يرى الباحث أنّ رؤية كيلي للإنسان تتميز بعقلانية، وهنا يكمن سبب تعرض للنقد لانّ مجال نظريات الشخصية تسوده النظرة إلى الإنسان بوصفه كائناً عاطفياً غريزياً، ولكن هذا الفارق بين رؤيته والرؤى الآخرى يجعله جديراً بالدراسة، فضلاً عن أنه دعم أطروحته بالأدلة التجريبية.

الإنسان في نظرية التكوينات الشخصية لجورج كيلي

عبد الكريم سليم علي

احتل جورج كيلي George Kelly (1905-1967) مكانه هامة في علم النفس الأمريكي، حيث عمل كأستاذ وعالم ومُنظّر، قدم آراءه وخلاصة تجاربه في ميدان العمل السيكولوجي من خلال طرحه لنظرية التكوينات الشخصية التي جمعت في كتاب من جزئين بعنوان: "The Psychology of Personal Constructs والذي فتح مداخل جديدة لفهم الإنسان ومعالجة المشكلات السلوكية.

ولد جورج كيلي عام (1905) في كنساس من أسرة ملتزمة بالقيم، وحصل على شهادة البكالوريوس في الفيزياء والرياضيات عام (1926)، وبسبب اهتمامه بالمشكلات الاجتماعية وولعه بتقديم الخدمات للآخرين التحق ببرنامج الماجستير في مجال علم الاجتماع التربوي، وتخصص في العلاقات العمالية وحصل على الماجستير عام (1928)، وبعد فترة من العمل الميداني قرر التخصص في علم النفس فحصل على شهادة الدكتوراه في جامعة ايوا عام (1931)، ثم عُينّ أستاذاً ومديراً لقسم علم النفس في جامعة أوهايو، ثم طاف حول العالم محاضراً في أوربا وأميركا الجنوبية، ثم منح منصبا شــرفيا كأســـتاذ كرسي ورئيس قســــم العلوم السلوكية في جامعة برانديز Brandeis University توفي كيلي عام (1967).

أثارت نظرية التكوينات الشخصية لجورج كيلي جدلا واسعاً حتى في تصنيفها، البعض يصنفها بوصفها نظرية ظاهراتية Phenomenology لأنها تركز على الخبرات الذاتية الواعية، وتتعامل معها كوحدة، وينظر إليها البعض الآخر على أنها نظرية معرفية Cognitive لاهتمامها بالأحداث والخبرات العقلية وإهمالها مفاهيم اللاشعور وميكانزماته، وهناك من ينظر اليها على أنها نظرية وجودية، لأنها تنظر إلى المستقبل أكثر من اهتمامها بالماضي، وتركز على المشاعر الذاتية والخبرات الشخصية وحرية الفرد في اختيار قراره ومسئوليته عن مصيره، وهناك من يضع نظرية كيلي في إطار نظريات علم النفس الإنساني لأنها نظرية متفائلة تركز على الطاقة الإبداعية للناس.

تتلخص رؤية كيلي الى الناس على أنهم كائنات عقلانية متفوقة، وأن الإنسان صانع لمصيره، فهو يخلق تكويناته الشخصية الخاصة التي ينظر من خلالها الى العالم ويصنع طرق فريدة لفهم الواقع وهو حر في اختياره لطريق ما، وهو قادر على تغيير الطرق بمعنى أنه قادر على تغيير تكويناته الشخصية وصياغة تكوينات جديدة، وهذا يؤشر بأن كيلي له وجهة نظر خاصة في تاريخ الإنسان وطفولته، ربما تتناقض مع العديد من طروحات علم النفس، يرى كيلي أن الإنسان ليس مقيداً أو مكبلاً بالطريق الذي اختير له بالطفولة أو المراهقة أو في أي عمر آخر، لأن الإنسان طبقاً لكيلي يعيش في التوقع، وحياتنا يتحكم بها ما نتنبأ به عن المستقبل وبما نعتقد إلى أين ستقودنا اختياراتنا. هذا لا يعني أن كيلي غير مهتم بتاريخ الفرد، إذ يرى أن من الضروري منهجياً أن ندرس الطرق التي استخدمها بنجاح في النظر إلى حياته بحيث يستطيع أن يستنتج منها آراءه ونظراته التي تؤثر في حاضره.

ويذهب العلماء إلى أن كيلي تبنى وجهة نظره عن تاريخ الإنسان من خلال جملة تجارب أجراها وأساليب كثيرة اعتمدها في جلساته العلاجية والإرشادية منها تطبيق معايير فرويد في المعالجة النفسية، حيث وجد كيلي أن مرضاه متكلفون نوعاً ما في التعبير عن انفعالاتهم، وبخاصة عندما يتعامل مع أحلامهم على طريقة فرويد، لذا طوّر أساليب جديدة في التعامل مع الأحلام، وقد لاحظ أن مرضاه استمعوا إليه بعناية، كما سجل ملاحظات تفيد بأنهم تحسنوا، رغم أن تحسنهم كان بطيئاً. ويرى العلماء أن مرضى كيلي ربما كانوا قادرين على العمل أو على الأقل التعبير عن مشاعرهم ومشاكلهم بعبارات عقلانية، وكان هذا بسبب عمله في الوسط العمالي والأكاديمي، إذ نادراً ما كان يلتقي بمرضى يعانون سوء التكيف الحاد. إن طبيعة الخبرات الإكلينيكية التي تعامل معها كيلي ربما توضح طبيعة توجهات نظريته، وهذا ربما يفسر دعوة كيلي إلى النظر في الشخصية بأسلوب مختلف حيث ينظر لكل شخص على أنه "عالم Scientist" لديه ميزة رئيسة تتمثل في قدرته على تكوين صور متفرقة أو أنماط متعددة من المعاني أو التفسيرات تنتج مضامين تتيح له فهم عالمه.

بكلمة أخرى: يصف كيلي في إطار نظريته عن التكوينات الشخصية الناس كعلماء، ويذهب إلى أن العلم ماهو إلا صقل للغايات والإجراءات، التي يعيش بها كل منا حياته، وأغراض العلم هي فهم الوقائع والتنبؤ بها وتغييرها، وهذه الغايات ليست غايات العالم وحده بل هي غايات كل إنسان فنحن جميعاً نسعى لفهم الوقائع ولدينا توقعات معينه وتنبؤات بالمستقبل، ونضع خططاً تستند إلى ذلك ونحن جميعاً نحاول أن نضبط مسارات الأحداث في حياتنا: نفهمها ونغيرها ونرتبها. بمعنى أن جميع الناس يمكن أن تكون لديهم نظريات عن عالمهم، وقد لاتكون نظامية وجيدة كنظرية العلماء المحترفين إلا أنها نظريات على أية حال، وعلى أساس هذه النظريات تكون لديهم فروض أو توقعات تتحقق أو لا تتحقق، وفي ضوء نتيجة تجاربهم تتعدل آراءهم، وعلى ذلك فإن الإنسان في نظرية كيلي هو الإنسان العالم.

ويفيد كيلي: إن تفسير الفرد للخبرة في ضوء تجاربه يحدد منظور الشخص لهذه الأحداث، بمعنى أن كل منا يرى العالم من خلال عدسته الخاصة، وأن تلك النظرة الخاصة وذلك النمط الفريد الذي يبتكره كل فرد هو الذي يحدد معنى كلمة التكوين أو البنية كما استعملها كيلي. إذن التكوين هو أسلوب الفرد يستخدمه في النظر إلى أحداث عالمه، وهي طريقة لتفسير ذلك العالم، فالتكوين إذن هو (فكرة أو تفكير) يستخدمها الفرد عندما يحاول تفسير خبراته الشخصية، فإذا ما تطابقت تنبؤاته مع الخبرة فهذا أمر جيد، أما اذا لم تتطابق مع الخبرة فهذا يعني أنه يجب مراجعة التركيبات القائمة أو إلغائها.

وتقوم نظرية التكوينات الشخصية على مُسلَّمة أساسية مفادها أن الإنسان كائن متنبئ، والتنبؤ هنا يعني جملة العمليات التي يقوم بها الشخص، والتي توجهه نفسياً نحو الطرق التي يتوقع فيها الأحداث، ولذلك يعدها مسلمة أساسية ويقول: "أن العمليات التي يقوم بها الشخص تتخذ مساراتها وقنواتها على أساس الطرق التي يتوقع بها الأحداث"، تلك المسلمة تتضمن أن المستقبل وليس الحاضر هو المحرك الرئيس للسلوك. إن مسلمة الإنسان كمتنبئ تتضمن مجموعة من الفرضيات (اللازمات) تشكل معالم نظرية كيلي ورؤيته للإنسان، وقد صاغها كيلي في 11 لازمة، وهي عبارات تتبع المُسلَّمة وتكملها. مثلاً نجد لازمة: خصائص التأويل (المعنى والتفسير) ترى أن الأحداث المتكررة لا يمر بها الشخص بصورة مماثلة، إلا انها تحمل ملامح متشابهة عند تكرارها، وعلى أساس هذه الموضوعات المستمرة يكون بمقدور الشخص أيضاً أن يضع توقعات عن الأسلوب الذي سوف يخبر فيه الحدث في المستقبل، بمعنى: إن التكوين الناشئ سيؤدي إلى اعتقاد بأن التوقعات ستكون مرتكزة على التصور الذي يرى بأن أحداث المستقبل التي هي ليست نسخاً من أحداث الماضي، سوف تكون على الأقل إعادات جزئية للأحداث الماضية. وتؤكد لازمة الفردية على أن الناس يختلف بعضهم عن البعض في الأسلوب الذي يدركون فيه الحدث ويفسرونه، ونتيجة لتفسير الحدث بطريقة مختلفة يصوغ الناس تكوينات مختلفة. في حين تذهب لازمة التنظيم إلى أن الفرد يميل لتنظيم تكويناته الشخصية في نظام أو أسلوب تبعاً لنظرته الخاصة عن العلاقات (في التشابه او التضاد) بينها، وبسبب هذا التنظيم للتكوينات الشخصية فأن شخصين لهما درجة عالية من التكوينات الشخصية المتشابه إلى حد كبير قد يختلفان مع ذلك اختلافاً ملحوظاً الواحد عن الآخر، لأن تلك التكوينات مرتبطة بطرق مختلفة. وتؤكد لازمة الخبرة على أنَ نظام التكوين الشخصي يتغير تبعاً لاستمرار تفسير الأحداث المتكررة بمعنى أن التعلم يحدث، ونتيجةً لهذا التعلم يخضع نظام التكوين الشخصي للتغيير المستمر. وفي لازمة الاختيار: يفيد كيلي أن الشخص يختار لنفسه البديل في تركيب ثنائي يتوقع فيه الفرد إمكانية أكبر للإشباع وتحديد نظامه، فبالنسبة لأي موقف خاص على الفرد أن يختار أياً من البديلين يعمل بصورة أفضل، أي الذي يساعده بصورة أفضل على التنبؤ بأحداث المستقبل، وطبيعي أنّ الفرد سيختار البديل الذي يمّده بأفضل الفرص في توقع أحداث المستقبل. وهنا يُلاحظ أنَ لازمة الاختيار ليست في حاجة إلى مفاهيم مثل المكافأة والتعزيز واللذة والاختزال، فالإنسان لا يبحث عن المكافآت أو اللذة، وإنما يكافح باحثاً عن حلول لمشكلة التنبؤ بالمستقبل، والواقع أن هذه الرؤية للسلوك الإنساني هي ما يميز نظرية كيلي عن النظريات الأخرى في تفسير السلوك.

وفي جانب نمو الشخصية يرى كيلي أن كل طفل ينظر إلى والديه كضرورة لبقائه من خلال البناء الاعتمادي الذي يربطه بهذه الظروف، وبسبب أهميتهم يستطيع الوالدين أن يفسدا أو يضعفا قدرة الطفل على توقع المستقبل عن طريق جعله يتصرف بطريقة مرضية، فالتدليل الزائد يعلم الطفل توقع إشباع كل حاجاته بشكل دائم، كما أن الضغط الزائد الناتج عن العقاب يجعل الطفل يتصرف بطريقة متصلبة في مواجهة التركيبات القليلة المتشابهة بدلاً من تبني طرقاً جديدة في التعامل مع البيئة، كما أن سلوكات الوالدين التي تتسم بالتذبذب تجعل من المستحيل تماماً توقع ما سيقدم عليه الطفل من سلوك بشكل دقيق، وقد يكون لدى الوالدين خصائص من قبيل الافتقار إلى الحكمة والتعقل مما يكسب الطفل أساليباً سلبية في التعامل، وهذا سيؤدي إلى تكوين تركيبات بنائية مماثلة لهما عند الأبناء. ويرى كيلي أنه رغم وجود هذه المؤثرات اللاتوافقية فإن نمو الشخصية يتضح، ويستطيع الطفل تدريجياً جعل البناء الاعتمادي أكثر نفاذية، فيتحول إلى فئة الأشخاص المختلفين، وتدريجياً قد يتخلى الطفل عن تصوره لوالديه بأنهما الأقوى والأمثل ويعادلهما مع الناس المحيطين به، كأن يكونوا في رأيه أقوياء أو ضعفاء، متعاونين أو مؤذيين وهكذا.. وفي جانب العلاج النفسي ينظر كيلي إلى أن الهدف الأساس يتلخص بتزويد العميل أو المسترشد بإطار يساعده على التصرف بحيوية، وأن يجرب تكوينات شخصية جديدة، وإعادة بناء النظام بطرق تؤدي إلى مزيد من التوقع الصحيح للمستقبل، ويرى كيلي أن قمة الموضوعية في عمل العلاج النفسي هي إعادة البناء السيكولوجي لحياة العميل.

إنّ رؤية كيلي للإنسان تتميز بعقلانية، ومن هنا فانهّ تعرض لنقد شديد لانّ مجال نظريات الشخصية تسوده النظرة إلى الإنسان بوصفه كائناً عاطفياً غريزياً، ولكن هذا الفارق الواضح بين رؤيته للإنسان ورؤى الآخرين في تصور الشخصية يجعله جديراً بالدراسة، فضلاً عن أن كيلي دعم طروحاته بالأدلة التجريبية من خلال ممارسته العلاج النفسي.

 

لمزيد من الاطلاع ينظر باللغة العربية:

* داون شلتز (1983)، نظريات الشخصية، ترجمة حمد دلي الكربولي وعبد الرحمن القيسي، مطبعة جامعة بغداد.

* ب.م. فوس (1989)، آفاق جديدة في علم النفس، ترجمة فؤاد أبو حطب، عالم الكتب القاهرة.

* محمد السيد عبد الرحمن (1998)، نظريات الشخصية، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة.

* جابر عبد الحميد جابر (1990)، نظريات الشخصية: البناء.الديناميات. النمو. طرق البحث. التقويم، دار النهضة العربية، القاهرة.

* بيم. بي. الن (2010)، نظريات الشخصية: الارتقاء. النمو. التنوع، ترجمة علاء الدين كفافي واخران، دار الفكر، عمان، الأردن.