يشير الكاتب إلى أن الروائي حسن داود موضع سيرته في التخييل، حين ترسيمه لعلاقة الراوي بعوالمه، وعليه يبدو الراوية ضالعاً في ما يفعله، وفي ما يُفعل به، حتى أن السرد يتبدى هيغيلا في صراعيته، ويغدو عمل الحرية مشكِلاً، إذ لا تلغي خارجية النظرة، فاعليةَ قدر ما أو وسواس يتسلط عليها.

«نقّل فؤادك...»

أحمد بيضـون

من كان من معارف حسن داود، أو ألمّ بشيء من سيرته الشخصية، علم أن هذا الروائي يُدْرج كثيراً من وقائع حياته في أعماله الروائية. يتباين هذا من عملٍ إلى عمل ولكن يحصل في معظمها إن لم يكن في جميعها. ولا ملامة على الروائي في هذا، من حيث المبدأ. وينأى احتمال اللوم وتتضاءل الحاجة إلى المبدأ حين تكون للروائي دربة حسن داود فيلاحظ القارئ كم يبدو بعيداً عن نفسه، صارماً في النظر إليها، هذا الذي يدْخِل ملمحاً من ملامحه أو واقعةً من وقائع سيرته في صورة هذا أو ذاك من شخوص الرواية أو في مسلكه وفي ما يجري له من فصلٍ إلى فصل.

في رواية حسن داود الأخيرة «نقّل فؤادك»، يزيد من قوّة الحضور التي للكاتب في عمله أن الراوية الذي هو موضوع الرواية أيضاً، ويدعى قاسم، يروي وقائع قريبة إلى الوقت الذي نحن فيه بحيث يبدو وكأنه لا يستردّها من ذاكرته بل يقصّها وهي تحصل وتبدو الفصول التي تتوالى أشبه باليوميات المختارة. وهو ما لم يمنع أن يكون الشخص موثَقاً إلى وقائع من ماضيه البعيد هي وقائع علاقته الضامرة المحتوى بزميلة دراسة كان تعلّقه بها قد بقي معلّقاً فلم يُفْضِ في حينه إلى مكاشفة ولم يتكرّس باعتراف. ما تستولي عليه هذه العلاقة القديمة، في الزمن الحيّ للرواية، هو الحياة الحاضرة لشخصٍ بات على مشارف الستين وابتعد نحواً من أربعين سنة عن أيّام تشكّلها الذي بقي ناقصاً.

وأمّا سائر ما هي عليه أحوال قاسم ومشاغله وحركاته وسكناته فهو راهن جدّاً. أي إنه متعلّق بالصحافي المشرف على الستين الذي لم يخفِ حسن داود في حديث ممتع تناول فيه هذه الرواية أنه هو نفسه، على نحوٍ ما، في ترسيمة علاقته الراهنة بمهنته وبمدينته، بل أيضاً في بحثه عن فتاة لا يتوصّل إلى تخيّل ما آلت إليه بعد أربعين سنة وكان قد زاملها سنة مدرسية واحدة وهي التي مثّلتها دلال عبّاشي في الرواية. وكان المؤلّف قد توقّع، في عباراتٍ صدّر بها الرواية، هذا الشعور بحضوره وحضور بعضٍ من معارفه (في ملامح لهم ولعلاقته بهم، على الأقلّ) فأقرّ من يساوره هذا الشعور على شعوره ولكنّه أكّد أن هذا الشعور سيتغيّر مع المضيّ قُدُماً في القراءة.

لا تزيد هذه الذاتية وهذه الراهنية إلا شدّةً ما في الرواية من اختبار مُرّ لتفاوت السرعة بين زمن موضوعي –هو، مثلاً، زمن العمران– لا يلوي على شيء وبين زمن ذاتي –هو زمن الغرام القديم طبعاً ولكنه زمن العلاقة بالمهنة وبالمدينة أيضاً– يحتاج المؤلّف إلى روايته كلّها لزحزحته شيئاً ما عن مداره.

وذاك أن الحركة، أي التغيير، إنما تحصل في داخل الراوية. وهي تبدو استجابةً لما شهدته أو تشهده المدينة والبلاد إن شئنا أن نرى فيها شيئاً من هذا القبيل. ولكنّ هذا النوع من الإلمام الجامع يقتضي الوقوف على مسافة شاسعة. الحركة، في السرد، سلسلة من الاختبارات القصيرة المتداخلة يمثّل واحداً منها كلّ مشهد أو كلّ موقف. وهي لذلك لا تصبح حركةً إلا ببطءٍ مضنٍ، لا للقارئ بل للراوية ولمحاوريه الذين هم مداوروه بالأحرى.

أقول داخل الراوية مع العلم أن الدواخل كلّها ههنا لا تظهر بما هي كذلك. هي تتوسّل في ظهورها عبارات مادية: حركاتٍ، في الأغلب، أو كلاماً، وأحياناً حركاتٍ لا تحصل أو كلاماً لا يقال. لا أسماء هنا للعواطف ولا للانفعالات. لا يسمّى الحبّ باسمه إلا في معرض استذكار أفلامٍ مصرية. ولا يخلو أحد إلى شوقٍ حارق إلا لبنى عبد العزيز وهي تحتضن وسادتها الخالية. في مسلك حركات قاسم وأفعاله لا يوجد محلّ لسوى الرغبات الراكدة يسوسها تجاذبٌ شديد اليقظة. قاسم لا يجلس أبداً أو ينام في مشاعره: هو واقف دائماً على المسافة المناسبة لمشاهدتها وسياستها وللردّ، خصوصاً، على ما قد يبدر في سياقها من جانب سواه.

هو إذن نوع من صراعٍ مديد، دقيق العناصر، يبدو وكأن الخائضين فيه غير مكترثين لحسمه فعلاً. ولكنّه يسوقهم مع ذلك في مسالك تلبث مكتومة عنهم إلى أن يأتي وقتٌ يقولون فيه أو يفعلون ما يشي بأنهم تغيّروا شيئاً ما أو تغيّرت بهم الدنيا. هذا الصراع هو الحياة، في عُرْف حسن داود، أو هو السبيل إلى إدراك الحياة وروايتها. وتتمثّل عبقرية هذا الروائي كلّها في انتباه لا يتراخى لحظة ولا يفوته حسٌ أو طرفةُ عين. فهو يرى المجالسة بين شخصين استنفاراً لتكتيكات متقابلة يُتّقى بها ما تنطوي عليه كلّ مبادلة فيوشك أن يجعل منها، مهما تكن ضئيلة الظاهر، مسألة حياةٍ أو موت.

أسمّي هذا النوع من القصّ قصّاً تفكّرياً. فيه يبدو الراوية ضالعاً في ما يفعله وفي ما يُفعل به ولكنه دائمُ المراقبة لهذا الضلوع أيضاً دائبٌ في تحليل الموقف الذي هو فيه واستطلاعِ حركته واحتمالاته. وإذا وُجد من وصفٍ شعوريّ لما يحصل من أحد الشخوص فهو الحيرة، مثلاً، حيال الدلالة التي تصحّ نسبتها لعنصر من عناصر الموقف أو هو الجبن، مثلاً، حيال احتمالٍ ما، بالغِ الخطر عادةً، ينطوي عليه إتيانُ حركةٍ أو النطقُ بعبارة.

وقد كنت سمّيتُ، في تناولٍ لرواية أخرى لحسن داود، هذا المنطلق الذي يعتمده الروائي، لنَسْج ما أتردّد في تسميته حبكةً ولسَوْق ما لا أتردّد في تسميته صراعاً منطلقاً «إستراتيجياً»: أي متمثّلاً في منطق تَغالُبٍ شامل يتشعّب في تكتيكات مختلفة. وهي تسمية ٌ أرى الرواية التي بين يديّ تؤيّدها.

في هذه الرواية تبدو العلاقة بسعادٍ: الصديقة المتطوّعة لمساعدة قاسم في العثور على دلال، نوعاً من الهاوية وُجِد هذا التفتيش عن دلال لإدامة خطرها ولاستبعاد الوقوع فيها في آن. ويبدو احتمال تحوّلها إلى بديل معلن من «الحبّ الضائع» حافّة للهاوية يقف قاسمٌ عنده ذات مساء ولكنه يتحاشى تجاوزه أو لعله يفشل في هذا التجاوز. وحين نرجع إلى الذريعة الأصلية لهذا النزاع أي إلى العلاقة القديمة التي جمعت بين قاسم ودلال لا نجد منها سوى نتفٍ: خطوات لم يقطعها قاسم عندما وقفت له دلال عند المنعطف المفضي إلى بيتها أو تفاوض مرير على ترتيب الجلوس وقياس الوقوف في السينما. تضاف إلى هذا كنزة من هنا وإصبع من هناك. وتمْثُل الأجساد ومباني المدينة ومعالمها سواءً بسواءٍ على قدْرٍ من البعد وغموض الملامح. وتستوي النساء الآسيويات الثلاث، شيئاً فشيئاً، مَخْرجاً من مهنةٍ دخلت العلاقة بها أزمةً يتعذّر تعيين المسؤولية عنها ومخرجاً من المدينة الجديدة المسرعة إلى الذواء أيضاً ومن الحياة السابقة كلّها.

إلى هذا المَخْرج يبدو المسار، في صراعيته، هيغلياً للغاية. ويبدو عمل الحرية مشكِلاً إذ لا تلغي خارجية النظرة فاعليةَ نوعٍ من القدر يسوق التصرّفات أو نوعٍ من الوسواس يملي تصاميمها المتتالية. وحين يذكر الراوية ذلك البرنامج الخارق الذي يستعيد عمليّات ينفّذها الدماغ البشري وتسمح لنا أن نحلّل في كسرٍ من الثانية ما يمثّله لنا وجهٌ نلمحه، لا نعلم إن كان هذا البرنامج موجوداً في متجرٍ من المتاجر المختصة. ولكنّنا نعلم أن حسن داود لا يبارى في تشغيله.

 

(كاتب لبناني)