أي لذة يتركها النص المقروء في عقل القارئ؟ هل هي شبيهة بتلك اللذة المُتحسسَة في أقصى اللسان بعد انتهاء من الحلوى؟ (كم يبدو هذا السؤال بليدا، لكنها لذة حُلْوة المذاق، تلك التي تتبادر مع كل قراءة عاشقة لنص، وأليس كذلك؟). أم أنها شكل آخر من المتعة؟ من الرغبة الشبقية القسوة نحو الكمال..
ومن تراه يتلذذ بالنص، هل الكاتب الذي سكب عسل كلماته في بياض الورقة، أم تراه القارئ الذي يتمازج ويتماها ويتخبط في كلمات النص، في تتابع وتدافع بين فعل القراءة (العاشقة-لعلها) وفعل التأويل.. أ ليس النص ليس لديه معنى إلا عندما يُقرأ؟ و أ ليس فعل القراءة فعل كتابة فوق النص المكتوب/المقروء. و أ ليس وأنا "إذا كنت أقرأ هذه الجملة بلذة، وهذه القصة بلذة، أو تلك الكلمة، فلأنها كتبت ضمن اللذة (فهذه اللذة لا تتعارض مع عذابات الكاتب). ولكن ما هو قولنا في عكس منها؟. هل الكتابة، ضمن اللذة، تضمن لي-أنا الكاتب- لذة القارئ؟. أبداً. ويقع على عاتقي إذن، أن أبحث عن هذا القارئ (أن أغازله)، من غير أن أعرف أين هو. وبهذا سيكون فضاء المتعة قد خُلق. ذلك أن ما أحتاج إليه ليس هو (الشخص) في الآخر، وإنما الأمر الذي أحتاج إليه هو الفضاء: إذ في الفضاء إمكان لجدل الرغبة، وإمكان أيضا لفجاءة المتعة: ولكن، يجب ألا يكون اللعب قد انتهى. كما يجب أن يكون ثمة لعبة".( رولان بارت).
الكتابة استماعٌ لعزف صوت الداخل، وتجسيده فوق نصاعة الورقة.. استماع لصوت اللذة.. صوت هاسٍ.. و أ ليست "الهسهسة هي الصوت الدال على حسن سير الشيء". الكتابة تحويل الصوت إلى كائنات حية تدبّ وتتحرك وتتمرغ وتصرخ على الورقة. وهي كذلك.
فعل الكتابة طرح يأخذ فضاءه الرحب داخل كتاب الناقد محمد اشويكة "المفارقة القصصية"، بألوانها وطقوسها وهوسها وهامشها وحياتها وموتها. هل للكتابة حالة موت؟ سؤال نطرح بعميق تأمل. أن تكتب يعني أن تبدع داخل حقل النص و"أن تبدع أو لا تبدع فأنت ميت.. من الأحسن أن تبدع لكي لا تموت كأي ميت.. من الأحسن أن تبدع لكي لا تموت دائما". يجيبنا محمد اشويكة. الإبداع-إذن هو- محو للموت وإعادة إحياء للذات.. الذات الكاتبة والمكتوبة.. للكاتب وللنص.
أن يكتب محمد اشويكة حول موضوع فعل الكتابة، ليس هو وليد تطفل أو ادعاء.. إنما هو وليد علاقة جادة بين الكاتب والكتابة. محمد شويكة القاص، المُجرب للذة القراءة قبل لذة الكتابة.. أن تصير كاتبا يلزمك أن تكون قارئا بشراهة.. وهو كذلك. ليس غريبا، عنه، ذلك الفعل وتلك اللذة.. وأنتَ تلج مجموعاته القصصية (الحب الحافي-2001، خرافات تكاد تكون معاصرة-2007... وغيرهما) تتبادر قافزة إلى لسانك، قبل مَكمن الفعل في العقل، حلاوة حَلوى "النوغا" البيضاء كلون الكتابة لديه.. الكتابة بيضاء.. و أ ليس الأبيض هو كل الألوان؟ [فعل] الكتابة فعل خلط ألوان الطيف.. ليخرج المُنجز صافيا وضحا.. وقابلا للإنكتاب من جديد فوقه، بقوة القراءة المتكرر، المُنجذِبة للذته..
بأي لون تراه يكتب هذا الكاتب؟ " أميل إلى خلط كل الألوان... إلى زرع بؤر اللون داخل الذات، وترك الحرية للذوات الأخرى: حرية التلوين والتلون... (...) لقد اخترت لونا واحدا، لون الكتابة... الكتابة لعبة لونية تشتعل على الممكن واللاممكن..". يقول.
يأتي كتاب "المفارقة القصصية" للناقد محمد اشويكة، منقسما لثلاثة وحدات رئيسية، تتناول الأولى موضوع القاص والقصة وتطوراتها في المشهد المغربي، وتذهب الوحدة الثانية للإجابة على عدة أسئلة حول موضوع القصة وتطوراتها وتعددها وحفائيتها... عبر حواراته مع عدة كتاب وأدباء آخرين.. أما الوحدة الثالثة-وهي التي تهمنا، هنا- فقد خصصها للإجابة عن سؤال فعل الكتابة...
هذا الفعل الذي يَكتب عنه، قائلا: "فعل الكتابة قادر وحده على تقليص شتاتنا، على جمع ذراتنا المنفرطة، قادر على القضاء على دجالي اللغة.." من عساهم يكون هؤلاء الدجالين؟
هم القادمين من خلف الورقة والراغبين في مراوغتها، والتماهي كالحرباء داخل عالم الكتابة.. الكتابة باللون (أي لون)، بينما الكاتب هو من يهرب من التَلَوّن.. هكذا إذن !
تتعدد تيمات الاشتغال والنقاش داخل هذا المبحث، مما يجعل منه ذا أهمية بالغة الاهتمام داخل دائرة المحاولة للإجابة على سؤال "فعل الكتبة". من بين هذه التيمات : فعل الكتابة والهامش و"ما معنى أن تكون هامشيا؟". لقد حاولنا الإجابة عن هذا السؤال في عدة ملتقايات وكتابات.. أن تكون هامشيا ليس بالضرورة أن لا تكون مقروءا، أو منطويا على ذاتك داخل شرنقة لا تأتي بحرير ولا فراشة.. أن تكون هامشيا معناه: أنك خارج دائرة خُدام السلطة وكتاب السلاطين.. كيف له أن يصير الكاتب كاتبا أو المثقف مثقفا إن لم يشاكش السلطة؟ ولكن هل يستطيع المثقف [المجيب عن هذا الموضوع] أن ينفك عن خطاب السياسي من حيث تناوله لموضوع الهامش؟ سؤال يطرحه محمد اشويكة في كتابه.
أن تكون هامشيا معناه-يقول:
"أن تشتغل عن المواضيع الثقافية المُهمشة وعن القضايا الهامشية وعن قضايا الأقليات: من لا صوت لهم.."، ألاَ نُحال بهذه الإجابة، ولو عن غير قصد، إلى صوت الكاتب، إلى هسهسة اللغة داخل النص، وبالتالي إلى لذته؟ (سؤال أوحِيَ إلي أثناء ترقين النص... لنكمل الاستماع لصوت هذا الكاتب).
"ألاّ تشتغل كما يشتغل السياسي (يحضر ويغيب، يضرب ويهرب...).
أن تبتعد عن "الازدحام الثقافي": معناه أن تتنفس هواء نقيا غير ملوث.. وأن تتأمل قضايا الذات والكتابة في منأى عن اللغط.. فاللغط لا يصنع المثقف !
أن تكون كاتبا هامشيا: يتحدد ذلك بالموقف وبالالتزام وبتحمل عقبات الاختيار...
أن تعير الأشياء والناس متى أحسست بالضيق...
أن تكتب في مجالات مهمشة... (...) أن تكون هامشيا، معناه أن تكون ابن بلد".
أما على مستوى شكل الكتابة، فيجعل محمد اشويكة من الكتابة الشذرية أسلوبا له في رسم خطوط نصه/كتابه.. الشذرة التي كان لها أول ظهور على يد فلاسفة أمثال باسكال (1623-1662) وجون جاك روسو (1712-1778)، إلا أنها أخذت شكلا ظاهرا عند فريدرك نيتشه (1844-1900).. "ولعل جيل دولوز في كتابه عن نيتشه، كان مصرا على أن هذا الأخير كان يميل إلى الكتابة بصيغة مغايرة للتأليف الفلسفي الكمي أو النسقي أو النظامي، كما نجده لدى كل من عمانوئيل كانت وفردريك هيجل، فنيتشه يمزج بين المقطعية الرقمية وبين الشذرة الشعرية أو الحكمة الفلسفية، وغالبا ما يطلق لنفسه العنان في تقديم مقطعيات تبدو وكأنها مقطوعات أدبية مستقلة عن المتن الأصلي، ثم يجد لها رابطا بمهارة خاصة، ولعل هناك أكثر من رأي بأن فلسفة نيتشه بأكملها تنحو نحو هذا المشروع التفكيكي أو التفصيلي في واقع الحال". أليس هذا هو الشكل المتبع في كتابات هذا الكاتب الذي يُدَرّس فلسفات هؤلاء الفلاسفة؟ الشذرة تأتي في كتابات محمد اشويكة قصيرة ومكثفة بالمعاني وموجزة، مُوضحة لما تحمله من إشارات وتلميحات وغاية... و أ ليست الشذرة عتبة لنصٍ قبل أن تكون هي نُفسها نص؟