يختم سعيد يقطين بهذه الحلقة القسم الأول من دراسته التي ينشرها في (الكلمة) حول التغيرات العميقة التي تنتاب بنية الكتابة بسبب التحولات التي جلبتها التقنيات الرقمية الجديدة.

ترقيم النص العربي

سعيد يقطين

آفاق جديدة:
     1. ترقيم النص العربي
     2. تحديث البحث الجامعي

الكلمات المفاتيح: التحقيق ـ الترقيم ـ البحث الجامعي.  

1. تقديم:
1. 1. استدعى الانتقال من الوراقة إلى الطباعة تغيرا كبيرا على مستوى الكتابة العربية، وإعداد النص ليقرأ مطبوعا. يتمثل هذا التغير فيما يلي:
أ ـ بروز علامات الترقيم.
ب ـ تنظيم النص تنظيما يراعي خصوصية جنس الكتابة.
ج ـ ظهور علم التحقيق.

إن النقطتين الأولى والثانية ستصبحان ميسما خاصا بكل كتابة جديدة تعد للطباعة. أما النقطة الثالثة فتتصل بتهيئ النصوص القديمة ( المخطوطة ) لتتلاءم مع الوسيط الجديد وقتها ( المطبعة )، وتصبح قابلة للتلقي من قبل القارئ الحديث.

هذا التغير الذي لحق بالكتابة بسبب الطباعة يقع بالضرورة على الكتابة وهي تتحقق بواسطة الحاسوب. ألم نقل إن الوسيط الجديد يؤدي إلى خلق أشكال جديدة للتواصل؟ إن الحاسوب سيؤدي، بالضرورة، إلى ظهور كتابة جديدة، هي الكتابة الرقمية.

تتجسد هذه الكتابة من خلال:
أ
 ـ استحضار كل تقنيات الكتابة المتحققة مع الطباعة.
ب ـ نقل النص من المطبوع إلى المعاين على الشاشة. وتقتضي المعاينة:
ب. 1. استثمار تقنيات البرمجيات لجعل النص قائما على تنظيم جديد لبنياته وعلاقاته في ترقيم النصوص الجديدة.
ب. 2. ضرورة ميلاد " علم جديد " لترقيم النصوص ما قبل الرقمية، مطبوعة كانت أو مخطوطة.

هذه هي الفكرة الجوهرية التي نروم تناولها، ونحن نتحدث عن ترقيم النص العربي ( قديمه وحديثه )، في صلته بالبحث الجامعي والأكاديمي. 

1. 2. إن معاينة النص العربي، مخطوطا في مرحلة ومطبوعا في أخرى، تستدعي جعله مرقوما وفق شروط جديدة، تقوم على الترابط النصي، يمليها هذا الوسيط الجديد. نسمي هذه المعاينة " الترقيم "، ونعتبرها مرحلة متقدمة عن التحقيق. وللوقوف على علاقة ترقيم النص العربي بالبحث الجامعي، نُرهِّن دور التحقيق في تقديم النص العربي القديم بكيفية مختلفة عن تلك التي كان عليها حين كان مخطوطا، ليتأتى لنا استيعاب العلاقة بين التحقيق والترقيم، والطباعة والرقامة في مرحلة، ونبرز في أخرى، ما يمكن أن يضطلع به " علم الترقيم " في تطوير البحث الجامعي في علاقته بتكنولوجيا الإعلام والتواصل، وفي خدمة النص العربي. 

2. التحقيق:
نميز بين نوعين من التحقيق تشكل كل منهما، ابتاعا، خلال كل من مرحلتي التدوين والطباعة.

2. 1. التحقيق من الشفوي إلى الكتابي:
سبق تبيين الدور الذي اضطلع به الرواة في نقل النص العربي عبر الذاكرة. واستدعت عملية "تدوين" الذاكرة العربية انتهاج طرق وقواعد محددة في هذه العملية. وظهرت مصنفات عربية قديمة تبين أصول قواعد وضبط وتحرير النصوص فيما يعرف بطرق تحمل العلم وآدابه وأصول الرواية وتقييد السماع. ويرى رمضان عبد التواب، في ذلك سبقا للعرب في تحقيق النصوص بقوله: " يظن بعض الباحثين المحدثين من العرب، أن فن تحقيق النصوص فن حديث، ابتدعه المعاصرون من المحققين العرب، أو استقوه من المستشرقين الذين سبقونا في العصر الحاضر،،، " ( 1). ويتابع بسط فكرته مبينا دور أهل الحديث في نشأة هذا الاهتمام بالتحقيق: " ولكن الحقيقة بخلاف ذلك، فقد قام فن تحقيق النصوص عند العرب مع فجر التاريخ الإسلامي، وكان لعلماء الحديث اليد الطولى في إرساء قواعد هذا الفن في تراثنا العربي،،، وإن كثيرا مما نقوم به اليوم من خطوات في فن تحقيق النصوص ونشرها، بدءا من جمع المخطوطات والمقابلة بينها، ومرورا بضبط عباراتها وتخريج نصوصها، وانتهاء بفهرسة محتوياتها لمما سبقنا به أسلافنا العظام من علماء العربية الخالدة ". (ص. 4)

فعلا لقد اهتم العرب بوضع آليات لضبط النصوص المنقولة من الذاكرة الفردية والجماعية إلى الكتابة. وهذا الاهتمام هو وليد تحقيق ملاءمة للنص مع " الحقيقة " كي لا تتسرب الأوهام والأغاليط ( النحل مثلا ) إلى النصوص المتداولة. ويعود السبب في ذلك إلى ارتباط النص العربي بالقرآن الكريم والحديث النبوي. ومن هنا كانت الصرامة في ضبط النص ومراعاة سلامته من كل الشوائب. ولا تتعلق العملية هنا بسبق ولا بغيره. فالانتقال إلى التدوين يتطلب، ضرورة، التحقق من إملاءات الذاكرة التي يعتريها الوهن والضعف. وما المقارنة بين الروايات، وإثبات الأصح منها ما هو إلا استجابة لشروط الكتابة.

يبرز لنا هذا في كون عملية الكتابة العربية عرفت تطورا كبيرا مع الزمن، ولقد استدعى ذلك:
أ. التمييز بين طرق تحصيل النص ( السماع ـ الإجازة ـ المناولة ـ المكاتبة، الوجادة،،،).
ب. تدقيق العلاقة مع النص عن طريق المقارنة بين النص، وإصلاح أخطائه، وعلاج سقطاته أو زياداته وتشابه حروفه.
ج. اتباع طريقة خاصة في تنظيم النص: وذلك عن طريق التمييز بين المتن والحواشي، وعلامات الإلحاق أو الإحالة، واستعمال الألوان، وابتكار رموز واختصارات من قبيل ما يدخل في العصر الحديث تحت اسم علامات الترقيم.

إن كل هذه التقنيات شديدة الصلة بالكتابة، ولقد وجد العرب أنفسهم أمام مراغماتها لتحقيق التواصل. وكان عليهم أن يفكروا في حلول لهذه القيود والإكراهات التي وجدوا أنفسهم إزاءها. 

2. 2. من المخطوط إلى المطبوع:
لكن ظهور المطبعة سيؤدي إلى بروز كتابة عربية جديدة تختلف عن الكتابة التي مارسها العرب قبل ظهورها. إنهم سيستفيدون من أعمال المستشرقين الذين نقلوا المعرفة التي تحققت لديهم في تحقيق النصوص اليونانية واللاتينية. وسينجم عن ذلك بروز علم التحقيق.

يقول عبد السلام هارون معرفا: (2) "التحقيق هو الاصطلاح المعاصر الذي يقصد به بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة.

فالكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه.

وعلى ذلك فإن الجهود التي تبذل في كل مخطوط يجب أن تتناول البحث في الزوايا التالية:

1- تحقيق عنوان الكتاب.
2- تحقيق اسم المؤلف.
3- تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
4- تحقيق متن الكتاب حتى يظهر بقدر الإمكان مقاربا لنص مؤلفه " ص. 39

تسعى هذه التحقيقات الأربعة إلى جعل النص المقروء أقرب إلى النص الذي صنفه صاحبه وذلك لضمان سلامة انتماء الكلام إلى مؤلفه. وهذا التثبت يتطلب من المحقق:أولا الحصول على نسخ متعددة من المخطوط ليتسنى له المقارنة بينها وتمييز كلام المؤلف من تدخلات النساخ، وثانيا: معرفة واسعة بالكلام العربي وصوره وتباين مصنفيه وثقافاتهم واختلافها بحسب العصور والانتماء الثقافي لتسهل عليه نسبة الكلام إلى قائله. وثالثا: العمل على تقريب النص، بعزو الكلام المستشهد به إلى أصحابه، وتوضيح ما غمض منه أو التبس بشرحه. ولما كانت النصوص المخطوطة مكتوبة بطريقة تتلاءم مع مراغمات الكتابة المخطوطة، على المحقق التدخل في تنظيمها فضائيا لتتلاءم مع المطبوع، وذلك ب: توزيع النص على الصفحة توزيعا يراعي الفرق بين الأجناس ( شعر، استشهادات،،، ) وبوضع عناوين وفهارس كثيرة للأعلام والشواهد والأماكن،،، تساعد القارئ على التواصل مع الكتاب بكيفية مثالية. وتظهر لنا منجزات التحقيق الهامة في التعامل مع المخطوط بجلاء عندما نقارن بين كتاب محقق تحقيقا علميا، وآخر مطبوع طباعة تجارية.

نقتطف شواهد من مقدمة زكي مبارك لكتاب زهر الآداب ليظهر لنا الفرق جليا بين الكتاب المحقق وغير المحقق. يقول زكي مبارك( 3 ) في تصدير تحقيقه لزهر الآداب (1925):

" كان زهر الآداب مطبوعا على هامش العقد اللفريد من غير ضبط ولا شرح. وكان يكفي أن يطبع الكتاب طبعة أزهرية ليصبح مثالا في المسخ والتشويه، ولتقذى في قراءتها العيون، وتضل في فهمه العقول، فأنفقت من جهدي ومن وقتي، في تحقيق ما جناه مر السنين وعبث الجاهلين ، ما لا أمن به على القارئ إلا وأنا آسف محزون، لأني مدين لمن طبعوه أول مرة على أي حال، أحسن الله جزاءهم، وتجاوز عما رماهم به الزمن من ألوان الضعف والقصور ". ( ص. 20 )

ينوه زكي مبارك هنا أولا بالطبعة الأولى للكتاب رغم مساوئها، لكنه بالمقابل يبرز التشويه الذي لحق به. إن طبع الكتاب المخطوط، كما هو، أي بدون تحقيق يجعل من الصعوبة بمكان التعامل معه، تماما كما يحصل لنا الآن مع " الكتاب الإلكتروني العربي " ؟ ولإزالة التشويه والمسخ الذي لحق بالكتاب نتيجة طبعه طبعة غير محققة بذل المحقق جهدا كبيرا لجعله الكتاب قابلا للقراءة ومتلائما مع الطباعة. لنقرأ ما كتبه بصدد العمل الذي قام به:

أ. " وقد ظل ( يقصد زهر الآداب ) بين يدي تسعة أشهر،،، فقرأته، ثم قرأته، وعنيت بضبطه، وتصحيح ما وقع فيه من الأغلاط، ثم رأيت أن أفصله، والتفصيل فيما أريد هو أن أضع عنوانا لكل موضوع، وما أكثر ما في الكتاب من الموضوعات، لأن المؤلف وضع قليلا من العناوين، ثم أخذ يستطرد من معنى إلى معنى، ومن غرض إلى غرض، من غير أن يهتم بالترتيب والتبويب.

وأرجو أن لا يجد القارئ في هذا الصنع تشويها لعمل المؤلف فقد أبقيت الكتاب كما هو، وأبقيت على عناوينه وأبوابه، وفقره وفصوله، ووضعت ما أبدعت من العناوين في بنط خاص، فإذا شاء القارئ أن يعرف كيف وضع الكتاب مؤلفه فليرفع فقط ما جد من العناوين ". (ص. 19).

ب. " في الطبعة القديمة كثير من الأغلاط ولا غرابة في ذلك، فقد كان الأدب يوم ظهر قليل الأنصار، وقد اعتمدت في ضبط هذه الطبعة على مراجعة الأصول التي أخذ منها زهر الآداب، وعلى ما أثق به من مختلف المعاجم والقواميس،،،" (ص. 20ـ 21 ).

ج. " وقد قسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء، وكان المؤلف قسمه إلى ثلاثة، وهي مسألة اعتبارية، لأن الكتاب في الأصل مبني على التنقل والاستطراد ". ص. 21

نستخلص من عمل المحقق أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام كبرى:
أ. علمي: يتصل بتدقيق النص، والتثبت من صلته بمؤلفه، ويستدعي هذا معرفة موسوعية بالنص العربي وبخطوط الكتابة، وبأنواع المخطوطات،،،
ب. معرفي: ويتصل بمعرفة نوعية النص للتدخل فيه بقصد تفسير ما غمض فيه، والتعريف بأعلامه وتخريج نصوصه المتفاعل معها، وذلك في الهوامش التي يضعها المحقق.
ج. تقني: ويتمثل في توزيع النص وإعادة تنظيمه لأن كتابة المخطوط خطية بصورة كبيرة، وتمييز كلام المؤلف عن كلام غيره، ووضع العناوين والفهارس،،،
إن كل هذه المهام التي يقوم بها المحقق متداخلة، ولا تتأتى لكل الناس. ولهذا الاعتبار، فنحن أمام " علم " له قواعده وشروطه ومتطلباته.

لقد تولد هذا العلم تحت تأثير التطور الذي عرفته الدراسة العربية نتيجة العمل الذي اضطلع به المستشرقون مبكرا في إدخاله إلى الثقافة العربية عن طريق إقدامهم على تحقيق نصوص هامة من التراث العربي، فكانت بذلك نوذجا يحتذى. وتفنن المحققون العرب في تطوير هذا العلم، فكتبوا في آليات إنجازه نظريا وتطبيقيا. وعملوا على إدراجه في المقررات الجامعية، وصار ممارسة يضطلع به الطلبة الباحثون في إعداد رسائل وأطاريح حول مخطوطات عربية وفق قواعد ومناهج علم التحقيق.

يقول عبد السلام هارون في هذا النطاق:
" وقد ناديت في مقدمة إحدى منشوراتي أن تلتزم كلياتنا الجامعية ذات الطابع الثقافي الإسلامي تكليف طلبة الدراسات العالية أن يقوم كل منهم بتحقيق مخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة التي يتقدم بها فقلت: "وإنه لما يثلج الصدر أن تتجه جامعاتنا المصرية اتجاها جديدا إزاء طلابها المتقدمين للاجازات العلمية الفائقة، إذ توجههم إلى أن يقدموا مع رسالاتهم العلمية تحقيقا لمخطوط يمت بصلة إلى موضوع الرسالة. وعسى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه هذا الأمر ضريبة علمية لا بد من أدائها". ( ص. 6). 

3. الرقيم وتحديث البحث الجامعي:
3. 1. لقد بينا، سابقا، طبيعة المكتبات الألكترونية العربية، ووقفنا عند كون النصوص المرقمة العربية قصرت حتى عن الكتب المحققة، لأن الذين أقدموا على تحويل هذه الكتب إلكترونيا عمدوا إلى إزالة كل ما يتصل بعمل المحقق في الكتب التي عملوا على إدراجها في مكتباتهم الإلكترونية. بذلك قدموا الكتاب وهو في وضعية ما قبل التحقيق ( بدون مقدمات أو شروح أو فهارس ).

عندما يضاف إلى ذلك غياب شكل النص، أو على الأقل ما يستدعيه، وكثرة الأخطاء الناجمة عن الرقن، وغياب توزيع النص فضائيا، وأحيانا حتى بدون علامات الوقف أو الترقيم،،، أمام وضع كهذا، نجد أن النص العربي القديم المقدم إلكترونيا شكل خطوة إلى الأمام ( نقل الكتاب من الطباعة إلى الرقامة ). ولكنه، الوقت نفسه، خطا خطوتين إلى الوراء، ( الرجوع إلى النص ما قبل التحقيق ).

3. 2. إن ترقيم النص العربي لا يمكنه أن يتحقق، على الوجه الأمثل، مالم يفلح في جعل النص الرقمي العربي بديلا، أو متقدما، عن النص المطبوع، تماما كما كان النص المحقق بديلا ومتقدما عن الكتاب المطبوع طبعة تجارية. وما دام المستعمل العربي في حاجة إلى الرجوع إلى الكتاب المطبوع المحقق لأن الكتاب المرقم دونه من حيث المستوى والدقة وسهولة التناول، فإن هذا الكتاب الإلكتروني سيظل بدون قيمة. ولا عبرة هنا بالكم المتزايد من المواقع العربية التي تشغل نفسها بمراكمة الكتب.

أرجعنا أسباب لا أهمية الكتاب العربي المرقم إلى عدة اعتبارات، لعل أهمها يكمن في غياب رجال العلم بالنص العربي في عملية إعداده الإلكتروني. إذ مهما كانت ثقافة التقني العربي فهي تقصر عن الإلمام بمختلف المعارف التي يتوفر عليها المختصون. لأجل ذلك، قلنا مرارا وتكرارا، إن الانتقال إلى المرحلة الرقمية في إخراج النص العربي القديم وليد تضافر عدة مجهودات، نجملها فيما يلي:

3. 2. 1. المحقق الجديد: الذي يمتلك تكوينا معرفيا وعلميا أساسيا بالثقافة العربية والأدب العربي. هذا إلى جانب معرفة، ولو أولية، إن لم تكن متعمقة، بالحاسوب وبتقنيات النص المترابط والكتابة الرقمية. إنه، كما سبق أن وسمناه مرة: عبد السلام هارون الذي يمتلك معرفة بالمعلوميات.

3. 2. 2. المبرمج: المختص بالمعلوميات، وعنده خبرة دقيقة بصناعة الكتاب الإلكتروني إلى جانب امتلاكه معرفة بتقنيات النص المترابط، وله إلمام واسع بالثقافة العربية.

بتوفير هذين " الرجلين "، إما في رجل واحد، أو منفصلين، ولكنهما يعملان معا، يمكننا القول إننا بدأنا نتلاءم مع العصر الرقمي وندخله من بوابته الحقيقية. ويستدعي هذا تكوينا وتعليما جديدين، سواء في المرحلة الثانوية أو في التعليم العالي. فطلبة المعاهد العلمية يحتاجون إلى تكوين ثقافي عربي أصيل. وطلبة كليات الإنسانيات والآداب واللغات في أمس الحاجة إلى تكوين عميق في تكنولوجيا الإعلام والتواصل. 

3. 3. إن علم التحقيق الجديد، تبعا لهذه الضرورات التي نتحدث عنها، هو "الترقيم ". ولما كانت مادة " التحقيق " تقدم في كليات الآداب، وخاصة لطلاب السلك الثالث، عندما كانت الجامعة ( في المغرب مثلا ) تحتضن أساتذة من قبيل أمجد الطرابلسي وعزت حسن ومحمد بنشريفة وعباس الجراري،،، فإن غياب مثل هؤلاء الأساطين جعل مادة " التحقيق " مغيبة، ومحتقرة. ولقد انتفى تحقيق المخطوط العربي أو كاد من جامعاتنا للأسف الشديد، رغم أن العديد من المخطوطت العربية لما تعرف بعد طريقها إلى المطبعة ؟

من المطلوب، في ضوء ما نطرحه، ترهين مادة " التحقيق " وتطويرها لتتلاءم مع العصر الرقمي، ليضاف إليها البعد الترقيمي، لأننا مطالبون بترقيم النص العربي في مختلف المعارف والاختصاصات والحقب والعصور. وهذا مطلب حيوي وأساسي ومستعجل.

يتطلب هذا الترهين، من جهة، إعادة النظر في مقررات الدراسة الأدبية في الجامعات العربية بشكل يجعلها تواكب المستجدات الرقمية. وإذا كانت مادة " تقنيات التعبير والتواصل " (TEC) من المواد الجديدة التي بدأت تدخل كلياتنا بعد الإصلاح الجامعي ( في المغرب مثلا) تحت تأثير الارتباط بسوق الشغل، فإنني كنت، من المدافعين في لجنة الإصلاح بالرباط، ليس عن TEC ولكن عن تكنولوجيا الإعلام والتواصل ( TIC)، وشتان بينهما. ومع ذلك فإني أرى أن " مادة تقنيات الكتابة " العربية القديمة والحديثة، و" تقنيات صناعة الكتاب " العربي القديم والحديث يمكن أن تكون أساسية في تعليمنا الجامعي، للتعرف من خلالهما على المادة المعرفية العربية وآليات إنتاجها وتلقيها. وبذلك يمكن للطالب أن يحيط بقسم كبير من المؤلفات العربية ويتعرف على محتوياتها وأشكالها بطريقة جديدة، تختلف عن تلك التي تلقينا بها هذا الأدب من خلال المحاضرات والأمالي.

وإلى جانب هاتين المادتين، تقدم للطالب في قسم العربية مثلا ( وكذلك باقي الأقسام ) المعرفة الضرورية في المعلوميات وتصميم البرامج.

تبعا لهذا التكوين الجديد، يمكن للطالب إعداد أطروحة جامعية من خلال ترقيم مصدر من مصادر الثقافة العربية ( كتب التفسير والحديث، الأغاني، رسائل الجاحظ، نثر االدر، الكامل في التاريخ،،،) يزاوج في أطروحته بين الجانب العلمي والمعرفي: تقديم نص كما أراده صاحبه ( محققا تحقيقا علميا )، وفي الوقت نفسه يحقق الجانب التقني: تقديم النص المحقق من خلال برنامج يجعل المستعمل يتعامل معه بحيوية ومرونة وسهولة، ويستفيد منه بأقصى السرعة التي يستدعيها العصر.  

4. تركيب:
بناء على هذا التصور سنتقدم بالتدريج في ترقيم النص العربي وجعله متلائما مع الأجيال القادمة، فتستفيد من الكتاب العربي الرقمي على نحو أحسن مما كان عليه الأمر مع الأجيال التي سبقتها.

إن الترقيم، كعلم جديد، يمكن أن يسهم بدور كبير في تحديث الدرس والبحث الجامعيين، ويصل تدريس الأدب بالعصر الرقمي، كما أنه يسهم في جعل طالب قسم الأدب العربي، وهو الذي كان أبدا طليعيا في ثقافتنا الحديثة، ابن العصر الرقمي يسهم في آن واحد في تطوير الكتابة العربية الرقمية، وتجديد دمائها، وفي ضخ دماء جديدة في نصوصنا العربية القديمة عن طريق ترقيمها، وجعلها رقمية، لا إلكترونية فقط : أي متلائمة مع العصر الرقمي الذي علينا دخوله برؤية واضحة ودقيقة، واستراتيجية بعيدة المدى.


 

1. رمضان عبد التواب، مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحدثين، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1986، ص. 3
2. عبد السلام محمد هارون، تحقيق النصوص ونشرها، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1385هـ = 1965م، ص. 6
3. زهر الآداب وثمر الألباب، الحصري، تحقيق زكي مبارك، دار الجيل، ط.4، 1972.

said@wanadoo.net.ma

www.yaktine-said.com