مقدمة:
«ولد أرسطو، عاش ومات»؛ بهذه العبارة بدأ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976) محاضراته التي كرسها لتفسير نص من نصوص المعلم الأول أرسطو طاليس في كتاب "الطبيعة". هي عبارة شديدة البساطة، بالغة الدلالة، تختصر حياة الفيلسوف في فكره، وتضم تجربته على درب الفكر إلى تجربته على دروب الحياة.(1)
ولا شك أن هذه العبارة إنما تصدق على مارتن هايدغر نفسه؛ فلئن كان قد رام من وراء استعمال هذه العبارة الانكباب على دراسة نصوص أرسطو بمنأى عن كل ما يمت بصلة لأرسطو كشخص وكخصوصية فردية، فإنه بإمكاننا - نحن أيضا - الاستعانة بذات العبارة للتمييز وإقامة مسافة فاصلة بين هايدغر الفيلسوف والمفكر المبدع، وهايدغر الرجل المنتمي سياسيا وإيديولوجيا. وتلك هي الغاية التي قصد إليها يورغن هابرماس عبر مجموعة من النصوص المتفرقة التي اجتهد الأستاذ عز الدين الخطابي في ترجمتها وجمعها بين دفتي كتاب اختار له عنوان: (هايدجر والنازية، التأويل الفلسفي والالتزام السياسي)(2) فكان أن وفق في الترجمة، وفي رصد علاقة الفلسفة بالسياسة بشكل عام، وعلاقة هايدغر بالنازية بشكل خاص، من خلال نصوص هابرماس،(3) في مستويين متباينين: المستوى السياسي والمستوى الفلسفي.
1 - المستوى السياسي:
لم تكن سياسات هايدغر لتمر مرور الكرام في عصر فائر بالأحداث السياسية، وما كان لانجراره خلف النازية إلا أن يجر عليه انتقادات لاذعة، جاءته من خصومه ومن مقربيه أيضا، وخاصة من الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت التي ذهبت إلى حد تشبيه انتصاره للنازية بلجوء أفلاطون لطاغية صقلية، حين قالت بمناسبة الاحتفاء بعيد ميلاده الثمانين: «نحن الذين نريد تكريم المفكرين، رغم أن مقامنا يوجد وسط العالم، لا يمكننا أن نمنع أنفسنا من الإقرار بالطابع المدهش، بل وربما الفاضح لواقع كون أفلاطون كما هايدجر، قد لجآ إلى المستبدين والديكتاتوريين حينما انخرطا في الشؤون الإنسانية».(4)
لقد شكلت علاقة هايدغر بالنازية مدار نقاش تواصل على امتداد عقود من الزمن؛ وأدى هذا النقاش المتواصل إلى ظهور العديد من الآراء والمواقف التي تراوحت بين الإدانة تارة، وبين الصفح والتجاوز طورا؛ فبينما نحا الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز منحى الإدانة من منطلق أن «عقلية هايدجر ديكتاتورية، ذات طبيعة غير ميالة للحرية وتجهل التواصل»،(5) سيذهب المفكر الفرنسي جان بوفري إلى التأكيد على أن هايدغر راح ضحية أوهام، فكتب بهذا الصدد: «من الواضح أن هايدجر اعتقد سنة 1933 بأن ألمانيا ستحقق انبعاثا جديدا مع النازية، وستستمر هذه الأوهام حتى بداية سنة 1934، وهي الفترة التي سيستقيل فيها من وظيفة رئيس الجامعة التي طلب منه زملاؤه بالإجماع مزاولتها في ماي 1933. هكذا، فإن علاقته بالنازية، تقتصر على عشرة شهور من التعاون الإداري والاتفاق المعلن أمام العموم. ويمكن اعتبار هذه المدة طويلة، لكن لا يمكننا أن ننسى بأن هذه الشهور، قد تلتها اثنتي عشر سنة من الانسحاب، حيث أن دروسه كأستاذ وصمته ككاتب، جعلاه غير محتمل بالنسبة للسلطة (النازية)، مما أدى إلى إبعاده عن الجامعة سنة 1944؛ وهو الإبعاد الذي ستزكيه سلطات الاحتلال فيما بعد».(6)
ولم تكد علاقة هايدغر بالنازية أن صارت موضوعا لمؤلفات عديدة، كان هدفها هو إبراز تأثير المواقف السياسية والإيديولوجية على خطاب الفيلسوف وعلى مساره الإبداعي كمفكر؛(7) ثم ما لبثت كذلك أن تجاوزت حدود ألمانيا (كارل ياسبرز، هربرت ماركوز، كارل لويث، مانفريد فرانك ... إلخ) لتصبح موضوعا للأخذ والرد خارجها (فكتور فاريا، جاك دريدا، إيمانويل ليفيناس، جان بوفري ... إلخ)(8) .ومهما يكن من أمر علاقة هايدغر بالنازية، وهل كان ضحية للنازية كما يقول بوفري أم كان على وعي بخلفياتها الإيديولوجية من منطلق أنه لم يتخل عن مواقفه البتة كما يقول هابرماس نفسه، فإن ما يميز مقاربة هابرماس هو اتسامها بطابع فلسفي/ نقدي جعلها تنأى عن السقوط في متاهات السجال الإيديولوجي، وعن إصدار أحكام أخلاقية مسبقة على هايدغر وعمله انطلاقا من مواقفه السياسية، ربما استئناسا من هابرماس بهيجل الذي رأى أن الأفراد الذين يتجسد من خلالهم التاريخ الكوني، لا يحاكمون انطلاقا من معايير أخلاقية.(9) وربما تأثرا منه أيضا بتقليد نقدي امتد إليه من مدرسة فرانكفورت عبر أعمال أدورنو وهوركهايمر وماركوز.
إن ما يميز نصوص هابرماس حول سياسات هايدغر هو: أن جل الأعمال التي تطرقت لسياسات هايدغر (علاقته بالنازية) اقتصرت على أعماله المكتوبة بين سنتي 1933-1938 (خطاب رئاسة الجامعة، درس "مدخل إلى الميتافيزيقا" ... إلخ)؛ أما هابرماس فيرجع إلى ما قبل هذه المرحلة، إلى الوراء وتحديدا إلى كتاب (الوجود والزمان) الذي يعتبره أهم حدث فلسفي منذ ظهور كتاب هيجل (فينومينولوجيا الروح). إن هذه السمات المميزة لنصوص هابرماس بصدد سياسات هايدغر، تسمح لنا بالقول أن هابرماس إنما كان يروم من وراء هذه النصوص، بلورة قراءة جديدة وغير متحيزة للجانب السياسي ضمن مواقف هايدغر الفلسفية - التي طرحت على بساط النقاش بعد نهاية الحرب (1945) - انطلاقا من موقف نقدي مفاده أنه: «لا يجب أن يعمل الحكم الأخلاقي الصادر عن الأجيال اللاحقة، على إخفاء المضمون الموضوعي للعمل الفلسفي».(10)
وإذ لا ينكر هابرماس تماما تلك «الرابطة الموجودة بين العمل الفلسفي والسياق البيوغرافي الذي أدى إلى تكونه»،(11) وإذ لا ينكر أيضا «درجة المسؤولية التي يتحملها المؤلف عندما تكون لديه الإمكانية للقيام برد فعل تجاه النتائج غير المرغوب فيها لخطابه»،(12) فإنه يرفض - بالمقابل - ذلك التصور الصارم جدا للوحدة بين العمل الفكري وشخص المفكر، لأنه «لا يأخذ بعين الاعتبار استقلالية الفكر، ولا تاريخ فعاليته على الخصوص».(13) وهكذا، فبدل تطبيق تلك القاعدة الصارمة، التي يلزم بمقتضاها أن يتجلى مضمون حقيقة مذهب فلسفي بالضرورة عبر روح ونمط عيش الفيلسوف الذي صاغ هذه الحقيقة، كما فعل كارل ياسبرز، سيؤكد هابرماس، أكثر من مرة، على ضرورة التمييز بين هايدغر الفيلسوف والمبدع والمفكر الفذ الذي أغنى المكتبة الفلسفية بأعمال خالدة، وبين هايدغر الإنسان بسلبياته وإيجابياته.
فمن اللازم علينا ألا نقيم علاقة مباشرة بين العمل الفلسفي وشخص مبدعه، ويتضمن هذا الأمر إقرارا بعدم اختزال هايدغر في الإطار السياسي والإيديولوجي الضيق.(14) إن الفيلسوف مارتن هايدغر - يقول هابرماس - لا يهمنا في هذا المقام كفيلسوف، بل ما يهمنا بالأحرى هو إشعاعه السياسي وتأثيراته، ليس فقط على النقاشات المحدودة بين الجامعيين، بل على تشكل إرادة الطلبة السريعي الحماس والهيجان.(15) ولأجل بيان تهافت الربط بين مواقف هايدغر السياسية وأفكاره الفلسفية، ولأجل تأكيد رفضه لتصورات مجايليه من الفلاسفة والمثقفين ومواقفهم من سياسات هايدغر، يبادر هابرماس إلى طرح السؤال التالي: لماذا لم يؤثر موقف هايدغر من النازية على تلقي فلسفته وأعماله؟ أما الغاية من طرح هذا السؤال، فهي إظهار أن مواقف هايدغر السياسية لم تؤثر قط في تلقي فلسفته وأعماله، إذ لو كانت هناك علاقة بين الفيلسوف ومواقفه لآثرت مواقفه على تلقي فلسفته التي ما فتئت تمارس تأثيرا قويا حتى على منتقديه، لأسباب منها:
- أن النشاط الفلسفي المعاصر هو نتاج للتأثيرات التي أحدثتها مؤلفات فلسفية فارقة(16) من جملتها مؤلف هايدغر (الوجود والزمان) الذي أعطاه شهرة واسعة، وجعل منه مفكرا من الدرجة الأولى(17).
- أن هايدغر بشر بآفاق مغايرة، فتح مسالك جديدة، و«أعاد، وبشكل أصيل، صياغة هرمينوطيقا دلثي Dilthey والفينومينولوجيا الهوسرلية اللتين كانتا متنافستين آنذاك، بشكل مكنه من إدراج التيمات البرجماتية لماكس شيلر Max Scheler بداخلها وباقتراح فكر للتاريخانية يتجاوز فلسفة الذات»(18) .
- أن هايدغر مارس بفكره تأثيرا أكاديميا لم ينقطع على الجامعات الألمانية، وقد امتد هذا التأثير الأكاديمي إلى أواخر الستينيات، حيث شكل مدرسة فلسفية قائمة بذاتها. ومن هنا ضرورة «فحص التأثير الذي مارسته تعاليم هذا الفيلسوف. فالعديد من الأساتذة الحائزين على كراسي جامعية أو الطامحين إلى ذلك، يعلنون انتسابهم الفكري إلى هايدجر، باعتباره هو من حفز مسارهم الفلسفي. وقد تبنى الكثير منهم التيمات الفكرية لهذا الأخير واستدمجوها. كما أن أكثرهم تأثر بشكل عميق، بما طرحه من أفكار»(19) .
- أن إشعاع هايدغر الفلسفي لم يتوقف عند حدود ألمانيا بل تعداها إلى خارجها؛ ذلك أن نقده للعقل الذي دشنه بتأويله لأفلاطون سنة 1931 (والذي سيتطور ما بين 1935 و1945)، ونقاشه المتعلق بنيتشه، وتأويله الغني بالنتائج لديكارت، مارس تأثيرا قويا على الهرمينوطيقا الفلسفية لهانس جورج غادامير (التي تعتبر إحدى الابتكارات الفلسفية الأكثر أهمية في فترة ما بعد الحرب)؛ وامتد هذا التأثير الذي مارسه النقد الهايدغري للعقل إلى الفلسفة الوجودية لجان بول سارتر، وفينومينولوجيا موريس ميرلو بونتي، والتحليل الفوكوي لأشكال المعرفة، ونقد فكر التمثلات عند ريشارد رورتي، ودراسة تجربة العالم المعيش من طرف هوبرت دريفوس.(20)
إذا كانت فلسفة هايدغر إذن قد مارست كل هذا التأثير على الفكر الفلسفي المعاصر، فليس فقط لخصوصية هايدغر كمفكر فذ، بل لأنها شكلت مكانا عاما التقت عنده روافد فلسفية وانصهرت فيه؛ ومن جملة هذه الروافد:
- رافد نيتشه: حيث تحولت مهدوية نيتشه - التي تسمح حسب تعبير التصوف اليهودي بتعقب الخلاص - عند هايدغر إلى انتظار يوم قيامة هذه الكارثة التي سيتجلى فيها العهد الجديد.(21)
- رافد هولدرلين: حيث استعار هايدغر من هولدرلين، ومن التيار الرومانسي ككل، فكرة الإله الغائب، وذلك بغرض فهم نهاية الميتافيزيقا كـ"انتهاء"، أي كعلامة مؤكدة على بداية أخرى.(22)
- رافد هيجل: حيث استعاد هايدغر، انطلاقا من نقده للنزعة الذاتية للأزمنة الحديثة، موضوعة الاختلاف التي شكلت منذ هيجل سجل الخطاب الفلسفي للحداثة، فأضفى عليها صبغة أنطولوجية، وعمل من خلالها على محاكمة العقل المتمركز حول الذات(23) .
وعليه، فإن ما يستحق أن نتوجه إليه بالاهتمام ليس هو رصد علاقة فلسفة هايدغر بالنازية، بل هو «معرفة، هل توجد رابطة داخلية بين فلسفة هايدجر، والطريقة التي أدرك بها هذا الأخير، الوضع التاريخي المعاصر».(24)
2 - المستوى الفلسفي:
إن قراءة فلسفة هايدغر من الداخل هي مناسبة لاكتشاف مواقفه السياسية، إذ هي فلسفة تضمر مواقف سياسية. ومن أجل مقاربة نقدية لفلسفة هايدغر، ورصد العلاقة الداخلية بين التزامه السياسي وفلسفته، سيعمل هابرماس على فحص نصوص أساسية لهايدغر، وسيقوده هذا الفحص النقدي إلى تسجيل جملة ملاحظات على فلسفة هايدغر، يمكن إجمالها في ما يلي:
- إن إنعام النظر في المجلدين المخصصين لفريدريك نيتشه (الذي كان بمثابة سلطة مرجعية بالنسبة للفلسفة النازية الرسمية) يظهر أن هايدغر لم يتخلص أبدا، قبل نهاية الحرب، من اختياره السياسي الأول.(25)
- إن التثمين الوطني للألمان باعتبارهم قلب الشعوب (وهو التثمين الذي لم يتغير في الجوهر)، وأن الوطنية المكشوفة التي جهر بها علنا سنة 1933 تظل ثابتا بالنسبة لفكره، وآية ذلك أنه اعتبر الشعب الألماني (في "مدخل إلى الميتافيزيقا") بمثابة الشعب الميتافيزيقي الوحيد الذي سيخلف الإغريق، والذي ينتظر منه تغيير المصير الكوني؛ وسيتكرر هذا التأويل مرة أخرى في درسه حول برمنيدس (1942) وأيضا حول هيراقليطس (1943) بدليل قوله: «يمكن من الألمان وحدهم - لكن على شرط أن يكتشفوا ويحافظوا على الجرمانية - أن ينبثق الوعي الحاسم بالنسبة للتاريخ الكوني».(26)
- إن كتاب (الوجود والزمان) رغم صبغته الفلسفية وقوة حججه التي جعلت هابرماس يعتبره أهم مؤلف فلسفي ظهر بعد مؤلف (فينومينولوجيا الروح) لفريدريك هيجل، لم يخلو -مع ذلك - من مواقف سياسية وإيديولوجية مضمرة ومستترة؛ ومن هنا تساؤل هابرماس: «كيف تسنى لمؤلف الوجود والزمان - وهو الحدث الفلسفي الأهم منذ ظهور كتاب هيجل "فينومينولوجيا الروح" - الذي بلغ مقاما رفيعا، أن ينحدر إلى نمط وضيع من التفكير، يبدو للملاحظ اليقظ كإثارة مفتعلة للمشاعر، تجلت عبر الدعوة إلى التأكيد الذاتي للجامعة الألمانية؟».(27)
- إن المنعطف الذي ادعى هايدغر الانخراط فيه منذ 1930 ليس تحويلا لنظرة (الوجود والزمان)، وإنما هو بمثابة رؤية استرجاعية لهذا المؤلف - الذي لم يكتمل قط - تروم تنقية تصوره لتاريخ الوجود من كل عنصر إيديولوجي يمكن أن يفضح مصدره.(28)
إن إخضاع فلسفة هايدغر لقراءة نقدية عميقة ورصينة، لا تفصح فحسب عن مواقفه السياسية، بل إنها تفصح أيضا عن كون هذه الفلسفة - وهذا هو ما يهم هابرماس - لم تتحرر قط من خطاب الحداثة، الذي لطالما رفعت شعار القطع معه؛ ولعل في كشف الثغرات والعثرات التي وقعت فيها هذه الفلسفة، وهي تسعى لنقد مشروع الحداثة، ما يدل على ذلك. ومن جملة هذه العثرات والثغرات:
- إن هايدغر لم يكن بوسعه فهم تفكيك تاريخ الميتافيزيقا كنقد كاشف للأوهام، ولا فهم مجاوزة الميتافيزيقا كفعل نهائي للكشف، لأن التأمل الذاتي المرتبط بهذا الكشف لا يخرج عن فلسفات الوعي والذات. ولأجل تلافي الوقوع في شرك هذه الفلسفات، ولأجل إنقاذ العلم والفلسفة معا من الوقوع أسرى في براثن النزعة الموضوعية، سيعمد هايدغر إلى القيام بتعديل مريع للتطورات المختلفة للعلوم وللفلسفة منذ هيجل.(29) بيد أن هايدغر الذي رأى أن تاريخ الفلسفة والعلوم منذ هيجل هو مجرد تكرار روتيني لأحكام أنطولوجية مسبقة خاصة بفلسفة الذات، إنما ظل أسير الإشكاليات التي تلقاها من فلسفة الذات وتحديدا من الفينومينولوجيا الهوسرلية(30) .
- إن نقد الحداثة عند هايدغر مستقل عن كل تحليل علمي، لأن الانطولوجيا الأساسية التي أقام دعائمها، ترفض كل الأسئلة التجريبية والمعيارية التي يمكن أن تعالج بأدوات السوسيولوجيا والتاريخ. وعلى الرغم من أن هايدغر حاول الاستعاضة عن هذه الأسئلة والأدوات ذات النفحة الوضعية بمحاولات أكثر جدية، تسعى لتوضيح المفاهيم الأنطولوجية للتقنية والكليانية وبشكل عام للسياسة، إلا أن تلك المحاولات تبرز بوضوح الواقعة الساخرة المتمثلة في سقوط فكر هايدغر بسهولة في حبال العلوم التي يعتقد أنه تخلص منها،(31) فـ«لم تتمكن الأنطولوجيا الأساسية من تجنب التيهان داخل مأزق فلسفة الوعي التي كان من المفروض أن تخرجنا منها. وبالفعل، فإن المنعطف الترسندنتالي للأنطولوجيا (الذي راهنت عليه) قد ارتكب نفس الخطأ الذي تؤاخذ عليه النظرية الكلاسيكية للمعرفة».(32)
- إن ما هو أصيل لدى هايدغر هو استخدامه لمفهوم "العالم" لنقد فلسفة الوعي،(33) أما أحكامه النقدية حول الجماعة وديكتاتورية الفضاء العمومي وعجز المحيط الخاص والتكنوقراطية وحضارة الجماهير فتخلو من كل أصالة، لأنها تشكل جزءا من سجل الآراء المميزة لمجايليه من المثقفين الألمان.(34)
- إن ما يعتمد عليه هايدغر لمواجهة أزمة الحداثة، وأيضا لمعارضة الميتافيزيقا، ليس هو النقد بل هي الأسطورة؛ كما أن منهجه ليس من طبيعة نقدية ولا يستمد خصوصيته منها. فضلا عن أن نقد اللغة يظل غريبا عنه،(35) و«لربما كان ما يميز الفكر الهايدجري، بطريقة غير مباشرة، هو ما ينفلت منه: فهو لا يرتبط بالممارسة الاجتماعية مثلما أنه لا يسعى إلى تأويل نتائج العلوم. وعلى العكس من ذلك، فإن هايدجر يبرز الحدود الميتافيزيقية لهذه الأخيرة ويضعها، مثل التقنية، ضمن ما يدعوه بالتيه".(36)
وعليه، فإن هايدغر الذي فكك في مرحلة أولى فلسفة الذات، سيخضع في مرحلة ثانية للإكراهات المفاهيمية لفلسفة الذات،(37) وهايدغر الذي لطالما انتقد عملية قلب الأفلاطونية عند نيتشه سيعمد هو نفسه إلى قلب فلسفة الأصل دون التخلي عن إشكاليتها،(38) وأخيرا، «فهايدجر الذي طالب بقلب غير مشروط للنماذج الفكرية الخاصة بفلسفة الذات، لم يتخلص من المشاكل التي طرحتها هذه الفلسفة»؛(39) وبتأملنا في هذه النتائج، يقول هابرماس، سنشك في مدى تحرر فلسفة هايدغر في مرحلته الأخيرة، وهي التي تزايد على النقد النيتشوي للميتافيزيقا، من خطاب الحداثة فعليا.(40)
خاتمة:
تأسيسا على ما سبق ذكره، يمكن القول إن ما خلص إليه هابرماس من خلال قراءته لمتن هايدغر، هو أن الموقف السياسي الملتبس لهذا الأخير لم يؤثر على أعماله التي ظلت تحتل مكانة بارزة في الفكر الفلسفي المعاصر؛ أولا، لأن «شروط الاستقبال التي يحظى بها عمل ما، مستقلة بشكل كبير عن مواقف مؤلفه»،(41) وثانيا، لأن «عمل هايدجر، مثل كل عمل فلسفي، يدين باستقلاليته إلى قوة حججه».(42) ومثل هذه النتيجة، إنما تعني لنا - نحن كقراء - أن هابرماس ينأى بنفسه عن إقامة علاقة مباشرة بين العمل الفلسفي وشخص مؤلفه، بين فكر هايدغر واختياراته السياسية والإيديولوجية. فما يريده هابرماس ويسعى إليه - من خلال قراءة متأنية لفلسفة هايدغر - هو التأسيس لنقد علمي/ معرفي لفلسفة هايدغر بدل نقدها نقدا إيديولوجيا؛ فتوجيه النقد إلى فلسفته انطلاقا من مواقفه السياسية، يمنعنا من توجيهه إلى فكره وكشف ثغرات فلسفته. وبعبارة أخرى: يريد هابرماس أن يباشر قراءة نقدية داخلية لفلسفة هايدغر لا قراءة خارجية سطحية تختزل أفكار الفيلسوف في مواقفه الفلسفية وتعتبر فلسفته مرآة إيديولوجية لسياساته، فتنتقد منتجها كشخص، أكثر مما تنتقدها هي كفكر. وبالفعل فقد قادته قراءته النقدية الداخلية لفلسفة هايدغر إلى اكتشاف أن هذه الفلسفة بقدر ما اتصفت بطابع الخلق والإبداع، وبقدر ما شكلت ملتقى لروافد فلسفية خلاقة (نيتشه، هولدرلين، هيجل)، بقدر ما بقيت أيضا سجينة فلسفة الذات، فلم تتحرر قط من خطاب الحداثة، ولم تخلو من عثرات وثغرات، جعلت هابرماس يضع نقدها للفلسفات السابقة عليها (ديكارت، كانط، نيتشه) موضع تساؤل، دون أن يبخسها حقها في التأثير على الساحة الفلسفية المعاصرة وإعادة رسم حدودها؛ ذلك ما نستشفه من قوله: «إن تاريخ التأثير الذي مارسه هايدغر يعتبر عظيما، كما أن أغلب الناس يصفون ما قام به بالعظمة. ولربما كان هذا المفكر، هو من علمنا كيف أن علاقتنا بالعظمة هي علاقة منكسرة».(43)
باحث من المغرب
هوامش:
(1) مارتن هيدجر: نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم ودراسة: د. عبد الغفار مكاوي، سلسلة النصوص الفلسفية، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977، ص: 22.
(2) يورغين هابرماس: هايدغر والنازية، التأويل الفلسفي والالتزام السياسي، ترجمة: د. عز الدين الخطابي، تقديم: عبد الكريم غريب، منشورات عالم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005.
(3) هذه النصوص هي:
- مارتن هايدجر، العمل الفلسفي والالتزام السياسي، ضمن كتاب:
- Jurgen Habermas, Martin Heidegger, l’œuvre et l’engagement, ed. du Cerf, 1988.
- التفكير مع هايدجر ضد هايدجر
- تأثير بالغ الأهمية
- أسطورة أخرى في القرن العشرين. وهذه النصوص الثلاثة مقتطفة من كتاب:
- Jurgen Habermas, profils philosophiques et politiques, Gallimard, 1974.
- نقد الميتافيزيقا كاختراق للعقلانية الغربية، ضمن كتاب:
- Jurgen Habermas, le discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988.
(4) نفس المرجع، ص: 60
(5) نفس المرجع، ص:13
(6) نفس المرجع، ص: 10.
(7) نفس المرجع، ص: 60
(8) نفس المرجع، ص: 70
(9) نفس المرجع، ص: 51
(10) نفس المرجع، ص: 11
(11) نفس المرجع، ص: 14
(12) نفس المرجع، ص: 14
(13) نفس المرجع، ص: 14
(14) نفس المرجع، ص: 10
(15) نفس المرجع، ص: 51
(16) هذه المؤلفات حسب شنادلباخ هي: "بحث منطقي فلسفي" للودفيج فتجنشتاين (1921)، و"التاريخ والوعي الطبقي" لجورج لوكاتش (1923)، و"الوجود والزمان" لمارتن هايدغر (1927).
(17) نفس المرجع، ص: 14
(18) نفس المرجع، ص: 15
(19) نفس المرجع، ص: 61
(20) نفس المرجع، ص: 47
(21) نفس المرجع، ص: 81
(22) نفس المرجع، ص: 80/81
(23) نفس المرجع، ص: 79
(24) نفس المرجع، ص: 18
(25) نفس المرجع، ص: 30
(26) نفس المرجع، ص: 32
(27) نفس المرجع، ص: 51
(28) نفس المرجع، ص: 38
(29) نفس المرجع، ص: 82
(30) نفس المرجع، ص: 84
(31) نفس المرجع، ص: 87
(32) نفس المرجع، ص: 101
(33) نفس المرجع، ص: 98
(34) نفس المرجع، ص: 87
(35) نفس المرجع، ص: 68
(36) نفس المرجع، ص: 68
(37) نفس المرجع، ص: 100
(38) نفس المرجع، ص: 102
(39) نفس المرجع، ص: 111
(40) نفس المرجع، ص: 89
(41) نفس المرجع، ص: 46
(42) نفس المرجع، ص: 47
(43) نفس المرجع، ص: 69