أن نتناول البحث عن ملامح الخطاب الديني الراهن دون أن نعرج ولو بدرجة قليلة صوب خطاب سياسي موازٍ للأهمية والدلالة لهذا الخطاب الديني وهي كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإننا بذلك نكون قد أغفلنا عن عن رافد رئيسي من روافد هذا الخطاب الديني ليس في صورته الفقية أو التشريعية إنما من زاوية الاهتمام بالتنوير وحقوق الإنسان والارتقاء بتعزيز مفاهيم المواطنة والتسامح، لاسيما وأن الخطاب بنصه قد تناول ضرورة تجديد الخطاب الديني المعاصر ودوره في مقاومة الإرهاب والعنف والتطرف.
رَئِيْسٌ وَمسْئُولِيَّةٌ:
ولسنا بصدد تقييم خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي من الناحية السياسية، لكن ما ينبغي قوله في هذا الصدد هو ملامح الخطاب الذي أشار إلى مصر مهد الحضارة الإنسانية، وطبيعة المصريين التي ظهرت في وجه الطغيان والاستلاب ونتجت عنها ثورتان متتاليتان، ورفض الإقصاء، وهي أمور كلها ينبغي أن يستدعيها الخطاب الديني الراهن المهموم بثورة الفكر وتنوير وتحرير العقول من سباتها العميق، ومكانة هذا الخطاب الذي يصدر من دولة بحجم مصر العظيمة التي كانت مهداً للإنسانية وحضارة البشر، علاوة على ضرورة اهتمام الخطاب الديني بنبذ الإقصاء السياسي والديني الذي لصق بفصيل جماعة الإخوان التي سعت لمدة عام كامل في إقصاء التيارات غير المتوافقة مع رؤاها وأيديولوجيتها الفكرية والسياسية.
ثمة علامة أخرى جاءت في ثنايا خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي والتي يمكن الإفادة منها في تطوير الخطاب الديني الراهن، هذه العلامة يمكن اقتناقصها من خلال عبارة الرئيس التي جاءت في صدد كلمته وهي " فالدين أسمى وأقدس من أن يوضع موضع الإختبار فى أية تجارب إنسانية "، وهذا يجعل الخطاب الديني في مسئولية مجتمعية شديدة الأهمية والخطورة في هذه الأوقات المضطربة لاسيما حالات السجال والتنازع الديني السياسي بين بعض فصائل تيارات الإسلام السياسي والليبراليين أو بالأحرى دعاة الدولة المدنية الحديثة. والقائمون على أمر الخطاب الديني في مصر عليهم أن يكترثوا بقدسية الدين وسموه ومكانته وأن ثمة فرق كبير بين تعاليم الإسلام الراسخة وثوابته التي لا تتغير وبين الاجتهاد الذي يعد تجربة إنسانية قد تتوافق أو تتمايز مع العصر والشهود الحضاري الحالي.
وإذا كانت كلمة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تضمنت معالم إنسانية يمكن توصيفها بالحالة المصرية السياسية والاجتماعية، فإن الدين بوصفه المنظومة الأشمل التي تندرج تحتها كافة مجالات الحياة من سياسة واجتماع وفكر وعلاقات إنسانية، فإن المؤسسة الدينية التي تدعي ليل نهار بأنها بصدد تطوير الخطاب الديني والسعي إلى تجديده وتنقيته من الشوائب والمثالب التي تعتريه، فخطاب الرئيس اشتمل على جملة من المعالم أو الملامح التي يمكن توظيفها في تطوير الخطاب الديني وهي ملامح وإن تبدو سياسية أو تتعلق بالمشهد السياسي الرسمي إلا أنها في حقيقة الأمر لا تخرج عن كونها مساحات إنسانية عالمية، من مثل ذلك إقصاء الآخر بالاستبعاد أو بالتكفير، وتحقيق قيم العدل والإنسانية، وهو ما يعكس دور الخطاب الديني المطلوب هذه الأيام في الرؤية إلى العالم وتحقيق مقاصد الإنسانية من خلال خطاب إسلامي تنويري يبين عالمية الإسلام وسماحته ومناقبه المتعددة. والإسلام بطبيعته امتاز به الإسلام فيالرقي والاعتناء بالخلق والسلوك والطبيعة الإنسانية بوجه عام.
وإذا كانت الفلسفات والتيارات الفكرية التي اجتاحت أوروبا و التي انتشرت بعد الحرب العالميةالثانية قد أتاحت حرية التفكير ومرونة العقل، لكنها في الوقت نفسه جعلت الإنسان الأوروبي مكبلاً بالأغلال، حيث تركته فريسة سانحة القنص للقلق والتوتر والهوس الذي أدى به إلى الانتحار الجماعي، فإن الإسلام في ذلك عالج هذا الأمر معالجة حكيمة، حينما اهتم بالجانب التعبدي والجانب الأخلاقي للمرء، فاستطاع بالجانب التعبدي أن يصل بأطواره إلى حد الاكتمال من صلاة وزكاة وحج وصيام وغيرها من الشعائر التعبدية التي تسهم إسهامًا كبيرًا في الارتقاء بالجانب الأخلاقي، محققاً أعلى قدر من الإنسانية.
مَلامِحُ الخِطَابِ الدِّيْنِي المَنْشُودِ:
وإذا كان الخطاب الديني المعاصر قد تشوبه مجموعة من المثالب تحققت لديه بفضل تجريف العقول الذي مارسه نظام مبارك وتبعه في الاستقطاب الرئيس الأسبق محمد مرسي فكان خطاباً استلابياً يمارس الإقصاء بدوره صوب المخالفين والمعارضين فإن ما نأمله في خطابنا الديني الاستشرافي أن يعلي من قيم التعدد الثقافي والتنوع بل إن الإسلام لا يزال يعطي أعظم درس لقبول التعددية لا سيما الدينية، فلم يكن الإسلام الحنيف يومًا ضد حرية الاعتقاد، بل كان داعيًا إلى حرية المرء في اختيار عقيدته، ومن هنا تبرز سماحة الإسلام وعبقريته في آن واحد، وجاء ذلك بوضوح شديد في النص القرآني، حيث يقول الله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: ٢٥٦)، والإسلام بذلك يقر حقيقة عظيمة للإنسانية، وهي عدم إرغام المرء على ترك دينه ودخول دين جديد، ويؤكد النص القرآني ذلك، مثل قوله تبارك وتعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (الكهف: 29).
والدين الإسلامي كان الدين السماوي الحنيف الذي أقر بمبدأ التعددية الدينية، بل واعترف بها أيضًا، ومن منطلق هذا اعترف الرسول (باليهود ككيان واقعي بالمدينة المنورة، وإعطاء الفاروق عمر بن الخطاب) الأمان والحرية الدينية للمسيحيين من سكان مدينة القدس العربية، وما فعله عمرو بن العاص[ بالأقباط حينما فتح مصر، بخلاف ما فعله الأسبان بأهل الأندلس المسلمين من قتل وصلب وحرق وتدمير. ومن هنا وجب على الخطاب الديني المعاصر أن يتلمس خطى الإسلام في قبول التنوع الديني والثقافي ولا يستهدف إقصاء المخالف والمغاير في الرأي والعقيدة، الأمر الذي عايشناه وربما نعيش بعضاً من آثاره من جانب بعض فصائل تيارات الإسلام السياسي.
البَحْثُ عَن دَوْرٍ وَظِيْفِيٍّ للخِطَابِ الدِّيْنِي:
ومن تتبع بجدية كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدرك معاصرته للسياق الاجتماعي العالمي الذي تعيش فيه مصر وينبغي أن يحرص الخطاب الديني أيضاً على معاصرة السياق الاجتماعي وارتباطه بالأحداث الجارية، فمثلاً استمعنا إلى تطرق الرئيس إلى بعض القضايا السياسية والاجتماعية العالمية كالمشهد السوري، وتنظيم الدولة الإسلامية، وتفشي مرض أبيولا، وأخيرا القضية الفلسطينية التي كان من قدر مصر ألا تتخلى عنها شعباً وحكومات متعاقبة. وهو الأمر الذي ينبغي أن ينتقل إلى خطابنا الديني الراهن والاستشرافي، والذي غرق إلى أذنيه في موضوعات ربما يمكن قراءتها فقط في كتب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والنوادر وغيرها من كتب الطرائف اللغوية والثقافية، فكم من رجل محسوب على تيارات الإسلام السياسي تطرق إلى موضوعات نكاح الميتة، وجواز التلصص على امرأة أثناء استحمامها، أو جبريل الذي يهبط في رابعة العدوية بمدينة نصر القاهرية، لذا فمن الأحرى أن يلتفت الخطاب الديني المعاصر إلى قضايا أمتنا الحقيقية وليس العبث بالعقول واللهو من خلال الاجتهاد السلبي الذي لا ينم عن قراءة واسعة وفهم وتأويل ناضج لتعاليم ديننا الحنيف.
إن فكرة البحث عن دور وظيفي للخطاب الديني هي التي تعكس مدى أهميته وجديته في تنوير العقول والألباب، وليت القائمين على تطوير الخطاب الديني الآن يدركون ويفطنون أخطر حقيقة تماثل يقين المعرفة، وهي أن بخطابهم الديني هذا يصوغون ويشكلون ملايين الأنفس والعقول البشرية. لقد نجحت بعض الجماعات والتيارات الدينية في الابتعاد بالمواطن عن شهوده الحضاري الفعلي الذي يحياه، وأغرقته بخطابها الديني في عوالم افتراضية غير حقيقية أو لها صفة الواقعية، ولو اكترثنا بالأمر قليلاً لاكتشفنا أن من أبرز معالم خطاب الإسلام أنه واقعي، وتمتاز العقيدة الإسلامية بانسجامها مع الواقع، وتوافقها مع الحياة، فمنهج العقيدة الإسلامية لا ينكر واقع الإنسان وبيئته، بل امتاز بملاءمةالواقع، والانطلاق منه إلى معارج الخير والفضيلة، والواقعية في الإسلام تعني مراعاة الكون من حيث هو حقيقة واقعية ووجود مشاهد، والعقيدة الإسلامية من خلال توجهاتها الفكرية وتعليماتها الأخلاقية لم تنس واقع الكون وواقع حياة الإنسان.
تَأمِيْمُ الخِطَابِ الدِّيْنِي:
على مر عقود بعيدة ومصر بقدر ما هي تعاني من فوضى الخطاب الديني وهوس البعض في الغلو والتكفير، بقدر حديثنا المكرور عن ضرورة تطوير الخطاب الديني وتجديده، والغريب أن الفعل السياسي الذي كنا نظن أن حراكه يرنو على استحياء بخطى وئيدة حتى شهدت البلاد ثورتين شعبيتين في ثلاث سنوات لم يصاحبه فعل تنويري يرتكز على خطاب ديني مستنير وقويم رغم امتلاك البلاد والعباد لطاقات استثنائية يمكن الإفادة منها واستغلالها أفضل استغلال، فظل الخطاب الديني عقب ثورتي يناير ويونيو بنفس الإيقاع الذي لم يخل من الرتابة أو الجمود أو رجوع القهقري لحوادث تاريخية لا تتصل بواقعنا أو الاكتفاء بنفس الموضوعات المكرورة والتي تضلل أكثر مما تهدي إلى اليقين، ولا ينكر أحد أن الخطاب الديني فقد بوصلته حينما اهتزت صورة الأزهر نتيجة ممارسات جماعة الإخوان بشأنها وشأن رجالاتها وشيوخها الذين أسهموا أنفسهم أيضاً في زعزعة استقرار المواطن صوب المؤسسة الدينية الرسمية، وظن كثيرون أن الأزهر الشريف ينأى أن يدخل مضمار السياسة أو أنه يمارس دور المحلل الشرعي لسياسات النظام الحاكم طوال فترة حكم مبارك، ومن الصعب توضيح وبسط تاريخ الأزهر الشريف ومكانته الدينية والعلمية في العالم في سطور قليلة، لكن أصبح دور الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف اليوم بالغ الأهمية في تطوير الخطاب الديني عن طريق تأميمه ليس بالمعنى والدلالة الناصرية التي أممت بها القناة ومؤسسات الدولة، لكن بدلالة الحفاظ على هوية الإسلام.
لقد آن الوقت لوضع شروط وضوابط تبدو بعض الشئ صارمة لاعتلاء المنابر أو للكتابة الدينية من أجل تضييق الانفلات الدعوي الذي اجتاح مصر عقب ثورة يناير مما أدى إلى لغط واسع وجدال كبير بين المصريين في أمور حياتهم الدينية، وإذا كانت الحركات الدينية السياسية في مصر لم تتمكن من إثبات وجودها الفعلي في صياغة واقع جديد للوطن، بل وفشلت في استيعاب وعي هذه الأمة بحاضرها واستشراف مستقبلها، فإن للأزهر دوراً في تقديم خطاب ديني تنويري يمكن من خلاله استعادة ريادة مصر الإنسانية.
ثُنَائِيَّةُ الشَّيْخِ والسِّيَاسِيِّ:
ورغم أن الشيخ والسياسي بوصفهما الملمح الأبرز في خطاب ديني معاصر كان من أكثر إحداثيات ثورة الخامس والعشرين من يناير حضوراً وشهوداً في المجتمع إلا أن الخطاب الديني الاستشرافي أي الذي ينبغي أن يسود لابد وأن يقيم في سياقاته علاقات وخطوطا واضحة تفرق بين السياسي والديني والمجتمعي، لا بمعنى فصل الدين عن الدولة والالتجاء إلى أعراف الأيديولوجيات العلمانية، بل ضرورة توضيح ما هو ديني في الأساس ويتمتع بالثبات والديمومة، وما هو سياسي ومجتمعي يتسم بالحراك وعدم الاستقرار النسبي ثم إيجاد قواسم مشتركة تمنح للخطاب الديني سلطة الشيوع والاستمرارية بغير تحزب أو غلو أو إفراط.
ولعل أبرز مشكلات تجديد الخطاب الديني أن القائمين على أمر تطويره يسعون جادين إلى تأصيل العلاقة بين الدين والسياسة، وكأن من واجبات خطاب الفكر الديني أن يقدم قانون العمل السياسي بمواده الفرعية في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع حقاً من أمية المعرفة الدينية، وباتت معلوماته ومعارفه تقتصر على مجموعة محددة من القصص والحكايات الدينية التي ترتبط بالمناسبات التي صارت شعبية أكثر منها دينية حسب طرق الاحتفاء بها.
وحينما نشاهد أحد رجالات المؤسسة الدينية وهو يتناول موضوع تجديد وتطوير الخطاب الديني نجده يبتعد طوعاً عن مواصفات وشرائط التجديد وضوابطه، وينأى بحديثه عن الموضوعات التي يجب أن يتضمنها هذا الخطاب المستقبلي، ويكترث بالنتوءات السياسية في خطاب الفكر الديني الأمر الذي يجعل منه ومن خطابه منفراً لدى الكثيرين وهو الحال الذي صار عليه الخطاب الديني في أوروبا الغربية وأمريكا. وكأن من أولى مهام مؤسس الخطاب الديني أن يضفي شرعية سياسية على سلطة الخطاب، أو بصورة أدق هو أشد حرصاً على تسييس الانتماء الديني العام.
أفْلاكُ الخِطَابِ الدِّيْنِيِّ:
وفي ظل خطاب ديني ظاهري ساد المجتمع منذ اشتعال الموجة الأولى من الثورة المصرية في يناير وحتى ظهور الموجة الثانية في يونيو الأحمر الذي وقف فيه المصريون بوجه تنظيم جماعة الإخوان لإسقاطه وعزل مندوبه بالرئاسة بطريقة شعبية اختلفت عن الطريقة والتكنيك الذي تم به إطاحة نظام مبارك، نجد هذا الخطاب ولا يزال يدور في أفلاك ثلاثة ؛ فلك أول يسعى لاحتواء الدين لأغراض سياسية منتوجها النهائي هو الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها بغير تداول سلمي لها، وفلك ثان يؤجج فكرة تكفير المجتمع بمؤسساته، وعلى أنصار ومريدي هذا الخطاب وأتباعه أن يعتزلوا هذا المجتمع الماجن والكافر حسب نصوصهم الفقهية المرجعية وطبقاً لفهمهم الظاهري للكتاب والسنة. أما الفلك الثالث والمرتبط بالخطاب الديني فهو فلك اقتتالي يرى وجوب قتال المجتمع الكافر حسب وجهة نظر أصحاب الخطاب الديني التكفيري، وأن المجتمع لن ينصلح بالدعوة قدر ما يعتدل أمره ويستقيم عن طريق القوة والعنف، وأن قتال تلك المجتمعات الكافرة هو السبيل الحصري السريع لإقامة الدولة الإسلامية الناجعة وهو ما يتبعه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق والشام حالياً.
وإذ نحن الآن بصدد تجديد خطاب الفكر الديني وليس الدين الإسلامي لأنه بالفعل يستم بالديمومة والاستمرارية والصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان، فإن ثمة جماعات تحاول وحدها بمنطق الإقصاء أن تسطو على الخطاب الديني ساعية لاختطافه ومن ثم صياغة فكر جديد لا يتصل بأية صورة بسماحة الإسلام. وكانت النتيجة الطبيعية لمحاولة الاختطاف تلك أن الخطاب المستنير أصبح يعتلي المنابر الافتراضية كشبكات التواصل الاجتماعي أو المواقع التي لا يتجول فيها إلا بضعة متخصصين، وترك عرشه الطبيعي لصالح أصحاب الانتماء والأهواء السياسية الدنيوية.
وحتى هذا الخطاب الديني المستنير ذائع الشيوع والانتشار على الشبكة العنكبوتية يعاني من الانحسار ليس بسبب رحيل رجال الفكر الديني ورواد التنوير أمثال الأستاذ الإمام محمد عبده والأستاذ عباس محمود العقاد والشيخ محمد الغزالي والإمام الشعراوي ، لكن لافتقار خطاب الحداثة اليوم إلى قوة الاستشعار أو (الرادار) الذي يلتقط ذبذبات المجتمع وحراكه الآني وتطوره الديني.
الخِطَابُ الدِّيْنِيُّ .. مَعَارِكٌ ومُواجَهَات:
لذلك فإن معركة تطوير الخطاب الديني تواجه فريقين وليس فريقاً واحداً، المهتمين بتطويره والمدافعين عن التنوير ضد دعاة الظلامية، والظلاميين أنفسهم، والعجب أن خطابنا الديني الذي لا يزال يبحث عن مخرج سلمي وصحي للخروج من كبوته وأزمته المستدامة هو نتيجة تراكم وتراتب معرفي عظيم أنتجته الثقافة الإسلامية المستنيرة. وهذا مفاده أننا بالفعل وخطابنا الديني نعاني جميعاً من قطيعة معرفية تصلا بالماضي القريب وليس الضارب في القدم. فمن المدهش حقاً ما نسمعه أو نقرأه من خطاب ديني راهن يبرهن على ضعف الفهم والتأويل للنصوص الدينية أو تطويعها لخدمة مطامح سياسية وأغراض سلطوية توسعية على سبيل المثال داعش، ونحن أبناء ثقافة أنتجت خطابات ثقافية تتسمع بالتنوع والثراء مثل المعتزلة والأشاعرة وأهل القياس والرأي والتصوف الإسلامي الذي ازدهر فكرياً بحضور حجة السلام أبي حامد الغزالي مرورا بخطابات دينية وفقهية مستنيرة سطرتها عقول تتسم بالتفقه الواسع ودقة الإدراك مثل الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، وصولاً إلى ابن رشد واجتهاداته الفقهية. ورغم ذلك كله أقنعنا خطاب إقصائي استقطابي بأن باب الاجتهاد قد أغلق تماماً ولا حيلة في فتحته مجدداً.
وهذا الخطاب الإقصاء الذي يدور في الأفلاك الثلاثة دون غيرها هو خطاب يهدد حسن فهم الدين ويسر عرضه، وهو خطاب يستدعي سياقات لا تخرج عن دائرة الاقتتال والتطرف واستخدام العنف والتعصب للرأي والإذعان للأهواء. وباستقراء الخطاب الديني الراهن سواء الخطاب الذي تنتجه بعض التيارات والفصائل المتطرفة في مصر، أو تلك التي تعبر حدودنا وافدة من مناطق مشتعلة بالأحداث السياسية ذات الطابع الديني نجد أنه خطاب صراع لا خطاب دعوة، فهو إما يتناحر من أجل الاستيلاء أو السطو الفكري أو ممارسة الإقصاء السياسي تحت دعاوى ومزاعم دينية مستندة على نصوص لا يمكن التسليم بصحتها لأنها تصدر من زعامات وقيادات اشتعلت مع الحدث السياسي وغابت عن الفعل الديني القويم، أو خطاب يتحالف مع خصومه لتحقيق مآربه الدنيوية والنتيجة هي انتحار الوطن.
دَاءُ القَطِيْعَةِ المَعْرِفِيَّةِ:
المشكلة الحقيقية التي تفصلنا عن تجديد الخطاب الديني هي القطيعة المعرفية، وهي حالة من الانفصام القائم بين الواقع الراهن وخطابنا التراثي الإيجابي. فلقد طفق كثيرون إلى استعمال بعض المقولات لأصحاب تيارات دينية سياسية معاصرة التي تروج لفكرة الخلافة، وصار هذا الاستعمال هو الهم الشاغل لمريديأقطاب وأصحاب وأمراء هذه الفصائل والفرق، بل إن أصحاب وأمراء دعوات الخلافة أصبحوا اليوم يؤكدون على أن الخلافة هي الفريضة الغائبة وليست الجهاد، ولأننا أصيبنا بداء القطيعة المعرفية بتراثنا الثقافي الذي لا يزال يعلم أوروبا وأمريكا فإننا بالفعل نغفل عن دلالات المفهوم التي تتعلق بمواضعات أخرى كالسلطة والولاية والإمارة والإمامة الكبرى التي تعني الرئاسة العامة في الدين والدنيا وكلها أمور يستوجب تطبيقها توافر قواعد وضوابط صارمة.
والقطيعة المعرفية بتراثنا أودت بنا إلى الجهالة بأن الخلافة في التأصيل الشرعي هي عمل دعوي في المقام الأول، ولعها تنحصر في الخلافة الراشدة والتي بدأت بالصديق أبي بكر ثم عمر بن الخطاب، فعثمان بن عفان فعلي بن أبي طالب انتهاء بالحسن رضي الله عنهم أجمعين، وفكرة تقليص الخلافة على هؤلاء فقط جاءت من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي أشار فيه إلى إتمام الدعوة، يقول عليه الصلاة والسلام: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)، وحديث آخر لرسولنا الكريم يقول فيه: (ستكون الخلافة على منهاج النبوة ثم تكون ملكا عضوضاً). ورغم هذه الإشارات النبوية إلا أن مروجي فكرة الخلافة يغيرون دلالتها مستهدفين الحكم والسلطة ليس أكثر.
خُطَةُ عِلاجِ الخِطَابِ الدِّيْنِيِّ:
قد تطول خطة علاج الخطاب الديني الراهن وليس فقط الوقوف على أمر تجديده وتطويره، لكن ينبغي إلقاء الضوء على ملامح خطة العلاج ومنها التأسيس لقراءة جديدة لتراثنا الديني والثقافي المرتبط بالفكر الديني، وإدراك أن الصراع بين الدين والسلطة هو صراع بدأ من السلطة الأموية والعباسية والعثمانية التركية وهو صراع في الأصل بين المنهج والفكرة لا علاقة له بتعاليم الإسلام وأحكامه، بل هو مرتبط بالأساس بالمخالفات الشرعية التي لا تنتسب إلى الخلافة الراشدة الحكيمة. علاوة على مراجعة الخطاب الديني الراهن والتأكد من أنه سبب للاتحاد والألفة بين عموم المسلمين في شتى بقاع الأرض، وليس سبباً للتحزب والتنافر والاقتتال البغيض.
(كلية التربية، جامعة المنيا)
Bacel21@hotmail. Com