هنا قراءة نقدية في سردية الروائي عبدالله لحسايني، يركز فيها الباحث على تقنية العتبات في النص، فيتناول عتبة المؤلف، وعتبة التجنيس، وعتبة العنوان، وعتبة الأيقون، وعتبة المعمار الروائي. وعبر إشاراته يكشف عن بعض ما يتميز به الفعل الروائي حين تشكيل بنية النص.

جمالية العتبات

في رواية «بطاليوس عاد إلى مقدونيا» للروائي المغربي عبدالله لحسايني

نورالدين كرماط

الـــعتـبــات
(1) عتبة المؤلف
عبدالله لحسايني من مواليد مدينة بركان0198 يعد من الكتاب المغاربة الشباب الذين يشقون طريقهم بثبات في ساحة الإبداع. ولعل ما يؤكد ذلك، هو إنتاجه في الشعر والنثر. فكانت بدايته مع إصدار ثلاثة دواوين شعرية: الأول ديوان: في خاطري ترقدين(2010)، الثاني هو ديوان: جروح السنين (2011)، الثالث ديوان ترانيم الجبل(2012). وفي البحوث والدراسات له دراسة تاريخية، وتحقيق في موضوع تاريخ، وتراث قبائل بني يزناسن المتواجدين شرق المملكة المغربية على الحدود الجزائرية المغربية، والذين كان لهم الفضل في صد الاستعمار الفرنسي لما يناهز نصف قرن عبر مشاركتهم في المقاومة "الاستباقية" وشن هجمات على التراب الجزائري ضد المحتل فرنسي. والمؤلف تحت عنوان: ياث يزناسن، الثرات التاريخ والأصول، صادر عن مطــبعة جسور المغربية عام (2013). ومنه ينتقل إلى جنس القصة فكانت أضمومته: "وعاد أبو جهل" أول عمل قصصي له. وخامس عمل في مسيرته الأدبية. صدرت عام 2013 عن مطبعة جسور بوجدة وله مجموعة في القصة القصيرة جدا وسمها بــ: سيرة ابن نيشان. صدرت سنة 2014 عن مكتبة الطالب. صدر له حديثا عن دار "الطالب" أيضا بوجدة رواية "بطاليوس عاد إلى مقدونيا" الذي يعد من منشورات مرصد الإبداع الأدبي والعلمي والتقني الذي يعد مشروعا لجمعية فكرة جديدة للأدب والتنمية المجتمعية التي أسسها ورأسها الكاتب ضمن فاعلين جمعويين.

نزوعه نحو مأسسة الإبداع عن طريق المجال الجمعوي له سوابق في حياة عبد الله لحسايني العملية. فهو مجاز في التنمية الاجتماعية ومؤطر بالجامعات الشعبية التي تنظمها وزارة الشبيبة، كما شارك في ندوات تتعلق بحوار الأديان وحاضر بمعهد الحكامة والاقتصاد بالرباط في موضوع التسامح.

عتبة التجنيس
لا يجد القارئ صعوبة في تصنيف نص "بطاليوس عاد إلى مقدونيا " فخانته الجناسية واضحة رغم تداخل المحكيات والخطابات وتعدد الأساليب السردية والحوارات والمستنسخات التناصية. هو ليس بنص قصصي طويل ولا نص مسرحي متعدد المشاهد ولا سيرة ذاتية. إنما رواية قصيرة. وهذا التداخل في حقيقته يضفي لا محالة إثارة وتشويقا لدى المتلقي سواء كان قارئا عاديا أو دارسا متخصصا.

وقد حدد الدكتور أبو المعاطي الرمادي خصائص الرواية القصيرة في أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراة في عام 2003م، وهي:

1) حجم متوسط لا يمكن النظر إليه على أنه حجم لقصة قصيرة، ولا يمكن النظر إليه على أنه حجم لرواية طويلة، وهو حجم غير محكوم بعدد محدد من الكلمات. وهناك من النقاد من حصرها حجمها ما بين 10.000 كلمة و20.000 كلمة. في حين بلغ عدد كلمات رواية "بطاليوس عاد إلى مقدونيا" عشرة الاف وثمان كلمات.

2) استهلال ذو طبيعة خاصة :فتميل الروايات القصيرة للاستهلالات المركزة المكثفة؛ بسبب اعتمادها على شخصية محورية واحدة، وحدث محوري واحد، ولا يتعدى استهلالها الفقرة الأولى، وأحيانا السطر الأول، ويتميز بشيوع الحس الكوميدي، أو التراجيدي، والتأريخ للبطل والمكان وكل ما ذكره الدكتور أبو المعاطي ينطبق إلى حد كبير مع رواية بطاليوس عاد إلى مقدونيا

ومن أحسن الأمثلة على الرواية القصيرة (موت في البندقية) (عام 1912) للكاتب الألماني توماس مان، و(الشيخ والبحر) ( عام 1952) للكاتب الأميركي أرنست همنغواي.

3- عتبة العنوان
يثير عنوان الرواية مشاكسة واشتباكا بصريا ودلاليا بينه وبين المتلقي على اعتبار أن العنوان دائماً هو تاج عتبات الكتابة، إنّه من دون أدنى شكّ العتبة الأظهر والأقوى والأكثر استفزازاً لمحرّكات القراءة، وكلمة بطاليوس لفظة خصبة وثرية، تختزن شبكة دلالات متشظية، من الناحية التركيبية تتشكل من شقين:

- الشق الأول: (بطا) وهي الأحرف الأولى لكلمة بطالة، وهي الموضوعة الرئيسة في الرواية. وتعد البطالة تعد آفة إجتماعية ومشكلة إقتصادية آثرت سلبا على البطل. علما بأنه قادر على العمل وله القدرات والمؤهلات الكافية لأدائه، وسلك طرق كثيرة للبحث عنه، دون أن تمنح له فرصة لإيجاد العمل لأسبابٍ كثيرة، منها قلة فرص العمل في المجتمع الذي يعيش فيه . يقول في ص66 (أما الروح فتشفى من كل عللها حين أجد شغلا) وفي ص13 (لتحديد النسل قامت الدولة بتشجيع البطالة، فالبطالي لا يستطيع إلى الزواج سبيلا..) وفي ص 22 (بطاليوس اسمع... أعرف أنك عاطل اليوم..) وفي ص 29 (أنا أقوم بشؤوني المادية بصعوبة، فكيف أضيف عبئا ومصاريف جديدة).

- الشق الثاني من الكلمة هو (ليوس) مأخوذة من كلمة بطليموس الموريطاني أو الأمازيغي، أو بِطُوليمي، هو ملك أمازيغي حكم موريطنية (التي جمعت مورطنية القيصرية (غرب الجزائر) (وموريطنية الطنجية) شمال المغرب ).ولد الملك الأمازيغي بطليموس سنة 1 قبل الميلاد وحكم موريطنية من سنة 23 ميلادية إلى 40م وكانت عاصمته تسمى قيصرية شرشال حاليا وهي مدينة جزائرية، ووالده هو الملك الأمازيغي يوبا الثاني وأمه هي الأميرة المقدونية كليوباترا سيليني وهو بذلك يجمع بين أصول أمازيغية و مقدونية. وهذا ما أشارت إليه الرواية في المقطع المعنون بــ(المخرج) ص7.

"من انت؟

بطاليوس..

بطاليوس الملك أم الحكيم كلاوديوس؟

بطاليوس الملك الحكيم... أتيت من مقدونيا رفقة يوبا أبي الذي تزوج هناك من أجل الإقامة والجنسية اليونانية."

فما هي نقاط التشابه والاختلاف بين بطل الرواية بطاليوس أو سعيد والملك بيطاليموس:

1 كلاهما من أصول أمازيغية تخاطبه الأم ص65(أكر سني قاتر صدد)أي انهض لقد تلوتث.)

2 كلاهما يهوى أوربا ويفضل العيش فيها، أو يمكن القول لديهما هوى أوربي وإحساس بالانتماء للحضارة الأوربية.

إما الاختلاف:

1 فالأول بطال ابن رجل متقاعد. لا شغل له ولا عمل يعاني الأمرين من هذا الوحش المخيف الذي دمر جميع أحلامه وأمنياته، ورد في ص 65 قول الأم(قم تبحث لك عن شغل أقرانك يعيلون أسرهم، وأنت لا تزال تعلف من تقاعد أبيك). وفي ص 20 (إن البطالي شخص غير مرغوب فيه).

أما الثاني هو ملك ابن ملك عامل يُسير دواليب دولة يحسب لها ألف حساب.

2 سعيد أعزب يرفض الزواج من ابنة عمه مريم، و لم يوفق في الزواج من زهرة التي هاجرت إلى موريال، بينما الملك تزوج من الأميرة الأمازيغية جوليا أورانا وأنجب معها الأميرة دروسيلا.

3 سعيد حي يرزق لكنه مسجون بين قضبان الوطن الذي حرمه من معانقة الحرية في أوربا، اما الملك بطليموس عاد إلى أوربا وبالضبط إلى روماـ وفيها تم اغتياله غدرا من طرف ابن خالته الإمبراطور الروماني كاليغولا بدافع الغيرة بعدما استدعاه إلى زيارة روما سنة 40م.

فيبقى العنوان في نظري هو الأمل والحلم الذي يراود سعيد لمعانقة الحرية والعيش الكريم وتأسيس الاسرة و إنجاب الاولاد وتحقيق جميع الاحلام.

ورغم فهذا العنوان، باعتباره عتبة للنص لا يمهد لقراءة بسيطة يسيرة، كما أنه لا يعكس براءة على مستوى الكتابة بل يخلق توترا بين محفل الإنتاج ومحفل التلقي مما يؤدي إلى تناسل قراءات أخرى".

4 ـ عتبة الأيقون:
الكاتب عبد الله لحسايني هو الذي وضع تصميم الغلاف، وسلّمه إلى مكتبة الطالب، كاملاً، والتي التزمت به التزاماً كاملاً، وبذلك تكون العتبة هنا منتمية انتماء حاسماً إليه، وتصلح عندئذٍ للقراءة صلاحية تامة، مثلها مثل العتبات الأخرى، بكل حرية وشفافية وثقة ورحابة.

اللوحة التي وضعت في وسط الغلاف ليست محايدة أو عفوية أو مهملة أو ثانوية، بل تحمل من الأهمية ما تحمل. لها علاقة وطيدة بالشخصية المحورية في الرواية. فهي تجسد حبكة الرواية. البطل سعيد بطاليوس يؤثث اللوحة بكل عنفوانه، يطغى عليه الغموض فملامح وجهه ضبابية غير واضحة بالمرة. وكأنه تعمد طمسها وحذفها كما حذف الميم من بطاليوس تعبيرا عن الرفض والاحتجاج على الظلم والقهر وعدم تكافؤ الفرص بين شباب الوطن. في ص 8 يسأله المخرج:

لماذا حذفت الميم من اسمك؟

يرد سعيد: عندنا حذف الميم احتجاج.

البطل في حالة نزول من قمة الأدراج إلى السفح. مما سيشير إلى حالة اليأس والقنوط التي بلغت ذروتها في كيان البطل فأضحى بذلك بطلا تراجيديا يتخلى عن أهدافخ بكل سهولة، مع هيمنة اللون الرمادي الدال على البؤس، وانحصار اللون الأصفر، لون النور والأمل، في مساحة ضئيلة مما يؤكد على ظلامية الواقع المزري الذي يعيشه، وعلى دوامة التعاسة والشقاء والتشاؤم التي يتخبط فيها. يقول السارد في ص6 (يكبر سعيد ويكبر معه التمرد. ليس له من اسمه نصيب يرى الشباب يغرقون في عرق البطالة والضياع. هذا المنظر أحرق محصول التفاؤل عنده).

كما عمد الكاتب إلى تفعيل الطرف الآخر من الغلاف -ظهْر الكتاب- فيحاول من خلاله أن يدوِّن عليه رؤية ما، من خلال مقطوعة مجتزأة من النص الداخلي من المقطع الأول في الصفحة 5 (تخبرني جدتي كيف يصير الأطفال شيبا آخر الزمان. عما قريب سوف تجد شيبا بعقول أطفال. أريد أن أرى ذلك بعيني هل سأعيش إلى آخر الزمان.. إذا لم تكبر، ستعيش آخر الزمان) إن هذا الحوار، ولا ريب هو محاولة تعزيز ما على واجهة الغلاف في أغلب الأحوال لتأدية الدور الإشهاري، مما يُحدث التكامل بين طرفي الغلاف في أداء المهمة وإيصال الرسالة.

فالغلاف بلوحته ينتمي انتماءً حاسماً إلى فضاء الكاتب والرواية معا إلى الرؤية التي يتبناه، والمقصدية التي يهدف إليها.

5- عتبة المعمار الروائي:
يرتكز هذا النص الروائي على ثلاثة وعشرين مقطعا متفاوتا من حيث عدد الصفحات، أصغر مقطع مكون من صفحة واحدة: وهو مقطع (الفقيه) وأكبر مقطع هو مقطع (ثراء) مكون من ثلاث عشرة صفحة.

وضع الكاتب لكل مقطع عنوانا، وقد توزعت تلك العنواين بين المفرد مثل البداية، المخرج، الجدة، الفقيه، وبين المركب الوصفي أو الإضافي: الشبيه الآخر، ميعاد الدعم، ضيف ثقيل. ويلاحظ أن دلالة بعضها على المكان مثل: مدرسة النجاح، حلقية الثانوية في الحي الجامعي، في غرفة نبيه، في الحلقية،جنب الوادي. مما يشير إلى إدارك الكاتب إلى الدور الهام الذي يقوم به المكان في العمل الروائي، فهو ليس مجرد ترفٍ يكثّر به الكاتب سواد الصفحات، بل هو ركن أساسي ورئيس من أركان العمل الروائي الحديث. ويلاحظ أن مختلف هذه المقاطع تحدد العلاقات النصية بين الواقع المزري من ناحية، وبين المسقبل المأمول الغامض في الآن نفسه.

كما يبدو النص مكونا من:

رأس: مرحلة الطفولة والمراهقة التي تكشف عن بطل متمرد على عادات وتقاليد الأجداد يقول ص 6: (الأجداد كائنات بلهاء، لا يصلح الاستماع إلى تخاريفها، إلا لعلاج الأرق، وجلب البركة) وكذلك على تلميذ موهوب، ويخزن في رأسه أفكارا أكبر من حجمه ، ويتقن لعبة الحوار مع الكبار كما حدث له مع المخرج، ليقول شهادة في سعيد المراهق ص9 (هذا الفتى إما مجنون وإما سيناريست، ومخرج كبير)

جسد: ممتد من مقطع (الشبيه الآخر) إلى مقطع (إلى وكيل الملك) هنا تكتمل شخصية البطل معرفيا و نفسيا، يتدرج في مسالك الدراسة بنجاح باهر. متسلح بالجراة في انتقاد ما يراه معوجا في أفكار المربين، والأساتذة والمقررات التعليمية والنظام بدهاء وفطنة ونباهة. من أقواله ص 10: "إن شبيهي فارق الحياة قبل قليل .. مات كمدا بعد أن علم بحالة بطاليوس الأرضي..

وقوله ص 13: بأن الدولة قامت بتحديد النسل عبر تشجيع البطالة " هو شخصية متميزة لا يرضى إلا بالتميز والفرادة: ص17 (تعمق بطاليوس في الدراسات المعمقة.. بحث عن التميز في بحث التخرج)، إلا أن خيبات الأمل تلازمه دائما، وأبدا، لا تفارقه، ولا تريد منه فكاكا:

- الخيبة في جواب الأستاذ على بحثه المتميز ص6: (نحن في المغرب يا ولدي لسنا في بريطانيا.. لا تتفلسف بعيدا).

- الخيبة في إيجاد الدعم المالي للجمعية ص34 قول الرئيس: (لا أستطيع أن أدعمكم إلا بطبع الأوراق... الميزانية فارغة )

- الخيبة في الارتباط قصد الزواج بعد أن هاجرت زهراء إلى مونريال ص 48: ( وهكذا يفقد آخر وأصلب أمل للاستقرار. لكنه أصبح أقسى، ولم يعد يفكر حتى مجرد تفكير في تصديق عواطف النساء).

- خيبة الامل في الحصول على وظيفة، بعد أن طلب منه الوسيط دفع رشوة تقدر بثلاثين ألف درهم. ص52 (قام بطاليوس منتفضا.. لم ينبس بكلمة لكن ملامحه كانت تصرخ بما يجتاحه من هياج)

الذيل أو الخاتمة: خصص لها الكاتب المقطع الأخير المعنون بـ"النشرة"، التي وضعت القارئ بين أخذ ورد في كل ما سبق من أحداث ووقائع، وكأنها كانت عبارة عن أحلام وكوابيس مزعجة، لم يتخلص منها بطاليوس إلا بعد أن استفاق من رقاده بعد مكالمة زهراء المغتربة له، التي وعدته بالسفر والوظيفة، وحينئذ تخلى عن لقبه بطاليوس بكل طواعية دون إكراه وإجبار، حيث قال ص88: أنا سعيد.. بطليموس عاد إلى مقدونيا.

خاتـمة:
لعلّ هذه الإشارات القصيرة العابرة قد كشفت عن بعض ما يتميز به عبد الله لحسايني من موهبة فائقة، وذكاء في تشكيل عمله الروائي الأول هذا، الموسوم بـ(بطاليوس عاد إلى مقدونيا)، إنها تؤكد بالملموس على ما يمتلكه لحسايني من قدرات فائقة في فن الكتابة، ونسج الحروف في شتى صنوف الإبداع، والتي تبشر بميلاد روائي ستكون له كلمته مستقبلا بإذن الله تعالى. وآمل أن تكون هذه الإطلالة السريعة قد استطاعت أن تعطي لمحة دالة على ذلك. والله نسأل التوفيق والسداد. وقراءة ممتعة للجميع.