يشير الكاتب إلى أزمة سياسية، ثقافية، اقتصادية، وروحية عامة تعيشها المجتمعات على تفاوت شدة هذه الازمة. ويرى إلى ضرورة وجود مشروع إنساني تتساوى فيه الحقوق، وتنخرط فيه الثقافات بفكرها وإبداعها، بغية الديمقراطية للجميع، واحترام الاختلاف.

التحولات المجتمعية في ظل البردايم الكوني الحالي

عبد الإله محرر

كونيا، تعيش الإنسانية أزمة عميقة على كل المستويات: السياسي، الثقافي، الاقتصادي، الاجتماعي والروحي لكن بدرجات متفاوتة بين المجتمعات، حسب قوة وإرادة كل مجتمع وحصانته الثقافية، ودرجة فهمه للأشياء، ومشاركته في بلورتها، حيث كل مجتمع سيجد مرتبته في النظام العالمي الجديد على أساس نفوذه ومشاركته النسبية في القرار، وفي صنع السياسات التي تحكم العالم، أو مساهمته على الأقل في ذلك.

هذه الأزمة تجسد مرحلة انتقالية بين نظامين، وترتكز أهدافها من جهة على تصفية مخلفات عالم استهلكت صلاحيته، وتفككت أركانه ومن جهة أخرى، التلقيح ضدها، وتثبيت أسس نظام عالمي جديد لم يستقر بعد على شكل نهائي، لكن ما يمكن استنتاجه من عدة معطيات منبثقة عن أحداث شهدها العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي، هو أنه امتداد لما قبل الحرب الباردة، وإعادة اعتماد المشاريع التي توقفت بفعلها، إنسانيا، حضاريا، ثقافيا، وجغرافيا بشكل ينسجم مع التحولات والمتغيرات ويسايرها.

وطبيعي أن تتسم كل مرحلة انتقالية بالفوضى على كل المستويات، وبالفراغ الثقافي والفكري والأخلاقي، وسيادة عقلية النزوات والترترة المبررة للجهل والبؤس، وغياب المهارة والإبداع، حتى على مستوى السلوك والفعل، أي انهيار مباديء اعتمدها العالم السابق تمهيدا لنظام جديد تتحول فيه القيم المعنوية إلى مادية والمصالح الجماعية إلى فردية، ويتطور فيه المنتوج العلمي، التكنولوجي، الاستهلاكي والادماني، حيث أصبحت كل المجتمعات في العالم تستهلك نفس المنتوج.

وهناك عدة طروحات تفوق في تحليلها الواقع، وبالتالي تجانب الحقيقة، علما أن التحليل يبتديء من الملاحظة الأولية المجردة، وإن أهملنا هذه الحلقة في التحليل نصطدم بالغموض واللبس. لكن هناك دائما حقيقة مطلقة يحاول الفرد تحويلها إلى حقيقة نسبية بدافع الأفكار المكتسبة والمتعلقة بالتربية وبالإيديولوجيات والاعتقادات الخرافية " أحيانا عجيبة " والأوهام المركبة، وتصبح فيما بعد طبيعة ثانية، الشيء الذي لا يمكن للفرد إدراكه بسهولة إلا إذا تحرر من التلفيف الفكري والرجوع الى نقطة الصفر، لأنه منذ الطفولة يتكيف و يتعولب ويصبح صنفا معينا من طراز مسجل.

لنرى كيف يتم الابتعاد عن الحقيقة بالتقييم الأكاديمي الإطار وبإهمال البديهي، وذلك عبر المثالين الآتيين:

المثال الأول:
"اتصل مدير أحد البنوك بخبير متخصص في فتح الأقفال والخزانات، وتحداه أن يفتح خزانته خلال ساعتين. ضحك المتخصص وأكد باستخفاف بأنه سيفتحها خلال خمس دقائق، وبدأ في محاولاته التي استغرقت أكثر من ساعتين، مستعملا كل الوسائل التقنية والعلمية، ولم يفلح. وبعد أن يئس، استند المدير على الخزانة وفتح الباب. المفاجئة! أن الباب لم يكن مغلقا في الأصل".

المثال الثاني:

"خلال محاضرة في أحد مراكز المدمنين على الخمر، استعمل الدكتور المحاضر حوضان زجاجيان، الأول فيه ماء، والثاني فيه خمر، ووضع دودة في الماء فسبحت، ثم وضعها بعد ذلك في كأس الخمر فتحللت وذابت، حينها نظر الدكتور إلى المدمنين بكل ثقة سائلا: هل وصلت الرسالة؟ فكان الجواب نعم ... "الذي في بطنه دود يجب أن يشرب الخمر ليعالج". هذا الدكتور نظر إلى التجربة من خلال بردايمه ولم يستطع الخروج منه إلى بردايم الخاص بالمدمنين".

البحث عن الحقيقة دون الخلط بين المرحلة الانتقالية والنظام العالمي الجديد يحيلنا على أن العولمة ليست بالأمر الواقع كما يعتقد البعض، بل هي حقيقة، والتاريخ يشهد بأنها مشروع إنساني منذ القدم حيث كان العالم يعني أقصى حدود تواجد الإنسان بالنسبة لكل ثقافة متقدمة وذات حضارة وقوة تمكنها من تمديد نفوذها إلى أقصى الحدود الممكنة. يقول سقراط: "لست آتيني بل أنا مواطن العالم". فيكتور هوكو: "الوطن هو العالم والجنسية هي الإنسانية". لكن هل يمكن لعالم موحد أن يكون قائما دون سلطة موحدة تدبره؟ لا بالطبع.

لذلك، فالعالم قد يكون أمام افتراض حكومة عالمية، هذا الطرح يقود إلى التفاعل مع الأسئلة الآتية:

كيف ستكون هذه الحكومة؟ وما هي شرعيتها؟ وهل ستنبثق عن الأمم؟ أم أنها ستخضع لمنطق الانقلابات والمؤامرات؟ وما هي أسس ومعايير السيادة الكونية؟ وهل ستنهار السيادات الوطنية للأمم أم أنها ستكون هي المكون للسيادة الكونية؟

ربما نجد بعض عناصر الأجوبة من خلال تحليل بعض المقولات لسياسيين كبار ومفكرين نظروا لهذه المرحلة:

دافيد روكفيلر: "إننا على مشارف تحولات كونية كبرى، وما نحتاجه سوى أزمة كونية شاملة حادة على كل المستويات تدفع بالأمم إلى قبول النظام العالمي الجديد".

يبدو أن الهدف هو جعل سكان الأرض يقتسمون هموم مشتركة ويتوحدون ضد عدو مشترك يهدد الإنسان حيثما وجد.

-كوفي عنان: "مكن لحكومة عالمية التدخل عسكريا في القضايا الداخلية لكل أمة ترفض وتعرقل نشاطاتها".

نفهم من هذه المقولة أن منطق سيادات الدول لم يعد قائما، ويشكل عائقا أمام خلق سيادة كونية تخضع لها جميع الأمم. وأن منطق القوة سيظل حاضرا.

- ستروب طالبو، سكرتير في إدارة بيل كلينتون سنة 1992: "في القرن المقبل ستحل الأمم كما نعرفها، وكل الدول ستعترف بسلطة مركزية كونية، أما السيادة الوطنية للأمم فلم تكن بالفكرة الجيدة ".

- ارنولد توينبي، مؤرخ وفيلسوف إنجليزي خلال خطاب ألقاه بكوبنهاكن سنة 1931: "نعمل الآن في خفاء، وبكل قوانا من أجل سحب تلك القوة العجيبة التي تسمى (السيادة) من منظومة اشتغال الدول".

هذه المقولات تبين طبيعة المخطط الرامي إلى الاستحواذ على المشروع الإنساني وتدفع إلى التخوف من أن يسقط هذا المشروع النبيل بين أيدي القوى والمؤسسات غير التمثيلية. هناك مقولات تحمل ضمنيا هذه التخوفات مادامت تركز على الشرعية بشكل أو بآخر، نذكر منها:

جاك دولور: "يجب على الأمم المتحدة أن تسير نحو حكومة عالمية".

فرانسوا ميتران: "يجب أن تخضع الدول لقوانين مشتركة".

اعتبر دولور أن الأمم المتحدة هي قاعدة الحكومة العالمية. وميتيران اعتمد القوانين المشتركة كمصدر للحكومة العالمية.

إذا اعتبرنا العولمة مشروع ثقافي إنساني، تفترض معنى الوطنية الإنسانية تتساوى فيها الحقوق وتعكس كل الثقافات المؤهلة بأن تكون إنسانية، فهذا طبعا، ما تطمح له الإنسانية. بهذا الوعي يتعين الانخراط في المشروع الإنساني الكوني بالفكر والإبداع، وتنمية الثقافة، وجعلها قادرة على مسايرة العالم، وبالنضال ضد الانزلاقات وتصحيحها من أجل تنمية الإنسانية انطلاقا من الفرد حيثما وجد، والحفاظ على قيمها وحضاراتها وحماية بيئتها.

كل هذا يؤسس على الديمقراطية، وضبط الحريات، واحترام الاختلاف والحق في المساواة، وكذلك الحق في اللا مساواة التي يبررها منطق التفوق والاجتهاد.

(mouharrir@hotmail.com)