الدّاخليّة المقيّدة لحريّة الإنسان، وتسخر منه، وتنزله من عرشه، وتقيم بدلا منه نظاما فنطازيّا، وسحريّا بديلا، هو الآخر مرتبط بمثال متجذر في الوعي الشعبيّ، وبإمكانات تحوّل هذا الوعي من سكونيّة "الوعي القائم" إلى ديناميّة "الوعي الممكن.»(41)

ويجتهد كثيرا الأستاذ ثامر في تبيان أهمية هذا البعد "الغرائبيّ" في إثراء المعنى، وتعميقه، وإضفاء سمة تأويليّة، تتضاعف من خلالها قوته، ويتزايد تأثيره.  ونلاحظ أنه على الرغم من إشارته مرات كثيرة إلى نظرية تودوروف، يتحرّر منها، ولا يلزم نفسه بشيء من مقولاتها، سواء كان هذا على مستوى التنظير، أم على مستوى ما طبّقه على ما انتقاه من نماذج. وهو الأمر الذي عابه عليه د. لؤي خليل، وعدَّه اضطرابا منهجيّا في الوعي بنظرية تودوروف. (42) ويبدو انتقادُ د. خليل من باب المغالاة في تطبيق نظرية تودوروف، والمبالغة في تتبّع جميع خطواته، وتوصياته، واجتناب تحذيراته كلّها، وتحفظاته، وهو ما لا نوافقه على جزء كبير منه؛ ذلك أنه من العبث، ومن غير العمَليّ تتبّعُ جميع ما أرساه اجتهاد فرد واحد – أيّا كان علمه، وأيّا كانت ريادته، وبراعته – وتطبيقه على جميع النتاج الإبداعيّ العربيّ الضخم، والممتدّ على مدى عقود طويلة، عرفت فيها البلدانُ العربيّة من التغيّرات الاجتماعيّة، والسياسيّة ما يمنحها خصوصيّة، وثراءً يستعصي على محاولة حصره ضمن نظرية فرديّة واحدة، أيّا بلغت درجة دقتها، وشمولها، ورصانتها.  وإذا أضفنا إلى هذا أنّها وليدة بيئة، وسياقات أدبيّة، واجتماعيّة مختلفة كلَّ الاختلاف عن خصوصيّات، وسياقات البيئة العربيّة، لبدا بجلاء حجمُ الإجحاف الذي يقع فيه كلُّ مَن يحاول المبالغة في تمثل، وتقليد النظريّة الغربيّة، ومحاسبة مَنْ لا يجاريه في ذلك.

وهذا هو ما يراه "كمال أبو ديب" في كتابه: "الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ"، الذي على الرغم من أنه استعمل فيه المصطلح التودوروفيّ: "العجائبيّ" إلا أنه يثور – في مقدمة كتابه – على تلك النظريّة ثورة عارمة، وينعى على الباحثين العرب تهافتهم عليها، ومبالغتهم في تقليد صاحبها، والافتتان بكلِّ ما يقرّره، وينفيه، متناسين روعة التراث العربيّ الأصيل، الثريّ، والحافل بما لا تستطيع أيّة نظريّة غربيّة استيعابه. "يحقّ للإبداعيّة العربيّة أن تنسب لنفسها في سياق التاريخ الأدبيّ، الذي كانت تعيه ابتكارَ فنّ أدبيّ جديد؛ هو فنّ العجائبيّ، والخوارقيّ: فنّ اللامحدود، واللامألوف؛ فنّ الخيال المتجاوز، الطليق، وابتكار المتخيّل الذي لا تحدّه حدود، ويجلو ذلك عبثيّة الادّعاءات الصّريحة أو المتضمّنة، التي يقوم عليها عملُ باحثين مثل تزيفتان تودوروف، ينسبون إلى الغرب حصرا ابتكارَ ما أسموه الآن: "الفانتاستيك"، وعبثيّة مَنْ يتعقبهم من الباحثين، وهواة البحث من العرب، الذين يفتنهم كلُّ غربيّ بما يزعمه لنفسه، لمجرد أنه زعمَه لنفسه."(43)

بل إنّ نظريّة تودوروف نفسها لم تسلم من انتقاد الدارسين الغربيّين أنفسهم لكثيرٍ ممّا جاء فيها جملة، وتفصيلا؛ فهي كما يرى دنيس لابيه Denis Labbé وجيلبير ميليه Gilbert Millet إن كانت صالحة لبعض القصص العجائبيّة في القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر (موباسان Maupassant  وغوتييه  Gautierوبو) إلا أنها لا تبدو أبدا ملائمة لرواية الرعب الحديثة."(44) وقبلهما يذهب مارسيل شنايدر Marcel Schneider في تأريخه للأدب العجائبيّ في فرنسا إلى ضرورة توسيع نظريّة العجائبيّة، وعدم حصرها ضمن ما اجتهد فيه كايوا، أو حتى تودوروف؛ فالعجائبيّة حسبه "ليست لعبا بما هو مرعب (كما يرى كايوا) ولا هي تلك اللحظة الملتبسة، التي يُتردّد معها بين الحلّ المعقول، والحلّ اللامعقول (كما يرى تودوروف) ولا هي تشكّلٌ خفيّ، ولا مجرّد تجلٍّ لما فوق الواقع: إنها نتاجُ انشقاق، وتصدّع مفاجئ في التجربة المعاشة يوميّا."(45) وتبدو من خلال هذا القول دعوةٌ صريحةٌ إلى ضرورة توسيع مفهوم العجائبي، وعدم سجنه داخل جدران نظريّة أحاديّة ضيقة، لأنه فنٌّ متعلّقٌ بالحياة نفسها، بكلِّ ما يسودها من مفارقات، وتناقضات، وعبث، وألغاز، لا يجد كثيرٌ منها لنفسه أيَّ حلّ، أو يجد حلولا كثيرة متناقضة بدورها هي الأخرى، وغامضة.

وهو عين ما ذهب إليه – وإن اختلفت طرق التعبير – ألبيريس (Alberes) في تأريخه للرواية الحديثة، حين افترض عدمَ خلوّ أيّة رواية مهما كانت واقعيّة من جانبٍ سحريّ هنا، أو خياليّ – مغرق في الخيال – هناك، يقول: «إنّ في كلِّ رواية إناءً مقدّسا ينبغي اكتشافه، لأنَّ كلَّ رواية تشتمل على سرّ، وبحث، ومغامرة، ودلالة تكون خافية أول الأمر، وهكذا فإنّ كلَّ رواية هي شيءٌ "عجيبٌ" بمعنى ما، ولكنّ هذا العجيب قد يكون ضعيفا، أو عجيبا اجتماعيّا، أو سايكولوجيّا، وقد يكون في بعض المرّات بوليسيّا بكلِّ يسر... أمّا في الرواية الصوفيّة فيظلّ العجيب معنى فلسفيّا، باطنيّا للوجود.»(4)

وعليه فإنّ من الضروريّ جدّا العمل على توسيع مفهوم العجائبيّة، وعدم حصره ضمن أطر ضيّقة، كثيرا ما تكون قاصرة عن استيعاب تجلياته الكثيرة في العمل الإبداعيّ، وكثيرا ما لا تكون قادرة على مجاراة شطحات المبدع، وهواجسه، وخيالاته البالغة التعقيد، والاشتباك؛ ذلك أنّ لكلّ عمل أدبيّ خصوصيّاته، وأسراره، وطاقاته المتجدّدة على السحر، والإدهاش؛ ذلك الإدهاش الذي تزداد قوته كلما ازداد غموضه، وكلما كثرت تأويلاته، وتعدّدت أسئلته، وإشكالاته. وهي الإشكالات التي نجدها متزاحمة جدّا لدى تأمّلنا ما وصلت إليه الرواية العربية اليوم من نزعات تجديديّة، وهواجس تجريبيّة، كثيرا ما تكون متضخمة، وفي غير محلها أحيانا، ولكنها إن عكست شيئا فإنما تعكس لنا مدى حاجة المبدع العربيّ إلى الانفتاح، والمغامرة، والبحث المستميت عن أطر جديدة تستوعب انشغالاته الكثيرة، وترتـّق فجواته الذهنيّة المتورّمة تورّمَ اضطرابات هذا العصر، والمتزايدة بتزايد أسئلته، واحتداماته.

 

الهوامش:
: (1) La littérature fantastique, Denis Mellier, Ed Seuil, Paris, 2000, p4.

(2) Dictionnaire étymologique et historique de la langue française, Emmanuèle Baumgartner et Philippe Ménard, Librairie générale française, 1996, p317.

(3) Dictionnaire de français classique la langue de XXVIIIºs, Gaston Cayrou, Klincksieck, Paris, p355.

(4) Dictionnaire de critique littéraire, Joëlle Gardes- Tamine et Marie Claude Hubert, Armand Colin, paris, p81.

(5) Le fantastique, Denis Labbé et Gilbert Millet, Ellipses Édition, Paris, 2000, p6.

(6) مدخل إلى الأدب العجائبيّ، تزفيتن تودوروف، ترجمة: الصديق بوعلام، دار شرقيات: القاهرة، ط1، 1994، ص: 44.

(7) المرجع نفسه، ص: 59.

(8) المرجع نفسه، ص: 63.

(9)  p 301. Dictionnaire étymologique et historique de la langue française,

(10) Ibid, p 494.

(11) Dictionnaire de français classique la langue de XVIII's, p337.

(12) Ibid, p 503.

(13) أدب الفنتازيا؛ مدخل إلى الواقع، ت. ي. أبتر، ترجمة: صبّار سعدون السعدون، دار المأمون: بغداد،1989، ص: 13.

(14) المرجع نفسه، ص: 41.

(15) لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين بن منظور، دار صادر: بيروت، ط1، (د.ت)، مج: 10، ص: 38.

(16) المرجع نفسه، مج11، ص: 23- 24.

(17) عجائب المخلوقات، والحيوانات، وغرائب الموجودات، زكريا بن محمد القزويني، منشورات مؤسسة الأعلمي: بيروت، ط1، 2000، ص: 10.

(18) المرجع نفسه، ص: 15.

(19) سورة الأعراف، الآية: 63.

(20) سورة المائدة، الآية 100.

(21) سورة الكهف، الآية: 9.

(22) سورة ق، الآية: 2.

(23) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني: بيروت، ودار سوشبريس: الدار البيضاء، ط1، 1985، ص: 170.

(24) شعريّة الرواية الفانتاستيكيّة، د. شعيب حليفي، دار الحرف: القنيطرة، المغرب، ط2، 2007، ص: 50.

(25) بنية المتخيل في نص ألف ليلة وليلة، المصطفى مويڤن، دار الحوار: اللاذقية، ط1، 2005، ص: 237- 238.

(26) ينظر المبحث الثاني من الفصل الثالث من الكتاب: من الصفحة 229 إلى 246.

(27) معجم مصطلحات نقد الرواية (عربي، إنكليزي، فرنسي)، د. لطيف زيتوني، مكتبة لبنان ناشرون: بيروت، ودار النهار: بيروت، ط1، 2002، ص: 86.

(28) الرواية العربية والحداثة، د. محمد الباردي، دار الحوار: اللاذقية، ط1، 1993، ص: 187.

(29) يشعر قارئ هذه الرواية فعلا بامّحاء الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وبغموض أجوائها غموضا لا نجد له أيَّ تفسير، لا في بداية الأحداث، ولا في نهايتها، حيث تمتدّ فيه الوقائع امتدادا حلزونيّا متداخلا، ربما يكفي لتلمّسه ما جاء في أولى صفحات العمل: "كان رجلا غريبا، لم يروِ قصّته لأحد، لم يكن يعرف أنها قصّةٌ تُروى [...] رأى نفسه وسط الحكاية، ولم يسأل كيف بدأت، كان مشغولا بنهايتها، وحين أتت النهاية وجد أنه لا يعرف النهاية أيضا..."   أبواب المدينة، إلياس خوري، دار الآداب: بيروت، ط2، 1990، ص: 6.

(30) إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة، د. محمد الباردي، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2000، ص: 251.

(31) ينظر عجائبية النثر الحكائي؛ أدب المعراج والمناقب، د. لؤي علي خليل، دار التكوين: دمشق، ط1، 2007، ص: 66، وما بعدها.

(32) تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث؛ المفهوم والمصطلح، د. لؤي علي خليل، هيئة الموسوعات العربية: دمشق، ط1، 2005، ص: 13.

(33) السرد العربي؛ مفاهيم وتجليات، د. سعيد يقطين، دار رؤية: القاهرة، ط1، 2006، ص: 267.

(34) شعرية الرواية العربية؛ بحث في أشكال تأصيل الرواية العربية ودلالاتها، د. فوزي الزمرلي، مؤسسة القدموس الثقافية: دمشق، 2007، ص: 108.

(35) شعرية الرواية الفانتاستيكيّة، ص: 44.

(36) مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 57.

(37) النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، د. نضال الصالح، اتحاد الكتاب العرب: دمشق، 2001، ص: 21- 22.

(38) معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين: تونس، ط1، 1986، ص: 143.

(39) الرواية ما فوق الواقع، ص: 31.

(40) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

(41) المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، فاضل ثامر، دار المدى: دمشق، ط1، 2004، ص: 92.

(42) ينظر تلقي العجائبي في النقد العربي الحديث، ص: 33.

(43) الأدب العجائبيّ والعالم الغرائبيّ، ص: 9.

(44) Le Fantastique, p 7.

(45) Histoire de la littérature fantastique en France, Marcel Schneider, Fayard, 1985, p8.

(46) تاريخ الرواية الحديثة، ر. م. ألبيريس، ترجمة: جورج سالم، منشورات بحر المتوسط: بيروت، باريس، ومنشورات عويدات: بيروت، باريس، ط2، 1982، ص: 421.