جميل حتمل (1956-1994)، القاصّ والصحافي والناشط السوري الذي مرّت، قبل أيام، الذكرى العشرون لرحيله؛ عُرف ككاتب قصة قصيرة أوّلاً، وكمراسل ثقافي لـ«القدس العربي» وعدد من الصحف والدوريات العربية، وكمشارك دؤوب في الملتقيات والمؤتمرات الأدبية العربية، إلى جانب شخصيته اليسارية والديمقراطية ومواقفه المعارضة للنظام السوري.
ولعلّ إنصاف الراحل يبرر استعادة حكاية شخصية كنتُ طرفها الثاني، وهذه الصحيفة موضوعها. ففي باريس، أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، سألني حتمل عن إمكانية الكتابة للصفحات الثقافية في صحيفة عربية جديدة تصدر من لندن، وهو مراسلها المعتمد. «هي صحيفة تقدمية، وفلسطينية، وفقيرة لا تقارَن بغيرها من المطبوعات العربية التي تصدر في أوروبا، ولا توزّع في باريس لاعتبارات سياسية ومالية»، قال حتمل، قبل أن يضيف باستحياء: «ولهذا فإنها لا تدفع مكافآت لكتّابها». كان الاقتراح عرضاً «نضالياً»، على نحو ما، يحاكي الراتب الرمزي، «النضالي» بدوره، الذي كان حتمل يتقاضاه من «القدس العربي»؛ وبالتالي لم يكن في وسعي أن أكون أقلّ «نضالية»، فوافقت بلا تردد!
ما لا يُعرف، على نطاق واسع، في المقابل، هو ذلك المزيج من التعمق النقدي والجسارة الأخلاقية، الذي تميزت به تغطيات حتمل الثقافية، ومراجعاته المنتظمة لعشرات الإصدارات الجديدة. على سبيل المثال الأوّل، حين كتب عن «الروائيون»، رواية الأردني غالب هلسا، التقط خيطاً تحليلياً ثاقباً، كان أيضاً جسوراً في تلك الحقبة، صيف 1990: المفارقة في جميع روايات هلسا أنها لا تدور حول الموت، بأشكال شتى، فقط؛ بل تروي عن الروائي نفسه، هلسا، طبقاً لتفاصيل كثيرة في سيرته الشخصية. وحين اتُهم الشاعر المصري الراحل محمد عفيفي مطر بـ «التخابر» مع نظام صدّام حسين، رفض حتمل أن يكون مطر «كبش فداء» وحيداً بالنيابة عن لائحة طويلة، فاستعرض أسماءها دون حرج: أحمد عباس صالح، أمير اسكندر، أحمد عبد المعطي حجازي، جمال الغيطاني، يوسف القعيد.
وقبل رحيله، وأثناء نوبة مرض عنيفة أقعدته مشفى «كوشان» الباريسي طيلة عشرة أيام، تكسرت فيها نصال ونصال على الجسد الهزيل والروح ذات الشقوق الغائرة الفاغرة؛ كتب حتمل ثماني قصص قصيرة للغاية، أطلق عليها تسمية عامة: إنها مجموعة قصص المرض وقصص الجنون. وأمّا المرض فقد كان أوضح من أن تضيق عنه العبارة، وأما «الجنون» فقد كان ذروة ارتقاء حتمل إلى الإحساس بالحدث، وتحسّس الفعل، وحساسية القول. وهذا طراز خاصّ في الرقيّ الشعوري، يجمع أقصى الهشاشة العاطفية بأقصى الصلابة العقلية، ويقيم توازناً نادراً بين ضرورتين: الشجاعة والبكاء.
كان جميل يبكي وهو يستعرض مجريات اتفاق «غزة-أريحا أولاً»، وكان طازجاً آنذاك. نعم، كان يبكي! ويبكي حين يتذكّر، أو يتعمّد استذكار، الشاعر العراقي ابراهيم الزاير، الذي انتحر منفياً في بيروت مطلع السبعينيات؛ «ربما أيضاً لأنّ الشيوعية لم (لن!) تتحقق»، كما كتب في قصته الرقيقة المريرة «كلاش»! وكان يبكي لأنه ظلّ يبحث، مع المسرحي الإيطالي لويجي بيرانديللو، عن ستّ شخصيات ضائعة؛ ويبحث، ولكن مع قلبه هو هذه المرّة، عن المرأة التي يحبّ: أمام محطة المترو، في سيارة السائق السيريلانكي، أمام مقرّ عملها، في الضوء والظلام، وفي اليقظة والهلوسة.
كان يبكي في السرّ وفي العلن، في الرمز أو بغيره، وحين تلين المآقي أو حين تتصلّب وتجفّ. بكاء خارجي معلَن، وآخر داخلي مكتوم، وموضوعات البكاء وافرة كثيرة، وبؤرة البكاء واحدة موحّدة بكيمياء ما يعتمل في الداخل من صراعات وتنازعات. وكان ذلك البكاء، الفريد في مبناه ومعناه كما أجيز لنفسي القول، هو عنصر الاستذكار الأبرز الذي انتابني حين وقفت، مع نفر متواضع من أصدقاء حتمل، في الساحة الضيّقة الباهتة، أمام مشرحة مشفى كوشان الباريسي، لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على راحل سيسافر بعد قليل إلى وطنه سوريا… موسّداً في كفن.
هل كان البكاء إشارة حتمل، الأكثر اختزالاً وكثافة، لما تبقّى لنا من عدّة وزاد، في منافٍ لم نخترها ولم تخترنا، لا نحن نحبّها -كما أزعم، شخصياً- ولا هي تطيق وجودنا النشاز؟ أيكون السبب أنّ بكاء الواحد قد ينوب أحياناً عن المجموع، لأنه ينقلب إلى مستوى في الرثاء الجمعي ليس في وسع الجميع بلوغه، على نحو منتظم شامل؟
وإذا لم تكن هذه هي الحال، فما العلاقة بين العراقي ابراهيم الزاير والإيطالي لويجي بيرانديللو، في القاع الأعمق من تيه مواطن سوري يدعى جميل حتمل؟