عندما كان أستاذ العربية يتحدث لنا عن العصر الجاهلي، وهو يعدد الحروب بين القبائل، كنا نتعجب حين يقول لنا إن الحرب بين بكر وتغلب وعبس وذبيان استمرت أربعين سنة؟ فنتساءل كيف يمكن لحرب أن تتواصل كل هذا التاريخ؟ وحين نتأمل الحروب الأوروبية، وكيف أن بعضها استمر مئة عام، لا يمكننا سوى أن نتساءل من جديد عن جاذبية الحرب في التاريخ وأهميتها في صيرورته؟ وكيف يمكن للإنسان، أن يقتل الآخر، ويبيده من أجل أن يعيش؟ فأرى أن شريعة القتل التي استنها قابيل كانت أول مهنة مارسها الإنسان. ولم يتطور التاريخ إلا في اتجاه تطوير وسائل القتل.
أستعيد الآن الحروب القبلية التي كانت سائدة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وأنا أتأمل ما يجري في الوطن العربي في عصر العولمة والرقميات، فأجد الذهنية القبلية ما تزال هي المتحكمة رغم كون الإسلام جاء لمحاربتها لفائدة الأمة التي لا تفاضل بين مكوناتها إلا بالتقوى. فأرى أن التاريخ يعود القهقرى عدة قرون، ليجعلنا أمام دول لا يتحقق فيها من مفهوم الدولة بمعناه الحديث إلا ما يتجسد من خلال حدود مصطنعة وراية ونشيد «وطني»؟ أي أن الدولة لا تبدو إلا على السطح. أما العمق فهو قبلي وعشائري، حيث مفهوم «القرابة»، لا مفهوم «المواطنة» هو ما يحدد العلاقات بين الناس.
لقد تأسست الدول العربية الحديثة على أساس قبلي لشروط خاصة، عمل الاستعمار على استثمارها وتغذيتها، لكن الدولة ـ القبيلة بدل أن تتطور نحو الدولة الوطن التي تتسع للجميع، نجدها تكرس التمايز داخل المجتمع. وحتى عندما قامت دول عربية أخرى عن طريق الانقلاب الذي يقوده حزب «وطني»، لتكون بديلا عن الدولة القبيلة، نجد الحزب يتصرف بالذهنية نفسها، فإذا هو قبيلة «عصرية»؛ ولم يكن زعيم الحزب ـ الدولة، سوى «شيخ» قبيلة جديدة.
أن نسمع في الألفية الثالثة في الوطن العربي، ورحى الحرب دائرة في بعض أقطاره،عن العشائر والقبائل والطوائف، وعن الجيش «النظامي» فليس لذلك من معنى سوى أن الدولة ـ الوطن لم تتأسس على أرضية ما بعد قبلية، وأن مفهوم «الدولة الوطنية» لم يكن سوى إيديولوجية للاستهلاك. لذلك لا نجد فرقًا بين الحروب القبلية العربية القديمة، وحروب الطوائف في الأندلس، وما فيها من تحالفات مع الأجانب، وبين الحروب المستعرة حاليا في بعض الأقطار العربية، وقد صار كل منها، يجسد الصورة العامة التي كانت للعرب مجتمعين في التاريخ.
ما الذي يجعل التاريخ العربي الحديث يستعيد تاريخ ما قبل الإسلام، وتاريخ ملوك الطوائف، رغم كون هذه الحروب، تتخذ في بعض مظاهرها طابعا «إسلاميا»؟
لا يمكن للتاريخ العام أن يجيب عن هذا السؤال ما لم يضطلع التاريخ الثقافي برصد الحقب الكبرى للتطور الثقافي للذهنية العربية في أبعادها الاجتماعية والأنثروبولوجية، وليس السياسية فقط، التي تختزله في الملل والنحل. تتداخل في تاريخ تشكل الذهنية العربية ـ الإسلامية وتطورها عوامل متعددة، اجتماعية وثقافية، داخلية وخارجية، أصيلة وطارئة، ثابتة ومتغيرة. إنها نسق معقد ومنفتح.
ولا يمكن اختزال هذا النسق في التحليلات الجزئية والاختزالية، وإن كانت لها ضرورتها، إذا تمت في نطاق الرؤية الشمولية لتشكل تلك الذهنية وتطورها. لذلك لا بد من تضافر مجهودات اختصاصات متعددة، في التاريخ والإنسانيات والثقافة والأدب والاقتصاد والسياسة، للوقوف على مختلف البنيات، وهي تتشكل وتنمو وتهيمن أو تتلاشى، أو تعاود الظهور، أو تختفي نهائيا .. مع النظر في مختلف العلاقات التي تربط بين مختلف تلك البنيات، سواء على المستوى الأفقي أو العمودي.
لم يسلم التاريخ الأوروبي من الحروب. فمهنة القتل متأصلة، وهي تمثل جزءا أساسيا من التاريخ البشري، بل إن كل التطويرات العلمية والمعرفية لم تتحقق في أوروبا إلا بسبب تلك الحروب التي ما زالت إلى الآن، وستظل هي المحفز الأكبر لأهم الإنجازات التكنولوجية التي يخترعها الإنسان. ويكفي التذكير بالحربين العالميتين في القرن الماضي للتدليل على ذلك. لكن ما يقابل تلك الاختراعات «الحربية» هو الدراسات العلمية حول التاريخ والإنسان.
لقد تشكلت الدول الحديثة في أوروبا على خلفية حروب لا حصر لها داخليا وخارجيا. لكن السيف أو البندقية كان يشحذهما معا، التفكير الفلسفي والبحث المعرفي. فكانت توازي سلطة «الحرب» سلطة «المعرفة». وكانت العلاقة بينهما سجالا، حيث يتبادلان الأدوار جدليا، فيطور كل منهما الآخر. وقفت على مثل هذه العلاقة في دراستي للسيرة الشعبية، التي رأيتها تقوم على ثنائية «الفارس» (الشجاعة)، والعيار (المعرفة)، وكان الراوي ينتصر للعيار ضد الفارس، حين يقع بينهما خصام. ألم يميز المتنبي بين «الرأي» و«الشجاعة»، ورأى أنه الأول وهي في المحل الثاني؟
الحروب القبلية تتأسس على «الشجاعة» لا «المعرفة»، على الانفعال الذي يؤدي إلى استدامتها قصد الاستئصال، لا الفعل المعرفي الذي يؤسس لحياة جديدة. ما هو أفق هذه الحروب العربية الحديثة التي لا تكرس سوى كراهية الآخر؟ إنه سؤال التاريخ الثقافي الذي يبحث علاقة الموت بالحياة.