تستخدم رواية (لا ريب فيه) للكاتبة الإيرانية طاهرة علوي الأحلام وسيلة عرض أساسية لتقديم مادتها الحكائية، وتنقسم الرواية إلى قسمين: يرى أحلام القسم الأول منها أصدقاء بطلة الرواية وساردتها في نفس الوقت، في حين ترى الساردة أحلام القسم الثاني في مناماتها.
الساردة شخصية مضطربة، تظهر في أحلام أصدقائها المخيفة أو المحذرة، كأن تركب فيلاً أعمى وأعرج ثم تقع من على ظهره، أو أن يحاصرها آلاف الإرهابيين ويصوبون أسلحتهم نحوها، كما في حلم صديقها الأفغاني، الذي يكرر عليها الحلم ذاته عدة مرات؛ لأنه يراه كلما ينام، يسرد لها التفاصيل دون أن يصل إلى النهاية السعيدة التي ترجوها. ثم تقول «من أفظع الأحلام التي يتفضل الأصدقاء برؤيتها لي هي الأحلام المحذرة»، ومع الأحلام المحذرة ينتابها القلق من أهوال قادمة، خصوصاً وأن الأصدقاء يحدثونها عن الخطر وكأنه حتمي الوقوع، ولهذا كانت هذه الأحلام أشد وطأة عليها من الأحلام المخيفة.
تحت ضغط هذه الأحلام المرعبة الموجهة نحوها يطالبها الأصدقاء أن تبوح لهم بحقيقة ما تعيشه في الواقع، لكنهم يستغربون عندما تخبرهم بأنه لم يحدث شيء سيّئ لها. وكأنها تقول أن حياتها من السوء بما يكفي إلى الحد الذي لا تحتاج فيه لسوء مضاف. بالمقابل تفكر أحياناً في أن تطلب منهم أن لا يرووا لها أحلامهم عنها مجدداً، لكنها لا تفعل، هذا مع معرفتها بأنها تبدو شخصية سلبية في كل الأحلام، في حين يكون الحالمون دائماً طيبون وأبطال ومحببون، ربما لأنها عرفت بأن الحقيقة قد تجسدت فيها، ولهذا تعترف أنَّ مرائي الأصدقاء كانت تحمل في طياتها قراءة لحقيقة شخصيتها، فتقول: «عرفت نفسي في أحلام الأصدقاء، شخصية تمد يدها في جحر لدغت منه أكثر من مرّة، هذه هي أنا»، لكنها تؤدي وظيفتها الحكائية على أتم وجه، وتنقل التفاصيل المرعبة التي تسمعها بلغة لا تخلو من التهكم والسخرية، كما لو أنها تريد كسر رتابة وقتامة السرد بروح الدعابة والفكاهة.
الجارة أيضاً كان لها نصيب من الأحلام، لكنها بخلاف الجميع كانت تحمل لها تفاصيل منامات مُبهجة، الساردة كانت تسميها بـ «الأحلام خاطئة المقادير»؛ لأنها لا تتعلق بالواقع بل تختلف معه تماماً، بحسب وجهة نظرها. تحلم الجارة أنهما كانتا تسبحان في بحيرة كبيرة ماؤها نقي مثل الدمع، تغمرهما السعادة، والابتسامة لا تفارق شفتيهما، رغم ذلك تؤكد الساردة أن لا شيء سعيداً قد وقع في حياتها بتأثير من هذا الحلم، ولم يطرأ عليها أي تغيير بل بقيت تسير كما كانت. لكننا نرى في وجود التشبيه بالدمع ما يدل على أنها سعادة كاذبة، إذ كانت أيامها مشبعة بحزن نقي وخفي.
الأقرباء المتدينون كانوا يرون لها أحلاماً تدور أحداثها في الأماكن الدينية، أما الأقرباء البعيدون عن الدين فتكون أحلامهم عن تمضية الأوقات في المرح واللهو، في حين كانت تعاني كثيراً من ضغوط هذه الأحلام وتفسيراتها وتأثيراتها على مجريات حياتها، خصوصاً بسبب قربها من أجواء العائلة المريبة.
من خلال الأحلام ذات البعد الديني تسبر الرواية قضايا اجتماعية وآراء تؤمن بها بعض الشخصيات، كما تقوم بتمثيل حالات اجتماعية نادرة لها حضور فريد في المخيال الشعبي، مثل تلك المقولة الغريبة التي تفيد بأن أكبر نقيصة قد تصيب الفتاة هي أن تتعلق بأبيها، والمتزوجة أن تحب زوجها، وكأنها تجسد رفضاً نسوياً للتعلق بالرجل والدخول تحت سلطته، أي الخروج من هيمنة الثقافة الأبوية الذكورية على المرأة، وهذه أحد مرتكزات السرد النسوي الساعي إلى بلورة هوية أنثوية مستقلة.
على خلاف القسم الأول من الرواية حيث يتكفل الأصدقاء والأقرباء بسرد الأحلام، تبدأ الساردة في القسم الثاني برؤية الأحلام بنفسها، حيث ترى جدتها في عدة أحلام متسلسلة مخيفة غالباً، سيكون لها انعكاس كبير على واقعها، ويتحقق بعضها بشكل ما. ثم تأخذ جدتها بتكليفها بإيصال «رسائل مختلفة إلى عدة أشخاص» كأن تخبر إحداهن بأن تكف عن لبس السواد، أو أن تخبر أخرى بأن مرضها ليس خطيراً وعليها أن لا تخاف، أو أن تنهى ثالثة عن بيع بيتها وإلا سوف تندم. تعالج خلال ذلك بعض العادات والتقاليد السارية في المجتمعات الشرقية، كتلك التي تخص ملابس الحداد مثلاً.
تعاليم ونصائح وطلبات تتلقاها بشكل شبه يومي وشبه طبيعي من جدتها التي تسكن في العالم الآخر، ويبدو للساردة أن الجدة تسعى لتصحيح أخطائها أو تصفية حساباتها من خلالها. في غضون ذلك تقوم الساردة برسم شخصية جدتها في حياتها، من خلال استعادة ما علق بذاكرتها عنها، وبعد موتها، أي بحسب ما تراه في الأحلام الكثيرة التي تزورها فيها.
من أعقد المطالب التي ألحّت عليها الجدة وشددت على تنفيذها هي أن تدفع أحد الأقرباء، ويعمل طبيباً، على أن يقوم بإرجاع حق أخته لها، حيث كان قد استحوذ يوماً ما على حصتها من الإرث، ودفع لها سعراً أقل بكثير مما دفعه لإخوته الآخرين. وصل الأمر بالجدة إلى التهديد للحفيدة لأنها امتنعت عن الذهاب للطبيب، لأنه أمر محرج وصعب جداً عليها، فضلاً عن مضي مدة طويلة عليه، حتى أن الأخت نفسها لم تعد تهتم له، مثلما تبين لها عند اللقاء بها.
جدتها تحولت إلى كابوس حقيقي حتى صارت تهددها بأنها سوف تأخذها معها؛ لأنها لم تستطع إقناع الطبيب بما أرادت. صارت مجبرة على ملاحقته في منزله ومكان المستشفى الذي يعمل فيه وحتى في الشارع بعد منعها من دخول تلك الأماكن، إلى أن لجأت يوماً إلى أسلوب التخويف له وإدخال الرعب في نفسه؛ لعله يستجيب لها، فترتاح من تهديدات جدتها.
ترى الساردة أن للأحلام أحياناً «معانٍ نقع كلنا تحت تأثيرها»، لكن المشكلة أن أحلامها كانت تسيّر حياتها وتؤثر فيها بشكل كبير، حتى أنها قالت لحظة إدراك، أن «الارتباط القائم مع عالم الأرواح له حسناته ومساوئه»، ربما كان هذا الاعتراف قبل أن تعيش تجربتها السيئة مع جدتها، والتي أتت عليها بكل السوء الذي يمكن أن يتصوره فرد عن ذلك العالم.
ما يمكن استنطاقه من كل ذلك أن البطلة تريد أن تتحرر وأن تكون نافعة في المجتمع وذات قيمة، لا أن تبقى شيئاً مهملاً أو ميتاً، بلا رأي أو إرادة، تتحكم فيها إرادات الآخرين وأهواؤهم، تريد أن تكون مؤثرة وفاعلة وحتى مخيفة أحيانا إذا اقتضت الضرورة، تريد أن ترسم خطة حياتها بنفسها لا أن يرسمها الآخرون لها، مُذكّرة على نحو ما بالمقولة الشهيرة: «الآخرون هم الجحيم».
هذه الرواية من نمط الروايات الجديدة، أي أنها صنعت نسقها السردي الخاص بها ورؤيتها الفنية المختلفة، فبعد أن تخلت عن الحبكة والخط الزمني المحدد، اتجهت إلى إيجاد المشترك التقني بين الأحداث، وهو الأحلام، والى ترسيخ حضور الشخصية المركزية الناظمة لها. وقد مثلت الساردة خيط الرواية الذي نُسجت حوله الحكايات، والشريك الدائم في كل مجريتها.
على عادة الأدب والسرد النسوي نجد أنه يتخذ من ذات المرأة محوراً يدور حوله، كما لو أنها هي مركز العالم ومحور الحياة، ولا نجد فيه قضايا كبرى أو تمثيلات لإشكاليات إنسانية عامة، بل هموم ومشكلات تخص المرأة في وسطها الاجتماعي الضاغط ومحيطها الضيق والقامع، ولم تخرج رواية طاهرة علوي من هذه الميزة التي اتسم بها أدب المرأة، أي في المحصلة النهائية لن نجد شيئاً جديداً وراء الأكَمَة. لكنها بالمقابل تخلو من اللغة الشعرية والتسويف أو المماطلة الإنشائية في عرض الأحداث وتسعى للوصول إلى غايتها بأقصر الطرق السردية، أي أنها تقدم نموذجاً جيداً على مستوى الشكل الروائي. كما تتسم الرواية بسرد رشيق ومختزل، يركز على إظهار الأحداث بوضوح، مع الحرص على شحنها ببعد رمزي، فليس المقصود هو ظاهر الأحلام بل ما يكمن خلفها من دلالات. لذلك فإن هذه الرواية تعد مجالاً خصباً لدارسي علم نفس الأدب، خصوصاً في مجال الرؤيا، حيث تقدم سيناريو مكتمل لحياة غرائبية تتكفل الأحلام بتشكيلها وتسييرها، وقد كُرّست الرواية بأكملها من أجل ذلك، في بناء سردي متماسك وناجح، وهو أمر جدير بالالتفات والاهتمام. ومن أجل ذلك تعطي الرواية انطباعاً ايجابياً عن المستوى الذي وصلت إليه الرواية الإيرانية بشكل عام، بوصفها ثقافة روائية مختلفة في تقاليدها وأساليبها عن الثقافة الروائية العربية.
* رواية (لا ريب فيه) لطاهرة علوي، ترجمة: أحمد حيدري، صادرة عن دار الفارابي في بيروت ودار الفراشة في الكويت عام 2014.