يكتب الشاعر والتشكيلي العراقي قصيدته كأنه يشكل لوحة بصرية محاولا تلمس تلك الاستعارات التي تحيط بنا دون أن نراها، والتي تعطي للحياة تلك المفارقة في قدرتها على جعل حالة اللاطمأنينة قدرنا الإنساني وقلق الشاعر الدائم وهو يحاول التفكير باللغة.

ما تبقى مِن الجَوى

حكيم نديم الداوودي

(1) 
مرآة الصمت
أبهةٌ بلا جلجلة.. ريحٌ بلا أجنحة.. أعشابٌ إغتسلت بندى الصُبح.. خارج النافذة مطرٌ أهوج.. والحُبّ زنبقة تائةٌ.. عزيزتي أنىّ كنتِ فسكوتك الآن مجرد خدشٌ على مرآة الصمت.. نبضٌ يتنامى بين اليقضة والحلم الطائش.. خذ رباطة جأشك التي صيّرت المصادفة مثل عرجونٍ قديم.. تستهلك سمقها الآفلة.. مزنٌ قاحلٌ في ضميرزمن عاق.. وجهك الآيب من تلاوين الطفولة مسكون بقتر بلا ذاكرة.. لقامتك المزدانة بالعنفوان وطنٌ لا ينساها النسيان ولا يغشاها يباب مُتصحر.. هنا جنب سريري، وراء نافذتي تجلس ذكراك الآهلة بالصور الجميلة وبالعناقيد المثقلة بالثمر تحفزّني على دروس التذكّر، وتصفح كتاب أيامنا الغابرة.. ثمة صورحوالينا تحكي قصة حبنا تحت ظلال الزيزفون.. وأخرى صورة لشقاوة وحكايات طفولتنا.. وجوهٌ مَنْ أحببنا ومنْ أحبونا.. لحظاتٌ تمرّ عبر مرآة الصمت من براءةٍ وكبرياء.. كلها وطنٌ ساج في زمهرير اللامبالاة..العندليب الذي يسفح أفيون شدوه لم يزل يرسل للعِشق فرحه، له مسكنٌ بين غضون الشجر..   

لِمَ يغن، ولِمن؟

العشّاق غادروا حانات عشقهم،

تركو مجالس صورهم على صفحات الذكرى،

سؤال أدنى من الجهل

من منطق الجاهل

في دوائر المجهول..

كلّ شبّابة ترسل صداحها

إيذانا لقدوم موكب الربيع..

 كلّ أحدٍ يُعبّرعن مكنونه بطرائق شتى،

 أنا باللون والكلمات،

 وأنت بالغمز واللمز،

وهو بالصراخ

وأنتم بالتمرد والعِصيان على أقدار الكون،

والشاعر بالقصيدة،

والعندليب بالغناء.

لا تلوموه حين يهذي

ولا يستغرق نزيف هزاره لثوان ..

أنا كلِفٌ برنين الهزار،

ما أوسع صدر الشجر،

وما أشدّ دائرة صبرها..

أحياناً تكتظ بالصّمت وزمهرير الشتاء،

 وحيناً بالربيع يمنحها الورق والثمر والزهر..

 وهي وطن الهزار والعاصفة..

 فلنكُن في حوارنا اليومي مثل جمال الشجرة.

 

(2)
فرصة
فرصةٌ واحدةٌ ،

ـ لا......

 فرصتان ،

هما مصادفةٌ

تجيئان

        أو تختبئان ،

                     لا تبدوان

      هما مثل الساعة ،

                          لهما عقربان   

                                        تدوران ولا تتعبان  

فليكن فرصة ،         

بعضُ ما يتمناه جناني

وما يتلمظ  له لساني ..

فرصةٌ

        أو فرصان ..

                    غائبتان... خائبتان      

                     مع النسيم تُظهران ..

           أو تخبوان..

فرصة .. لا .. فرصتان ،

تقرفصان في الفضاء ،

 تنتظران..

وأنا أُسلقُ على نار الترقب ،

ما بين الغفلة والبحلقة

ترى أينً هما؟

 فطالَ لهما انتظاري

وفارت لهما شجوني

   ما الصُبح بصبحٍ

                  ولا المساءُ بمساءٍ 

يا ناظري فوق المدى!

كلّ شيء في المدى

تجريدٌ

واحتقانٌ

  بل غبارُ رمادٍ

              تذروه أسرابُ يأس ِمرير،

وأنا على مرّ السنوات ،

أجترّ أُمنيتي

وأطحنُ أملي

علّ واحداً  منهما يجثو يوماً

ولو مرة الى جواري....

 

(3)
هذا المكان
هذا المكان.. ذات المكان ،

 حيث توادعنا وغيّبنا قَدَر الزمان

شهدنا معاً عند الافتراق

   زمجرة النيزك،

        وصِدام الماء، والغسق،

            بشهقة العويل والبكاء..

                غسق كأيّ غسق يتوسد،

 يتوسد أفقاً مجهولاً

  والمسافة تختصرالألم ،    

    والنهر جارٍ الى المصيرالمُغيّب،

     أنت تزجر وتُعنّف،

 النيزك الساقط في فلواتك الباردة ..

كنّ نيزكاً ، وحسبك،

أنكَ لا البدء ولا النهاية

   في هذا الوجود المطلسم،

       أنت شيء اللاشيء..!

        أنا وأنت والحلم من شيم الأناسيّ

نعبرمن ضفة منسيّة

الى ضفة تزحم بالتضافر على الخير ،

 وهم يتكالبون على خدش بقايا المروءة..

  مَنْ أنتَ

 ومن أنا

ومن نكون؟

 شظية إرباك

 تطوف قبالة المستحيل ،

 في وسط وحل الزمن الساقط،

 نغرق بين الطمي،

 ويحملنا الموج

 من دهر لدهر،

 نسبك سوار الزمن،

 وها ترانا مذ خلقنا

نشتبك ليل نهار،

مع القَدرِ

والمستحيل..

 

شاعر وفنان تشكيلي عراقي