يقدم لنا الناقد المصري قراءته لرواية الكاتب الأفغاني خالد الحسيني الجديدة، باعتبارها رواية المرايا والتقابلات بين شخصيات وحالات متماثلة تارة ومتناقضة أخرى. ولكنها تعكس واقعها السياسي وأزمتها الإنسانية عبر تقاطعُ مصائر أربعة أجيال مع الوطن، فيصبح شتات الأُسر شاهدًا على ما حَاق هذا الوطن مِن تفتيت وانقسام.

الهُوياتُ المُمَّزَقَةُ والمَاضي الذي يُطَارِدُ أَشْخَاصه

في رواية «وردّدتِ الجبالُ الصدَى»

ممدوح فراج النابي

في حكايةٍ تتقاطعُ فيها مصائر شخصياتها مع مصائرِ وطنٍ تكالبتْ عليه الأطماعُ والوصايا لا فَرَقَ بين الاستعمار منذ التدخّل السوفتي، وبدء حركة الجهاد ضدّ المدّ الشيوعي، وما أن تمَّ لهم النصر بطردِ الشيوعيين حتى تنازع أصدقاء الأمس على التركة، فانكهوا ما تبقى منه بصراعاتهم التي انتهتْ بحركة طالبان التي سعت إلى طمس هوية هذا المجتمع الأفغاني الذي كان في خمسينيات وستيينات القرن الماضي يشي بالتعدُّد والمدنيّة في كل مجالاته، إلى أن أجهزت عليه حرب قوات التحالف ضد مليشيات القاعدة، في ظل هذه التقاطعات يقدِّم لنا الكاتب الأمريكي الأفغاني الأصل خالد الحسيني روايته الثالثة «ورددتِ الجبالُ الصدى» الصادرة بترجمة يارا البرازي عن دار دال 2014، محنة الوطن في صورة محن أشخاصه الذين عانوا الشتات، والانقسام والتفرّق ولم يجمعهم سوى القدر مرَّة ثانيّة، عبر حكاية تتجاوزُ مكانها الأصلي فتنتقل إلى أماكن مُتعدِّدة كباكستان مكان اللجوء الذي لجأت إليه الكثير مِن الأسر الأفغانية هروبًا من سعير الحرب، إلى فرنسا حيث ملاذ «نيلا» بعدما ضاقت عليها أفغانستان، وإلى الهند واليونان حيث انتقالات ماركوس وعمله، إلى أميركا حيث عبد الله وأسرته.

(1)

يبدأُ النَّص بحكاية الأب سابور لطفليه عبد الله وباري عن الغيلان وحكاية الأب الفلاح بابا أيوب الذي تخلّى مُجْبرًا عن ابنه الذي يُحبه قيس للغول، كنوعٍ مِن التمهيد لما سَيُقْدِم عليه الأب في مرحلة لاحقة من تركه ابنته باري لأسرة السّيد وحداتي، الفارق بينه وبين بابا أيوب أن الأخير في الحكاية الخرافية استطاع أن يواجه الغول ويصعد إليه، حتى أن الغول نفسه اعترف بشجاعته وقال له «كنت أختبر حُبك» (ص 21)، أما الأب سابور فلم يجد جوابًا لتساؤلات ابنه غير أن يقول في ندم «كنا مجبرين على التخلي عنها، لقد قطع إصبعًا لينقذ الكف» (ص،59)، ومع هذا فظلّ الأب مُدانًا في نظر ابنه، وهو ما حَدَا به لأن ينكمش على نفسه ويتقوقع، الشيء الوحيد الذى راهن عليه الأب هو النسيان لعبد الله مثلما أعطى الغول الجرعة السحرية لبابا أيوب، لكن للأسف «النسيان لم يحدث، بقيت باري تحوم حول عبد الله أنّى ذهب دون دعوة، كانت كالغبار العالق بقميصه» (ص 60) احتفظت في ذاكرته وكرّرها بابنة سماها على نفس الاسم وبقي صندوق الشاى الذي يحوي ريشاتها الدليل على أنها لم تغب، حتى وإن غابت من ذاكرته بعد 58 عامًا من الفراق، إلا أنه ظل محتفظًا بهذا الصندوق، وقدمته لها ابنة أخيها سميتها عندما قدمت لأمريكا، مع رسالة تؤكِّد على أنَّها في ذاكرته «أصلي لكي تجدي الصندوق يا أختي، لكي تعرفي ما حملته في قلبي لأجلك طوال عمري»

وقد تتجاوز حكاية الغول التبرير للأب، إلى التأسيس لحكاية قوامها الفقد والتخلي اللذيْن يسيطران على الرواية كلها، بدءًا من تخلي الأب عن ابنته باري لأسرة سليمان وحداتي، وتخلي معصومة لأختها بروانة عن الزواج من سابور، بعدما دفعتها من الشجرة وأصابتها بالعجز، وتخلي مادلين اليونانية عن ابنتها الوحيدة تاليا التي تَشوّه وجهها بفعل عضة كلب، في صورة شعورها بالخزي من صورتها مما جعلها دائمًا تضع الوشاح، ثم تركتها لصديقتها أودي كي تعتني بها. وبالمثل تخلِّى الطبيب إدريس عن وعده لأخذ روشي لأمريكا لعلاجها بعدما أصابها عمها بإصابات بالغة، مرورًا بتخلي عمّ الطفل منار وزوجته عنه وإلقائه في مستشفى بعد مرضه القاتل، فلم يزوره أحد، «وعندما سيموت بعد أسبوع أو شهر مِن الآن لن يطلب بجثمانه أحد، لن يحزن عليه أحد، ولن يذكره أحد سيموت حيث عاش بين الانهيارات والصدوع» (ص، 337). وصولاً إلى خذلان ماركوس لأمه التي كانت تعاني الاحتياج والقلق والخوف من الوحدة، وفزعها من العُزْلة والهَجْر ومع هذا فَيُنْكِرُ احتياجها لهذه الأشياء، ويهربُ مُرتحِلًا في أنحاء العالم، مُحافِظًا على وجود محيط أو قارة تفصلُ بينهما على حدِّ وصفه. الخُذلان هو العنوان الأكبر، ليس فقط على مستوى الأشخاص مع بعضهم البعض، بل يشملُ أيضًا خُذلان الأوطان على نحو ما فعل محاربو طالبان بعد انتصارهم على العدو الشيوعي، ثم خذلوا الوطن بفرقتهم واقتتالهم، والعودة ببلادهم إلى عصورٍ لم تَعرفها من قبل، علاوة على قادة الحرب الذين نهبوا المال العام، كما في صورة القائد بابا جان وكذلك المغتربون الذين عندما عادوا فكّروا أولا في مكاسبهم، قبل أن يُقدِّموا خدماتهم لوطنهم الذي أنهكته الحروب المُسْتَعِرة، كما ظهر في صورة تيمور وإدريس بعد عودتهما من أمريكا وقد ارتبط تخلى الأب عن ابنته بقطعه شجرة البلوط التي كانت بمثابة الذاكرة لحكاياته للأطفال، مثلما تخلى عن الحكايات نفسها وصار صامتًا، فقد بدأ في التلاشي «انكمش سابور وتقوقع داخل صمته الطويل، وأسودَّ وجهه لم يعد يحكي قصصًا لأحد منذ عودتهم من كابول، فكَّر عبد الله أنَّه لربما قد بَاعَ لأسرة وحداتي موهبته أيضًا كما باع ابنته.اختفت الموهبة تبخرت، لم يبق منها شيء» (ص، 59)

(2)

مُقابل الخُذلان والتخلي كان النقيض حاضرًا مُتَمثلاً في الاحتواء والحنو، حيث ثمّة شخصيات آلت على نفسها بألا تتخلى عن الآخرين كما فعل عبد الله حيث رفض التخلي عن أخته، منذ أن كانت طفلة حتى أن العمّ نبي في اعترافاته يقول «كان الأمر لغزًا كبيرًا، لم أشهد في حياتي مثل هذه الصِلَة بين كائنين. في الحقيقة، كان عبد الله بالنسبة لباري أبًا بنفس الدرجة التي كان بها شَقيقًا» (ص، 103)؛ لِمَا قام به عبد الله من دورٍ بعد وفاة الأم وانشغال بروانة (زوجة الأب) بحملها بالأخ نصف الشقيق، وعزوف الأب عن هذه الأعمال، فعبد الله هو مَن كان يُرَبِيها فقد «كان الشخص الذي توقظه عندما تستيقظ ليلاً قبل أن تتعلّمَ الكلام، لينهضَ ويحملَها في الليل ويغيِّرُ حفاظها الملوَّث. كان الشخص الذي يُحمّمها»(ص 41)، وعندما افترقا ظلّت في ذاكرته ترحلُ معه بذكرياتهما وبصندوق ريشاتها أينما رَحَلَ حتى حطّ في أمريكا، وحكى لابنته حكايتها، ومن فرط ما حكى وجدت فيها رفيقتها السِّرية، وسرّها الخاص، وما أن يَفْقِدَ الذّاكِرة تبحثُ ابنته باري عن عمتها وتحضرها إلى أمريكا.

وبالمثل «نهيل» زوجة إدريس التي كانت تتكفل طفلاً كولومبيًا اسمه ميغيل. نفس الشّيء فعله تيمور بعدما عجز إدريس عن استقدام روشي لأمريكا للعلاج استقدمها تيمور، في إشارة إلى الجانب الإنساني. نفس الشيء فعلته أم ماركوس مع ليتا التي قادتها إلى العالم وواجهت بها الناس فلم تعد تخجل من وجهها، ومن قبل كانت هي الحصن الذي حمى مادلين (أمها) من عنف أبيها، فعندما جاءت إليها دامية الوجه، أخذت بندقية الصيد وذهبت إليه، وفي بيته رفعت فوهت البندقية إلى ذقنه وقالت:«إذا ضربتها مرة أخرى فسأعود وأطلق على وجهك النار من هذه البندقية» (ص316)، وأخيرًا ما قام به ماركوس مع الطفل منار الهندي حيث كان «يقوده كل صباح إلى الحمام» (ص، 338). وقد قابل هذا وفاءً من الطرف الآخر، فروشي عندما أصدرت كتابها كان الإهداء إلى «الملاكين في حياتي، أمي آمرا وكاكا تيمور، منقذي. أنا مدينة لكَ بكل شيء» (ص،189).وليتا كانت البديل عن الاحتياجات للأم أودي التي تنكّر لها الابن ورَحَلَ.

(3)

لا تنفصلُ مصائر هذه الشخصيات التي أقرب وصف لها أنها مُمزّقة، عن واقعها السّياسي المُضطرب فتتقاطعُ مصائر أربعة أجيال مع الوطن المُشتَّت والممزق، فيصير شتات هذه الأُسر شاهدًا على ما حَاق هذا الوطن مِن تفتيت وانقسام وضياع هويته، مثلما تفتّت الأسر، فمصائر الشخصيات جميعها مؤسف، ومحبط، إما بالعجز كما هو مصير معصومة التي بقيت عاجزة في البيت مع نرجيلتها، أو بالإغراق في الخمر ثم الانتحار كما حَدَثَ مع شخصية نيلا زوجة السّيد وحداتي، بعد أن رحلت إلى باريس، أو بالانزواء كما هو مصير سابور الذي انزوى على نفسه وهجر ما كان يتميز به من حكايات، أو بفقدان الذاكرة كما في حالة الأخ عبد الله الذي ينتهي به الحال في مصحة عقلية بعدما فقد عقله، ونبى الذي مات بعقدة تأنيب الضمير، فأودع البيت الذي تركه له سليمان وحداتي لباري كنوع من التكفير عن أفعاله، أو بالموت المُبَكِّر أو ما يُسَمى بالنهاية المأسوية، كما هو حال مادلين التي ماتت وحيدة بعد صراع طويل مع المرض ولم يتذكرها أحد إلا بعد نشر خبر عن وفاتها في إحدى الصحف رغم أنها كانت تسكن على بعد ستة شوارع مجاورة لماركوس لمدة عشرين عامًا.

القَدَرُ يمثِّلُ الشَّخصية الغائبة في النص والحاضرة عبر تصريفاته وتحريك مصائر الشخصيات والأحداث، ففى قصة الغول كان القدر حائلًا بين عودة ابنه إليه إلا أنه اكتسب الشَّجاعة التي اُفْتُقِدت لدى الأب الذي استسلم لحاجته للمال خاصة بعدما فقد ابنه الصغير عُمر من زوجته الثانية بروانة بسبب البرد الشَّديد، والقدر هو الذي يجعل روشي تنجو من المذبحة التي فعلها العمّ من أجل الميراث، فتصبح كاتبة مشهورة بعد ذلك. القدر هو الذي يقود تاليا في طريق أودي بعدما ضاقت بها الأم، فتزوجها لابنها ماركوس، وتجعلها تواجه الحياة التي كانت تخشاها، هو نفسه القدر الذي يدفع الممرضة آمرا أديموفيك والطفل منار الهندي ثم تاليا، في طريق ماركوس، فيمتهن الطب ويتخصّص في طب التجميل، ثم يغامر بالذهاب إلى أفعانستان «ليساعدهم في إصلاح وجوه الأطفال المتأذية من الشظايا والرصاص والأمور المشابهة» 354، هو نفس القدر الذي يجعل نيلا امرأة بلا رحم،«لقد خسرته عندما كانت في الهند» (ص، 105) فتأخذ باري من أخيها، وما إن رأها تنظر لأخته، استشعر بالفطرة مغزاها فقال لها في توسّل «رجاءً لا تفعلي ذلك» (ص، 56). هكذا القدر يلعب لعبته ويقود الشخصيات حتى أنه في بعض الأحيان يدفع بالأحداث إلى التطور الدرامي على نحو خروج  عادل من قصر أبيه بعد أن يرشى الحراس ليلعب في محيطه وقد ضاق ذرعًا بالسجن داخله، فيلتقي بغلام بن إقبال حفيد سابور بعد أن عاد مع أسرته من باكستان، فتتوالى اكتشافاته عن أسرار أبيه أو الحقائق التي أخذت خزائنها تتفتح أمام عينيه.

(4)

عودة جميع الأفغان بعد الحرب جاءت لتؤكِّد حالة طمس الهوية التي خلَّفتها الحروب المتعاقبة، فالعودة في أغلبها لم تأتِ بحثًا عن الأمان أو استعادة مواطن الطفولة بل ـ مع الأسف ـ كانت عودة مادية بحته تعكس الوجه القبيح الذي جاء به هولاء الأفغان؛ فجميعهم جاءوا بحثًا عن ممتلكاتهم الضائعة لا فرق بين إدريس وتيمور «لقد جئنا إلى كابول لنستعيد بيت أبائنا، ذاك هو كل ما في الأمر، لا شيء آخر»(ص، 161)، كما ذَكَرَ للممرضة آمرا أديموفيك التي تعملُ مع قوات الإغاثة الدوليّة، لكن عثروا على وطن مختلف جعلهم في حيرة بين المساعدة وبين الحفاظ على ما حققوه من مكاسب في غربتهم. نفس الحالِ عمّ روشي الذي جاءَ بعد خلاف مع أخيه على ملكية البيت الذي عاشت فيه روشي مع عائلتها (أبويها وأختيها وأخوها الرضيع) في قرية على الطريق بين كابول وباغرام، فالعمُّ يَعتقدُ أنّ ملكية البيت تعود له بشكل شرعي باعتباره أنه أكبر سِنًا من الأب وهي ملكية قامَ الجدّ بالتوصية بها لابنه الأصغر الأحبّ إلى قلبه، وبالمثل بابا جان والد عادل قائد الحرب السابق، الذي لا تفارق المسبحة يده، ويغطي فساده بالعمل الخيري، وخدمة سكان المنطقة، حيث استولى على أراضي الفارين. ويتاجر في السلاح والمخدرات،وقد ارتبطت العودة عند القليل بفكرة البحث عن الجذور كما هي عند باري. العودة في مجملها توازي مع أفغانستان الحديثة التي مثلها حامد قرضاي، في إشارة إلى حالة الفساد التي استشرت وقد عبر عنها بحديث القاضي بأن أوراق القضية حرقت، وقد ظهرت ملامح الثراء عليه فجأة.

يقدِّمُ الكاتب نماذج متباينة من الشخصية الأفغانية، بعض هذه الشخصيات عكست الطبيعة الأفغانية في التعامل كنبي الذي رفض أن يتقاضى أجرًا على تأجير المنزل الذي آل إليه بناء على وصية السيد سيليمان وحداتي من قوات الإغاثة الدولية، واضعًا فلسفة أن هؤلاء جاءوا إلى بلادهم لمساعدتهم، هكذا قال للمترجم الذي أراد أن ينصحه بأنه بإمكانه أن يكون أثرى إنسان، وهو ما ردده على تيمور الشريك في وكالة سيارات عندما زاره مع ابن عمه إدريس. وإن كان هو الذي تواطئ على باري، ثم تواطئ على سيده سليمان وحداتي بعدم الإفصاح عن العلاقات الشائنة التي كانت تقوم بها نيلا وكان شاهدًا عليها، وبالمثل شخصية تيمور التي أظهرت تعاليًا وتباهيًا بالمال، وإن كان باستقدامه لروشي إلى أمريكا للعلاج ما خفَّفَ مِن وَطأة فعلته، وهو ما ينطبقُ على نبي الذي أوصى بالبيت لباري وترك لها رسالة يُسَلِّمُها لها السّيد ماركوس اليوناني. أما شخصية نيلا فكانت الوجه المُقابل لأفغانستان بعد طالبان حيث هي متحرِّرة لا حدّ لجنوحها، وقد جاء تمردُّها وعلاقاتها الجنسية كوسيلة احتجاج ضدّ هذه الأبوية التي صوّرت النساء على «أنهنّ مغويات هائجات جنسيًا» (ص،227)

(5)

الذّاكِرة هي المُحركُ الأساسيّ للسَّرد، فمنها وإليها ينطلقُ السّرد فيعمدُ إليها السّرد لترميم فجوات الحكاية أثناء تنامي أحداثها بفعل الزمن الكرنولوجي، فيتخلل السَّرد المُتنامي ذكريات عن الطفولة وعن القرية وأحوالها، وعن العاصمة كابول والتغيّرات التي ألمّتْ بها منذ الملك نادر، وأيضًا عن العادات والتقاليد التي كانت تحكمُ هذه البقعة المكانية في الزواج. كما لا تأخذ الحكاية شكلاً واحد؛ حيث ثمة تنوّع في حكيها كما هو ظاهر في التنوّع بين الضمائر، وأيضًا التعدُّد في الأشكال السّردية حيث الرِّسالة التي يتركها نبي لباري والتي تشغل الفصل الرَّابع، وهو الفصل الوحيد الذي يأتي بلا عنوان، من فصول الرواية التسعة التي أخذت عناوي زمانية كلها تتراوح بين عامي 1952ـ و،2010ومع أنها جاءت في صيغة رسالة إلا أنها تبدو وكأنها اعتراف من نبي بأخطائه، وتوغل الرسالة في الزمن القديم نسبيًا حيث الحديث عن مقتل الملك نادر بطلق ناري واعتلاء ابنه زهير العرش 1933, كما تنتقل الرسالة بالأحداث من القرية شادباغ إلى كابول. وإلى جانب الرسالة هناك المقابلة الصحفية التي أجراها الصحفي إتيين بوستولر لصالح دار نشر بارالاكس في شتاء 1947 مع الشاعرة الأفغانية نيلا، وفيها تستفيض في الحديث عن طفولتها وعن أبيها الأرستقراطي جليس الملك ومستشاريه وعادات الأب وهواياته ، كما تظهر صورة الحياة في غهد الملك أمان الله، وكيف منع تعدد الزوجات وأراد تحويل البلاد إلى مدنية متنورة حديثة وعصرية، ورفض الحجاب ومنع زواج الأطفال، وحث النساء على الذهاب إلى المدرسة للتعليم ص 196 وما أثارته هذه القرارات من حنق وغضب الملالي والمشايخ عليه بعد أن زلزل الأرض من تحت أقدامهم فقد حدث تمرد الملالي عليه وخلعوه من العرش. تتحوَّل الحكاية عبر الرسائل إلى ألغاز لا يتمُّ حلها إلا بالرسائل والمقابلات فرسالة نبي إلى باري عن حقيقته وحقيقة أبويها، تكشف الشيء الذي كانت تبحث عهه باري وعجزت عن اكتشاف كنهته، فتأتي المكالمة التي قام بها ماركوس إلى باري بعد أن توصل إلى عنوانها عن طريق الفيس بوك.

كعادته في روايته السابقة «عدّاء الطائرة الورقية» يسعى إلى تأصيل الهوية الأفغانية وحفظها من الاندثار بترديد العادات والتقاليد، كنوع من المقاومة ضد محاولات التذويب التي مورست علي الهوية من أطراف متعددة، إلا أنه أيضًا ينحاز للجانب الأمريكي، مظهرًا كرمها بمنح حق اللجوء للأفغان الهاربين من مخيمات الإيواء في باكستان، وهي التي استضافت روشي وقدمت لها العلاج، دون إدانة واحدة لما فعلته وأوصلت به أفغانستان إلى هذا المآل، مثلما انتقد مصر ودمشق والسودان والهند على لسان ماركوس في مقابل حالة الانبهار باليونان والتغييرات التي حدثت في جزيرة تينوس، وهو ما يؤكد النظرة وقوع الكاتب في فخ الدعائية الأمريكية وسعيه للتبرير لها رغم أن عمل ماركوس نفسه في منظمات الإغاثة، رغم أن معظم الضحايا الذين راح يعالجهم هم ضحايا الحرب التي شنها الغرب.ومن فرط إعجابه بالنموذج الأمريكي يظهر الإزدواجية التي عاش بها الأفغان في الخارج حيث تبديل أسمائهم كما فعل تيمور عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر فيصير «تيم».

يؤمنُ خالد الحسيني بـ«أن القصص كالقطارات المتحركة، لا يهم أبدًا من أين تركبها، لأنك ستصل غايتك عاجلاً أم آجلاً على متنها» (ص، 84)؛ لذا أخذنا في أجواء حكايات متداخلة، ومصائر شخصيات متوحِّدة في التمزّق والتشتّت رغم تباين بيئاتهم ليؤكد أن قدر الإنسان واحد، لا فرق بين الناس في كابول الذين مزقتهم الحروب، أو الهند التي فتكت بهم الأمراض، أو حتى اليونان التي استبدت بها الأنظمة الاستبدادية، أو حتى في إفريقيا من شردتهم المجاعات، المهم هو الصمودُ والمواجهةُ وهو ما تحقّق عبر شخصيات تاليا وروشي لكن المهمّ وجود مَن يُدَعِّم ويُسانِدُ.