يخلص الكاتب إلى أن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين، والأمة لا يقوم حالها إلا بوجود أبناء بررة من طالبي المجد، وبين هؤلاء وأولائك يدور الصراع، فإما أن يظفر المتمجدون فيطول عهد الاستبداد، وإما أن يظفر طلاب المجد ممن طموحهم أن يشتروا السعادة لأمتهم، فتنعم بعد شقاء.

عندما يتحول المجد إلى تمجد في دولة المستبد

عبد القادر ملوك

من الطبيعي أن يسعى المرء في حياته وراء المجد، وما الحياة غير لهاث وراء مطامح وأحلام نضعها لأنفسنا ونرميها بسهامنا علّنا نُصيب مجدا من ورائها يعطينا شأنا ويجعلنا في مصاف من تتحلل أجسادهم ويبقى ذكرهم شاهدا على مجد بلغوه ذات يوم! فهو مطلب شريف لكل إنسان، لا يترفع عنه نبي أو زاهد ولا ينحط عنه دني أو عامل، لأن له لذة روحية تقارب في وصف الكواكبي"لذة العبادة عند الفانين في الله وتعادل لذة العلم عند الحكماء وتربو على لذة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على لذة مفاجأة الإثراء عند الفقراء"، وهو إن غاب عن مطالب الفرد صيّر حياته  أشبه بيوم مكرور وروتين هالك يكاد يعادل موتا في مسمى حياة.

والمجد، الذي هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، ارتبط في أذهاننا بالأفراد الأحرار التواقين إليه حتى وإن كانت الطريق الموصلة إليه مليئة بالمهالك، لا لشيء إلا لحرصهم على تفضيل الموت الكريم على الحياة الذليلة، متسلحين في ذلك بخصال ثلاث هي الهمة والإقدام والثبات، دونها يبقى المجد مطلبا عسير المنال، لأنه لا يُنال إلا بالبذل والعطاء، إما مالا ويسمى مجد الكرم، أو علما ويسمى مجد الفضيلة، أو نفسا بالتعرض للمشاق والأخطار نصرة للحق ويسمى مجد النبالة وهو المجد الذي يسطر لنا التاريخ أسماء لأشخاص تاقت نفوسهم الكبيرة إليه وحنت إليه أعناقهم، ما همَّهم أن يفقدوا أجسادهم ماداموا على يقين من أن أرواحهم ستظل خالدة يحيطها المجد ما ذكرت أسماؤهم.

والحاصل أن المجد في أحوال الناس العادية، هو ميسَّر للجميع كل بحسب استعداده و همته، أما في زمن الاستبداد فالمجد كل المجد ينحصر في مقاومة الظلم على حسب الإمكان، أو الانضمام إلى الفئة الظالمة وتحقيق مجد من نوع آخر يحمل من الخسة ما تندى له الأجْبُن، حري بنا أن نسميه تمجدا ما دام لا يوجد إلا حيث توجد الإدارة المستبدة. إنه بتعبير الكواكبي "جدوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية". وهو بتعبير مختصر أن يصير الإنسان "مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم". والاستبداد أنواع، ليس من الضروري أن يقوم على البطش بالأيدي واستعمال القوة أو الضرب أو التنكيل حتى يصير المرء مستبدا، بل حسبه أن يشحذ قلمه ويفرد قرطاسه ويُسَود صفحات تبرر استبداد المستبد أو تستميل الأمة إلى السير في ركبه والتسبيح بحمده ليجعله ذلك في فئة الاستبداد الأكبر، أو ليس يقال "رب كلمة قتلت أمة، ورب أخرى أحيتها".

وارتباط التمجد بالإدارة المستبدة، مرده إلى أن الدولة الحرة التي تحترم شعبها وتروم مصالحه تأبى الإخلال بالمساواة بين أفرادها إلا لفضل حقيقي، ولا تُقدم على التمييز بينهم ورفع هذا والحط من ذاك إلا بناء على أعمالهم وتفانيهم في خدمة دولتهم، وإذكاء لروح المنافسة بينهم وتشويقا لهم على البذل أكثر، ثم إيمانا منها أن رقي الأمة وازدهارها لا يتم إلا بالاعتراف قبلا بإنسانية الإنسان وقيمته وطاقاته وفكره ومواطنيته. وليس هذا مما يدخل ضمن تخطيط المستبد أو ينهجس به تفكيره، مادام حرصه منصب على إطالة عمر وضع قائم يبقيه متسلطا على رؤوس العباد، لذلك يلجأ إلى المتمجدين الذين يريدون خداع العامة، وما يخدعون سوى أنفسهم، لأنهم يعيشون صراعا داخليا يذكرهم في كل حين أنهم ما حازوا ما حازوه إلا كذبا و تملقا، وتفانيا في خدمة أغراض دنيئة يكلفهم المستبد أو من يقوم مقامه بها تعزيزا للأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها. ولا يلجأ المستبد إلى هذه الفئة من طلبة التمجد إلا بعد أن يستفرغ جهده في استمالة بعض العقلاء والأذكياء من الطاقات الحية عسى أن يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالصورة التي توافق هواه، وتضمن له سلطانه على أتباعه، حتى إذا فقد كل أمل في استمالتهم وكسب تأييدهم، حاصرهم بكل السبل وجعل من تعبيراتهم الرافضة أو حتى المتسائلة تهديدا لاستقرار الوضع القائم يستوجب العقاب،  فيستقر رأيه بعد ذلك على المتمجدين الذين غاية مجدهم أن يظفروا برضاه، فتراهم يخطبون وده بكل الأساليب، ويتفانون في إظهار الخنوع والخضوع حتى ينالهم من الغنيمة والحماية نصيب. والمستبد ما ضره أن يكون أداؤهم رديئا، أو كانوا خلوا من أية كفاءة أو موهبة ما دام شعاره في دولته هو الولاء وليس الأداء.

والمستبد إن كان في حاجة إلى اتخاذ متمجدين يعملون في جميع المناصب من أعلاها إلى أدناها، فهو في حاجة أكثر إلى مثقفين يسبحون بحمده ويجهرون بخلاله وخصاله ويُبَيضون ما اسود منها ويرتقون فجوات ضعفه ويسلطون الضوء على ما يرونه مشعا فيه ولو كان هزيلا الخ.

هؤلاء أشد فتكا بالعباد وأعظم دورا في إطالة عمر المستبد ونظامه. فالمستبد يعلم أن الأمة تبغضه وتمقته وتضمر له كل شر، لذلك يتخذ من المثقفين المتمجدين حماة له من بطش الأمة من خلال تدبيج مقالات أو تسفير كتب تُطمئن الأفراد، وتخفف من شدة حنقهم، وتبدي لهم ما يَسُرّ، وتطمر ما يسيء، وهو كثير. وهم بفعلهم هذا يتقاضون ثمنا لا يصله غيرهم إلا في خريف العمر وربما لا يصلون إليه أبدا؛ طلعات إعلامية في المنابر الأكثر صيتا، حضورا في محافل ومنتديات ما كانوا يحلمون بها لو رُد الأمر إلى الكفاءة الفعلية، كُتب فارغة المحتوى يتم التزمير لها والتطبيل مطولا حتى يغدو الغث سمينا والصدئ براقا لامعا. ومن الطبيعي أنه حين يذوق الواحد من هؤلاء طعم التقرب من الطاغية ويستحلي حلاوته ويصبح "مثقف الطاغية" على غرار "وزير الطاغية" و"طباخ الطاغية" وغيرهم، سيحرص كل الحرص على أن يظل الطاغية محافظا على طغيانه، ما دام نفعه من نفعه ومصلحته من مصلحته، وكلما مدح أكثر وأطنب في النفخ زاد تمجده وارتفع شأنه ومعه ارتفع عذابه الداخلي.

والمحصلة أن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين، والأمة لا يقوم حالها إلا بوجود أبناء بررة من طالبي المجد، وبين هؤلاء وأولائك تدور رحى الصراع، فإما أن يظفر المتمجدون فيطول عهد الاستبداد ومعه يطول شقاء الأمة، وإما أن يظفر طلاب المجد ممن طموحهم أن يشتروا السعادة لأمتهم بشقائهم والحياة لهم بموتهم، فتنعم الأمة بعد شقاء، وتنام قريرة العين إلى أن .. تصبح على مستبد جديد.