هو سيد وسائل الإسكات على الاطلاق، إسكات صوت الخصوم كل الخصوم، الخصوم المعارضين والخصوم المعاندين والخصوم المنافسين والخصوم المخالفين والخصوم (الآخرين). إسكات صوتهم إلى الأبد، نعم هو القتل .. سيد وسائل الاخفاء أيضا، إخفاء صور الشخوص وكينونتهم وهيئتهم وأسمائهم من على وجه الارض ثم دفنهم في الاعماق، وفى ثقافات مغايرة حرقهم ونثر رمادهم حتى نضمن تلاشى أى أثر لهم. وبعد أن نطمئن إلى اسكاتهم واخفائهم نتنفس الصعداء فلم يعد صوت لهم ولا صورة بعد اليوم، ونتفرغ نحن للاستمتاع بما قتلناهم من أجله، وهو لا يخرج عن جاه أو سلطان أو مال أو امرأه وأحيانا لا شيء من ذلك كله فقط لننعم بعدم وجودهم لانهم الاخرون المختلفون، المختلفون في أي شيء: دين أو مذهب أو عرق أو قبيلة أو لون أو ثقافة أو طريقة ملبس أو نوع الطعام أو حتى تشجيع فريق منافس.
وهو القتل الذى لم تقف أبدا عوامل مشتركة كوحدة اللون أو العرق أو الدين أو القبيلة ولا حتى الأبوة والبنوة، لم تقف أبدا كل هذه العوامل حائلا دون رغبة الانسان في ممارسته، ممارسة هذه الرغبة الحيوانية المتوحشة التى علقت به ولم يستطع التخلص من جيناتها المورثة من جده الاول قابيل منذ عصور الغاب السحيقة. وعادة ما يتم استدعاء الاختلاف في واحد من هذه العوامل أو أكثر لتعزيز وتحفيز الرغبة نفسها بالإضافة لعوامل اختلاف كثيرة برزت بمرور الزمن ويمكن استخدامها بكفاءة لتحقيق الهدف (الدامي)، فرغبة القتل تحتاج دائما لمحفز لدفعها للمرحلة النهائية وهى إزهاق روح إنسان، بالإضافة بالطبع لعامل كامن منذ القدم على الساحة وهو ادعاء الوكالة الالهية في نزع الحياه من بشر لأسباب (مقدسة). وما ينطبق على الشعوب والامم ما ينطبق على الافراد فلفظ القتال في الحروب هو السائد وهو اللفظ الرئيس المشتق من الفعل الأصلي (قتل)، أما احتلال الارض واقتناص الغنائم وغيره من النتائج فهي نتائج ثانوية لا تشفى الغليل، وعندما تذاع البيانات العسكرية تذكر أولا وبفخر الخسائر في الارواح، أي أعداد من تم قتلهم، لأنه المؤشر الاوضح الدال على اتجاه سير المعارك. وعلى مر العصور تم تطوير الاسلحة المستخدمة من الخناجر والسيوف والحراب إلى المدافع والطائرات والقنابل والهدف الواضح من التطوير مهما قيل من تبريرات هو القتل أسرع والقتل أكثر.
وعملية القتل تحتاج الى فترة تحضيرية يتم فيها التجهيز (سواء للفرد أو الدولة). التجهيز لساعة الصفر أى ساعة اتخاذ قرار تجريد كائن من لقب انسان، وتحويله إلى جثه هامدة جاهزة للدفن أو الحرق أو لا يعثر لها على أثر. فقد تذهب وجبة شهية لأسماك فى قيعان البحار أو جوارح في رمال البوادي. وتختلف الفترة التحضيرية لتنفيذ عملية القتل من فرد الى فرد ومن شعب الى شعب طبقا لعوامل كثيرة منها البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعقيدة السائدة، وحتى حالة الطقس، بالإضافة بالطبع لمدى قوة تأثير المرشدين السياسيين والروحيين وهم من يوكل إليهم مهمة بث القدر الكافى من الكراهية اللازمة، بالاضافة إلى استخراج المبررات السياسية والدينية المناسبة، بالإضافة لاستغلال تأثيرهم الكاريزمي على الافراد والشعوب، والفترة التحضيرية بالنسبة للاشخاص والشعوب هى الفترة التى تتفاعل فيها كل المؤثرات مع بعضها البعض. الباعث الرئيس والشحن المعنوي (كمية الكراهية التي يتم ضخها فى النفوس) بالاضافة للسلاح المناسب والوقت المناسب، وفى تطبيق القصاص يبحث القضاء (العادل) فى مدى (الاصرار والترصد). أي كم الكراهية المتراكمة التي تجعل القتلة يترصدون خصومهم مصممين على تجريدهم من الحياة. أى تجريدهم من الهبة التى منحهم إياها الخالق، ولم يفوض أحدا غيره فى نزعها إلا بالقصاص المشروط المنظم العادل. ولم يكن أبدا ضمن شروط هذا القصاص العادل نزع الحياه من إنسان لأنه مختلف.
نعم هو القتل بضاعتنا التي نفخر بأنها صناعتنا بامتياز. وهو القتل الجريمة التي اجتاحتنا وندعى كذبا أننا فوجئنا بها، ونمثل مشهد الدهشة رافعين حواجبنا، فاغرين أفواهنا. أما الحقيقة فهي إنتاج مزارعنا، إنتاج بيوتنا وشوارعنا ومدارسنا وثقافتنا وإعلامنا وقضاءنا. نعم بيوتنا المفككة وشوارعنا مرتع الفوضى، ومدارسنا قلاع الجهل والأمية، وإعلامنا المضلل وقضاؤنا الظالم الذى فتح أبواب الهروب من القصاص، وأعلى المبدأ الفاسد مبدأ وجود جريمة بلا مجرم! أو قتيل بدون قاتل. إنه القتل التجارة التي راجت في نصف القرن الماضي، مرة باسم المقاومة ومرة بإسم الجهاد. فرق من القتالين المهرة المحترفين انتزعوا سلطة الخالق ونحوها جانبا، وتولوا المهمة بأنفسهم وأزهقوا أرواح سبق ومنحها الخالق لأجساد، ولم يفوض أحد فى نزعها إلا بالقصاص العادل المشروط. نعم تجارة رائجة أصبح لها مسوقون ومسوغون محترفون، تضخمت ثرواتهم وتضاعف ملك يمينهم عبيد وإماء مسلوبي الإرادة، سائرون نياما فى الطريق المرسوم قتل يقتل قتلا.