حل الأسبوع الماضي العيد الرابع لثورة 25 يناير المجيدة. والذي يجيء بعد احتفال تونس، مفجرة شرارة الربيع العربي، بالعيد الرابع لثورة 14 يناير. وإذا كانت انتكاسة الثورة في تونس قد أخذت طابعا مراوغا بدا معه وكأنها تحقق أجندتها عبر ممارسات ديموقراطية أعادت الكثير من الوجوه القديمة، بزواق جديد، فإن ما اتسم به عيد الثورة المصرية الرابع من مفارقات مؤسية يتطلب منا العودة إلى التفكير من جديد في مآلات الثورة وما جرى للثوار. والواقع أن الاختلاف بين الطريقة التي جرى بها الالتفاف على مطالب الثورة في البلدين تستحق هي الأخرى الدرس والتأمل. فبينما بدا وكأن الثورة التونسية قد حققت أهدافها الديموقراطية، بات واضحا للجميع أن الثورة المصرية تتعثر وتتخبط في انتكاسات متتالية، وهي تواجه مؤامرات خبيثة من قوى الداخل قبل قوى الخارج التي لا تريد لمصر الخير أو الاستقرار أو التقدم. خاصة وأن امتلاء السجون والمعتقلات بعدد كبير من الشباب الذين قادوا الثورة أو لعبوا أدوارا أساسية في مسيرتها، يطرح على الجميع الكثير من الأسئلة المدببة.
ومن البداية نجد أن التونسيين قد سموا ثورتهم باسم اليوم الذي هرب فيه زين العابدين بن علي، يوم اكتمال الثورة بتحقيقها لهدفها الأول المعلن ارحل! وكانت المطالبة بالرحيل هي جل ما رفعته تلك الثورة من شعارات، أو أبرزها جميعا. بل كانت كلمة الرحيل بالفرنسية Dégage تطغى على جل شعاراتها أكثر من رديفها العربي: ارحل! والتي يحمل معناها الفرنسي قدرا من الكياسة والمعاملة القانونية. حيث تستخدم في طلب خروج لاعب من الملعب أثناء المباراة، أو تحرير جريح من تحت الأنقاض، أو حتى تحرير المعنى من شفراته في الكتابة الأدبية لاستنتاج مغزاها، أو تحرير شخص من مسؤولياته أو وعوده التي قطعها على نفسه. ومعظم هذه الإحالات المهذبة لا ينطوي عليها معنى الطرد العربي في أرحل! بما تنطوي عليه كلمة الرحيل وفعل الأمر فيها من قسوة. وصلت في الثورة المصرية إلى حد البلوغ بالشعار درجة الإهانة الواضحة في: «ارحل يعني امشي، ياللي ما بتفهمشي».
بينما سمى المصريون ثورتهم باسم يوم انطلاقتها الباهرة، بمفارقات هذا التاريخ التهكمية البارزة، حيث أنها انطلقت ضد ممارسات الشرطة وفي يوم عيدها. وكأن لديهم وعيا حضاريا مضمرا، لا بأن ثورتهم حدث محدد واكتمل، ولم تجر تسميته إلا بعد اكتماله، كما هو الحال مع تونس؛ بل باعتبارها حدثا بدأ في هذا التاريخ. بمعنى أن الثورة صيرورة مستمرة لابد من تسميتها بلحظة انطلاقها. وهي كصيرورة لم تكتمل بعد، وهذا ما يعيه كل مصري تحدثت معه حول الثورة منذ انتهاء موجتها الأولى بإعلان التنحي الشهير، وحتى اليوم. وقد تمت التسمية منذ اللحظات الأولى لاندلاعها كشمعة احتجاجية صغيرة، سرعان ما تحولت إلى شعلة، بلغ ضوؤها الباهر كل مكان في العالم. بل أستهدى بضوئها وتوجهاتها الكثيرون في أوروبا وأمريكا، من اليونان التي كانت تغلي، وكانت أول من استجاب للثورة المصري واستلهما، وإسبانيا وحتى اعتصامات «وول ستريت» الشهيرة في أمريكا. وأهم من هذا كله كتب عنها أغلب المفكرين المعاصرين من بيري أندرسون وأنتوني جيدينز وسلوفوي زيزيك السلوفيني الذي يعمل الآن استاذا في جامعة لندن في انجلترا، إلى أنطونيو نيجري في إيطاليا، وآلان باديو في فرنسا، ونعوم تشومسكي وجوديث بتلر في أمريكا وغيرهم.
ذلك لأن الثورة المصرية وما تبعها مما جرى تسميته بالربيع العربي في ليبيا وسوريا واليمن وعمان والمغرب تنتمي كما يقول بيري أندرسون إلى صنف نادر من الأحداث تتتابع فيه سلسلة من الهبات والتمردات التي يفجر بعضها البعض عبر منطقة محددة من العالم. ولم يسبق حدوث هذا الأمر في تاريخ العالم من قبل غير ثلاث مرات: كانت أولاها في حروب التحرير في أميركا اللاتينية التي بدأت عام 1810 واستمرت حتى عام 1825، وثانيتها هي الثورات الأوروبية بين عامي 1848 – 1849، وثالثتها هي سقوط أنظمة الكتلة السوفيتية في أوروبا بين أعوام 1989 – 1991. وكان لكل حدث من هذه الأحداث خصوصيته التاريخية بالنسبة لعصره، والجغرافية بالنسبة لمنطقته على السواء. وهو الأمر الذي سيسم أيضا هذه السلسلة من الانفجارات في العالم العربي، الذي تغير إلى غير رجعة.
أقول أن العالم العربي تغير إلى غير رجعة بالرغم من النجاحات الكبيرة للثورة المضادة التي تواصل الحكم باسم الثورة حتى في البلدان التي يبدو فيها أن الثورة قد حققت شيئا من التغيير. فمنذ نجاح الثورة في الإطاحة برأس النظام القديم الفاسد وإجبار حسني مبارك على التنحي، حكم العسكر تارة باسم الثورة، ثم سلموا السلطة لـ«الإسلامجية» بإشراف أمريكي واضح ومرتب اضطر معه الشعب المصري إلى الاختيار الشهير بين الفلول والاستبن، وهي الخيار الذي انتهى، شكرا لبراعة السفيرة الأمريكية آن باترسون باستلام الإخوان و«الإسلامجية» السلطة بوهم أنهم يمثلون الثورة. ولكنهما معا (العسكر والإخوان) في حقيقة الأمر يعملون على إجهاض الثورة، وتحويلها إلى غطاء يواصلون من ورائه تنفيذ مشروعاتهم التي ما كان لهم أبدا تحقيقها، لولا ركوبهم الثورة لإجهاضها بالرغم من مزاعمهم الكاذبة، والكذب ديدنهم.
والواقع أنني أفضل تسمية «الإخوان» وحلفائهم من الذين يدعون أنفسهم باسم التيارات المتأسلمة أو المتأسلفة، بـ«الإسلامجية» الذين يمتهنون الإسلام بالمعنيين: معنى الامتهان الذين يهين خاتم الأديان السماوية وينحرف به عن جوهره الروحي العظيم، ومعنى المهنة التي يتكسبون بها سياسيا وماديا على السواء، مثل «العربجية، والبوهيجية، والطرشجية، والجزمجية» وغيرها من المفردات التي تتخذ من شيء مهنة للتكسب بها. وأكثر المهن كسبا وإدرارا للمال والنفوذ هي السياسة كما يعرف الجميع.
وكثيرا ما كتبت بأن من حكم باسم الثورة المصرية منذ انفجارتها النبيلة هم حتى هذه اللحظة أقل الناس تقديرا لها، ووعيا بعظمتها ونبلها وتحضرها الباهر، وبما يتطلبه هذا التحضر باحتلاله للموقف الأخلاقي الأعلى من مسؤوليات جسام على المستويين الواقعي والرمزي. فالثورة المصرية لم تكتف كسابقتها التونسية بشعار الرحيل، وإن شاركتها في شعار فرض الإرادة الشعبية التي عاد فيه التوانسة إلى قصيدة أبي القاسم الشابي الجميلة، وصاغوا عبرها شعار «الشعب يريد تغيير النظام»، وإن كان الرحيل وتغيير النظام من أبرز مطالبها وأكثرها نصاعة وتبلورا، ولكنها جعلت عماد شعاراتها برنامجا ثوريا عريضا، يطالب بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وهي بذلك تواصل ما بدأت به شعارات الثورة الفرنسية الثلاثة: الحرية والإخاء والمساواة، وتطورها بلغة القرن الحادي والعشرين ومنطقه.
شعارات الثورة ودلالاتها المهمة:
إذ أعادت الثورة المصرية صياغة شعارات الثورة الفرنسية بنصاعة ووضوح يكشف عن محتواها الحقيقي، ويعي أن الخلل في نظام العالم الحديث قد قطع أشواطا فساح بعد ما جرى في الثورة الفرنسية: فالحرية في الشعار تجيء بعد العيش، فلا حرية دون عيش كريم يضمن للجميع الحد الأدنى من الحياة المستقرة التي توفر لهم إمكانية التمتع بحريتهم والدفاع عن حقوقهم. وتعي الثورة المصرية النبيلة منذ البداية ما صاغه شوقي في بيته الشهير:
وللحرية الحمراء باب * بكل يد مضرجة يدق
لذلك عمّدت ثورتها بالدم منذ اليوم الأول للثورة وسقوط أول شهدائها في السويس، ثم تدفقت بعد ذلك أنهاره غزيرة في ميدان التحرير بالقاهرة، وفي غيره من ميادين التحرير العديدة على مد رقعة مصر الجغرافية، ولن يتوقف نزيف الدم حتى تتحقق الحرية لمصر ولكل أبنائها. وإذا كان ثمة من عزاء أقدمه هنا لكل أصحاب الدم الذي سال، والذي لم نقتص له حتى اليوم. فإنني أقول لهم إن الحرية التي يتمتع بها الفرنسيون اليوم بعد ثورتهم العظيمة عام 1789 سال من أجلها الدم في شوارع باريس حتى عام 1830. وهي الثورة التي عاصرها رفاعة رافع الطهطاوي وكتب عنها في كتابه الشهير (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ودعاها بالفتنة، كما دعا بعض أسلافه ما جرى في 25 يناير. وقد كانت ثورة عام 1830 والتي لعب فيها المثقفون دورا بارزا هي التي رسمت خط الحرية الأحمر، ونصبت عمود الباستيل الشهير في وسط باريس شاهدا على آخر الدماء التي عمدت بها الثورة حرية فرنسا والفرنسيين. ففي عقله الثلاث التي تؤرخ لأيام هذه الثورة الثلاثة (27 و28 و29 يوليو 1930) نقشت بماء الذهب أسماء من سالت دماؤهم الزكية في أيام هذه الثورة الثلاثة. فمتى نقيم عمود الشهداء لثورة 25 يناير في قلب ميدان التحرير؟
وبالعيش والحرية معا تتحقق الكرامة الإنسانية، وهي الكرامة التي لابد منها كي تعود للوطن مكانته وكرامته، في عالم لا يعترف بغير من يحافظون على كرامتهم وكرامة بلدانهم. بعد عقود من التبعية والهوان أصبح فيها حاكم مصر الذخر الاستراتيجي لعدو مصر الاستراتيجي، أي دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. والواقع أنني أربط كل ما يدور على مد ساحة الربيع العربي الواسعة من عنف دموي مخبول، بلغ أبشع درجاته في سوريا واليمن وليبيا، بزمن الهوان الطويل الذي تمرغ الواقع العربي في ذله لعقود، قبل اندلاع ثورات الربيع العربي. لأن هذا العنف الأرعن الفاقد لكل منطق وإنسانية، ليس إلا انفجارات دمامل هوان الزمن الردئ التي لا تحكمها إلا سمادير القوة العارية من أي إحساس بالكرامة الإنسانية. لأنه عنف ينتهك كرامة من يقومون به، قبل أن يطيح بحياة من يستهدف الإجهاز عليهم.
أما العدالة الاجتماعية فإنها من أصعب الأهداف تحقيقا، لذلك ليس صدفة أنها جاءت كهدف أخير، وكأن الثورة، بعفويتها الجمعية تلك تعي ما يتطلبه كل هدف من جهد، وترتب أهدافها بطريقة تكشف عن نضح وعي جمعي تكوّن عبر سبعة آلاف سنة من الحضارة. فحتى الثورة الفرنسية نفسها التي جعلت المساواة، وهي درجة صفر العدالة الاجتماعية، آخر شعاراتها، لم تنجح بعد أكثر من قرنين في تحقيقها. وما يدور من جدل الآن فيها، وخاصة بين مثقفيها العقلاء وفي مقدمتهم دومنيك دي فيلبان، بعد الهجوم المجنون على مجلة «شارل إيبدو» يكشف بوضوح عن عجزها عن تحقيق المساواة لمن ولدوا ونشأوا وتكونوا ثقافيا وفكريا على أرضها، بعد هزيمة الثورتين اللتين حاولتا تحقيق العدالة الاجتماعية في الجمهورية الفرنسية في 1848 و1871.
ومع ذلك فإنه وبدون تحقيق الحد الأدنى من أجندة الثورة المصرية، بما في ذلك العدالة الاجتماعية بسبب وضع مصر الصعب وسنوات التجريف الطويلة، وهي الأجندة التي تبنتها ثورات الربيع العربي التي تبعتها في اليمن وليبيا وسوريا وحتى عمان، لن يستقر العالم العربي ناهيك عن أن يزدهر. لكن يبدو أن الذين يحكمون باسم الثورة في مصر منذ المجلس العسكري وحتى الآن، لم يدركوا هذا الأمر ولم يستوعبوا دروسه. وبرغم نجاح الثورة في إسقاط رأسي نظامين مختلفين في أقل من ثلاث سنوات. ذلك لأن ما جرى في عيد هذه الثورة النبيلة الرابع من تخبط وعنف وأحداث مؤسفة. وما قرأته في الصحافة البريطانية والأمريكية من متابعات تهكمية ساخرة لما جرى في مصر في عيد تلك الثورة الرائعة، يؤكد هذا كله، ويكشف عن تخبط وتبديد عمدي للفرص المواتية، ولما حققته الثورة بنبلها ورؤاها واحتلالها للموقف الأخلاقي الأعلى من رأسمال رمزي في آن. لذلك من الضروري أن نتأمل ما دار في عيد ثورة 25 يناير، التي أرجو أن يتحول إلى عيد مصري قومي كبير، وإلى خط أحمر من خطوط الوطنية المصرية الأصيلة يلتف حوله الجميع، ولا يسمحون بأن يشكك في أهميته أحد.
فليس ثمة من يشكك في أهمية هذه الثورة العظيمة ونبلها، والتي كتب عنها أبرز مفكري العالم المعاصر كما ذكرت، إلا أعداء الثورة ووجوههم الإعلامية القميئة التي تتلقى تعليماتها بما تتشدق به من سفاسف من مؤسسات وقوى سياسية مختلفة، لا تريد الخير لمصر. فيرددون في وسائل إعلام الفلول مرة، والإسلامجية أخرى، خطاباتهم الكسيحة التي تشوه أنبل الثورات المصرية وأعظمها دون طائل. وقد قرأنا جميعا عن التسريبات التي تملي على حفنة من الإعلاميين الجهلة ما عليهم أن يقولوه من سفاسف وسفسطات في برامجهم الضحلة، وعن ارتباط بعضهم بمراكز نفوذ مالية أو أيديولوجية استأجرتهم عبرها الثورة المضادة بمختلف أجنحتها لتشويه تلك الثورة المصرية النبيلة.
ومع تقديري لما دار في 30 يونيو 2013 التي أشعل شرارتها المثقفون باحتلالهم مكتب وزير الثقافة وتأكيدهم أن الثقافة خط أحمر لايمكن الاعتداء عليه، وخلصتنا من عار الإسلامجية بكل تخلفهم وانحطاطهم، فإن الثورة الحقيقية التي تستحق الاحتفال بها وتقديرها هي ثورة 25 يناير 2011 وحدها. فهي الثورة الأم التي ما كان لـ30 يونيو أن تتحقق دونها؛ ثورة اكتشاف الشعب المصري قدراته العملاقة، وحقه الذي لا مماراة فيه، في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. هي الثورة التي ما كان ممكنا بدونها للعسكر أو الإسلامجية حكم مصر، وما كان ممكنا بدونها أن تخرج تلك الجموع التي عبرت عن حقها في اختيار من يحكمها في 30 يونيو.
ذلك لأن 25 يناير هي الثورة التي اعترف بها العالم كله باعتبارها ثورة خلاقة على نظام العالم الراهن الذي بلور لنا ملامحه إيمانيويل واليرستين في سفره الضخم (نظام العالم الحديث) بأجزائه الأربعة، وما فيه من خلل بنيوي. ثورة الجيل الشاب بأدواته العصرية الجديدة ورؤاه المناهضة لما ينهض عليه النظام العولمي الراهن من ظلم وإجحاف. وقد منحت الثورة بهذا المعنى العميق الذي انتبه له العالم، وبما رافقه من تحضر خلّاق، مصر وهجا وقيمة رمزية لا يدرك أهميتها إلا من يعرف التاريخ ويعي مساراته جيدا، ويدرك أهمية هذا الوهج الذي تعيش فرنسا على مثيله، وهج الثورة الفرنسية العظيمة، حتى الآن. لكن كل من حكم باسم هذه الثورة منذ المجلس العسكري وحتى اليوم لم يدرك أهمية هذا البعد الرمزي ولم يستثمره. بل تعمد الجميع تبديده بسبب قصر النظر السياسي والجهل المدعوم بمؤامرات الثورة المضادة، وغباء صانعي خطاب المؤسسة السياسية المهيمنة.
حرب الرموز وانتصار اليونان:
وليس ما جرى في عيد الثورة الرابع في مصر إلا دليل جديد على تبديد قوة الثورة الناعمة، حيث تآمر عليها عنف الإسلامجية وعنف الممارسات الأمنية الرعناء في آن. فجعل مصر أضحوكة في خطاب الآخرين. تآمر عليها الإسلامجية بدعاواهم المختلّة بأنهم أحق بالاحتفال الدموي بها، وهي أبعد ما يكون عن الدموية لو يعلمون. وبأنهم يمثلون شرعيتها، وهي منهم براء. فمصر كلها تعرف أنهم التحقوا بالثورة متأخرين، وتخلوا عنها مبكرين. ثم تآمروا عليها مع السفيرة الأمريكية سيئة الصيت آن باترسون، فحققوا بمؤامراتها ما يدعونه بالشرعية التي أهدروها بمماراساتهم الغبية فأصبحت عارية من أي مصداقية. أما الممارسات الأمنية الرعناء، للنظام الذي بدأ يبدد رأسماله الذي حققه في 30 يونيو، فحدث عنها ولا حرج، حيث أصبحت انتهاكاتها للحرية شعار الثورة الأول، حديث الجميع في الداخل والخارج. فقد منحت الثورة من جديد رمزا سكندريا آخر لا يقل أهمية وفاعلية عن رمز «خالد سعيد» من قبله، ألا وهو مقتل «شيماء الصباغ» بدم بارد، وكل ذنبها أنها كانت تردد شعارات الثورة النبيلة: «عيش حرية عدالة اجتماعية»، وتريد أن تضع إكليلا من الزهور على نصب شهدائها.
ولا يفل العنف الأمني الأرعن إلا تلك الرموز الثورية الناصعة التي تستقر في ضمير الشعب ولاوعيه، وقد تحولت إلى طاقة تجلو العقل، وتحث على العمل من أجل تحقيق أهداف الثورة التي سقطت شيماء مضرجة بدمائها، وقد تناثرت حولها زهورها، وهي تهتف بها. وما يجعل الرمز فاعلا وقويا هو وقوع هذا القتل البارد في عيد الثورة، وهو أيضا عيد الشرطة، التي اندلعت الثورة في 25 يناير بالتحديد احتجاجا على ممارساتها الأمنية الجائرة زمن مبارك المخلوع. فهل دار الزمن دورة عكس؟ وقد تواقت العيد لمرارة المفارقة مع براءته والإفراج عن ولديه الفاسدين من ناحية، ومع خلو ميدان التحرير، أيقونة الثورة المكانية، من أي احتفال حقيقي بعيد الثورة الرابع من ناحية أخرى، اللهم إلا حفنة صغيرة من مؤيدي الرئيس السيسي تندر الإعلام الغربي على ضآلتها وقلة حيلتها.
لكن مفارقات الزمن الصادمة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد تواقتت كل خطابات أعداء الثورة المصرية الكسيحة، وإجهاض الاحتفال بها، وما جرى في عيدها من عنف وتخبط، مع انتصار من استلهموا رؤاها في اليونان في نفس الوقت. فقد فاز في الانتخابات الأخيرة حزب سيريزا SYRIZA اليوناني (الذي يعني اسمه تحالف اليسار والأحزاب الشابة التي تنشد التغيير الجذري، وهو تحالف يتكون من 13 حزبا صغيرا ومجموعة من الشخصيات المستقلة تنشد كلها التغيير). وقد تشكل زخم هذا التحالف السياسي في أتون الاحتجاجات اليونانية التي استلهمت الثورة المصرية عام 2011، وأحالت تحالفها الشبابي الشعبي العريض الرافض لكل بنى الأحزاب والممارسات السياسية التقليدية القديمة إلى نموذج سياسي يحتذى. كما استلهم سيريزا مطالبها الأساسية والإنسانية العادلة: «عيش حرية عدالة اجتماعية»؛ مع الزراية الكاملة بروشتة صندوق النقد الدولي المسمومة، أو إجراءات التقشف الأوروبية المعهودة التي يدفع ثمنها الفقراء في المحل الأول. ففاز بالمركز الثاني في انتخابات عام 2012، وها هو يقفز إلى المكان الأول بنسبة 36% من المقاعد في انتخابات عام 2015 التي تواقتت مع احتفالات الثورة المصرية. مما ملأ ميادين تحرير اليونان المختلفة بالمحتفلين بنجاحات التحالف الذي استلهم الثورة المصرية النبيلة، بينما أقفرت ميادين مصر، وفرغها الأمن عنوة من المحتفلين.
وقد دعا هذا التحالف الشاب الذي استلهمت أجندته رؤى الثورة المصرية وشعاراتها إلى مواجهة جذرية لأزمة اليونان الإنسانية، ورفع الحد الأدنى للأجور، وخلق فرص عمل للشباب على الفور، خاصة وأن 50% من شباب اليونان تحت سن 25 سنة عاطلين عن العمل، وإلى تحقيق العدالة الضريبية، وتغيير النظام السياسي جذريا لتعميق أسس الديموقراطية، وتمكين الشباب من المشاركة الفعالة فيها. وبدلا من إلغاء الدعم، كما تفعل الحكومة المصرية التي تزعم أنها تحكم باسم الثورة، يتضمن برنامج التحالف توفير 300 كليووات من الكهرباء مجانا كل شهر لمن هم تحت خط الفقر (300 ألف بيت/ أسرة)، وتوفير الطعام المدعوم لهم. وكذلك إلغاء الضريبة العقارية على بيوت الطبقة الوسطى والتي فرضتها إجراءات التقشف عام 2012. وتمويل هذا كله من محاربة تهريب البضائع وتهرب الأثرياء والقادرين من دفع الضرائب، فضلا عن استرداد حقوق اليونان المهدرة، وليس بالاستدانة من صندوق النقد أو الاتحاد الأوروبي.
فقد بلغ الدين اليوناني 319 بليون يورو أي ما يعادل 175% من الناتج القومي اليوناني. لذلك بدأت اليونان الجديدة، فور نجاح سيريزا في الانتخابات، بمطالبة ألمانيا بدفع ما عليها من قروض ميته منذ الاحتلال النازي، وما فرضه على بنك اليونان وقتها من تمويل إجباري له، تعادل قيمتها بمعايير اليوم 11 بليون يورو. ناهيك عن المطالبة بتعويضات عن جرائم النازية ضد اليونان، وقتل الشيوعيين فيه. وبدأت كذلك في المفاوضة على إعادة جدولة الدين القديم، أو إعدام الجزء الأكبر منه، وكلها أمور كان باستطاعة مصر تحقيقها لو لم تبدد وهج الثورة ورأسمالها الرمزي الكبير في المؤامرات الداخلية. ولو لم يحكم باسمها حتى اليوم ما لا يؤمنون بأجندتها وشعاراتها.
فهل ثمة من يدرك في مصر الآن أنه بدون برنامج تغيير جذري يستلهم أجندة الثورة المصرية لا أمل في الوصول بمصر مابعد الثورة إلى الاستقرار، ناهيك عن التقدم والازدهار؟ وأنه بدون تحقيق الحد الأدنى من مطالب الثورة، وفي مقدمتها الحرية التي أهدرت في العام الأخير كما لم تهدر من قبل، لا أمل لأي حكم في الاستمرار؟ فقد خرج «العفريت» من القمقم ولا أمل في إعادته إليه من جديد. ولابد لمن يريد أن يحكم مصر أن يحقق لها الحد الأدنى من مطالبها، وأن يرى الشعب المصري أنه يحقق ذلك، ولا يكتفي بالحديث عن نيته في تحقيقه. أقول لا بد أن يرى ذلك كله في خطوات ملموسة على الأرض، يشاهدها الجميع وهي تتحول إلى فعل. تسترد معه مصر بعض الوهج الذي أسبغته الثورة عليها، وتستعيد رأسماله الرمزي الذي لا يقدر بمال أو بأية حسابات أخرى.