هنا شهادة عن الشعر، كفعل إبداع وتحقق. يتأمل الشاعر في لحظة الدفق الشعري، كما في انحباسه، وعلاقته مع المعيارية النمطية الشعرية، وصلته وتواصله بالأجيال والسياقات التاريخية الشعرية المختلفة، والدوافع الخفية التي تقربه من خيار قول الشعر لا السرد.

في فك خيوط اللعبة وفي الخوف كذلك

مؤمن سمير

أكتب العالمَ لأكتبني":
علاقتي بالشعر هي أكثر العلاقات في حياتي تشابكاً وتعقيداً. علاقة تحتمل المحبة والشك المضني وإغماض العين بأمان والتصارع والقتل أيضاً. هذا الكائن الماكر يطوع جسده المرن حَسَبك أنت. جاءني في أهابِ شحاذٍ بعينين لامعتين وعلى ظهره مخلاةً وقال لأنك وحيد وتفشل حتى في الحديث مع ذاتك افتح لي عيونك. ولأني خائب أصيل لم أفتح عيوني فقط بل مسامي كلها ورعشتي وقوتي وضعفي فامتلكني للنهاية. وهكذا صارت كينونتي أن أعيد صياغة وترتيب كل ما تلتقطه حواسي من كمالٍ مغرور مكتفٍ، باقتناص النقص والفوضى الوحشية الحميمة التي كانت تتوق للانطلاق والتحليق والتى هي النظام الأول والحقيقي، ثم أبث حديثاً مليئاً بالضحكِ والسم لنصبح أنا والموت أصدقاء فعلاً ومرة ثالثة أندهش بصدق الرعشة بعد مس قلب الأشياء المخفي المتواري عن ذاته ويقينه. مراتٍ يريني الشعر أن الانفصال وهم فأصدق وأجمع بين الأجزاء والأطراف والأضداد بسلاسة لا أنتبه لدبيب حوافها إلا وأنا أقرأ مجازي الذي يحتمل عدة معانٍ ويرمي بشباكه في عدة بحور. أرتعب منه للحظات لكن حالتي وأنا معه، بالفعل تكون هكذا، صادقٌ يا أخي والوجود الذي يكشف عن سره القديم كل حينٍ، صادقٌ أيضاً!، والآن وبعد كل هذه السنوات تُطل الحالة من شُبَّاك روحي وهي تحمل شكلها ولغتها وسؤالها وأزمتها، فأجدني مرةً في نصٍ صافٍ وشاعريته تستبين من خلال طاقته السردية الهادئة التي تعمل تحت السطح. وفي مرة ثانية تكون اللغة مُحمَّلة وساخنة وتشد المتلقي معها بعنف الهستريا. في حالةٍ أطل من ثقبٍ  ضيق فأجد الكلمات تتقاطر وفي أخرى تتسع الحدقة فأغرق في لهاثٍ واتساعٍ وبحرٍ باطنهُ غامضٌ ونَهِم. الخلاصة أني قديماً كنت أنتمي لمدخلٍ وحيدٍ، وحتى لو تغير كل فترة فهو آمن وحاني أما الآن فلا أنتمي لأي قيمة نهائية وأخاف من كل حاني. أجرب وأشك وأسألني وأرتبك، أين أجد هذا الشعر ومن أين يخرج وكيف ولماذا، طول الوقت أذوق ملحه وأرتعد إذا وصَلَت نظرتي لنشوته الضالة وهي تبتعد في الشمس اللاهبة أو في القبو، هو معي أو بالأحرى أنا الذي ألهث وراءه كظلٍ لا يعتذر عن الخيانة أبداً. في الأعمال السابقة كنت تحت وطأة الوجود وثقله الممض، اليوم أنا ألعب مع الأزمات بلا يقين الوثني الذي يتعبد في الهواء الطلق، العاري من أي عظام ولا جلد. قديماً كنت خائفاً والآن أنا أكثر خوفاً ولكني أكثر اتساعاً وأكثر حسية مع البشر والأشياء والذكريات والكوابيس. أكتبني أم أكتب العالم؟ بل أكتب العالم لأكتبني.

وبالنسبة للشعراء فأنا أتابع كل النماذج المصرية من كل الأجيال وكذا تجارب البلاد العربية وألمس خصوصية كل تجربة ونجاحاتها وإخفاقاتها وأحببت كثيراً ريتسوس ورامبو وبودلير وفيليب لاركن وجاك بريفير وجويس منصور وأورهان والي وإميلي ديكنسون وفروخ فرخ زاده وكفافيس وتشارلز سيميك ونيكانوربارا وهنري ميشو وأونجاريتي، لكني كل فترة أعودُ وأقضي أوقاتاً أكبر وأكثر قسوة مع فرناندوا بيسوا. أعتبر نفسي من أبناء جيل التسعينات الذي يتبقى له أنه استطاع أن يتخلص من قداسات كثيرة حتى وإن وقع في نفس الفخ وقدس بعض أفراده وصفته الجاهزة لقصيدة التفاصيل أو ردد أمام مرآته أكليشيهاته وشعاراته التي تمزقت حوافها: نفي الأيديولجيا وكتابة الجسد الخ. مَنْ أفلت من فخ النمط نجا وأكمل السكة ومَنْ شرب من نفس البحر كان له نفس المذاق. مَنْ اتسعَ وارتحلَ كان ومن لم يخن لم يكن. قديماً انقطَعَت عني الكتابة فترة وعندما عادت إليَّ كتبتُ ثلاثة نصوص الأول قصة والثاني قصيدة بسيطة بلا مجازات ظاهرة والثالث قصيدة لغتها فخمة ومليئة بالفخاخ وقتها انتبهت لوضعٍ كنت أظنه بديهياً إلا أنني لم أعاينه من قبل: وضعت الثلاثة بجوار بعضهم وأخذت أقارن وأشم وأحس. كانت الفروقات بين المكتوب تشي بالاختلاف في التوجه والانتماء. بعدها هززت رأسي وفتحت بصيرتي وتذكرت كذلك المقالات والمسرحيات. كلهم منظورات مختلفة وزوايا رؤية وأسئلة تصاغ. مَنْ يختار الشكل واللغة والصياغة؟ النص نفسه وإن كان عبري أنا.

مرةً سألت فتحي عبد الله عن عدم كتابتي للرواية وعدم تفكيري في الأمر وعدم المحاولة قال أنت شخص باطني يعني تكوينك يجبرك على التعامل مع الناس بشكل غير مباشر، بالإيحاء والرموز والفن، بمعنى أنك شاعر طول الوقت، في كل ما تفعل ولهذا تمرض أمراضاً غامضة. غيرك استطاع أن يبوح ويتخلى عن لعبة التكثيف، لأنه حاول وجرب وأراد لكنك لن تحاول أبداً وستهرب قلت له ليكن. بالنسبة للمستقبل أتمنى أن تُنشر كتبي المخطوطة لأتخلص منها وأصير بلا ذاكرة –هذا إذا لم تعجز أعصابي عن تحمل اللعبة أو تجبرني أظافر الوجود على النظر من بعيد– وساعتها سيكون الفضول مريعاً لأعرف ماذا ستكون أبعاد وقواعد اللعب الجديدة مع هذا الملتاث المسمى بالشعر.

"فأسٌ وحُفراتٍ في اللحم":

- تمنى أمنية تريدها بصدقٍ حقاً يا مؤمن.

- أن ينعس منذ اليوم بعيداً عن حِجْري .. أنا صرتُ أخاف منه يا عم.

- أنت لا تريد .. أنت كاذب يا مؤمن.

- إذن سأركل الهواء وأنام باكياً.

مشكلة الشعر معي، وقد عرفته وعرفني مبكراً جداً: طفل وحيد أخرس في الصحراء يكتب ويكتب لينطلق لسانه المقيد، أنه أخذني للضفاف القصوى ونسى أن يرجع بي، إذا أحببت فتاة أراها تطير وألمس ملائكيتها اللزجة وأخاف وأعدو بعيداً. وإذا خِفْتُ من ظِلِّ أبي وهو يكبر ويكبر كلما اقترب مني يظل هو الوحش طول العمر ولا أجرؤ حتى على لمس جثمانه وسط المشيعين كيلا تبتلعني القهقهات المرعبة. صَبَغَ الشِعر الفتى الوحيد المسكين بخيال تماهى مع الواقع وصارا يتبادلان المواقع حتى انفرطت الحدود وتفتت الفتى في القلب المرتعش. تهتُ في المسافة بين المجاز والحكي واللغة وحمولاتها. لم تنضبط الدقات فصارت حياتي بمعنى حقيقي وتام، شعرية طول الوقت، وأصبح الجهاز العصبي شحاذاً بائساً مرتعشاً على الباب كل صباح. وحتى لو غاب شكل النص عن المشهد يعني لا كتابة، فأنا للأبد أضبط الجملة تلك أو أقلل حساسية لغة ذاك النص أو أرفع السخونة في مناطق كانت متوارية في تلك الكتابة الخ الخ. أكتب نصاً متواصلاً أثناء المشي والنوم والعمل والجنس. لم أعد أثق أن المرأة الغامضة التي تُساكنني وتمضي طول المساء بخفتها الغامضة ونظراتها الوحشية وهالاتها الملعونة ومخالبها هي أمي. وإذا اخترت بينها وبين التي تصلي طول الوقت لا أتردد في اختيار (الشعرية) لأنها أكثر اكتنازاً. من هنا أمرض باستمرار وتكون نوبات ألمي أكثر حدة ونوبات كرهي لكل هذا الجحيم أعمق وأعمق.

طول الوقت ودائماً كان وضعي وكينونتي الحقة: أن أراقب بكل الاهتمام والتوتر كل خيوط اللعبة الدائرة بين الداخل والخارج: سُمْك كل خيطٍ وقدرته وأحزانه وطول عمره ومدى انطلاق خياله. وكنت لحد فترة قريبة أظن أنني لا أكتب إلا تحت تأثير تعقد الخارج الذي لا أفهمه وأرتبك إزاءه فأعيد صياغته بعد تجريحه وخدشه بشظايا مراياي المرتعشة. لكني أفقت على مؤامرةٍ ما. مؤامرتي الدائمة وقد أخذت شكلها. نصوصي صارت تكتب نفسها بطريقتها ورائحتها ولونها هي. ابتسمتُ في البداية كأي عجوزٍ طيب بالضرورة ثم اتسَعَت حدقتاي بعدها مباشرة. قلتُ اِهدأْ، مع الخبرة والمران أصبحت النصوص تعرف أجسادها المندسة في الغابة البعيدة فلا أُمسك القلم إلا لأدون ما هو محفورٌ فعلاً وجاهز، على صورة جمل شعرية تحت بعضها وأخرى مكتوبة بطريقة السطر الشعري العرضية. يعني يَصْنَعُ الخارج العالم في البدء –العالم لا يُخلق إلا حين أراهُ؟!!- ثم يُصاغ عبر الخبرة: الدربة ومسارات الداخل الغامض، إلى أن تصل الجريمة إلى هذه الهيئة وفي ذلك الأهاب (النص). في هذه الصورة البسيطة، الكلاسيكية بل والشعبية عن العلاقة بين أطراف عملية الكتابة، أين المشكلة وأين تكمن المؤامرة التي زادت علاقتي بالشعر هستيريَّةً وارتباكاً وكوابيس تسقطني بالشهور تحت وطأة كل تنانين وعفاريت الكون؟ الفخ والمشكلة هو شكي الدائم في وجودي ذاته وفيما أقبض عليه وما أُحِسُّهُ وبالتالي في أن تكون اللعبة طبيعية هكذا ومنطقية هكذا. يعني أوقن بعد كل قصيدة أن يكون (الداخل) الملتاث، الذي أنا بالفعل على مسافة مرعبة منه، أعاينها وأشم رائحة بارودها المحترق، وكل هذا بسببك أيها الشعر، أن يكون داخلي هو الصانع والخالق الوحيد بلا أي منازعٍ أو شريك. أي أن الخارج المسكين ما هو إلا طريدة ساقطة في فخي اللزج والموحش. الخارج قيمة متخلخلة وضعيفة وغامضة وعلاقتي بها أبعد من أن تكون مسبباً لأي نص وأساساً له. أنا وقد قبعت سنوات في صحراء حقيقية ثم في أخرى افتراضية على هيئة غرفة، لا خارج عندي. لا أختزن ولكني أبتكر: رباً وعبيداً وفلاحين وتماسيح وأسوار وغرباناً. ساعدتني الكتب وريشة الرسامين. صنعت أباً وأماً واخترت لهم الكراهية لأنها أكثر درامية، وغابات وحيوانات وحروباً. ليسوا هم في الحقيقة وليسوا صوراً معكوسة ولا بالتضاد منهم، إنهم صوري ومستنسخاتي، من الشخص القابع في غرفة بعيدة يحقن الهواء بالسم. وهذا الظن/ اليقين الدائم عندي يرعبني ويحزنني ويزيد حياتي تعقيداً. أنا مجرمٌ كامل ويَفِحُّ بالزَبَدِ مثل أي أفعى. خلعني الشعر من كينونتي وصاغني وحشاً. الوحش يكمن في إضفاء الصدق على كل هذه الأوهام والموجودات والصور والكتابة، صدقي أنا وأمراضي أنا. وحشٌ حقاً لكن إحساس الذنب بعد عَبِّ الدماء والشهيق هو فخي ومقبرتي ومرايا انتقام الآلهة. طول الأيام ومن كل النوافذ وفي التنفس.

نشرتُ 11 ديواناً وأنقذت من حرائقي عدة مخطوطات جاهزة. لا قداسة ولا رفض عندي للعبة أو تقنية أو طريقة في الكتابة. كل ما هو لصالح بناء الجملة ثم النص ككل أشفطه شفطاً بكل دمي وكل ما هو ضدها أكشطه بفأسي المسنونة الحادة منذ الأزل، واسألوا ذراعي البعيدة هناك، ومثلما اهتديتُ لقصيدة النثر بعد كتابة في أراضٍ أخرى لم أشوفها تنتمي لي ولا تشبهني، وأمتص من ساعتها كل إمكانيات اتساع هذه القصيدة في تجاربي وألعابي التي هي هذا الحريق المسمى بالكتابة، أتمنى أن تكون علاقتي بالشعر أقل حروباً وقتلاً وأشلاءً وضحايا وأن يبوح لي بمداخله المتغيرة كل يوم بدون أن يذلني أو يمزق لحمي بالسوط، لا أقول له لا تكن عصياً ومستحيلاً وبعيداً كما هو سره ونقطته التي نزل بها من أعلى الجبل، ولكن فقط كن أكثر إنسانية مع صاحبك المقتول،. فقط حتى أنجو من كل قصيدة وأعود لنفسي بعين ترى وأذن تسمع ومخالب لا تمزق عميقاً.