تتحدث رواية "طشاري" لإنعام كجه جي، دار الجديد ـ 2013 عن الشتات العراقي متخذة من شخصية الطبيبة "وردية اسكندر" وعائلتها عيّنة أو نموذجاً لهذاالشتات ـ "التمزق" حيث توزعت بأفرادها الأربعة المتبقين على قارات أربع. والكاتبة عندما تجعل من شخصية امرأة في الثمانين، هي "وردية"، مكرهة على مغادرة وطنها، كأنما أرادت أن تغلق الباب إزاء أي حل أو مخرج آخر من المحنة، على الأقل في الراهن الذي هي بصدده في روايتها. صحيح أن ثيمة الشتات العراقي، على حيويتها وأهميتها، لم تُستنفد بعد، بل بالأحرى القول لم تُستثمر. لكن على الصعيد الروائي لا تكمن قيمة أي موضوع في ذاته، مهما كان، بل في نوع معالجته، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه أي عمل فني. فماذا كان نوع المعالجة المعتمدة في "طشاري" وهل ما كتبته كجه جي ينجح في تجاوز الهواجس الصحافية، أم بقي أسيرها، والى أي مدى استطاعت إقناع قارئها، بمقارباتها؟ هذا ما يحاول هذا المقال الإجابة عليه.بعيداً عن (تقييمات) وتصنيفات "البوكر" التي ضمت قائمتها القصيرة هذه الرواية واستبعدت روايتي "ليل علي بابا الحزين" لعبد الخالق الركابي والرواية الباهرة "366" لأمير تاج السر. (تقييم) مثل هذا يعفينا من أي كلام عن جدّية ومهنية هذه الجائزة متمثلة بلجنتها هذا العام، بشكل خاص.
رواية حائرة
لايمكن اعتبار "طشاري" رواية وثائقية، بالمقابل فهي ليست رواية خيالية، ومن الضروري التأكيد هنا قبل المسارعة الى أي ظن، على أهمية اعتماد الخيالي على الواقعي والاستفادة منه فهذا ما لا شبهة فيه، فأعظم الأعمال الفانتازية تجد جذورها في الواقع، أو هي تنطلق من حقيقةٍ منه أو تفصيل أو مجموعة تفاصيل. عدم التسليم بكل من المنحيَين الوثائقي والخيالي لـ "طشاري"متأتٍ من أنها لم تخلص للإثنين، فالوثائقي والواقعي فيها شابهُ العبث والتحريف، لا لضرورة فنية كما سنرى. والخيالي كان أقرب الى معطيات الريبورتاج. هذا الذي هيمنت لغته الحادة على العمل ككل، عدا بعض الالتماعات الضعيفة الضائعة في خضم من الاجترار اللغوي وافتعال المواقف والذكريات. وقد بدا كل ذلك دون أيّ هم سوى زيادة عدد الصفحات. وكمثال من أمثلة كثيرة على نزعة الترقيع التي عجّت بها الرواية، ما أفضت به الراوية، وهي في المطار،عند استقبال عمتها "وردية" في فرنسا: "لكي تصبح لاجئة وحيدة في قارة غريبة، تطلب وثيقة سفر أجنبية وتتخلى عن جوازها الأخضر العزيز. هل ستقبل أن تتخلى عنه؟ تذكرتُ رعبي وكوابيسي، في سنوات مضت، من احتمال ضياع جوازي. كان الواحد منا يفضّل أن يضيّع حاله وماله على أن يسهو، لحظة، عن ذلك الدفتر الصغير المليء بالأخطاء. كأن موظفي الداخلية يتسلّون بألقابنا وسلالاتنا. يتعمدون أن يخطئوا في كتابة أسمائنا وأسماء آبائنا وأجدادنا نكاية بحامل الجواز العازم على الهرب من البلد المنكوب: 26".... الخ. ثم تتلقف كلمة المنكوب مباشرة لتتحدث عن "سلمان المنكوب"! وسكر زوج صديقتها على صوته وتمزيق دشداشته انفعالاً وتفاعلاً معه ثم لتعود لاكمال الشريط عن همّ ضياع الجواز وكيف ان الأمر في اوروبا لا يعني شيئاً فما أسهل استخراج جواز جديد، لتستغرق صفحة وربع في هذا التفصيل الذي لم يكن يعني أي شيء سوى دهشة القارىء من تسطيح الى هذا الحد. والمضمون الهش لحديث كهذا استتبع بدوره وبالضرورة لغة هشة يمكن وصفها، في أبسط الأحوال، بأنها غير أدبية،هي لغة الرواية بشكل عام. لقد أضاعت الكاتبة فرصة كبيرة أو هي لم تتمكن منها بهدرها موضوعة حساسة ونابضة وملآى بالمشاعر والعواطف والمواقف، كموضوعة المنفى والشتات العراقي، فقد كان يمكن حملها على لغة مرهفة، منصتة للألم، ومعالجة تنأى عن الخفة و"السلق" أودت بالموضوع برمّته.
الجهل ببيئة العمل
تتخذ الكاتبة من مدينة الديوانية، التي تبعد 180 كم عن بغداد، مكاناً لسكن وعمل بطلتها "وردية" حيث تقضي فيها ما يزيد على الربع قرن، لكن بدا أن الكاتبة لم تكن لتأبه بتقديم صورة تستند الى دراية ومعرفة بالمدينة كما يقتضي عملها وهذا من البديهياتّ، أي أن تدرس البيئة الحاضنة للقسم الأهم من روايتها ونقطة ارتكازها، على الأقل بالرجوع الى تاريخ المدينة خصوصاً فترة منتصف الخمسينات الذي يشهد وصول بطلتها. لكن ما حدث هو العكس فقد كشفت عن جهل فاضح بالمدينة يتعلق بتاريخها البعيد والقريب على السواء. فمعرفتها بها لا تتعدى ما هو سطحي شائع ومغلوط، معتمدة السماع، ربما. والسؤال هو ما مدى الجهد الذي بذلته الكاتبة للتعرف على المدينة على الأقل في الفترة التي شهدت أحداث الرواية المرتبطة بشخصيتها الرئيسة؟ يحضر هنا أورهان باموق، على سبيل المثال، فكل كاتب يأخذ عمله بجدية ويحترم قارئه يفعل ما فعله باموق، فقبل الشروع بكتابة روايته "الثلج" زار مدينة "كارس"، التي ستدور فيها معظم أحداث روايته، وهي مدينة صغيرة في شمال شرق تركيا. يقول: "لأنني كنت أعرف القليل عن كارس فقد زرتها مرات عديدة قبل استخدامها خلفية لروايتي، وأثناء اقامتي هناك قابلت أناساً كثيرين، وصادقت الكثيرين وأنا أستكشف المدينة شارعاً شاعاً ودكاناً دكاناً. زرت أكثر الأحياء تطرفاً ومعاناة من الإهمال ... وتحدثت مع الرجال العاطلين الذين يقضون أيامهم في المقاهي ... وتحدثت مع طلبة المدارس ومع رجال الشرطة ... الخ". في "طشاري" لم تزد الديوانية عن كونها ريفاً أو قرية، سواء في لهجة سكّانها أو في سلوكهم، صحيح ان الديوانية تتبعها بلدات ريفية يفد أهلها على المدينة لقضاء أشغالهم لكن يبقى للمدينة خصوصيتها وطابعها المدني وهو ما لم تدركه أو تتصوره الكاتبة، فقد هدمت الحدود بين الريف والمدينة، فأضحى"اللواء" ريفاً أو قصبةً سواء عبر العرض غير الأمين وغير الخبير بطبائع سكان المدينة ولهجتهم أو في اظهار افتقار المدينة الى الطرق المعبدة والمنشآت المدنية بما في ذلك الصحية، لتظهر الدكتورة وردية "رائدةً" في مجالها، في الوقت الذي أُفتتح المستشفى الملكي في المدينةالعام 1930 محتوياً 80 سريراً كما كان هناك مستشفى للأمراض الصدرية منذ العام 1951 ودائرة بيطرة ـ 1952 ودائرة للبرق والبريد ـ 1952، ومكتبة عامة ـ 1938 وقد احتوت 4490 كتاباً حتى العام 1953. ومن المنشآت الأخرى في المدينة، النادي العسكري ـ 1935. ونادي الموظفين ـ 1943. وغير ذلك مما لا يتسع أو يناسب المجال لذكره. هذه الشواهد استحضرناها من كتاب الأستاذ وداي العطية: تاريخ الديوانية قديماً وحديثاً والصادر عام 1954ـ المطبعة الحيديرية ـ النجف. وهي للتدليل على مظاهر التمدن والعمران في المدينة وليس كما صورتها الكاتبة مكاناً أو مستنقعاً يسرح فيه الجاموس: 146. مما يكشف عدم امتلاكها أي فكرة عن المكان رغم مشاعرها الإيجابية عنه.
الحقيقة كضحية
اضافة الى ما هو تقريري كما أشرنا وانحدار اللغة في بعض المواقف الى مستوى لا يمكن حتى ذكر شواهد منها للتدليل على ذلك، فقد حفلت الرواية باللامبالاة بالدقة أو الصفة الواقعية للأحداث وهو ما لا يمكن تجاوزه طالما ان الرواية نوع من سيرة لمكان ـ أمكنة وحتى شخصيات. مثال ذلك ما أُحيطت به "العلوية شذرة" فقد ظهرت كما لو انها رئيسة مافيا بنفوذها وسطوتها وأملاكها. وهو ما يتنافي وامكانية ذلك في الواقع. واحدة من هذه المبالغات، قولها: "كانت مرهوبة الجانب، تملك أن ترفع مكانة طبيب أو أن تقضي على سمعته: 63". أو قولها: "ان زيارتها واجبة على كل موظفة جديدة تفد على المنطقة:61". ومثل ذلك المبالغة القاتلة التي أضفتها على مكانة وردية كطبيبة في المدينة: "تمرّ أمام مقهى شعبي فيخفت الضجيج وتمتد يد الى الراديو لتخفض الأغنية. يتوقف الزبائن عن لعب النرد وتلتفت الرؤوس نحو الشارع. تجمد الأصابع على استكانات الشاي وتلبد لفافات السكائر بين الشفاه. يتهامسون: هاي هي الدختورة الجديدة: 76". هذه صورة لمشاعر خوف ورعب لا احترام وحب كما توهمت الكاتبة وهي خليقة بأن ترد في 1984 لجورج أورويل، لوصف مشاعر الخوف تحت سلطة الأخ الأكبر، وارهاب شرطته ومؤسساته. ومن الأخطاء الأخرى لدى الكاتبة خلطها في سير الرواية، وهو ما شوّش القارىء ففي الوقت الذي يُفترض ان وردية قد دخلت فرنسا كلاجئة العام 2007 وهو ما يقوله سياق العمل وتفصيلاته، لكن يتبيّن في الصفحة 110 انها حتى العام 2008 كانت لا تزال في عيادتها في بغداد. وكمثال على الخلط والتخبط بين حدود ماهو واقعي يجب الوفاء له وبينما يعتاش عليه ويشوّشه، ما ورد عن "آمر موقع الديوانية" الذي أصبح وزيراً بعد "ثورة" تموز ليُقتل لاحقاً: "صار الرجل وزيراً، بعد الثورة، ثمّ راح بين العشرات الذين ثقب الرصاص صدورهم في ساحات الإعدام: 77". فمن هو هذا الرجل؟! إذ لا شيء في الواقع له صلة بمزاعم الرواية، فهذه قائمة في الكثير منها على الترابط والتواصل اللغوي، لا العضوي، كما مرّ بنا في موضوع "المنكوب"!
لهذا ولما تقدم ليس من المجدي إدّعاء الكاتبة أن روايتها ليست تسجيلية لتُحاسب وفقاً لذلك. فالمسألة ليست هنا، بل في ضرورة ولزوم أن يكون ما تكتبه قابلاً للتصديق، ولها أن تكتب ما تشاء. مثلما أوحى بذلك ماركيز ذات مرة. فليس كل تحقيق صحافي هو رواية، والمثال الأصفى على تقريرية الرواية الفصل الخاص بالطبيبة "هندة" في كندا، فبتمامه كان كذلك. حتى فكرة "المقبرة الألكترونية" هي فكرة تصلح للصحافة. تحضرني هنا واقعة لصحفية أميركية فازت بجائزة أحسن ريبورتاج في الثمانينات ثمّ تبيّن فيما بعد ان الريبورتاج بكامله كان من اختراعها فسُحبت الجائزة منها.
أخطاء لغوية
لم تسلم الرواية من الأخطاء اللغوية العديدة التي سجلناها وهي: تشتغلن:14. تحلفن: 22. تتكرمن وتذكرنني: 24. تقصدنها: 60. تتعرفن: 171. والصحيح أن كلّ هذه الأفعال تبدأ بالياء لا التاء: يشتغلن، يحلفن ... الخ لأن الصيغة التي وردت بها للغائب وليس المخاطب. في الصفحة 73 ورد: سنّين ذهبيين. والصحيح ذهبيتين، فالسن انثى. تلضم: 187.هي بهذا الرسم تأتي بمعنى العنف والالحاح: لا المعنى المراد به ادخال الخيط في ابرة الخياطة. في الصفحة 132 يرد الفعل: سأم بمعنى ملّ وضجر، والصحيح سئِم. في الصفحة 233 يرد: ثغاء الفاختة. والثغاء هو للغنم والظباء عند الولادة، وليس للطير! كما في القاموس المحيط. في الصفحة 251 وهو آخر سطر في الرواية: أمَ يشبعون من الدم؟ والمقصود: أما؟ ألَم؟ أما عنوان الرواية فهو من العامية العراقية. واللغة العربية من الثراء والجمال ما يكفي للإسعاف بعنوان بديل بذات المعنى إن لم يكن أوسع وأعمق.