أناسٌ أعرفهم
أسرّةٌ ، أقاربٌ .. وأطفالٌ.. كُتبٌ مشتتةٌ هنا.. أشرتُ باصبعي صوب اليمين.. كانت المراقد الوثيرة تمتليء برائحة الدفء والأجساد المسترخية، والتاركة أفرشتها.. قبالتي بنتان صغيرتان على إحدى الأسرّة.. قلتُ : أنتما أقربائي.. ربّما بنات ابنة عمي أوخالي.. استغرقت احداهن في الكركرة وبانت أسنانها الصغيرة المتفرقة.. ضحكتها ملأتني زهواً .. رأيتُ فيها حلقة من ذاتي تتشظى في مكان آخر.. غادرت ضحكة الوقت الذي كان هلاماً، لا هو صبح ولا ظهيرة أو مساء.. بل مسافر زمن عتب مهدور ومراق بلا هوية.. تركتها لأذهب تجاه الكتب الموضوعة في عُلب المقوى المستطيلة في غرفتي أيام دراستي الثانوية.. بيد اني أحجمت عن النظر فيها.. وغادرت القاعة الطويلة المتخمة بأنفاس الأحلام الطرية.. وقد يكون لي سريرٌ بين تلك الأسرّة .. وغادرته تاركة دفء لحافي يتبرد.. أشعر أن الزمن لا زمنٌ .. لأول مرة أشعر أن الزمن يتلاشى ويتوقف عن الحركة.. راكدٌ في مكانه.. في مشهد آخر.. أمام الباب تقف فتاةٌ : أنا أعرفك ، همست : أنا لا أعرفك قلتُ مَنْ تكونين..؟ لقد شاخَ فكرك وذاكرتك.. ثم تركتني أجترّ حيرتي وأستعيد من جديد شريط أناس أعرفهم .. ومنسيون... حرت بينهم .. فلم أحظ بوجه يشبه وجه التي قابلتها .. وعلى طرق الباب وعيتُ ونسيت الموضوع فتذكرتُ حديث والدتي: في الأحلام تلتبس علينا الحقائق بالأوهام..
يدّ
هاتي يدكِ نمضي في ذات الطريق .. سأشرب نخبكِ ومعك أيتها الخديعة ... هاتي زهرتك أيتها الجارية بلا هدف في مجرى دمي .. هاتي العتب والتعب والغناء والقصيدة.. والأمل الساخن على نار بُعدك.. الجنون له سبق في كل شيء يتمشى في دروب الزمن يأكل رغبتنا ولحمنا وعظمنا ويسلب عقلنا.. أنا الآن أغرد وحيداً خارج العصر، والتاريخ ليس له مكان يركبني حماقتي والعقل معك مغيّبٌ ومركونٌ في زواية مظلمة .. أرى من بعيد ثلة من الصبايا ترشقهن بهجة الربيع بثمارعشقهن.. وليس لهن رقيب بعيد أو قريب ..
لنا النكد الزقوم
أحملُ تعبَ النهار كلما يستقبلني هذا الدربُ ، أقول هذا هو أوانَ عودي إلى مثواي، ثمة في انتظاري كنزُ الراحة ولقمةُ المساء. وأناملُ أمي العجوز تمسح تعب النهار وهموم الليل ونحس الغنى والترف الغائب.. لنا النكدُ الزقومُ كلّ فصول السنة..تُرى تلك هي العدالةُ تتمفصلُ فيها الكتبُ والدساتيرُ.. لنا اللعنة والشناعة والنبذُ والإقصاء والقمعُ .. ولكلّ محظوظ كيلٌ من رغد وسعد.. وفينا كوابيسَ طوفُ من أزل الطوفان والزغاريدِ المعتقة في الأوردة جمرة خامدة ، كلُّ ما تبقى لديّ أفيونُ ليل عقيم وطلّة ُ حلم ومدائنُ الحلم المفتوحة أمامي. لكنّ الفجرَ بدءُ الجحيم والجنون والأعذبة ألواناً وأشكالاً، تُضيفني من السادسة حتى السادسة وأعود... نائماً عائماً في أهوية الوجع.. من النسغ حتى مسام الجلد.. غادرني الفرحُ وغشي كفيّ والأصابع القرَحُ.. وحين غيّب الزمنُ هسيسَ أمي.. أكلتني وحدتي.. وتلقّفني الصمتُ والخوفُ.. لهمُ العيش الرغيد.. سديم يُشهرُ خوفي بين التلاع واللعنة القاتلة.. يا لهذا المسار النحيل في هذا المساء كيف يشرف خلل المرايا المضللة على قتل نضارتي.. إلى أين يحملني خطوي الثقيل وبنا بي عن همهمة القيل والقال...ألفُ الفُ ملايين..إختفت في غضون السياسة.. واللاعبين على بال الغسيل.. سأكون بعد اليوم خارج الملعب والزمن المستحيل.. خارج إطار ما ملكت المصادفة.. هنا ترسم التواريخ وفق هوى البطش وكاتم الصوت والصراعات الدموية والتصفيات للثارات القديمة .. أنا اليوم في وطني المثخن بالرعب الدائم محض عابر سبيل أسجلّ ما ترعى عيني وتخزنها واعيتي.. ياإلهي ولا من أحد يسمع حفيف أوراق خوفي.. أنا راجلٌ عن طموحي.. أخشى وطئ تراب خطاي فأيّ وطن هذا كل شيء فيه يُباع حتى الضمير والصداقة الصدق والعشير.. والصيرورة والصبر.. حتى مدافن الموتى وعصا الضرير.. أنا جمرةٌ خسرتُ موقدي...غادرني رمادي.. أرى غدي فيه عهنٌ منفوش تبعثره الريح في مماشي خيباتي واندثاري .. لكنّني هنا ذكري مُضمّخة بضوء تضاريس الوجود.. وردة تتعبّقُ بي النسمة والسابلة.. كشفوني في الظلمة والظل عاريا اتدثر بالخزي والهزيمة أعاقر عُزلتي وخصامي.. لكنّ عينيك شاطئ أمان انتا في إنتظاري.. آه أنا أفتقر إلى جناحين إليكِ يحملانني.. وكلّ شتاتي وربيعي وفرحي تركتهم ورائي.
عازف
يعزف بكمانه الناطق زفرات قلبه المولع بلهيب المنفى في مقاهي أسطنبول الصيفية.. وأنا أنزف حروفي شعرا ونثراً في قرّ صقيع القطب الشمالي.. ثنائيان في الوجد والألم .. كلانا في مرتجى وعد كاذب.. في رميم الصميم ثغرات متبقية تنزّ حزنها الأثيرفي الخراب الذي عمّ في المدينة.. أخي كان يتلوا فاتحة رحيله ولا يدري أنه سيكون من المُشيّعين ، أي وغد هذا الذي أستهدف وأستباح قُدسية المكان زلزل الزمن المستقرّ ، خسر الحِلمُ أصقاعه،عراه مبكراً أوان الصمم والحريق.. لعينيك هذا العسل المحلّى بالحزن الشفيف.. أصطفيت لك هذا النبض.. عبّأ الزمن مِن بعدكَ صُرته بالوعود والأكاذيب.. فها هوعمود دهشتي شابه الملل اللعين على هامش الوعود..
وهذا الصدأ
كالوجع الجميل يُرعش ضلوع الليل.. جئتُ أجتثّ هذا الصدأ المستديم.. صدأ يأكل ويملأ حنجرتك.. ويسدل على عالمك حجاباً من العزلة والمتاه.. يغيّب غناءك كغضب البركان المكبوت.. كان عنادي في الماضي يطشّ في أذن الليل.. وأحمل تابوتي على رأسي وأنا لا أدري ألعب حول المخاطر لعبة الموت. أنه من طيش حناني أم من غباء تفكيري.. ففي دفء الظلام تسهرالمؤامرة ، وتجري في ممراته المتربة مهما غبتُ عن المدائن.. أنا غارقٌ في لجة حضوري.. تراني أسبق العاصفة في هبوبي.. أحزّ خصرها المتواطيء مع طوفان الطمي.. أنا الآن محصوربين أظلاع زللي.. أرتدي ندمي، وثوب براءتي.. وأمرّ أمام الأبواب الموصدة حطاما، أنوحُ خلف الأسلاك الشائكة في معسكرالأسر.. وأنا منذ أعوام ضحية جلاّد لم يصغ يوماً لمحنتي..
عرجون
مع الفجر تزحف أسراب الفجر، تمحوا آثار خطاهم الرياح، وتُبقي لمن يأتي بعدهم كثبان غبار.. سأسلم لراحلتي ..غلوائي تشحذ في الطرقات، وأنا محض جذع خرباء.. أسترخي على حواشي الأرصفة.. تمدّ لي العيون إشفاقها، وتلعن هذا النهار الذي رماني هنا..فمن ذا يكون هذا الشبح الجوعان.. تضرخ شرايينه من الجوع والصداع.. أصابعه الممتدة علاها الصدأ واليباس كما لو كانت لمومياء تجيء من دهرمضى وأندثر، أو تقمصتْ أرواح ديدان انبثقت من عروق الارض.. أما هو كعرجون قديم تهزأ به الريح، تنقله من فلج الى فلج ، تلك الدقائق مثقلة بأوزارها، ملطّخة باللعنات الناعمة، تزخّ بها أرجاء موضعه ، فاستحال ثقباً في جدار الزمان.. يا هذا !؟ ليس هذا مكان التصعلك!!؟ ، ولا يملك الناس ما يدفعون لمن يمتهن مذلته ويريق ماء رونقه جوار الرصيف.. خذ عظامك المتهالكة الى فضاء فقير!.. ودعْها في حفرةٍ عميقة لتستقر وتنام نوم الأبد..
فخذ زمامي
كل الشفرات تأبى أن تحز رقبتي.. كل السنابل تتحدى أسنّة العاصفة.. كلّ العروسات تزفهّن المواعيد.. كلّ القناديل تدشّن السهر.. كلّ الكوابيس تسهر خلف سهدي.. كل المناقير والمناطيد والمناشير والقوارير تستنجد بي في اللحظة الفارهة.. تشعّ زهرتي البازعة في أيام الشجن.. سألقي بحجارتي في بركتك الآسنة.. وأحرّك بركتك الناعسة، والمناجيق ترشقني بحجارة من سِجّيل وغِسلين..في يدي أو يديك أساورُ حنين.. تغتسل بالقبلات.. لجارتك روّادها الراحلون الى الأبد البائد.. علّ بسمة أو نسمة أو بارقة تشرئب على قبابي.. وبابي موصد تحاصره أنياب.. أجيء اليك وبعصي يعصي بعضه، وأنا حائر بين فكيّن مملؤتين بأضراس زماني.. فخذ زمامي .. قُدني الى الفلاة.. وأقطعْ عن الملأ صِلاتي..لكنْ دعني أتلو صلاتي قبلَ حزّ الرقبة.. ولماذا أنا أكون أول وآخر مكان لرمي جمراتك؟
تركتُ بقايا دخاني
هناك تركتُ بقايا دخاني.. ضلّلتُ حاشية المساء.. أضواء الشارع تلهثُ، سمعتُ شهيقها وزفيرها، تُرى لِمَ يزهق حواش الليل لهاث المصابيح.. الغابة جاثيةٌ الى جواري.. هيأت فراشها لتنام.. أقضّ مضجعك هدير القاطرات؟ حينَ أُغمض حواسي أستحيل جثة باردة.. الأشجار لاتعبأ بضجيج المخلوقات.. أنشغل كلّ ساعات النهار في إدارة شؤون كائناتي.. بضع ساعات من النوم وذكريات أحبابي توقظ صحوي.. أطفيء حواري مع الغابة فأوغل في أحشاء الأشواق.. أصيخ سمعاً الى اللغو يسيل بين يدي الزحام.. وأرى الحبّ يدّب في الطريق نحو البيت، يشقّ دربه في السوق.. ها هنا عيونٌ متخمة بالعشق والشبق.. حين يخطو نحونا الليل وأسراره فلاّبد أن يصحو الأشتياق.. يا لجوى نار العشق.. عدتُ الى البذخ الملعون الى غليان المشهد.. وأيام أسافر مع زاد الخيال في القاطرات الرائحة والآيبة ، تُغمض حواسٌ ، وتنكفيء رقاب.. هي دوائر أحلام اليقظة تحمل الى الأسرّة.. ينظر طفل الى رجل نصف نائم أو حالم مثلي .. يسأل جده: انه نائم مصادفة ، يفتح الرجل التعبان إحدى عينيه.. انه طفل يداعبني محاوراً ذاته.. يعود الى وضعه.. ليس مهماً أنْ يقف القطار أو يمضي قدماً أو أضل مع حلمي في دوائر حيرتي.. انه سجين ذاته.. ببصيرته يعرف متى توقظه حواسه.. يغادرمكانه.. فيظل لساعات يحتظنه طريق العودة. متهجياً أحرف هذيانه.. هناك تركتُ بقايا دخاني..