بدأ إدوارد وديع سعيد من حقل النقد الأدبي والنقد المقارن بوصفه حقل اختصاصه الأساسي، ولكن شخصيته الفكرية المنفتحة العابرة للحقول والاختصاصات حملته إلى رؤية أوسع من المساحة المتعارف عليها للنقد وحقل الأدب عموما، ومن هنا نفهم ما يشدد عليه سعيد من أن الأدب يوجد في صميم الثقافة، ولذلك لا نكاد نعثر على فرق بين صفة الناقد والمثقف عند سعيد، فتحديدات الاثنين وشروطهما وفاعليتهما عنده تكاد تكون متشابهة ، باستثناء ما يفرضه تخصص النقد الأدبي من ضرورة الاهتمام بأعمال أو نصوص أدبية، أما منهجية تناولها وموقع الناقد منها فهي مستمدة من التفكير الثقافي والفكري العام لسعيد، وقد مكنه هذا الاتساع في الرؤية من أن يكون رائدا لعدة حقول جرى الإقرار بها كما في نقد ما بعد الكولونيالية والاستشراق والنقد النسوي والنقد الثقافي وغير ذلك..وسنحاول في هذا المقام التركيز على قلقه من الممارسة النقدية في عصره، ونقده للنظرية النقدية كما شاعت في الربع الأخير من القرن الماضي، وهو ما يبدو بوضوح في عدد من كتبه ومقالاته، ونركز هنا على كتابه: العالم والنص والناقد، بنسخته المترجمة (ترجمة عبد الكريم محفوض/اتحاد الكتاب العرب/2000 ونستعين بكتب أخرى كلما كان السياق مناسبا).
يرى سعيد أن ممارسة النقد تتخذ أربعة أشكال، الأول: النقد العملي (التطبيقي) والثاني: التاريخ الأدبي الأكاديمي الذي ينحدر من الاختصاصات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر كدراسة الأدب الكلاسيكي والفيلولوجيا وتاريخ الحضارة، والثالث هو التقويم والتأويل من زاوية أدبية والرابع هو النظرية الأدبية التي يعدها مضمارا جديدا نسبيا برز في أوروبا أولا ثم انتقل إلى الولايات المتحدة. ولكن النظرية الأدبية لم تبلغ كما يرى سن الرشد أو النضج. وفي هذا التيار الأخير يضع سعيد إسهامات البنيوية والتفكيك ودراسة دلالات الألفاظ والنصية وما يشبه ذلك.
أما عمله النقدي كما يظهر في كتابه (العالم والنص والناقد) وفي مساهماته الأخرى فيقع إلى حد ما خارج نطاق الأشكال الأربعة، أو هذا ما كان يطمح فيه ضمن ممارساته النقدية، إذ كان يحاول "تخطي حدود الأشكال الأربعة" كما يقول. ومن أبرز الأفكار أو المبادئ التي يشدد عليها تتمثل في رفض ما ألف تسميته بـ "المهنية" والاحترافية، فالناقد كما المثقف ليس صاحب خبرة يبيعها لمن يطلبها، فتغدو الخبرة النقدية جزءا من "السلطة" فكرية كانت أو سياسية، وهو دائم النقد لعبادة "الخبرة الاحترافية"، "فالخبرة بالنسبة لطبقة أهل الفكر خدمة تسدى، لا بل تباع للسلطة المركزية في المجتمع، وهذه هي خيانة المثقفين المأمورين التي تحدث عنها جوليان بيندا". فهو يريد نقدا مستقلا وناقدا مستقلا عن السلطة لا يبيع معرفته وخبرته وإنما تكون مهمته تفكيك خطابات السلطة ومواجهتها، والتدخل في كل الشؤون التي تديرها أو تعد نفسها مسؤولة عنها. وبشكل ساخر يعرض نادرة عن أحد معارفه ومؤداها أنه كان يقرأ رباعية الاسكندرية لدورويل فيما كان يعمل في وزارة الدفاع حيث يمكن أن يشارك في إصدار الأوامر لقصف بلد ما. وما يستغربه سعيد ويتندر منه مدى التناقض عند مثل هذا المثقف أو الكاتب، إذ كيف يمكنك كناقد ومثقف "أن تقرأ أحسن القصص وأن تقتل وتشوه البشر في آن واحد...لأن الأنواع الثقافية ليس من المفروض أن تتدخل في تلك الأمور التي لا تصادق المنظومة الاجتماعية على تدخلها بها" وعند سعيد أن مثل هذا الفصل غير جائز، والنقد ليس بمثل هذا الانفصال والبعد عن مجمل الظروف المحيطة به وبالمجتمع الذي ينتج ويستهلك فيه.
وطالما شن إدوارد سعيد حملاته ضد النظرية الأدبية والنقدية كما شاعت وتكرست في السبعينيات من القرن الماضي بشكلها النظري الشكلاني، عند البنيويين وخلفائهم من جماعة التفكيك وما بعد البنيوية، وهو يرى أن "النظرية الأدبية انكفأت... ودخلت في تيه النصّية، وهي تجر معها أحدث رواد النصية الثورية الأمريكية كدريدا وفوكو اللذين كانا يدأبان على تشجيع تقديس النظرية.. وصقلها عبر الأطلسي". وهو في هذا النقد يكشف صراحة وضمنا عن مآخذه على هذه النظرية، وخصوصا انطلاقها وتشديدها على مبدأ "عدم التدخل" أو دعوى استقلالية النظرية وعالم النص المغلق ومختلف الأقاويل التي نشرها النقد الأدبي منذ ستينيات القرن العشرين أو قبل ذلك في العالم الأوروبي. إنه يرى في هذا المبدأ الذي يتظاهر بالعلمية مبدأ أيدولوجيا صرفا وخطرا في جوهره، يشجع "خيانة المثقفين" وتخليهم عن دورهم، فالنص ليس لعبة كلمات وليس عالما مغلقا من الصور والاستعارات والبنى المغلقة. وينتقد بوضوح الممارسة النقدية "التي عزلت النصية في أغلب الأحوال عن الظروف والأحداث والحواس الجسدية التي جعلت منها شيئا ممكنا، وأحالتها إلى إجراء واضح جراء اعتبارها نتيجة للعمل البشري".
ولذلك ففكرة سعيد الواضحة المتكررة هي الانطلاق من تاريخية النص وأرضيته ورفض أي نظرة استعلائية له عن هذه التاريخية، وعدم وجود قيمة كبرى لنفي التاريخية عنه، فالنص أي نص ليس خارج التاريخ الذي أنتجه، ولذلك لا يجوز أن تكون النصية في تعارض مع تاريخانية النص. وهذه الدعوى كما يقول لا يجوز أن تمسخ الاهتمام بتلك الأحداث والظروف التي عبرت عنها النصوص ونجمت عنها، فتلك الأحداث والظروف هي "نصية أيضا-فكل روايات كونراد تقريبا تطرح لنا وضعا يمثل زمرة أصدقاء يجلسون في سفينة ويستمعون إلى حكاية ما، وهذا يفضي إلى السرد الذي يشكل النص- فضلا عن أن الكثير مما يدور في النصوص يلمح إلى النصوص في الوقت نفسه، أو يتقرب بنفسه منها على نحو مباشر، فموقفي هو أن النصوص دنيوية وهي أحداث إلى حد ما، وهي فوق كل هذا وذاك قسط من العالم الاجتماعي والحياة البشرية. وقسط بالتأكيد من اللحظات التاريخية التي احتلت مكانا فيها وفسرتها حتى حين يبدو التنكر لذلك كله". بمثل هذا الوضوح يجابه سعيد أرباب النظرية النقدية وزعماءها، فيجعل للسياق الاجتماعي والتاريخي ولجملة الأحداث والظروف التي أنتج فيها النص دروا هاما في قراءته وتأويله، فضلا عن أهمية تناولها واهتمام الناقد بها لأنها بوجودها في النص جزء من نصيته وبنيته، وليست شيئا نابيا خارجا عنه.
ولا شك أن هذا الطرح المبكر يلتقي مع اعترافات تودروف في كتابه الصغير الأخير "الأدب في خطر" الذي يعترف فيه بالتأثيرات السلبية التي خلفتها البنيوية ودعواها النصية على اهتمام الناس بالأدب وعلى موقع الأدب في المجتمع والعالم، وهو يؤكد أيضا استباقات سعيد من أن هذه النظريات التي جرى تشجيعها والعمل على رواجها في أوروبا وأمريكا ثم بقية العالم لم تكن بعيدة عن الحرب الباردة وخصوصا في المرحلة الريغانية. وفي هذا المعنى يقول سعيد "ليس من المصادفة في شيء أن يقترن بروز فلسفة أضيق مما ينبغي، أي فلسفة النصية البحتة وعدم التدخل النقدي مع سطوع نجم الريغانية أو بعبارة أخرى مع حرب باردة جديدة وتفاقم التعسكر ونفقات الدفاع والانجراف الهائل باتجاه اليمين في أمور تمس الاقتصاد والخدمات الاجتماعية والأيدي العاملة المنظمة، فالنقد المعاصر في عزوفه عن الدنيا...تخلى عن جمهوره، عن أهالي المجتمع الحديث الذين تركوا تحت رحمة قوى السوق الحرة والشركات المتعددة الجنسيات ومضاربات الشهوات الاستهلاكية، وها نحن نشهد الآن رطانة طنانة كي تحجب بتعقيداتها المرعبة الوقائع الاجتماعية وكي تشجع ويا للغرابة دراسة أنماط التمييز بشكل بعيد عن الحياة اليومية في مرحلة انحسار القوة الأمريكية". ويضيف سعيد بأن "النقد لم يعد بوسعه التعاون مع هذه المغامرة التجارية أو التظاهر بتجاهلها لأن ممارسة النقد لا تعني البتة إضفاء الشرعية على الوضع الحالي أو الالتحاق بركب طبقة كهنوتية من البطاركة والميتافيزيقيين الدغماتيين، إن كل مقالة في هذا الكتاب (يقصد العالم والنص والناقد) تؤكد الترابط بين النصوص والوقائع الوجودية للحياة البشرية والسياسية والمجتمعات والأحداث، فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة والمعتقدات التقليدية هي الوقائع التي تجعل النصوص أمرا ممكنا، وهي التي تطرحها لقراء تلك النصوص وهي التي تستقطب اهتمام النقاد، ولذلك أقترح أن تكون هذه الوقائع مثار اهتمام النقاد والوعي النقدي".
ويمثل إدوار سعيد على أهمية الظروف والتاريخ في الإنتاج الأدبي والنقدي بكتاب "محاكاة-الواقع كما يتصوره أدب الغرب" لآيريش أورباخ (وهو واحد من الكتب المحببة لسعيد وقد تكررت الإشارة إليه في كتب سعيد ومقالاته، كما كتب مقدمة هامة لإحدى طبعاته، ويعده من أنفس الكتب في حقل النقد الأدبي-للفائدة نشير بوجود ترجمة عربية له أنجزها محمد جديد ورفائيل خوري وصدرت عن وزارة الثقافة السورية 1998). يشرح سعيد الظروف التي أنتجت هذا الكتاب عندما كان مؤلفه منفيا هاربا في استانبول بعيدا عن مصادره وكتبه، وبعيدا عن أوروبا التي ينتمي إليها ولكنها نفته بسبب يهوديته، ويشير إلى حديث أورباخ عن عدم قدرته على كتابة مثل هذا الكتاب لو بقي في أوروبا ليخلص من ذلك إلى "تلك الشبكة المتصالبة المتألفة من تقنيات البحث ومن القوانين الأخلاقية وهي الشبكة التي من خلالها تفرض الثقافة السائدة على الباحث الفرد قوانينها المتعلقة بكيفية إجراء الدراسة الأدبية".
ويؤكد سعيد مرة بعد أخرى أن "الوعي النقدي جزء من عالمه الاجتماعي الفعلي وجزء من تلك الكتلة الواقعية التي يستوطنها الوعي وليس له بحال من الأحوال أي مهرب من هذا أو من ذاك" وهو بهذا التأكيد المستمد من تجربة أورباخ يعيد تأكيد تجربته هو، تلك التجربة التي لم ينفصل فيها الواقعي السياسي عن الأدبي النقدي، فاستقلال النقد وانغلاقه ليس إلا أحد أوهام الحرب الباردة التي أرادت عزل الأدب والنقد وإبعادهما عن ساحة المعركة، ولكنها في مقابل ذلك وظفت الكتاب والمثقفين لمصلحتها ولم تعن بضرورة استقلالهم عنها (كتاب الباحثة فرانسيس سوندرز –الحرب الثقافية الباردة-فضح هذا التوظيف وقد أشار إليه سعيد غير مرة). كما يؤكد سعيد هذه الفكرة نفسها في كتابه (الأنسنية والنقد الديمقراطي/ترجمة فواز طرابلسي)، فيشير إلى أن "مرسوم الدفاع الوطني للتعليم الذي موّل دراسة اللغات..تحول إلى شاغل وطني ذي صلة مباشرة بشعور داهم بالخطر الخارجي ما لبث أن انعكس في العديد من المناقشات التي جرت في أوساط الإنسانيات...نعلم أن الدراسات الإقليمية كالأنثربولوجيا والتاريخ والعلوم السياسية واللغات ...كانت محكومة بهموم الحرب الباردة.....ويصح هذا تماما على دروس الإنسانيات الأكاديمية حيث أبان العديد من المعلقين أن فكرة التحليل الجمالي غير السياسي كان المقصود منها أن تكون سدا في وجه التسييس السافر للفن الذي قيل إنه مظهر من مظاهر الواقعية الاشتراكية". الأنسنية والنقد الديمقراطي، ص59.
وفي الكتاب نفسه (الأنسنية...) ينتقد إدوارد سعيد الناقد الأمريكي الشهير نورثروب فراي صاحب كتاب (تشريح النقد، ترجمه إلى العربية محمد عصفور) ويرى أنه نتاج الظروف السابقة مضافا إليها مبادئ المركزية الأوروبية، ويجرده من مظاهر العلمية التي سعى إلى ادعائها وتكرارها مرة بعد مرة، يقول سعيد:" وكان للتصاميم والتقاليد والتداوم في التقاليد التي اقترحها أرنولد وفراي وإليوت وأتباعهم المختلفون سمات عديدة مشتركة: فكلها تقريبا ذكورية، وصادرة عن مركزية أوروبية، تحركها الأنواع الأدبية أو النماذج الأصلية كما كان فراي يسميها، فمن منظار الشروط الجامدة لذلك النظام لم يكن للرواية ولا للمسرح مثلا صلة بالظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية المخصوصة ناهيك بالظروف الايدولوجية المؤدية إلى نشوئهما. والأكيد أن وجود نوع أدبي يسمى كتابة نسوية أو أقلوية/نسبة إلى أقلية لم يدخل قط نظام فراي..ثم إن القومية لم تلعب أي دور في السرديات التي يناقشها فراي ولم تحظ مؤسسات مثل النظام الملكي وبيت المال والشركات الكولونيالية ووكالات استيطان الأراضي بأي اهتمام على الإطلاق، لا في قراءته لأعمال شكسبير أو جاين أوستن أو بن جونسون...." ويبلغ نقد سعيد لفراي قسوة بالغة عندما ينهي هذا التحليل بأسلوب ساخر على عادة إدوار سعيد عندما يستبد به الغضب وعدم الرضى: "ومع ذلك فما أنتجه فراي رائع في عبقريته، وسوف يبقى معلما لا للنقد الإنسانوي العلمي الذي ظن أنه أنشأه مرة وإلى الأبد، وإنما بما هو التوليفة الأخيرة لنظرة كونية داخل النزعة الأنسنية الأمريكية أخذت تتلاشى تدريجيا منذ ذاك الحين. على أني لست متأكدا مما إذا كانت نظرة كونية/ليبرالية يعززها الازدهار والقوة، أم أنها مجرد زينة لتجميل واقع قذر". الأنسنية...ص61.
وفي جانب آخر من آراء سعيد ينتقد تكريس دراسة الروائع في الأدب كما كرستها الأكاديميات الأمريكية، ويعد ذلك مظهرا سلطويا ينطوي على نفي وإبعاد ما لا يعد من الروائع، فهي شكل من أشكال السلطة خصوصا وأن اختيارها يخضع لمزاج سلطوي أكاديمي وسياسي واجتماعي، بل ولسلطة الثقافة المتحكمة التي تتبنى أعمالا معينة وترفعها إلى مستوى الروائع وتجعلها معيارا للحقل الأدبي والنقدي. وهو يطلب من النقاد والنقد الانتباه إلى ما لا يعد من الروائع. وربما يكون اهتمام سعيد بالراقصة المصرية "تحية كاريوكا" مثالا حادا على القراءة الثقافية التي تستمد مشروعيتها ودلالاتها مما لا تعده المؤسسة النقدية منتميا للروائع بل من نقيضها تماما (المقالة ضمن: تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر ديب، ص199). ومقالته عنها مقالة يمتزج فيها النقدي بالشخصي دون اعتراف بحدود النقد ودعوى موضوعيته، وهي عنده أقرب إلى شخصية روائية يتناولها بالتحليل الحر ليكشف عن غناها المطمور "غير أن تحية كانت رمزا لكل ما هو غير مدار وغير مضبوط، وغير مختار في ثقافتها: لقد كانت حياة العالمة والراقصة والممثلة الفذة حلا مثاليا لتصريف مثل هذه الطاقات، فبمقدورك أن تحس بتلك الشجاعة التي تبديها في علاقتها بمراكز السلطة وبالتحدي الذي لدى امرأة حرة".
وهكذا يرفض سعيد وضع تعريف أو تحديد لما يصح نقده أو قراءته وما لا يصح، مثلما يرفض تصنيم المنهج والمنظومة النقدية، ويطالب بإبقاء الصلة مع عالم الأحداث والمجتمعات، حتى لا يزداد النقد المعاصر اغترابا عن جمهوره ومجتمعه، "لا أريد لأحد أن يسيء فهم قولي حين أقول إن الهروب إلى المنهج والمنظومة من لدن النقاد الذين يودون اجتناب إيدولوجية النزعة الإنسانية شيء سيء برمته، ولكن مخاطر المنهج والمنظومة جديرة بالاهتمام، فبمقدار ما يتحول المنهج والمنظومة إلى صنم وبمقدار ما يفقد الممتهنون لهما أية صلة مع مقاومة المجتمع المدني وتعدديته، (فإنهما) يجازفان بالتحول إلى خطابات فضفاضة، و(يحولان) بكل طيش أي شيء إلى دليل على جدارة المنهج، ويتجاهلان بمنتهى الاستهتار تلك الظروف التي تنبثق عنها كل النظريات والمنظومات والمناهج في خاتمة المطاف".
النقد عند سعيد "مقاوم" و"ساخر" و"شكاك"، ولذلك فهو ليس محايدا ولا باردا باسم المنهج والموضوعية والعلمية، فكل هذه المفاهيم لا تجد معنى لها في معجم سعيد، وهو يشير بأوضح الألفاظ إلى رغبة أكيدة بأن يتميز النقد كقطاع مهم من قطاعات الثقافة، وأن يضطلع بمكانة ودور هامين في الحياة الفكرية وحياة المجتمعات ككل، ولذلك "فالنقد يجب أن يرى نفسه مشجعا للحياة ومعارضا بحكم تكوينه لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم، مع العلم أن أهدافه الاجتماعية تتمثل بإنتاج المعرفة بحرّية بعيدا عن القسر ولمصلحة الحرية البشرية".
ويختتم سعيد دفاعه هذا هذا بالافتراض أن "الناقد قادر على الأقل -كالراوي عند ييتس- على العثور على الإصطبل وخلع الرتاج وتحرير الطاقات الخلاقة. والناقد ليس بمقدوره عادة إلا دغدغة الأمل دون التعبير عنها بصراحة، ومع أن هذه المقولة بمثابة السخرية اللاذعة إلا أن الواجب يقضي بتذكرها لمصلحة الناس الذين يصرون على أن النقد فن، والذين ينسون (أنه) في اللحظة التي يحتل فيها منزلة الصنم الثقافي أو السلعة، يكف عن أن يكون مشوّقا، وهذا في جوهره موقف نقدي مثله تماما مثل كون ممارسة النقد والحفاظ على موقف نقدي مظهرين نقديين من مظاهر الحياة الفكرية".
إن كل الشواهد السابقة تؤكد وحدة إدوارد سعيد رغم تنوع الحقول التي كتب فيها واهتم بهان فمنزعه واحد أو يتولد من مبادئ شبه موحدة، أساسها تفكيك خطاب السلطة بما فيه الأجزاء المسكوت عنها، وهو معني تماما بأن يتأمل النص منغمسا بتاريخيته وأحوال إنتاجه والقوى التي أنتجته، وهو في تعزيزه لدور المثقف عموما والناقد خصوصا، يريد منه كما يقول في خاتمة كتابه ( الأنسنية..) أن يبقى متيقظ القلب والضمير. "المثقف ما هو إلا ذاكرة مضادة، بمعنى ما، تملك خطابها المعاكس المخصوص الذي يمنع الضمير من أن يشيح بنظره أو أن يستسلم للنوم. وخير علاج هنا هو أن تتخيل الشخص الذي تناقش وهو يقرأك بحضورك".