رسالة هولندا

يا له من عالم رائع: إطلالة علي مهرجان الفيلم العربي السابع في روتردام

صلاح هاشم

لسينما العربية في روتردام "صورة " تشبهنا؟
 إن ما يمنح مهرجان الفيلم العربي في روتردام أهميته، محاولته التواصل مع الجمهور الهولندي والمهاجرين العرب في روتردام، من خلال تقديم ابرز انتاجات السينما العربية، وهو يتيح بذلك فرصة التعرف علي هذه الأعمال، والنقاش حول هموم وتناقضات وأزمات وحروب عالمنا العربي المعاصر، وعلاقته بالسياسات القائمة، مثل العولمة وهيمنة الروح الاستهلاكية التجارية، ومكاننا في الصراع أو الصدام الحضاري الدائر المعلن جهارا بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب. ولذلك اعتبر ان المهرجان هو "منبر سينمائي" في المحل الاول، ولايجب استغلاله او توظيفه للدفاع عن خط سياسي معين في العراق او فلسطين، فلن تتحرر فلسطين والعراق بالسينما، حيث أن مهمة السينما بالدرجة الأولي، خارج نطاق الأفلام الكفاحية التي كانت تنتج في فترة ما، لتكون وجهة نظر سينمائية لهذه المنظمة مثل منظمة التحرير، او لتلك الجبهة مثل الجبهة الديمقراطية في فلسطين الخ، وسينمائيا لم يخرج من هذه الافلام أي شييء. مهمة السينما هي الوقوف في وجه الظلم، و التعرف علي الحقيقة: حقيقة مايجري في مكان ما من خلال تعدد الزوايا ووجهات النظر، والإمعان في احد وجوه هذه الحقيقة بنظر ثاقب. مهمتها بالدرجة الاولي هي اختراع تلك النظرة، اي تطوير فن السينما ذاته من داخله، بابتكارات واختراعات كل فنان، لأن السينما هي في فن الابتكار والاختراع والدهشة والاكتشاف، وليست مهمة السينما ان تطرح موضوعا وتصوره. لكنها في النقش علي الموضوع، كما النقش علي الحجر، او الحفر او الرسم فوق طبق زهور صيني.
ومايهمني في السينما سواء طرحت موضوع العنف او الحب في حياتنا، هو الطريقة التي يشتغل بها المخرج علي الموضوع في ورشة الفن السينمائي.وفي كل مرة لاحظت ان مهرجان روتردام يتقدم، وبخاصة علي مستوي اختياراته السينمائية المحكمة، ودلالاتها ومغزاها وفحواها، وقد كانت الدورة السابعة للمهرجان اكثر احكاما من ناحية الإدارة والتنظيم، وخلق "مناخات حميميية" حقيقية للتحاور والنقاش والجدل، كما ان وجبة الافلام الدسمة التي قدمتها لنا علي طبق المهرجان، جعلتنا نلهث وراء الافلام من قاعة الي قاعة، ونقطع الوقت القليل المتبقي، وحتي الثالثة صباحا احيانا، بالابتهاج بالحياة، وحب الحياة، والعب منها علي طريقتنا. 

ملصق الدورة السابعة ل " مهرجان الفيلم العربي " في روتردام


فجأة انتهي مهرجان الفيلم العربي السابع في روتردام الذي اقيم في الفترة من 13 الي 17 يونيو 2007 انتهي كما نقول في مصر ب "صنعة لطافة وحلاوة" اي انتهي بسرعة استغرقتنا، اذ انشغلنا بمشاهدة أفلام المهرجان، ثم مناقشتها وحتي الثالثة صباحا في دوائر المكان الفسيح: امام قاعة السينما علي الرصيف في روتردام، ونحن ندخن اللفائف، وفي صحبة حشد من الاصدقاء من شعراء وكتاب وممثلين وفنانين، وعلي موائد الطعام التي اصطفت خارج المطعم اليوناني، حيث تختلط الندءات بالاحاديث الهامسة، والضحكات المجلجلة بالحوار النافع المفيد، والنقاش في السينما الفن والالتفاف حول، والاتفاق علي تنفيذ مشروعات سينمائية جديدة، مشروعات تقربنا بذلك الفن من انسانيتنا، بعدما اتاحت لنا افلام المهرجان فرصا عديدة للتنقل والسفر، و من دون مغادرة المكان، للذهاب الي مصر وتونس والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها.. 


ناصر 56 فيلم تسجيلي؟
وتوهجت أعمال المهرجان السينمائية مثل الألعاب النارية، لتحكي لنا قصة الارض، بألوان قوس قزح، اشي ازرق واشي احمر، واشي بنفسجي واصفر مزركش بالذهب والدانتيلا لتطلع منه سينما قطيفة ومن حرير، لكي نجول مع غجر العراق وسعد اليتيم في حقول الرب، ونتواصل مع كل نصلة عشب، تحت المطر، فاذا بالمهرجان المتواضع الصغير ومن دون حفلات وبهرجة يصبح في التو طقوس محبة: بهجة اللقاء مع الاحباب، ونشوة لاتعادلها الانشوة الرحيق، وعبق ذلك المسحوق السينمائي الماسي: "جوهر" الحديث عن السينما مع "باسم" المصورالذي لايكترث كثيرا مثلنا بأن يركز، و "باز" المخرج الذي يريد أن ينتهي من فيلمه الروائي الاول الجديد، ويكاد من مجهود التفكير في الفيلم، وحك الرأس الكبير، يكاد ينزف دما، و "زيزو" الناقد الذي يتذكر بكل الحب الايام التي عملنا فيها سويا في دار الصحافة العربية في لندن، وقتيبة الذي يبحث عنك ليهديك كتابه، وقبلهم جميعا الاستاذ الكاتب الفنان الاديب السيناريست محفوظ عبد الرحمن، صاحب مسلسلسلات وافلام "أم كلثوم" و"ناصر 56" فهو حكواتي انساني وابن بلد، ووطني أصيل من طراز نادر، وقد حكي لنا في روتردام علي جنب حكاية فيلمه ناصر 56 الذي عرضه المسئولون في التلفزيون المصري علي انه فيلم تسجيلي، ومازالوا وحتي هذا الوقت يعاتبون محفوظ علي انه "استكردهم" بفطنته وذكائه، وضحك عليهم وتحايل حتي عرض الفيلم، وفي اليوم التالي قامت الدنيا ولم تقعد، عندما اكتشفوا انه فيلم روائي، ويكفي بعد لقاء محفوظ عبد الرحمن،الذي وجد ابو الليل رئيس المهرجان انه وحد العرب، أكثر من البطل الأسطوري صلاح الدين، اما أنا فاعتبر محفوظ عبد الرحمن (المغرم بأكل البلح) بتواضعه وادبه الجم نموذجا يحتذي و"ثروة قومية" في مصر وبلاد العرب ثروة من جمال الفن في مواجهة قبح مسلسلات الترويج في كل لحظة للهراء العام، ولذلك يختفي الناس في شوارع تونس والمغرب ومصر عندما يعرض في التلفزيون عملا من اعماله.
يكفي أن المهرجان اتاح لنا مشاهدة مجموعة افلام عربية روائية وتسجيلية متميزة سنعرض لها ولفنها وانجازاتها، من ضمنها "الفيلم الاخير" لنوري بوزيد الذي نعتبره فتحا سينمائيا جديدا للسينما التي يصنع، من زاوية قضية "الهوية" التي يناقشها الفيلم، في حين يتطرق الي ويعالج موضوع الارهاب، وفيلم "قص ولزق" للمصرية هالة خليل، الذي يحكي عن شظف العيش وغربتنا جميعا في مكان اسمه الوطن، ويدعو بدلا من الثرثرات العقيمة عن الزواج والحب، أن نجرب ان نحب أولا، وبما في ذلك من معاشرة الجسد للجسد، وكفانا حكي فاضي، فدعونا نقطف ثمار جنتنا هنا، في نفس هذا المكان، او اي مكان آخر فوق السطح او تحت بير السلم من منظور فلسفة الزن، التي تفلسف وجودنا الحي، وعلي الرغم من تحفظاتي تجاه الفيلمين المذكورين اري انهما مع فيلم "فلافل" لمشيل كمون ـ الذي اعتبره "جوهرة" علي مستوي شريط الصوت وحده في الفيلم، ومن دون الحديث عن العناصر الاخري الفنية ..  

ياله من عالم رائع: أهم "انجاز" سينمائي في المهرجان؟
اري انهما قدما وجبة سينمائية روائية دسمة جدا، في حين كرس فوزي بن سعيد فيلمه "ياله من عالم رائع"، الذي اظن انه اهم انجاز سينمائي في المهرجان ـ ولو كانت لجنة التحكيم منصفة حقا للسينما الفن، وليس لبضاعة الافلام وموضوعاتها، لكانت منحته جائزتها الكبري التي يستحقها عن جدارة ـ كرس لسؤال السينما، والنوع، والعولمة، من خلال قصة حب، حين راح يحكي عن التفكير في سينما المستقبل علي أي شكل سوف تكون، ويطرح تساؤلات مهمة في فيلمه للتعديل في مسار ثقافة المشاهدة، فلماذا يكون الفيلم في كل مرة عن قصة لها وسط وبداية ونهاية؟ ولماذا لايكون بدلا من الحكاية القديمة، والدوران في حلقة مفرغة، طريقة لسرد حكاية جديدة هي الحكاية الاصلية التي تتفرع منها كل الحكايات، لكي تكون مدخلا للتأمل في موضوع السينما ذاته؟
فيلم "ياله من عالم رائع" فيلم سابق لعصره، حيث مازلنا نهتم بالقضية وموضوع الفيلم، اكثر من اهتمامنا بالطريقة التي تطرح بها السينما نفسها في الفيلم لتكون، او لتطمح الى ان تكون: طريقة تفكير جديدة في التشكيل والكادر والموسيقي والايقاع والتون واللون والحركة، اي عجن وخبز الفيلم كما رغيف الخبز البلدي الساخن الطازج، الذي يذوب مثل الزبدة في الفم حلاوة، ويجعلما نتذوق ذلك البنيان التشكيلي السينمائي الموسيقي الاشبه مايكون بباليه للحركة ـ اصل السينما هو ان تخلق من الحركة باليه مثل الطرق علي الأوتار وتجعل منه قطعة موسيقية، وهناك باليهات في الفيلم ـان صح التعبير ـ تقربه من عدة انواع بقذفة حجر، فالفيلم يحيل من حيث "مرجعيته" الي النوع البوليسي، ويخلق نوعا من التوتر والترقب كما في افلام هيتشكوك، ومن اجمل مشاهد الفيلم المشهد الذي يحتال فيه البطل علي الهروب فيتنكر في ثوب امرأة ويعبر حاجز الشرطة، كما يحيل الي النوع الموسيقي وافلام جيمس بوند، والأفلام الفكاهية الساخرة للممثل البريطاني العبقري بيتر سيلرز "بنك بانثر" الفهد القرمزي ويمثل فيها دور المفتش كلوزو في شرطة باريس. كما يكرس لنوع أفلام الجريمة والعنف الدموية كما في فيلم "بوني وكلايد" للأمريكي آرثر بن، التي تحكي عن مصائر الخارجين علي القانون والمهمشين وعلاقتهم بالسلطة بل ان فيلم "ياله من عالم رائع" ينتهي بمشهد رائع يذكرنا بفيلم بوني وكلايد تحديدا، وواجب النقاد ـ لأن السينما تتقدم في العالم وربما باتجاه الفيلم الصامت الذي يحكي بالصورة فقط ومن دون كلام ـ واجبهم ان يفتحوا من خلال كتاباتهم السينمائية لجبهات او طرق او زوايا جديدة لمشاهدة الفيلم وطرق تذوقه والاستمتاع به من خلال مناهج جديدة في "القراءة" السينمائية، بدلا من الحديث العقيم في كل مرة عن قصة وموضوع الفيلم.
ولذلك اعتبر ونحن لانري دوما "نفس" الفيلم، اعتبر فيلم "ياله من عالم رائع" انجازا سينمائيا عربيا حقيقيا، علي مستوي المنحي الجديد الذي ينتهجه علي سكة السينما الصامتة، والتجريب في النوع ليحفر للسينما الحقيقية التي لاتحكي الا بالصورة فقط، وتنزع الي الاختصار والتجريد والاقتصاد، لكي تقترب كثيرا من الشعر سكة، و ورزقها عند ربنا، سواء فهم الجمهور قصدها الآن، ام اكتشفه بعد قراءة جديدة للفيلم في المستقبل. كما أنه من جانب آخر ينحاز الفيلم بقوة الي عالم الهامشيين المعذبين سكان العشوائيات، ومن ضمنهم قاتل محترف، وقد انجز علي مستوي التمثيل فقط الكثير عبر لوحات فنية سينمائية أخاذة مبهرة، حولت الفيلم في بعض اجزائه الي "مبارة" في التمثيل، تألقت فيها بطلة الفيلم، كما تألق فيها مخرج الفيلم فوزي بن سعيدي ذاته في دور القاتل المأجور، و ذكرتنا تلك المباراة بأنه ايضا ممثل قدير، وأحالنا الي دوره وشموخه كممثل ايضا في فيلم "مكتوب" لنبيل عيوش، وكانت بطلة "ياله من عالم رائع" نزهة راحل تستحق بسبب تلك المبارة التي شمخت فيها ايضا بتمثيلها ان تمنح جائزة احسن ممثلة.
كما كانت مفاجأة المهرجان علي مستوي الاكتشاف فيلم سويسري "ظلال الليل" للمخرج الجزائري الذي يعيش في سويسرا ناصر بختي، يعرض فيه لقضايا الغربة والمهاجرين من عدة وجهات نظر، تتيح للمتفرج فرصة التعرف علي القضية من كافة جوانبها وابعادها بالسينما، وليس بالكلام الاجوف العقيم والخطب، وهو من افضل الافلام التي عرضها المهرجان ومبروك لناصر وتحية له من القلب علي فيلمه الاول الروائي الجميل.
اننا لا ننحاز الي مهرجان روتردام، الا من منظور الأفلام التي تعرض، و "السينما" التي توجد فيها، وحرصنا علي مهرجان الفيلم العربي في روتردام، هو حرصنا علي اي طاقة نور، طاقة يمكن ان ينبثق منها اي نور، ليضييء لنا ولو قليلا جدا، نفق حياتنا العربية المظلم، فيجعلنا نتعرف علي انفسنا وذواتنا في مرآة الآخر والسينما، و نمد يدا الي الجار، ولو كانت الحوريات قادرات كما في الأحلام علي الخروج من شاشات الأفلام الي قاعات السينما، لكنا يقينا سكنا الصالات.