على أن معظم رواياته ترجمت إلى ستة وثلاثين لغة لكنه يبقى أقل شهرة خارج حدود فرنسا من تلك التي يتمتع بها فيليب روث مثلاً أو ميلان كونديرا. لكن القارئ الفرنسي يعرف تماماً من هو باتريك موديانو الذي التقاه ولم يكن قد أتم الثالثة والعشرين من عمره بعدُ، حين نشر أول رواية له "ساحة النجمة" عام 1968 طارحاً قبل المؤرخين أنفسهم أشد الأسئلة حرجاً على تاريخ بلاده القريب، وراسماً منذ هذا العمل الأول معالم عالمه، محدداً أسلوبه، مقدماً رؤيته، معتبراً نشرها "صكّ ولادته الحقيقي".
منذ ذلك الحين لم يتوقف باتريك موديانو عن إدهاش الجمهور الذي كان يتسع باستمرار مع كل رواية جديدة ينشرها. كما لو أنه كان يستثير في وعي قرائه ذكرى روائي سبق أن سحرهم من قبل إذ اعتمد الذاكرة نبعاً خصباً استوحاه في رواية واحدة كتبها وإن بدت في الظاهر روايات عديدة: مارسيل بروست. لكنه لن يصنع صنيعه فيسبغ عليها عنواناً واحداً كما فعل هذا الأخير. إذ سيدع قارئه يكتشف أنه أمام تنويع آخر في كل رواية جديدة يقرؤها على ثيمة أساس.
وهذه الثيمة هي تاريخه الحميم الخاص. لم يشهد الحرب العالمية الثانية التي ولد بعد أن وضعت أوزارها، ولا الاحتلال الألماني لفرنسا، ولا عاش في باريس في ظل هذا الأخير. لكن جراحات هذا كله ستتجلى في وعيه وفي مخيلته، وكأنما اختزنها نطفة ثم علقة ثم جنيناً قبل أن يولد طفلاً. مثلما ستؤرقه مسألة انتمائه وهويته. فالأم بلجيكية، فلمنكية الأصل، دائمة الترحال بسبب مهنتها كممثلة، والأب يهودي ذو أصل إيطالي، استطاع على يهوديته أن يعيش فترة احتلال باريس دون أن يمسّه أذى بفعل ارتباطاته المريبة بأوساط السوق السوداء المزدهرة آنئذ. يفتقد حضور كليهما طفلاً فيلجأ إلى التعلق بأخ يصغره ما لبث أن خطفه الموت في سنيّه العشر مخلفاً وراءه جرحاً آخر سيبقى غائراً على الدوام. وسيكون غيابه هو الحضور اليوميّ الممزق.
ذلك كله في زمان هو زمان الذاكرة لا زمان سواه، ولا حدود لمداه. لكنها هنا ذاكرة زمان هو على وجه الدقة زمان باريس تحت الاحتلال. إليها تتوجه الأسئلة، وفي ثناياها يتم البحث عن مصائر بشر لم يلتق بهم وجهاً لوجه ولم يسبق له أن عرفهم، لكنهم يؤرقون وجوده ويمتزجون بكيانه كأنما يبحث فيهم عن نفسه، وفي هويتهم عن هويته، وفي خصوصياتهم عن خصوصيته، وفي وجودهم عن وجوده.
أما المكان فهو مدينة باريس. باريس حصراً، حتى لنظن أنها ـ مثل مدينة دبلن في رواية جيمس جويس "عوليس" أو مدينة الإسكندرية في رواية لورنس داريل "رباعية الإسكندرية"ـ هي البطل الحقيقي للروايات/ الرواية كلها. فهي بشوارعها وأزقتها وحاراتها وفنادقها ومساكنها مستقر الذكريات والذاكرة الراسخ، تتجلى أمامنا بدقة وصرامة كما لو أنها اليقين الوحيد والمطلق.
ثم يحضر الروائي، باتريك موديانو، الذي إذ يستجوب تاريخ أبويه وتاريخه الحميم يستخلص عناصرهما فيمزجها ويعجنها ويسحقها ثم يصفيها وينثرها رذاذاً، كما يقول هو نفسه، ليجعل من ذلك كله عالماً متماسكاً وهو ينوس فيه بين جغرافية مكان واضحة المعالم، موصوفة بدقة وثائقية، وبين مصائر غامضة لأشخاص يتشابهون في جراحاتهم، أو في هروبهم، أو في تعقيد هوياتهم، أو في اضطراب وجودهم وهم يستجوبون ماضيهم المسكونين به شاؤوا أم أبوا.
بين الحلم والواقع، أو بين الشعر والواقع
ألم يعنون جوته من قبل ذكرياته "شعر وحقيقة" بما أنه كان يستجوب ذاكرته هو الآخر؟ ذلك أيضاً شأن تقنية موديانو الروائية. تقنية ولدت من رحم موضوعها نفسه. فهي لذلك لا تكاد تُرى. وهي لذلك جعلت أسلوبه وهو ينوس بين الدقة في الجمل الواضحة كالبداهة وبين المراوغة في الجمل القصيرة الكثيفة الشعرية يمحو الحدود بين العالمين بواسطة سحاب أتقن استخدامه.
يُقال إن الروائي لا يكتب إلا رواية واحدة مهما تعددت رواياته. ذلك ينطبق على بروست الذي جعل كما سبق القول لرواياته جميعاً عنواناً واحداً. لم يفعل باتريك موديانو شيئاً من هذا، إلا أن رواياته كلها، من الرواية الأولى حتى الرواية الأخيرة، وقوامها البحث والاستجواب والكشف عن مصائر تتباعد أو تتلاقى في مصير واحد، تبدو وكأنها رواية واحدة، سيرة ذاتية على غرار سيرة جوته، لكن أدواتها تنتمي إلى حقبتنا، وتقنيتها تمتح من معيشنا، ويبتكر أسلوبها لغته الخاصة في دقتها وفي مراوغتها وفي سحرها. في ذلك إذن وفي استخدام فن الذاكرة كلٌّ على شاكلته إنما يمكن استدعاء بروست حين الحديث عن موديانو، كما فعل البعض على كل حال.
فمنذ روايته الأولى "ساحة النجمة" التي يضع في مقدمتها حكاية يهودية تتحدث عن ضابط ألماني سأل شاباً على الطريق أن يدله إلى ساحة النجمة فأشار الشاب إلى الجانب الأيسر من صدره، حيث كان اليهود خلال الاحتلال الألماني مرغمين على وضع النجمة الصفراء لتدلّ عليهم، لا يتجلى زمن الاحتلال في خلفية الرواية بوصفه إطاراً تاريخياً، بقدر ما ينسج جواً ضبابياً تختلط فيه الشخصيات الحقيقية (فرويد، دريو لاروشيل، مارسيل بروست، الكابتين دريفوس، هتلر، إيفا براون..) مع الشخصيات الخيالية وذلك من خلال شخصية هوجاء ذات هويات لا حصر لها، يمتزج فيها المأساوي بالمضحك .. كلها نماذج ملأت وعي الشاب الذي كانه موديانو وهو يخط سطور هذه الرواية، مثلما كانت تخطُّ من خلال الحفر في الذاكرة ملامح بطلها الذي يقوله بمعنى ما.
لا تخرج روايته "شارع الحوانيت المعتمة" التي حازت جائزة الجونكور عند صدورها عام 1978 عن هذا الإطار. فهي تقدم مشهد بحث رجل فقد ذاكرته. تنفتح خلال البحث مسارات متعددة، وتمتزج وتنغلق ضمن حقل من علامات الاستفهام أمام جي رولان، الذي يحاول الحصول على نتف من حياة شخص يدعى ماكيفوا. هل هذا الأخير هو نفسه؟ أم هو شخص آخر؟ ليس مهماً في الحقيقة طالما أن عتمة الهوية هي التربة الخصبة لتخييل موديانو، وهوسه الذي استحال في هذه الرواية كلمات: ممرات سرية، وشراك مضطربة، وأشباح متطفلين، تحت ظلال الحرب والاحتلال، وبإيجاز كل العناصر الضرورية لبحث ربما لن ينتهي أبداً.
كذلك روايته الأخيرة "حتى لا تتيه في الحي" التي لن تحيد عن سابقاتها بوصفها جزءاً من سيرة ذاتية سبق أن كتبت في صيغ عديدة من قبل.
هكذا وعلى أن روايات/ رواية موديانو تبدو على علاقة وثيقة بالتاريخ بما أنها تستعيد زمن الاحتلال الألماني لباريس فإنها ليست كذلك على الإطلاق. ومن هنا اختلافها الجذري، في كل عناصرها، عن الرواية التي تستجوب التاريخ أو رجاله أو أحداثه. لا وجود للحدث التاريخي (أي الاحتلال) بمعناه الواقعي في مُبدع موديانو ولا يعالَج روائياً بوصفه كذلك. لكنه موجود في قاع الذاكرة التي تستحضر وتستجوب وتستحيل في النهاية هذا العالم الذي ينوس بين النور والظل، بين الحقيقة والشعر.
رغم أن باتريك موديانو عاصر الرواية الجديدة وروائييها مثلما عاصر كتاب ما بعد الحداثة، فإن كتابته الروائية تبقى عسيرة على التصنيف، أو حتى على المقارنة بسواها، بما امتازت به من جدة وابتكار. ذلك في الحقيقة ما جعله كاتباً يستقبله النقاد والجمهور الواسع بالحماس نفسه وبالإعجاب ذاته. لا يشاركه في ذلك إلا قلة من الروائيين الفرنسيين المعاصرين.
(مقدمة الترجمة العربية لرواية "شارع الحوانيت المظلمة" التي صدرت ضمن روايات الهلال، القاهرة، تشرين أول/ اكتوبر 2014)