يشيد القاص العراقي نصه على مفارقة يومية تحدث في سوق وسط المدينة كاشفا عن مدى رعب الإنسان في أوطان الدكتاتورية ومبلغ هلعه القادم من هواجس ومخاوف أكلت كيانه من الداخل وحوله إلى ظل هارب

انعاكاسات

علي صالح جيكور

توقف أمام الواجهة الزجاجية لمحل بيع الاجهزة الكهربائية، وراح يُنَقِّلُ بصره على السلع والادوات البراقة واللامعة، والمصابيح الملونة، وكريستال الثريات التي توهجت مثل آلاف الشموس..

كان طويلا بشكل يلفت النظر، ممتلأً، عريض الوجه، شاربه كثيف، كل شيء فيه يتعدى حدود المألوف، حتى سترته كانت أكبر من جسده الضخم، يبدو أنه يرتدي تحتها أكثر من قميص أو ربما سترة أخرى، نظر الى ظله الذي راح يقصر كلما دنا من الواجهة الزجاجية، وكأنه ظل طفلٍ صغير يقف الى جانبه، فراح يدنو من الواجهة ويبتعد بحركة سريعة مراقصا ًظله الذي يستطيل ويقصر، يقصر ويطول، بلغ أقصى حدود قِصَرهُ عندما إلتصق وجهه وجسده بزجاج الواجهة، وهو يرمق ظله الذي أصبح أطول من قدمه بقليل..

تَشَّكلت على وجههِ إبتسامة عريضة عندما عكست إحدى المرايا المحدبة أنفه الملتصق بزجاج الواجهة، شاربه بدا كحبل غليظ من طرفٍ، ورفيع من طرفه الأخر، أسنانه الصفراء متباعدة، نتوئات لحمية مشوهة في أماكن الاسنان المتساقطة، تقلص وجهه عندما رأى تلك النتوئات، وجهه يتقلص، ينفرج، يتقلص، ينفرج إستهوته اللعبة، فمدَّ لسانه ولعق الزجاج، لصقه وراح ينظر اليه في المرآة المحدبة بفرح طفولي بعد أن تَضّخم فأصبح كأنه لسان كائن خرافي.

في الداخل جَلسَ الرجل خلف طاولة كبيرة، عليها أدوات تندرج ضمن حاجيات المحل، الواجهة الزجاجية ومافيها من اشياء تحجب عنه رؤية الشخص الذي يقف في الخارج، لم ير سوى الشاربين الكثين، مد عنقه يمينا وشمالا، تزحزح عن كرسيه، ثم إتكأ على مسندي الكرسي وقام نصف واقف، الوجه العريض في الخارج توقف عن الأبتسام، كَشرَّ، عبس، الرجل في الداخل يسقط على كرسيه متهالكاً، دسُّ يده المرتعشة في جيب قميصه وإستلُّ تصريح الأجازة العسكرية المُزّور، تفحصه بخوف، إلتهم حروفه، دَققَّ في التاريخ، كل شيء على مايرام، لكن الرجل في الخارج يزداد عبوساً وتكشيرا، فتل شاربيه الكثين، الرجل في الداخل يزداد خوفاً وذعراً، ربما وشى بي جاري صاحب المحل المقابل، أخبرهم بأني هارب من الخدمة؟؟!!

كان عليًّ أن أختفي إسبوعين أو ثلاثة، كل شهر، ثم أظهر أسبوعاً واحداً لاأكثر!!

الرجل في الخارج مازال يتطلع الى وجهه في المرايا المحدبة والصفيح اللامع للمدافيء الكهربائية المركونة في الواجهة، مرت سيارة من خلفه، تماوجت، أستطال رأس سائقها في المرآة المحدبة، لَوَحَّ السائق بيده ضاحكاً، ضحك الرجل في الخارج أيضاً، أقتربت عجوز ووقفت الى جانبه، تكور رأسها في إنعكاس صفيح المدفأة الكهربائية، ثم إعوَجَّ وتمدد، ظلت واجمة، نظرت الى الرجل الطويل، نظر إليها، نظرا معاً الى وجهيهما في المرآة، ثم إنخرطا في ضحك ٍ طويل..

الرجل في الداخل يضغط على صدره، تسارعت دقات قلبه، لم تتح له أطراف السلع المعروضة والزاوية التي يقبع فيها من رؤية العجوز، لم يلحظ سوى عمامتها السوداء، أرآه خوفه أنها شرطي متنكر بثياب هندي من السيخ، وهي مساعد للرجل الطويل، سيقتحمان محله ويلقيا القبض عليه لامحال، فتَّشَّ عن جحر أو زاوية ينضوي فيها، وَّدَّ لو أنه ينصهر تحت الطاولة..

الرجل في الخارج والعجوز يقهقهان، نابها الوحيد في الاعلى لاينطبق على سنيها الوحيدين في الأسفل، نتوئات الأسنان الساقطة أقل قبحاً من نتوئات الرجل، رفعت شفتها العليا بأصابعها وألتصقت على الواجهة أمام المرآة المحدبة، بدا نابها طويلاً، مثل ناب الفيل، رفع الرجل الطويل شفته العليا بأصابعه وإلتصق بالواجهة، بدت أسنانه كأسنان القرش..

مرت إمرأة مع طفلها الصغير، تعجبت لما يفعله الرجل الطويل والعجوز، ظل الصبي واجما، يُنقّلُ طرفه من الرجل الى العجوز ثم الى أمه، جَذبته أمه وهي تستعيذ من الشيطان، قاوم يدها لِيَرى المشهد حتى آخره، قرصته من أذنه، بكى، إنتفخت فقاعة من أنفه، عَضَّ يدها وأنفلت منها، ثم وقف أمام الواجهة وقد إمتلأت عيناه بالدموع وراح ينظر بفضول..

الرجل في الداخل يدور حول نفسه، وحول الطاولة، المكان يضيق، يطبق على صدره، فتح أزرار قميصه، تنفس بصعوبة، ثلاث رؤوس تطل عليه من الخارج،لايستطيع ان يتبينها بدقة، كان عليه أن يضع السلع بشكل يتيح له رؤية الآخرين بشكل أفضل، بحث هذه المرة عن منفذٍ في السقف، في الجدران، في الصناديق الكارتونية حيث تكمن بضاعته، فكر أن ينطلق هارباً من المكان، لكنه عاد واستدرك الوضع، فالشارع مزدحم ويعج بالناس، وسوف يقع في أيديهم بسهولة، سيمسكونه كما يمسكون كبش سمين..

الرجل والعجوز ينظران الى الصبي الذي إنضم اليهما وراح يحدق في المرآة المحدبة وصفيح المدافيء اللامع، لم تعترض أمه هذه المرة وحدقت هي الأخرى..

مَرَّ شاب وشابة، تسمرا أمام الواجهة، ضحكا بصوت عالٍ، على مايفعله الرجل والعجوز والصبي، جذب الشاب يد رفيقته، توسل وجهها إليه بغنج، أن ينتظرا قليلاً حتى يحضرا المشهد الى آخره، إستجاب الشاب، نظر هو، ونظرت هي، في المرآة المحدبة وصفيح المدافيء، والمرواح العمودية، تفلطح أنف الشاب، وإستطالت جبهته، شعر رفيقته بدا منفوشاً على ريشات المروحة الكهربائة، تجَهّمَ وجهها، صاحت بغضب: هيا نترك المكان، لم يستجب الشاب وظل محدقاً بشعر رفيقته المنفوش..

الرجل في الداخل يضغط رأسه بيديه، ينفش شعره، لم يعد يبحث عن مخرج، إستبد به الخوف وتملكه اليأس، مَزَقَّ تصريح الاجازة المزّور، ونثر قصاصاته في الهواء، تهالك على كرسيه، تساقطت القصاصات مثل نثيث المطر على رأسه، تطلع بحذر الى العيون المتلصصة من ناحية الواجهة، غطى وجهه بجريدة قديمة وخفقان قلبه مازال يتسارع..

لكزت العجوز خاصرة الشاب الذي دفعه فضوله الى التعدي على الحيز الذي تقف فيه، صاح متأوهاً، نظرت رفيقته الى العجوز بأستياء، لاحظ الرجل الطويل ان الطفل ماعاد يراقص ظله، وأم الصبي إنشغلت بالمرايا التي تظهرها جميلة وقبيحة في ذات الوقت..

صاح رجل في الخمسين يسير على الجانب الآخر من الرصيف: ماهذه المسخرة ياأنتم؟؟

ولمّا لم يَعِرهُ أحد إهتماماً، عبر الطريق وإقترب منهم، مَدَّ هو الآخر رأسه، وإشرأب عنقه، وراح ينظر حيث ينظرون، تجمع آخرون على صياح الرجل الذي عبر الرصيف وصمت هناك، مَدّوا رؤوسهم، إشرأبت أعناقهم، أحضر بعضهم أحجاراً وسلالم صغيرة، ليتسلقوا عليها، صعد من لم يجد سلالماً أو حجارة على ظهور الأخرين، ليتسنى للجميع رؤية واضحة، أو لكي يروا وجوههم المتماوجة والمستطيلة، وأنوفهم المفلطحة، ورؤوسهم الكبيرة المنتفخة، ونتوئات أسنانهم المنخورة، والتي يتباين قبحها من شخص الى آخر..

إزدحمت الواجهة الزجاجية بالرؤوس والعيون المتلصصة، حتى لم يعد هناك أي منفذ لضوء الشمس والهواء..

الرجل في الداخل يُنَقِّلُ نظره الفاتر بين الجدران والسقف والواجهة الزجاجية المزدحمة بالوجوه، الهواء أصبح ثقيلا، عفناً، بهتت الألوان وإستحالت الى رمادي كابي، فتح ماتبقى من أزرار قميصه، لكن الأجساد التي حجبت ضوء الشمس، لم تبقِ فسحة يتخللها النسيم..

شَعَرَ بأن الارض تميد تحت قدميه، الجدران تدور، السقف يقترب ويقترب، يكاد يطبق على صدره..

إنفرج الباب فجأة، دفق من الضوء والنسيم تسللا الى الداخل، وقف أمامه رجل طويل، عريض الوجه، شاربه كثيف بشكل يلفت النظر، حَيّاه بأدبٍ، أرادَ أن يسأله عن سعر المدفأة ذات المرآة المحدبة!!

لكن الرجل الذي في الداخل، وقبل أن يجيب، إستجمع ماتبقى له من قوة، ثم إنطلق مسرعاً بإتجاه النور..