ما يميز رواية الكاتب العراقي أنها فضحت وبأسلوب واقعي ممتع ما حدث في سعار الحرب الطائفية 2005-2007. ومن خلال شخصيات ساهمت وتورطت في عمليات القتل التي تمخضت عما آل إلية العراق الآن. في نص تنبأ بما يجري الآن وأشار إلى الأسباب بوضوح من خلال حبكة محكمة ولغة سلسلة صافية.

قتلة (رواية)

ضـياء الخـالدي

من ينازع وحوشاً يجب أن ينتبه جيداً ألاّ يتحوّل إلى وحشٍ. فحين تطيل النظر إلى الهاوية، تنظر الهاوية إليك...

نيتشه

 

الفصل الأول

الليل ممطر في بغداد، وزوجتي تحدّق من خلال النافذة إلى الحديقة المبللة. الفانوس يشع نوراً كئيباً في الحجرة، فتبدو الأشياء من حولنا وكأنها أشباح تلعب بمصائرنا. تعود زوجتي بشعرها الأشيب المنفوش لتجلس بجانبي على الأريكة، وتحدثني عن الجرذ اللعين الذي أخذ يظهر منذ أيام في ربوع مكتبتي العامرة. لكني لن أهتم بشيء في هذه الساعة، سوى بموعد الغد، موعد الوشاية العظمى...

- سأجلب الزرنيخ! قلت لزوجتي.

في الليل تسرح المخيلة وتتسع، أفكّر في تاريخ هذا البلد.  أقلّب الأحداث التي اقترفها رجال من بلدي في بلدي. صورهم عندي، وملامحهم لا تفارقني حتى في النوم. قرابة الفجر يأخذني الخيال صوب ليلة الجمهورية. اللواء العشرون يمسك ببغداد، والملوك نائمون، والضباط الثائرون متوترون. تنجح العملية؟ تفشل؟ الله معنا. الله مع من؟ لنترك هذا السؤال ونمضي مع لحظات الرابع عشر من تموز، ونشاهد آمرَي الفوجَيْن الأول والثاني من اللواء المغامر وهما معتقلان في سيارتين عسكريتين. كان كل منهما يحاور نفسه. ما الذي يحدث؟ هل سأموت؟ لا أمانع أن أكون من رجال العهد الجديد. ربما يخافون مني. مصير عائلتي. ما دخلي بكل ما يحدث؟ ليسقط الملوك أو يسقط المغامرون الجدد..

تشرق الشمس ويهرب العجوز من بيته لأن الثورة نجحت، ولكن إلى أين؟ لقد انتهت فاصلة من التاريخ، وعليك الرحيل يا باشا. وبينما العاصمة توشك على ابتلاع رجالها القدامى كان يُذاع البيان الأول. نسمع الصراخ في القصر ونسمع الضحك في الإذاعة، مقاهي بغداد والمدن الأخرى تذيع خبر التحول الجديد...

ما زال المطر ينهمر، ومدينتنا «السيدية» تتمرَّغ في الوحل، والكهرباء مقطوعة. خرجت من الحجرة إلى الباحة الخارجية لأجلس على كرسي من البلاستيك. أتلذذ باستنشاق الهواء الماطر ورائحة الطين. بيدي سيجارة وفي رأسي تشتعل سجائر الكون. أفكر بذلك القذر الذي سيُزال من الوجود غداً، ربما يكون نائماً، أو مستيقظاً يرسم مكيدة لأحد. إنها ليلته الأخيرة!

*        *        *

مات أبو حمدان. استدرجته بعد الظهر من متجره في الكرادة. تقصّدت زيارته حين كان  يخلي متجره  ليعود إلى بيته. عانقته عناق من يشاهد بالصدفة واحداً من محلته على نحو غير متوقّع. سألني مبتسماً إن كنت أريد الذهاب إلى البيت. ذهبنا معاً. كان يثرثر عن الزحام وقلة الأمن والخدمات والعائلة الجاحدة، ويتذكر أيام السبعينات الفريدة بصفائها، ويقول:

- كانت الناس تحمل براءة وطيبة.

توقفت السيارة فجأة أمام مسنّ يود عبور الشارع، فتوقف طابور من السيارات خلفنا، وهي تطلق منبهاتها بفوضى عارمة. ارتبك المسن ورفع يده وهو يشتم السائقين. بصق عليهم. ضحكنا، ثم تحركت سيارتنا فعاد أبو حمدان للحديث:

-  أخ عماد. أنت الوحيد الذي أقدره وأحبه في السيدية. أرتاح حين أشاهدك وأتحدث معك!

قلت:

- وأنا كذلك.  كيف حال حمدان وغسان؟

أخذته حسرة، وقال:

- حمدان لا يزال في وهمه. الكلية. ماذا يريد أن يصبح؟ هذا مجرّد هدر للمال والجهد. كما أنه سافل، يقف مع أمه ضدي. لكني أعوّل على غسان، وأرى صورتي فيه يوم كنت شاباً.

أنظر إلى السيارة البيضاء التي تتبعنا، وهي تنفلت بين الزحام برشاقة، ثم تقف بموازاة سيارة أبي حمدان عند كل إشارة مرور. يحدق سائقها الأصلع بوجهينا، فأبعد بصري عنه. فيها ذلك الرجل الذي التقيته ليلة البارحة في مكتب ديار، وأشعرني برهبة. لأول مرة أقف بمواجهة قاتل محترف. كان ينصت لحديثي وكأنه يريد الانتهاء بسرعة من صفقة تجارية صغيرة...

استدارت سيارتنا نحو الشارع الواصل إلى محلتنا، وعندها أحسست بقرب المهمة، فضربت  بيدي على فخدي، وقلت:

- نسيت أن  أذهب للعامرية، لي صديق أتى من الخارج ويحمل هدية لي..

ونظرت إلى ملامحه. وأردفت:

- هدية لا يمكن أن نتركها.. علبة كارتون من ريد ليبل!

- لكن العامرية خطرة. هل عندك أقارب هناك؟

قلت بمرَح في محاولة إخفاء كذبي:

- نعم، عشيرتي بأكملها تسكن المدينة. علينا بالريد ليبل يا أبا حمدان!

أخذته إلى نهاية العامرية، بعيدا عن البيوت، والسابلة. كانت السماء صافية، ولا غيوم تحجب الشمس. وطفل بعيد يدحرج كرة رخيصة لم يتمكن من السيطرة عليها، فسقطت في مستنقع قريب، وفتى يرمي بمقلاعه المطاطي على عصفور يقف على سلك الكهرباء. أمرت أبا حمدان بإيقاف السيارة في مكان محدّد بحجة أن الصديق سيأتي إلى هنا بحسب اتفاقنا... لحظات، والسيارة البيضاء تقف أمامنا. ينزل الأصلع، ويتوجّه نحونا مركّزاً نظره على أبي حمدان، الذي ابتسم معتقداً أنه صديقي، ومع انحناءة جسدي نحو الأسفل، بادره برصاصة حطمت رأسه. تناثر دماغه على زجاج النافذة الأمامية. كانت عيناه تحدقان فيّ. غطيت ملامحه بجريدة أحد الأحزاب الإسلامية وجدتها على الدشبول فتلطخت بدمه. شلّني المشهد، هكذا يقتل الإنسان...

نزلت من السيارة مرتبكاً، ويملأني الرعب. لكني لم أعد أملك أن أتراجع بعد الآن، وخطواتي تتبع خطوات الأصلع الضخم الذي هرول واستقلّ سيارته.

ركبت الى جانبه وأنا أرتجف. لم أقتل إنساناً من قبل، ولم أشِ بأحد، ولهذا كنت على الهامش دائماً، أرسم في أحلامي خارطة تتغير معالمها كل سنة. لم أتصور أن أرافق قاتلاً متمرساً كهذا الأصلع الصامت.

عندما عدت الى البيت كانت مديحة تسقي شجيرات النارنج المحاذية لسياج الحديقة. ابتسمت، وقالت لي:

- انتظرتك رغم أنني جائعة...

تركت صوندة الماء وقالت وهي تقترب مني:

- عملت دولمة بورق العنب.

دائما أتذكر أمي تجلس في المطبخ صبيحة كل يوم جمعة وهي تلفّ ورق السلق أو العنب لإعداد الدولمة لنا. لا أخوات لي كي يساعدنها. ثلاثة أولاد يقضون وقتهم ما بين اللعب والدراسة. في تلك الأيام أخذت كرّاسات ديار تصل إليّ، وتدفعني إلى متابعة أغلفة كتب ملونة لا ترتبط بمنهاج المدرسة. سوق السراي وبسطات الميدان تزودانني بما أميل إليه. سحرتني وقتها مفردة « الثورة» بحيث صممت في داخلي عندما أتزوج سيكون اسم ابنتي ثورة، وإن كان ذكراً فإنه كفاح. لكن، لا بنات ولا أولاد. هذا ما أكدته السنوات اللاحقة...

كم من الكتب قرأتها في دوامي الرسمي بقسم الأرشيف؟ ذلك المكان الذي تتكاثر فيه الجرذان والرطوبة والرفوف، وسجلات كتب رسمية لموظفين بعضهم فارق الحياة. موظفات هذا القسم مشغولات بأخبار الطبخ وتبادل سيَر الناس، وحتى المدراء العامين عند جولاتهم التفتيشية غالباً ما ينسون هذا القسم القابع في النسيان. إنه مكان اخترته ليجعلني بعيداً عن الناس ومشاكلهم الصغيرة. هناك أسست عزلة تمدّني بالقدرة على الصبر وعلى التخفّي، كما هي إنعام. المرأة التي تجسَّد بداخلها بؤس البلد. عزلة تتيح لي أن أغامر، بعيدا عن مخاوف الفضيحة... إنعام هي الوحيدة التي رسمت لي وجهين!

انتهينا من الأكل، ومع حركة الملعقة في استكان الشاي، تحدثت مديحة بأسى:

- هذا الصباح قُتل رعد الصغير وهو متوجه إلى مدرسته.. يا الله، كيف حال أمه الآن؟

كأنني ضُربت بقضيب حديد على رأسي. أمام عينيّ صورة الطفل وبسمته في الزقاق. أشاكسه بالركض خلفه، وهو يلهث مبتعداً مني.

- وبقي أخوه المجنون!

الحزن تاريخ ممتد لا ينقطع. إننا مثل الأرانب الخائفة التي ترفع أذنيها وتحدق بشتى الاتجاهات. هناك خطر محدق. ينبغي الاختباء والسّير بحذر، وحين نسمع صوت أطلاقة نفرّ راكضين صوب مخابئنا... أفكِّر بأخيه ددو المجنون. لا يعرف الخوف، ولن يفرَّ مثلنا نحن العقلاء...

عبثنا كثيراً في البساتين الممتدة على ضفاف دجلة. كنا نرمي النخلة بحجر فيتساقط التمر، ونضربها بالحصى الصغير من مصائدنا المطاطية فتسقط العصافير والفاختات. طفولة بعيدة. مرة أسقطنا غراباً. أصبته في رأسه فتملّكنا الخوف. لم نتصور طائراً بهذا الحجم وهو يتهاوى فوق رؤوسنا. صرخنا، وانفعلنا، وفرحنا. لكننا امتعضنا في النهاية. فالغراب حرام أكله كما يقول أهلنا. لم نَشْوِهِ مثل باقي الطيور التي تركناها فوق نار قش جمعناه من إحدى السواقي اليابسة. بل رمينا جثته في مياه دجلة، وابتعدت مع جريان الماء لتختفي وسط أحزمة القصب الكثيفة. الجثث ما زالت تُرمى في الأنهر والتُّرَع. محظوظ من يصل جسده سليماً. رعد الصغير رحل صوب السماء، كما رحل الآخرون قبله.

الدولمة لذيذة والشاي المهيّل يريد سيجارة معه لأصل إلى نشوة الظهيرة. أرى الدخان يرتفع في فضاء الحجرة، وتذهب زوجتي حاملة المواعين في صينية ستيل براقة. بالتأكيد ديار سيفرح. سيؤمن بأن رفيقه القديم الأشيب ليس مجرد أقوال فقط. إنه يؤدي الفعل على أتم وجه.

التقيت ديار في المرحلة المتوسطة، ووجدته أحب الشيوعية قبلي، حلمنا معا، وتبادلنا الكتب الحمراء خفية، وتسكعنا على ضفاف دجلة حتى الفجر، نغرق في النقاش والجدل. بصقنا كثيراً في الهواء لأن السلطة بيد أناس جهلة، لا يهمّهم إن كتبوا جملة صحيحة أو مليئة بالأخطاء. يأتون من الريف إلى المدينة ثم يركبون دبابة في الليل لتوصلهم إلى القصر، ومن يركب معهم في الرحلة الريفية يكون بطلاً... كانت اعتراضاتنا رومانسية. الزعيم أول من غامَرَ، وصفَّقنا له!

أتصل ديار ليلاً، وكان فرحا ًلنجاح المهمة. أول وشاية أقدمها للمجموعة بعد ثلاث سنوات من الاستشارات، والنقاشات. أعددت لعملية نُفّذت على الأرض، فالمُزال من هذا العالم كان من اختياري. ابن محلتي، عرفته منذ أكثر من عشرة أعوام. وديار وثق بي حين ترك لي التخطيط للعملية.

قال ديار:

- إنك مصيب يا عماد، إنه رجل سيىء حقاً.

فوجئت، وسألته بلهفة:

- هل تعرفه؟

- لا، لكن قبل يومين وصلت معلومات مؤكدة من رجالنا عنه، وأنت محق بإزالته!

قلت لديار:

- كيف وصلت المعلومات؟ هل حقا لدينا القدرة على اختيار أي شخص في العاصمة ومعرفة سيرته؟

- نعم يا صديقي. يبدو أنك حتى الآن، لا تعلم قدرات رفيقك جيداً.

أمر يدعو للغرابة. كيف لديار هذه القدرة الواسعة على الوصول إلى الناس « السيّئين» القتلة؟ المخربين؟ لكني مستاء، لأن الشك كان قد تسرب إلى ديار حول أبي حمدان «السيئ»، وربما أحسَّ بصمتي، فأردف:

- كان لا بد من التأكد مائة في المائة من الشخصية المختارة، فربما نخطئ ونكون قد أجرمنا!!

كان أبو حمدان نذلاً. يفتعل المشاجرات مع جيرانه. يدمّر كل من اختلف معه حتى لو كانت القضية تافهة. أتذكر السيد حليم الذي اعتقلته الشرطة ظهيرة صيف ساخن في نهاية التسعينات، وكلنا يعرف سبب خلافه مع أبي حمدان. بدأ بشجار أطفال، وانتهى بتهمة سب النظام. حجارة طائشة أدمت رأس حمدان الصغير وقتها.

أما عائلة أبو باقر الشطرية فإنها غادرت «السيدية» هرباً، لأن أبا حمدان أراد شراء بيتهم الملاصق لبيته بسعر يفرضه عليهم، وحين فشل، هددهم بالطرد من العاصمة وإخبار الفرقة الحزبية بأنهم لا يمتلكون إحصاء عام 1957، وبأن لهم علاقات قرابة مع أناس يسكنون في إيران، والمفارقة أن أبا باقر وأبا حمدان كانا من طائفة واحدة.

بعد تفجير المرقدين في سامراء، انقلب ليتعامل مع جماعات مسلحة تناوئ جماعات لها نفوذ كبير في السيدية. كانت الوشايات، والإشاعات، قد أخبرتنا أنه السبب في قتل إمام جامع الرحمن. لقد أكّد ديار لي أنه يبيع أرواح الناس بالدولار. سيرة قذرة، وسلوك مشين حتى مع أسرته. مرة، وفي التسعينات أيضاً، خرج إلى الزقاق ثملاً، وراح يصرخ في الناس قائلاً:«إن زوجته عاهر». كان طفلاه حمدان وغسان يبكيان قرب الباب. ذهبنا إليه وأدخلناه لبيته، وأهالي الزقاق تيقنوا أنه مجنون، ولا يتوانى عن فعل أي شيء.

منظر حديقة البيت في الليل يدعو للكآبة. الأشجار عارية والثيل الرمادي ومنظر الكرسيين الوحيدين وسطها يمثلان لوحة عراقية نادرة. أشجار النارنج وحدها تزهو بالخضرة، وبثمارها البرتقالية التي تبدو عند انعكاس ضوء النيون عليها كعيون مخلوقات خرافية.

*        *        *

قبل الغروب تعالى الصراخ من بيت أبي حمدان. توجّهت إلى هناك فوجدت رجالاً يتزاحمون في الباب والحديقة. أهالي الحي يندبون الفقيد ويشدّون من أزر ولديه حمدان وغسّان اللذين صُدِما. أحسست بشيء من اللوعة لمنظر الشابّين، فتقدّمت منهما واحتضنتهما بألم.

كياني ينقلب من عويل النساء داخل المنزل. يبكي حمدان ويتهدَّج صوته:

- يا عمي، «الطائفيون» قتلوا أبي في العامرية!

لا يا حمدان. الطائفيون يقتلون أناساَ أبرياء يحبون البلد. إنها الصدمة التي تلفّك، والعالم أكبر من عقلك الشاب. لا أحد الآن على الأقل يهددكم ببيع البيت، ولن تُصفع أمك ثانية أو يختفي أحد الأبرياء من السيدية بسبب وشاية. ستذهب للكلية كل صباح وأنت صافي الذِّهن.

كان من بين المعزّين رفاق حزبيون من الحقبة السابقة، طيّبون نعرفهم حقّ المعرفة. أبناء الحي. لم يكسروا رقبة أحد بتقرير حزبي. والدليل على نقائهم هو بقاؤهم بيننا. حتى كتب البعث أحرقوها صبيحة يوم العاشر من نيسان على أسطح منازلهم. تصاعدت الأدخنة فوق كل بيت بعثي. صفحات طويلة من التنظير والأحلام والخيال الجامح تحولت إلى رماد..

زقاقنا اليوم فقد شخصين، طفل كالزهرة، وآخر كشوكة العاقول، بينما المدينة تستشيط غضباً من بعض أبنائها. لا أحد يمكنه التنبؤ بما سيحدث. اللعبة الجديدة بدأت قبل ثلاثة أعوام بسقوط نظام صدام. لكننا حتى اللحظة نفكّر، ونتأمَّل..

حين جلسنا في حديقة أبي حمدان أحسست بصعوبة في التنفس وبضربات قلبي تتسارع. بكاء النساء ينسَلُّ من نوافذ حجرات البيت ليطير في السماء. كان مصباح الشرفة الخارجية يبكي أيضاً؛ فنوره غير مستقر بسبب كهرباء مولد الشارع التجاري. المصباح يخبو ويصعد ناشراً ضوءه الخافت على الوجوه الكابية. غسان يتوعّد قتلة أبيه بين الجموع ويهتف بطريقة مسرحية:

- سآخذ الثأر يا أهالي السيدية!

يحاول حمدان إسكاته، وبعض شباب الحي يدفعونه داخل البيت وخاصة بعد أن راح يشتم طائفتي علناً، ويعلن الحرب عليها. هذا المراهق بعمر السابعة عشرة سنة يمكن له أن يكون قاتلاً.

أهالي الزقاق في حديقة بيت أبي حمدان، بعضهم يجلس على الكراسي المتناثرة هنا وهناك، والبعض الآخر واقف. كل شخص يتحدث مع زميل له، مجموعات من ثلاثة رجال أو أكثر يتبادلون الحديث عن حكايات مشابهة حدثت لأقاربهم أو أصدقائهم. أجساد تنتظر الخلاص. رحمة الرب أو رحمة الحكومة. ربما لو أتى الشيطان لحظتها وقدّم اقتراحاً للجميع بأنه سيوقف عمليات الذبح والقتل لوافقه الكل مهما تكن شروطه.

توجهت إلى بيت أبي رعد لأعزّيه بوفاة ابنه الصغير. كانت حديقته هي الأخرى تعجّ بالرجال. الأب حزين وقد لفّ رأسه بيشماغ أحمر، وددو المجنون يبتسم لأحد الشباب الذي لاطفه... الصورة تتكرر. أحاديث نعرفها منذ أشهر، فلان مات، وفلان قُتل، وفلان ذُبح، وفلان فُجّر بيته أو سيارته!

حدّقتُ إلى السماء. تركت العزاء وخرجت، خطاي تضرب الأرض إلى بيتي، الى ألفة مديحة التي تجلس مع عقمها منذ أمد طويل...

أردت النوم مبكرا وطي ملامح النهار التي أخذت تثقل على أعصابي. لم أكن مرتاحا، ربما لمشاهد الحزن عند الجيران. لكن، المهم، أن أبا حمدان قد مُسحَ من الوجود!      

*        *        *

ديار أول من دفعني لقراءة الكتب خارج مقررات التعليم. دسّ خفية كراسة في حقيبتي المدرسية ونحن في السنة الثالثة بالدراسة المتوسطة. حدَّثني عن الفقراء والأغنياء. كانت مفرداته وقتها ساحرة ودفعتني للإعجاب والحسد. سنّه تقارب سني، ولم يرسب بأي صف منذ دخوله المدرسة. كان أخوه الكبير شيوعياً. يهرب من السلطات مرّات ويعتقل في مرّات أخرى. ديار كان ينصت له عندما يتحدث في الليالي عن الظلم في البلد. سرق كرّاسة من الكتب المدفونة في الحديقة من دون أن يدري أخوه سلمان بذلك، وقرأها على ضوء الفانوس بعد أن أخفاها مع الكتب المدرسية. يقول إنه لم يفهم منها شيئاً، فأعاد قراءتها مراراً...

لقد أتت أولى خطواتنا الحمراء بعد ردّة الزعيم على الشيوعيين، وملاحقتهم. أخبار الإذاعة والصحف بدت مثيرة في تلك الأيام، وعرفت أن الحياة كبيرة ومؤلمة، وأن المشاكل في البلد موجودة بكثرة، كنت أنفعل مع الأحداث وأرغب أن أكون مشاركاً في ما يجري حتى ولو بالنقاش والثرثرة.

أحببت الزعيم بجنون وألصقت صورة كبيرة له في باحة منزلنا قبل سنة من رحيله. تفاجأ والدي من اهتمامي الشديد، وابتسم قائلاً:

- من أين جلبت الصورة؟ هل تحبه؟

- نعم أحبّه. اشتريتها من سوق الصدرية.

هذه الصورة بقيت معلّقة على الحائط حتى صبيحة الثامن من شباط 1963، حين مزقها أبي خوفاً من وشاية تدفع العائلة إلى الهلاك. الزعيم سواء أراد أو لم يرد فهو مع الأفكار الحمر في نظر الكثيرين. منظر قسمات أبي الهستيرية ورذاذ لعابه المتساقط جعلني أصعد إلى السطح خفية ثم أتسلَّق البيتونة لأخرج الشبهة الثانية وهي الكراسات الكثيرة التي جمعتها، وأخفيتها بين ملابسي. ثم نزلت إلى الشارع والدموع تنهمر من عيني. أبكي على الزعيم، وأبكي من خوف أبي، وأبكي الحلم الذي صنعته قراءات أخرى عن الإنسان والعالم. أحسست بأن ما امتلكته قد تهشّم بسرعة ولم أعرف أنها المحطة الأولى في رحلة ستطول.

وصلت يومها إلى بيت ديار فوجدته واقفا أمام الباب الخارجي وهو يبكي. احتضنني، ثم اندفعنا نهرول إلى شجرة اليوكالبتوس الكبيرة المنفردة عن الحي. جلسنا هناك حتى مغيب الشمس. نشتم الانقلابيين ونمنّي النفس ألا يأتي الصباح إلا والطائرات السوفياتية تغطي سماء بغداد كالجراد نصرة للزعيم. جلسنا ندخّن لفافات سجائر واحدة تلو الأخرى من دون أن نعبأ بمن يشاهدنا ويخبر الأهل. أخذت التخيلات تتسع كثيرا وتختلط بمشاهد سينمائية من أفلام شاهدناها سابقا. كدنا أن نندفع ونقرّر الذهاب إلى باب المعظّم حيث وزارة الدفاع والزعيم المحاصَر هناك، لكننا لا نمتلك أسلحة... كنا نرى من بعيد الناس يذهبون ويجيؤن ويتابعون أعمالهم ونعجب من عدم اهتمامهم بما يجري. شباب في مثل أعمارنا يلعبون كرة القدم ولا يشغلهم حال زعيمهم المحاصَر بوزارة الدفاع...

سنوات مرَّت، وديار أمين لتلك الأفكار، ولكل الدوافع المحبة للوطن كما يصفها. لم تكن الغربة عنده سوى محطة انتظار، والقطار عاد إلى بغداد وينبغي اللحاق به بالسرعة الممكنة. هكذا حدّثني مع أول لقاء جمعنا في نادي العلوية، ذلك المكان الفخم الذي لم أدخله سوى مرتين في حياتي، وكانتا لمقابلة صديقين... جاء ديار إلى العاصمة ووجد أن رفيقه عماد الذي يهوى الانتقال من حال إلى حال، لا يعرف حقيقة مشاعره بالضبط يوم سقوط التمثال. فرح، وحزن، وترقّب، والصورة لا تستوعبها المخيلة.

كانت مشاعري متناقضة تجاه ديار، إذ لم أستطع نسيان تلك الحادثة، على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على الفعلة الشنيعة التي اقترفها ديار حين اغتصب بنت الجيران وكان عمرها ثلاث عشرة سنة، وجعلها بعدئذ زوجته. كان والدها رجلاً ريفياً هرب من عشيرته لسبب ما، وصار من دون حماية. استغل ديار هذا الأمر ونفّذ ما في رأسه بعذر قبيح هو هيجانه الجنسي كلما شاهدها. يقول إنها ملكة عراقية سمراء. كتلة من السعير تمشي بقدمين. غير أن هذه المسمَّيات سرعان ما انتهت بعد عام واحد حين طلّقها. وعندما سألته عن السبب قال إنها جاهلة، وكئيبة، وباردة، ووصفها بأوصاف أخرى تشي بغرابة هذا الصديق المراهق. علّل اغتصابه لها بأن والدها رفض تزويجها له، وأنه يريد أن يضعه أمام الأمر الواقع. اغتصبها فوق سطح الدار حين صعدت لنشر الغسيل. تسلّق الجدار من سطح بيته واتاها من الخلف ووضع يده على فمها وسحبها إلى خلف خزان المياه... ثار والد البنت لكن حرارة الفضيحة ألجمت جنونه، أرعَدَ وأخذ يتوعد والد ديار الذي قال: لا تبتئس يا أخي، سنزوجهما ولا داعي لأن يعلم الجيران وأهل الزقاق بما جرى. ولنقل لهم إن صراخك حين دفعت بابنا الخارجي حاملاً عصاك الغليظة، كان بسبب ابني الكبير سلمان الذي تعرض لك بالشتائم لأنك تنسى باستمرار حنفية الماء مفتوحة، فتتجمع المياه قرب حائط بيتنا الذي سينهار بفعل الرطوبة.

مات سلمان أوائل السبعينات في إحدى الزنازين، وبعدها بسنوات قليلة تحوّلت من دور الفأر إلى دور القط، ولكني كنت قطاً أليفاً بلا مخالب. طردت صور لينين وفهد وسلام عادل من مخيلتي واستبدلتها بصور ميشيل عفلق ورفاقه. هكذا انتقلت بعد تفكير عميق وأمسكت خشبة النجاة كما ظننت. على الأقل أبعدت جسدي وقتها عن الغرف المظلمة. جاء القرار بعد ليلة لم أنم فيها. أضناني الأرق والخوف، أخيراً قررت، ولكن لم يكن ذلك على حساب الرفاق، مع إنني كنت هامشياً، وهذه حقيقة يجب أن اعترف بها. لم أكن شخصية قيادية، ولا أستطيع قيادة حتى فرد واحد، ولهذا لم يتحسّر رفاقي لهذا الانقلاب!

أما ديار، وكلما أردت استجلاء حقيقة اللحظة التي فكّر فيها باغتصاب البنت وكيف فعل ذلك الجرم الذي لا يمكن أن يقترفه إنسان يطمح أن يكون ثورياً، يقول لي متفلسفاً: في بعض الأحيان لحظة التفكير ولحظة التنفيذ تكونان خارج نطاق إرادتي. الإنسان كائن عجيب، فيه نقاط ضعف، والفتيات الصغيرات كنّ النقطة التي تتلاشى قواي عندها. لا تخف يا صديقي لقد امتلكت الإرادة!

لكنني أرى أن ضعف الإرادة مطلوب أحياناً، حين يتعلق الأمر بامرأة محرومة من الجنس مثلاً، ولا تستطيع أن تتذوقه بسبب مآسي الحروب، وما أكثرهنّ في بلادنا. علينا أن نقدّم ما نستطيع لإسعاد أولئك النساء. هذه فلسفتي. هكذا كان حالي مع إنعام التي لم أرها منذ ثماني سنوات، كانت تنعم بلذّة أهبها لها خفية، وفي وقت الدوام الرسمي، في ذلك القبو حيث الظلمة والرطوبة.

لم أكن أفكّر في الفضيحة التي يمكن أن تكشف لي وجهها. مسنّ مراهق. كان ثمة دافع يتوافق مع فلسفتي ويتمثل بنقل إنعام من الحرمان إلى النشوة. تلك النشوة التي فقدتها الكثيرات من نسائنا لأسباب كثيرة.

*        *        *

حالما وصل ديار إلى العاصمة طلب مني أن أدوِّن له على الورق ما أعرفه عن أحياء بغداد. الناس والبيوت والشوارع والحياة اليومية. بدت مهمة كبيرة وأنا أتعامل مع بشر يتحفوننا يومياً بالمفاجآت، وينجزون أعمالهم بالسّخط والرضا. بدأت من الأحياء التي كانت لي تجربة معها، سواء بالسكن فيها أو بفضل وجود بيت صديق في وقت مضى. كنت أشحذ الذهن لأتذكّر حكاية أو حكايات، تربط أحياء بغداد مع بعضها. أكتب لصديق غادر البلاد لأكثر من ثلاثين عاماً...

اندفعت الى إنجاز ما طلبه مني. أكتب في كل ليلة تحت ضوء مصباح، أو ذبالة فانوس بللها الكيروسين. تسألني مديحة عما يشغلني. فأقول لها أكتب مذكراتي، أو شخابيط مسنّ أحمق. تضحك، وتتركني الزوجة الخفيفة على القلب. لا أطفال يزعجوني، أو أولاد مراهقون فضوليون، ولا أحفاد يملأون البيت صياحاً. هكذا أدوّن ما تختزنه ذاكرتي من مدّخرات عن محلات العاصمة، التي أغلقت الآن بأسوار الخوف، والنهايات.

أحياء غنية بشوارعها وسلوك أبنائها، وأخرى فقيرة بفظاظة أسلوبها ووساخة أزقتها. وأحياء تجمع ما بين هذا وذاك. لكن تجمعها حالة واحدة عنوانها الحذر. بغداد التي مدّت رأسها لكي تتجمّل من غبار سنواتها العجاف، تعود اليوم مصابة بمَسّ من الجنون. لا تعرف ما يدبَّر لها. تسير بين عواصم العالم وهي تستنجد بتاريخها وحضارتها.

شارع الرشيد، سيد شوارع العاصمة يبكي يومياً من قلة السابلة والبضائع، فقد أغلقت فتحته الأولى بحواجز كونكريت عند منطقة الميدان، بسبب وجود بناية  وزارة الدفاع القديمة. حتى مُنعت السيارات القادمة من ساحة الرصافي من المرور فيه. باتت المقاهي والدكاكين على جانبيه تستقبل أهالي الحيدرخانه والأحياء القريبة فقط، وكذلك المتيّمون بحب هذا الشارع من أدباء وفنانين. مرة وجدت شاعراً يلقي قصيدة رثاء لذاكرة الشارع وهو يقف وسطه. يخاطب الأبنية وتواريخ الدولة العثمانية والملَكيّة وجمهورية الزعيم عبد الكريم قاسم. يمكن أن يقتل هذا الشاعر برصاصة قنّاص مَلَّ الانتظار.

وقت ما بين العصر والغروب في شارع الرشيد يعني خطورة دائمة، وغربة تفتك بالمارة. هذا الإحساس اكتشفته حين توجّهت لمقابلة صديق في مقهى الزهاوي، واكتشفت أن أماسي العاصمة ماتت. لم يكن رواد المقهى كثراً. ومع انتهائنا من شرب استكان الشاي أخذ عامل المقهى يرتّب الطاولات إيذاناً بإغلاقه. كانت الساعة الرابعة عصراً. لم تكن ثمة حياة. حتى ملامح رواد الشارع القليلين تدعو للفضول. ربما لأنهم لا يخشون العنف والزوال ولا الموت الطائش.

فَرحَ ديار بما كتبته، وشجّعني على كتابة المزيد عن أحياء بغداد، فالصورة كما قال لي، تكبر في ذهنه وتتسع. وللأماكن روح وذكريات وعوالم تبقى حاضرة. سلّمني مظروفاً فيه خمسمائة دولار كهدية. حاولت رفض المبلغ لأنني لا أريد ثمنا ًلرفقته، ولا لما أكتبه. ابتسم، وقال لي:

- أنت حسّاس جداً!

وأردف:

- المبلغ لا علاقة له بالكتابة... أنت أخي المتقاعد!

وأطلق ضحكة مجلجلة.

 

الفصل الثاني

خرجت صباحاً. كانت خيمتا أبي حمدان ورعد منصوبتَين في الشارع. ثمة رجال يرتبون المكانين تحضيراً لحضور المعزين. مجلسا فاتحة لا يبعُد أحدهما عن الآخر سوى أربعين متراً.

عند ركن في الزقاق قرأت اليافطتين السوداوتين على حائط بناء وكانتا شبه متلاصقتين. الأولى تفتتح بـ «كل نفس ذائقة الموت»، والثانية بـ«لكل أجل كتاب». قبل تاريخ البارحة كانا يستنشقان الهواء، ثم حُمل الطفل إلى مقبرة الكرخ في أبي غريب، وحُمل الرجل إلى الجنوب صوب مقبرة وادي السلام. لن يتنفسا بعد الآن هواء العاصمة. الطائفتان متعادلتان في الزقاق رقم 8 بحي السيدية.

ابتعدت عن أزقة السيدية. لفتني منظر امرأة شابة ترتدي عباءة إسلامية تقف عند الشارع الرئيس المؤدي إلى الباب الشرقي. يظهر بنطلونها المخفي كلما عبثت الريح بالعباءة. بينما حجاب رأسها يشي بقلّة خبرتها في لفّ الحجاب الى حدّ يدعو للضحك.

وصلتُ شركة الأماني للاستيراد والتصدير في شارع السعدون. ابتسم ديار عندما شاهدني. احتضنته بلهفة، وجلست معه أشرب قهوة بالحليب. كانت قطته البيضاء تخطو فوق سجادة المكتب وقد رفعت ذيلها عالياً. راحت تستعرض فروتها المنفوشة أمامنا، كأنها امرأة هادئة مسترخية. قطة جلبها ديار من لندن، وأجبرها أن تصبح منفية في بلادنا. سألني:

- بماذا شعرت لحظة إجهازكما على «السيئ»؟

- إحساس بالارتياح.

- هل خفت من ضمير يؤنبك؟

- ما يحدث في العاصمة يجعلني قاسياً.

التفت ديار خلفه إلى النافذة، وأشار إلى ساحة النصر، قائلاً:

- قبل ساعتين انفجرت عبوة ناسفة، وقتلت عدداً كبيراً من بائعي الرصيف.

- أريد يوماً يمر من دون أن أسمع مفردة مات أو قُتل أو جثة أو.........

- إنه العراق!

دخل شمخي، وهو يحمل بعض الأوراق. وضعها على المنضدة، وقبل أن يخرج قال لديار:

- قبل حضورك أتى شخص اسمه عبود، وأراد لقاءك.

- آه، لقد وصل، جميل جداً، أين هو؟

- قال إنه سيتجوّل لبعض الوقت أمام واجهات السينمات.

قال ديار:

- أية سينمات؟ أصبحت مخازن للتجار، ومكاناً للشاذين.

وسألته:

- من عبود، هل أعرفه؟

- نعم، ولكنك لم تشاهده منذ خمس وثلاثين سنة!

بعد أن دار الحديث بيننا لساعة أو أكثر، جاء الرجل. توسّلت بالذاكرة علّها تسعفني لتذكّر ملامح هذا الوجه. أنف مدبب وأذنان كبيرتان، وشعر مصبوغ وملمَّع بدهان الشّعر، وأسنان تبدو صناعية. إنها قسمات شخص ترك الوطن منذ زمن. أعرف تلك البشرة الطرية التي تصنعها أجواء أوروبا، فبشرتنا نحن العراقيين كالحة دائماً بفعل شمس الصيف، وبفعل الهموم والمصائب. بالتأكيد هو يعيش في لندن أو باريس أو أمستردام أو غيرها. لا يمكن لمحافظات البلد الثماني عشرة أن تنتج بشرة نقية كهذه!

هناك شيء أدركه في هذا الوجه...

احتضنه ديار، وقال له وهو يشير إليّ:

- هل تعرف هذا الرجل المسن؟

وبمزاح أكمل:

- والمتقلّب عبر الحُقَب، والحالم!

ابتسم الرجل وهو يتفحّص قَسَمات وجهي، ثم نهض صارخاً:

- عماد الغريب!

ارتبكت، فأخذني عبود بالأحضان:

- عرفتك رغم الشيب والتجاعيد.

أسعفني ديار وقد اقترب منا:

- عبود الحداد، زميلنا العتيق. أيام كنا نبحث عن تلك الكتيّبات.

يا الله كم تغير هذا الولد؟

أستعيد ذلك الماضي. بارات باب الشرقي وأبو نؤاس أواخر الستينات. أفلام روكسي والخيام. كان جيبه أقوى الجيوب في الشلة. لا يفرغ من النقود.

قال عبود:

- جئت لنعمل معاً. لن نترك البلد بعد الآن...

لم يقل ديار إن عبود سينظمّ الينا، ذلك الرجل الشيوعي الذي لاحقَته الاتهامات حتى بعد تركه الوطن. أستعيد شريط الذكريات فأتأمّل تلك الأخبار التي وصلتنا عنه... عيون رجال الأمن على التنظيمات المعادية زمن الأخوين عارف. لقد ترك البلاد قبل أن تشيع أسطورة أبو طبر في أحياء العاصمة بصفته القاتل رقم واحد، وقبل شهرة المصارع الورقي عدنان القيسي، وأيضاً قبل شهرة السيد النائب بتأميم نفط العراق. أحقاً ترك الحياة الناعمة في الغرب وجاء ليساعد في إنقاذ بلده؟ لكن لماذا يتظاهر أنه يعرفني بالكاد بالرغم من قوله: سنعمل معاً!!

*        *        *

بحثت لمدة أربعة أيام متتالية عن المرأة المسنّة شكرية. يقول عبود إنها تسكن في محلة الصابونجية المقابلة لوزارة الدفاع القديمة. سألت مالكي المصانع الصغيرة في المحلة لكن لا فائدة. هم يعرفونها، ولكنهم يقولون إنها اختفت منذ سنتين أو ثلاث. توجهت للأطفال والشباب في الأزقة. لا أحد يعلم مكان صاحبة الفتاح فال. ربما اختفت من الأرض كما قال شاب وهو يبتسم، وأضاف:

- إنها ساحرة!

وسط البيوت العتيقة والمهجورة والمتهدّمة كانت الأحداث والشخصيات وسنوات عمر أهل المحلة تنهض بوجهي. تتكلم، تنفعل وتشير إلى الماضي الذي انجرف مع الحكايات والنوادر والمبكيات. مسجد المرادية ومصلّوه الصائمون لم يفعلوا شيئاً للزعيم وهو محاصر في وزارة الدفاع. مصدومون ولا يمتلكون غير الدعاء. المدرعات تملأ الشارع المقابل للوزارة، والسماء تعجّ بالطائرات، والناس لا يُسمح لهم بالاقتراب من ساحة طوب أبو خزامة. كانت الهستيريا تلف ضباط الدفاع والانقلابيين معاً. قلق من الفشل والنجاح يغمران يوماً رمضانياً بعيداً.

رأيت شاباً مشغولاً بأكل ساندويش وسط زقاق ضيق مليء بالقمامة، وثمة عاهرة يظلل الكحل عينيها وهي تخرج من باب مصنع الفافون، وحلاق عجوز لا يزال حتى اللحظة يشحذ موسى الحلاقة بجلدة علّق أحد طرفيها بالحائط.

بيوت شَلَّها القدم، وحجرات رطبة. كم من المشاكل العائلية حدثت في هذه الحجرات الصغيرة المظلمة؟ وكم حادثة عراك نشبت بين الجيران وحوّلت أرضية الزقاق الى مسرح للسكاكين والقامات والمكاوير؟ نظرة عاشقة تنسكب بكل هدوء من نوافذ الغرف العلوية إلى المارة أو المقهى أو الدكاكين حيث الشباب والشقاوات. عشق قديم. قصص حب من تاريخ بلادي، طويت مع ملامح أبطالها المتغضنة. أو ماتت وهي ترقد مع رميم العظام في مقابر الوطن الكثيرة...

ما أحلى أفلام طرزان وفلاش غوردن وأرسين لوبين في السينمات الصيفية المكشوفة، وكم حسدنا جيمس ستيوارت حين تتساقط النساء الشقراوات عليه كالفراشات. مارلون براندو في السبعينات و«التانغو الأخير في باريس» واغتراب مجرة عن الكون الكبير، وكيرك دوغلاس وفيلمه «دروب المجد»، ونوازع القادة التي تبنى على جماجم الجنود. من ينسى «مدافع نافارون». وحشد من كبار الممثلين في فيلم واحد، وقد افتتحت سينما غرناطة عروضها به. ماتت الصابونجية وغيرها من المحلات البغدادية منتصف التسعينات من القرن الماضي، عندما زحفت إليها المصانع وورش الحدادة.

الصابونجية يلاحقها التاريخ أو تستظل به، لا فرق، فالمبغى العام زمن المَلَكية كان قريباً منها، حيث احتضنت الكثير من النساء الهاربات من مدن وقرى البلاد النائية. وفّرت لهن الأمن ووفّرن لها ليالي الغناء واللذة، والسهر حتى الفجر. كانت الصابونجية تمارس وجودها في زمن خاص فيها. غير معنية بالأفكار، والأحزاب، والهتافات.

أثار عبود فينا الرغبة بحديثه عن شكرية وقوَّتها الفريدة، حيث يمكنها التنقيب عن البشر والأشياء ومعرفة أسرار الحوادث والوقائع. وصلت أخبارها إلى لندن، حيث أوساط السياسيين المعارضين، الذين أرادوا استثمار موهبتها. فهي في العاصمة وقريبة من القصر الجمهوري. وقتها ضحك معظم الحاضرين ساخرين من فكرة الاعتماد عليها وعلى المشعوذات لإسقاط نظام مخابراتي عنيف. لكن بعد أشهر تأكدت معلومات وصلت لعبود ورفاقه عن طريق آخرين في البلد اتصلوا بشكرية أن زوجَي ابنتَي الرئيس يخططان للهرب خارج البلاد. أتت المعلومة باعتبارها نكتة أو خيالاً جامحاً، غير أن نشرات الأخبار في الشاشات وتحت بنط عريض (عاجل) أشارت فعلا إلى انشقاق صهرَي الرئيس. أصبحت شكرية خشبة خلاص ينبغي التشبث بها، شاعت أخبارها حتى عمَّت كل تجمّع في الغربة. لكن مضايقات بعض الأشخاص المدفوعين من قوى خفية أخذت تتزايد، حتى هجرت شكرية محلة الصابونجية والميدان خوفاً، واختفت لتظهر في محلتها ثانية بعد السقوط...

في اليوم الخامس نقَّبت في الأزقة القريبة خارج محلة الصابونجية. أتفحّص كل امرأة عجوز تجلس في ظل جدار، وأسأل الشيوخ في المقاهي. انتهى الصباح بأذان صلاة الظهر من مسجد الحيدرخانه ولا أثر لشكرية. شعرت بالجوع ودخلت مطعما للمأكولات السريعة. لفة كص بيدي، وبصري يتابع السابلة على رصيف شارع الرشيد. سلع مختلفة على بسطات فُرشت على الأرض وقسمات متشابهة للبائعين. إنهاك في الملامح وقسوة العوز تشاهدها في العيون التي تستجدي الزبائن... هناك شحاذ سكّير يسند ظهره إلى باب دكان مغلق وبصره في السماء، وآخر مخمور ينام على بطنه وأحذية المارة تكاد تلامس أنفه. أصوات رصاص تُسمَعُ بين الفينة والأخرى، وعتّالون يخطون مسرعين بعربات الربل لإيصال الحمولة والرجوع بحمولة ثانية. يمرّ من أمامي رجل دين بعمامة ملفوفة بإحكام وعباءة يلم طرفيها بيديه القطنيتين. يتحدث مع شخص ما. لم أسمع غير عبارة «يقول سيدنا...... » ولا أعرف من هو هذا السيد؟

دفعت فاتورة الأكل، وخرجت من المطعم. رأيت فتاة تلملم عباءتها بيديها. يتبعها مراهق تسوقه شهوته. هذا الولد في بداية طريق خبرته يذكّرني بسنوات الستينات، حيث البيوت التي تثيرك حالما تدخلها. ملابس مرمية على التخت، ودفّ على المنضدة، وجورب نسائي على الأرض. ثم تمسك اللذة وتشمّها. شممت الكثير وآخرها أيام الطابو، والأرشيف، قبل التقاعد. كانت إنعام قلقة من شهوة جسدها الدائمة، ومن نظرة خوف كانت ملتصقة بباب القسم، لأنها أم لأربعة أولاد وبنت واحدة. أرملة فقدت زوجها، حين عبر الحدود بشكل غير قانوني في تسعينات القرن المنهزم. كان يأمل الرجل الحصول على لجوء في دول أوروبا، لكن رصاصة طائشة استقرت في جمجمته.

*        *        *

وجدتُ شكرية في مكان غير متوقَّع. الصدفة هي التي قادتني إلى مظلة موقف الباص في باب المعظم. امرأة مثيرة سحبتني وراءها. مثل مراهق وقفت أنظر اليها وهي تنتظر بين الجموع سيارات حي الشعب قرب الموقف. كانت شكرية ملتحفة بعباءتها وقد فرشت أمامها قطعة قماش رصفت عليها خواتم وأحجار وحصى ملوَّنة. أردت أن اسألها عن شكرية التي تقرأ البخت وتضرب الرمل وتبيع حتماً هذه الأشياء مثلها. حدقت بوجهي عندما نطقت بالاسم. كان وجهها يغرق بالتجاعيد، وعيناها يظللهما الكحل، وعلى خدها الأيمن وشم على هيئة ثلاث نقاط. ربما تكبرني بعشرين عاماً. عندما سألتها أخذها الصمت بعيداً كأنها تريد سبر حقيقتي. وقالت:

- نعم، أنا شكرية؟

لم أستطع كتم الفرحة في صدري. شعرت بأن العاصمة عادت لمرحها السابق، والناس تملأهم الغبطة والسعادة. ولم يتبق في ثلاجات الطب العدلي غير جثث تعود لمسنين أو ضحايا سيارات هاربة. لم تعد مركبات الهمفي تزاحم المركبات المدنية. لا أصوات رصاص أو شتائم من نوافذ مركبات حرس المسؤولين. غاب الأطفال المسلحون بخرقهم السود من الأزقة. ما قاله عبود عنها يجعلني أطير في السماء لأنني وجدتها. يا له من إحساس منعش يغمرني بسبب امرأة عجوز لا تشكل من ديكور العاصمة سوى كتلة من رميم.

اتفقت معها أن تترك الشارع وتعمل معنا. طبعاً رويت لها حكاية مختلقة عن العمل في دكاني المفترض. لكنها ابتسمت، وقالت:

- ليس هذا عملك، ولكني سآتي معك.

تذكرت أنها تعرف كل شيء، وتعرف ما أنا قادم إليه، وأية كذبة ثانية ربما ستضيّع شكرية منا. فهي تعرف المخفي كما أخبرنا عبود. استأجرت سيارة وانطلقنا معاً، ووسط الزحام في شارع الجمهورية اتصلت بديار وأخبرته بالمفاجأة. أكد لي أنه سيخبر عبود بذلك. طيلة المسافة التي تفصلنا عن شركة الأماني في السعدون لم تتكلم شكرية، فشاركتها السكوت، وتركنا سائق الفولكا الروسية يثرثر عن الزحام وعن تقصير الدولة في إنشاء جسور وأنفاق لتخفيف عبء حركة المرور. بعد العام 2003 تم استيراد الآلاف من السيارات، وأُغلقت بعض الشوارع الرئيسة لأسباب أمنية، خوفاً من السيارات المفخخة...

عندما وصلنا كان ديار يقف أمام المبنى، فقد نزل من مقر شركته في الطابق الثاني من البناية إلى البوابة كأنه يستقبل شخصية عالية المقام. رحّب بها بغبطة وثنى جسده وهو يؤدي التحية لمخلوقة تقوَّس ظهرها وبالكاد تمشي، كأنها إحدى ساحرات القرون الوسطى. ركبنا المصعد وكنا مسرعين، ومتلهّفين للجلوس معها.

طلبَتْ استكان شاي. ذهب الولد الشاب شمخي بخفّة إلى المطبخ، وبدأنا نتساءل حول سبب اختفائها وأين تعيش وما شابه ذلك؟ كنا ننتظر وصول عبود لأننا لا نملك بالضبط أسماء الذين كانت تتعامل معهم قبل سقوط النظام. أتى عبود وهو يلعن الزحام وقطع الطرق الرئيسة، وتوجّه مباشرة إلى شكرية مرحّباً كأنه يعرفها من قبل. قال بلهجة بدت غريبة:

- كنت أحلم يا أمي أن ألتقي بك!

جلس لصقها بعد أن أفسحتُ له المجال بإشارة من يده، ثم تكلم وكأنه يمثل دوراً على الشاشة:

- أنت أم الناس كلها في هذا البلد. نريدك أن تكوني بيننا. ما تبقّى من عمر تستطيعين فيه خدمة الناس. سمعنا عن قدراتك وبصيرتك الخارقة، وسنقدم لك راتباً كبيراً!

فاجأتني شكرية عندما أخرجت كيس تبغها الأحمر، وأخذت تلف سيجارة بيديها المرتعشتين. ما هذا العناء؟

أجابت:

- أنا أساعد الناس بما أملكه. لا تظنني عجوزاً خبيثة همّها المال.

قدم ديار لها سيجارة لكنها رفضت. أجابها عبود:

- لم أقصد ذلك. إنما أقول عليكِ أن تساعدينا في الوصول إلى السيئين، القتلة، اللصوص، النكرات في مجتمعنا!

- أنا معكم.

لقد تملكتني الدهشة من موافقة شكرية بهذه السرعة. إذ كنت أتشوَّق كثيراً لأن تكشف عن حكايات وحقائق كنت بانتظارها. فرح ديار وهو ينظر إلى قطته النائمة على المنضدة الزجاجية، بينما وجه عبود ينمّ عن قلق، ولكنه سعيد بشكرية. قلق أفسّره بالخوف من فشل العجوز في أداء مهمتها. أما سعادته فربما لإيمانه بأنه سيوصلنا إلى ما نريد.

*        *        *

ترى، هل من المعقول أن عبود ترك لندن وعاد إلى بغداد من أجل توقنا الجنوني؟ يترك حياة الاسترخاء هناك ليعيش في عاصمة مصابة بوباء الحروب؟ حين جاء ديار قبله بثلاثة أعوام تقريباً اتصل وكلمني عن حلمه. «اغتيال السيئين. تنظيف البلد من الانتهازيين والجهلة والمجرمين واللصوص بأيدينا». فوجئت بحديثه، لكن طالما راودتني هذه الفكرة المرعبة حين بدأ العنف. نحن في خريف أعمارنا، ولا وجود لمنطق يجعلنا نتمسك بتلك الحياة التي خسرناها. أنا بلا أطفال، وديار يقول إن أولاده قد تم تأمين مستقبلهم بما عمله لهم طيلة فترة المنفى، وكذلك عبود، ولهذا يودان أن يحصلا على هدف أخير أو نتيجة مقنعة لتلك السنوات التي أمضياها في العمل السياسي والمنفى.

تنتابني شكوك لا أستطيع إبعادها عن مخيلتي، وتطالبني باستمرار بمعرفة حقيقة هذين الصديقين. ديار أثق فيه، لكن عبود لا أعرفه كثيراً، لم يكن بيننا سوى جولاتنا الستينية. هذه الأيام أنظر لقسماته المتغيرة مع كل فكرة أو نظرة أو حديث عن طفل بائس، نشاهده حاملا كيس القمامة بحثاً عن علبة بيبسي كولا معدن فارغة ليبيعها إلى كورات الصهر. أحاول معرفة مدى حزنه على هذا الطفل. هل يتألّم مثلي؟ أو ربما أكثر! أحقاً أتى من لندن ليساعده ويساعد ددو المجنون الذي لا يعرف المحاذير والمخاطر؟ عبود كان طيباً في تلك السنوات، لكن الأخبار التي سمعتها عنه أواخر الستينات بأنه وشى بأفراد خليته بالكامل واستلم أموالاً من البعثيين هي ما تقلقني... أفصحت لديار عن شكوكي، فقال إنها إشاعات بثها البعثيون بعد استلامهم السلطة، وأرادوا النيل من كوادرنا المثقفة...

إذاً، جاء عبود أخيراً وسيقترب كثيرا من ديار وهذا سيجعلني الشخص الثالث في مجموعتنا بعدما كنت الثاني. لم يقل ديار لي ذلك، لكني أشعر بأنهما يلتقيان بالكثير من الأفكار والقضايا، وهو ليس مثلي، يعارض ديار أو يناقش مشاريعه. ربما لأنهم رفاق منفى. لست منزعجاً لأنه أخذ مكاني. لكن قلقاً ينتابني تجاه أي شخصيّة يختارونها للقتل. ينتابني خوف على أناس بريئين قد يطالهم القتل. يقول ديار إن مجموعتنا الاستخباراتية تزوّدنا بالتقارير عن السيئين.

عبود بعينيه المنتفختين، وكرشه المتدلي، وقامته القصيرة، لا يوحي لي بأنه إنسان ملائكي. يصعب أن استوعب صورته كرجل إنساني. ربما لأن عناوين جسده هذه تشبه كثيراً عناوين أجساد تجّار في زمن الحصار التسعيني، وقد أذاقوا الناس الويلات، أو تشبه رجال الأمن برتب كبيرة، أو تشبه عناوين جسده هذه متعهدي الحفلات الخاصة، أو تشبه........

كما أن حكاية شكرية تبدو غير مقنعة لي. هل نصدّق أننا نميل إلى إدخال الغيبيات في عملنا؟ عبود يجدها مهمة في اكتشاف هوية الأشخاص الوسخين، فهي بنت العاصمة أو عَرّافة بغداد الكبرى. يقول عبود :«ما عرفناه يمكن أن يوضع تحت نعال شكرية البلاستيك، ويُداس لأنه بلا فائدة إزاء ما سنعرفه من شكرية».

لا يمكن لشكرية بعد الآن أن تعيش من الشارع. ينبغي أن نلملم أيامها المتبقية في بيت آمن وحياة كريمة. بعد نقاش كان الاقتراح أن تعيش معي. أرعاها وأحميها لتساعدنا على تحقيق أهدافنا النبيلة. لكن السؤال الذي يحفر جمجمتي ولا يهدأ: أحقاً لديها تلك القدرة الخارقة؟

*        *        *

يقع حي السيدية ما بين البياع الآهلة بالسكان، وبين الجادرية العامرة بالخضرة. جئت للسكن فيها في بداية التسعينات، هرباً من منطقة شعبية اسمها حي التراث. تلك المنطقة التي تصدّر للبلاد سنوياً عشرات الأولاد الصغار، الذين تراهم يملأون طرقاتها بالضجيج والشتائم. لا أعرف كيف يترك الأهل أطفالهم حفاة الأقدام، وأحياناً تشاهد مؤخراتهم بين الأزبال. ترى المراهقين يتخذون من الطرقات مكاناً دائماً لهم. كأنهم ينامون ويفطرون عند أرصفة وشوارع أكلتها المياه الآسنة. سمعت من الجيران أنني متكبّر، وانطوائي، ورجل معتوه، لا يعرف قيمة الجار، وقيم الرجولة والنخوة. نعم لن أشاركهم مجالس العزاء التي أنفر منها. هي مكان للنميمة وللاستعراض. هكذا أنظر للأشياء! فما معنى أن يُطبخ الرز بكميات تفوق بكثير ما يمكن أن يأكله الحاضرون، ثم يُرمى في أقرب زبالة، لتتحوّل الى تلال. قالت مديحة وقتها: إنها رزق للطيور والقطط والكلاب، كما أن الأمر لا يعنيك لأنك غير متديّن...

ما علاقة الدين بهذه المظاهر المنفّرة!

حي التراث ينأى وحيداً بين أحياء الضواحي. تلك البقعة التي سكنتها نهاية الثمانينات، وكانت تحوي بيوتاً متناثرة هنا وهناك. شوارع يأكلها الغبار صيفا، وتبتلعها الأوحال شتاءً. حاولت الهروب، وشراء بيت في حي الأطباء حيث لا يستيقظ الأطفال فيه مبكراً، ولا تعيش فيه الحمير والأغنام، فكانت أمنية لم تتحقق بسبب الأسعار الخيالية للعقارات هناك. طردت الفكرة من رأسي، ودخلت في كابوس لم ينته إلا ببيع ذهب زوجتي، واستلاف مبالغ من أخي جلال الساكن في كركوك، كي أحقق حلماً صغيراً هو السكن في السيدية. تلك المدينة التي لا تعرف من تلك المنغّصات إلا قدراً ضئيلاً.

العاصمة غُزيت من المدن القصية، وماتت البغددة التي استنشقت تراثها من الكتب، ومن جنسية أبي العثمانية. تمزّقت الصورة الرمادية، وتاه مترو العاصمة بين الدشاديش والرايات؟ من حقي أن أبوح للحمام، والسماء، والجن والحشرات!

الكارثة التي تنخر جسدي كالأرضة أنهم لا يعلمون ذلك. مطعم قذر يأكل منه أناس قذرون، والمسؤول الصحي قذر، ولكن، ماذا لو كنت أنا وأمثالي متطفّلين على هذا العالم؟ ومثلي من يجب أن يُطرد خارج الخريطة والتفكير.

حي الأطباء أمنيتي التي لم تتحقق. حي يحاذي العامرية التي مات فيها أبو حمدان، ويحاذي أيضاً حي الجهاد الذي استقبل في غروب أحد أيام تموز الماضي، سيارة كوستر محملة بأطنان خشوع إلى الله، لتنفجر في حسينية الزهراء. يموت مصَلّون، وتحترق أجسادهم مع الركعة الثانية أو الأخيرة، ولا أحد يعرف من امتلأ خشوعاً وقتها! ثم مَن فجّر اليوم التالي آلة قتل التهمت أناساً بعضهم غير معنيّ بالصلوات الخمس ولا الثلاث. يحصل ذلك باسم الاقتصاص من كل من دفع الكوستر وقادها عبر التاريخ إلى الحسينية. صُعقت حين أخبروني أن خمسين رجلاً قتلوا، مقابل ثلاثين قتلوا في ليلة الخشوع. كان الحي بحق يجاهد في قتل أبنائه!

تدخل الى حي الجهاد من طريقين، الأول شارع الكلية، وسُمّي كذلك لأن كلية الأمن القومي كانت هناك تقبع بحرسها قبل العام 2003، وقد تحولت بعد دخول الهمفيات إلى مساكن تأوي عشرات العائلات الفقيرة. والثاني هو شارع الديوان، وسُمّي بالديوان لأنه كان يفضي إلى مزرعة صدام، وقصره المنيف...

بطل هذا الحي هو جبار الأبتر. يدب يومياً في السوق الكبيرة بقدم وعكاز، فقد قيل عنه إنه ضحّى بقدمه اليمنى في حرب إيران للحفاظ على روحه، حين علقت تحت عجلات سيارة الإيفا أثناء الانسحابات أو الهزائم. لم يستطع تخليص جسده وهو يشاهد رفاقه الجنود راكضين إلى الخلف، وقد حاول بعض رفاقه مساعدته وسحبه لكن من دون فائدة. تركه الكثيرون وشلّه اليأس في نهار تتساقط قذائفه كالحمم، وكان الغبار والصياح والدعوات والشتائم التي يطلقها رفاقه الهاربون تخترق مسامعه وتنفذ حيث قدمه العالقة. لم يجد إلا حلاً أخيراً قرره بعجالة: سحب مسمار رمانة يدوية ووضعها خلف إطار السيارة، ثم احتمى بالله... انفلقت الرمانة ولم يعرف أن مهمته نجحت إلا عندما رأى الشاش الأبيض يلفّ ساقه في المستشفى...

جبار بشعره الأشيب، يستجدي يومياً من الدكاكين. وكنت أثناء ذهابي إلى ذلك الحي لزيارة أحد الأصدقاء أنقده ورقة حصن الأخيضر الحمراء مع ابتسامة بحجم البلد. يقف مبهوراً أمام هذا الكرم الحاتمي، ثم أمضي، تاركاً له حرية تفسير دوافعي...

بعد انقلاب نيسان، وصلني خبر أنه نجا من تفجير مقهى الحي بعبوة أخفيت بكيس، وضعت تحت تخت مسنين كانوا يلعبون الدومنة، وجبار يحمل قلماً وورقة يسجل النتائج. مات المسنون وخرج جبار بلا أضرار! وراح الناس ينسجون حوله الأساطير كونه المحفوظ بعناية الله والأولياء، وازدادت عطاياهم له، وبعضهم كان يدعوه لحفل ختان أو زواج. بركة جبار كبيرة، ولا يزال يمضي في خطواته في أزقة حي الجهاد، بلا زواج، ولا بيت، ومن دون خوف.

 

الفصل الثالث

أقنعت زوجتي بإمكانية إعداد حجرة المؤن القريبة من الحديقة لسكن شكرية. اعترضت في البداية، ولكن عندما علمت أنها ماهرة في قراءة الطالع تحمّست وقالت:

- ستسليني العجوز عندما تكون أنت خارج البيت!

تزوجتها قبل أكثر من ثلاثين سنة ولم ننجب أطفالاً. كانت امرأتي عاقراً، ولكنني بقيت وفياً لها حتى اليوم. لا أريد أن أسبب لها ألماً. العالم يعجّ بالمصائب، ولينام أولادي في العدم. يطيرون مع الريح من دون أن تصدمهم روائح الكلاب. يشاهدون أباهم وهو يجذّف بيديه للمواصلة وتحقيق شيء يفتخرون فيه. الزعيم لم يتزوج ولم ينجب أطفالاً. أراد تنفيذ ما يدور في رأسه من أمور تسحب البائس من الوحل. لكنهم لم يمهلوه. الريف حاصره في وزارة الدفاع. العاصمة مقيَّدة ولا تستطيع فعل شيء. وليدها يُقتل في الإذاعة من أناس كانوا يحلمون أن يمروا مشياً من أمام بنايتها... كنا صغاراً أو مرتبكين بخطواتنا الحمراء الأولى. لم نكن مع الهاربين والمختفين أصحاب التجارب. الغيلان تفتك بالناس على الشك والوشاية، والعاصمة والبلد يصغران شيئاً فشيئاً، والريف يتّسع ويتّسع بحجم الأمية. أحدق في شارع الرشيد وحديقة الأمة بعده فأجد المفردة وقد تعرّت من معناها، وبدت خفيفة الوزن، مجرد رسم. مفردات لا ثقل لها على اليافطات المعلَّقة.

لكنني بعد سبع سنوات لمست امتلاءها، ورأيتها تحتشد بكثافة تاريخ غني يمثّل الوطن الكبير! لبسنا اليشماغ الأحمر وبدلة السفاري وانخرطنا بحملات العمل الشعبي في السبعينات، وطاردنا الفارّين من جبهات الموت الثمانينية. نطوق البيت، ونصعد سطوح الجيران حتى لا يهرب الجبان كما أسميناه وقتها. ثم نمسكه وهو مرعوب تحت فوهات مسدساتنا وبنادق الكلاشنكوف. لا يهم إن كان رفاقي لا يقرأون الكتب ونظريات التاريخ والاقتصاد، بل الأهم وقتها وجود صورة واحدة للوطن. صورة وطن معرّض للاستباحة من قبل جنود قادمين من الشرق.

دائما يكون الريف موجوداً، في السلطة وفي الشارع. هو أول من يحمل السلاح من دون تفكير. هكذا، مرة تجده مصيباً ومرات كثيرة يقلب الطاولة فيضع البلاد تحت كوفيته. يكون سيداً وهو لا يعرف أزقة العاصمة ولا ناسها.

شكرية ليست ريفية، بل هي بنت العاصمة وأشعر بأنها اندفعت بالكامل متحمّسة لما نفكر. تبدو طبيعية في بيتنا، ولا أدنى ارتباك أو خجل. تستيقظ صباحاً لتنظّف الحديقة وترش الماء على الشجيرات وأصص الزهر. ثم تتبعها زوجتي ليفطرا معاً والشمس لم ترتفع بعد فوق البيوت. ألقي التحية عليهما مسروراً بالصداقة الجديدة وأذهب الى شركة ديار.

يبدأ نهار وليد في بلدي يحمل في قائمته أسماء من سيرحلون عن دنيانا. يانصيب الموت تُسحب أوراقه كل يوم. الغريب أن الفقراء والبائسين هم الفائزون. نتيجة حمقاء تأكدت معالمها في البلاد. فرص مبعثرة لمن يمشي في الشارع أو من يجلس في بيته اتقاءً للضرر. صخب الرصاص والدوي يفتت الأدمغة ويحيل الذكريات عند البسطاء إلى جنة اندثرت معالمها. لكننا سنفعل شيئاً في ما تبقى من أعمارنا. نمسح من الوجود وجوهاً أشبه بالأحذية. قرأنا كثيرا ووجدنا أن النظريات حالمة، ولا توجد واحدة ضد البشر. كلها خضراء ومليئة بالسعادة، وكل ثورة تأتي ومعها جيوش من المفردات والمصطلحات التي تبقى شاخصة ومحرّكة لدوافع الناس... أغبياء يصعدون للقمة في لحظة. يمكن مثلاً لناظم كزار أن يكون الرجل الأول لو تحققت له الظروف. يدفع الرئيس وحاشيته إلى الهاوية ليأتي هو مع بطانته الجديدة. المسدسات الكاتمة للصوت تحكم والناس لهم الرواية التي يتم تشذيبها بعناية ليتداولوها في المقاهي والبيوت، وكل شخص يعيد تفسيرها وفق عقليته. يعني أن الرواية الكاذبة أصلاً تتناسل إلى آراء ووجهات نظر كاذبة هي الأخرى. سواء إن ناظم كزار قتل عند الحدود الشرقية؟ أو قبض عليه وهو في مكتبه لا يعرف ما الذي حدث؟ إنها الأسرار التي دخلت بعد تلك العقود الثلاثة في باب التكهنات...

بعد ساعتين في الزحام والقلق وصلت شركة ديار. اليوم أستلم منه المبلغ الشهري الذي يخصصه لي وقيمته 600 دولار. لو كان راتبي التقاعدي يكفي ولم يتعطل بدفعة الشهرين الحكومية لما قبلت أخذ مبلغ كهذا. ما أعمله لا يقيَّم بالمال. لكن الحياة وقسوتها اليومية المتمثلة بالتبعثر الذي نشاهده يتطلب مني التنازل قليلاً، والقبول إلى حين، ثم الطلب من ديار بعد ذلك أن لا يهينني بالراتب الشهري، والابتعاد عن سماع الكلمات المنمّقة، من قبيل مالي هو مالك، أو أنت أخي ولي الحق بمساعدتك.

صعدت سلم العمارة المظلم، فالتيار الكهربائي غائب. كان رأسي يضج بصخب الطريق. أحاديث الناس. حرقة في الصدور وشتائم معلبة للسياسيين والمحتلين والرئيس السابق تسمعها في كل الأمكنة...

لم يكن ديار موجوداً في الشقة. جلست على القنفة القريبة من النافذة، وأخذت أستلذ بشاي شمخي المهيَّل، وأنظر إلى بسطات رصيف شارع السعدون، وهي تعج بزبائن، وببضائع صينية رديئة. سلع رخيصة أدمن عليها العراقي، رغم إدراكه أن عمرها قصير. لا تفكير أبعد من إنهاء حاجة ملحة لمقتنيات المنزل. مفك براغٍ وزيت شعر، وماكينة حلاقة جاهزة، ومرآة بلاستيكية، وأقلام رصاص، ومقلمة أظافر، وحاجيات أخرى جلبها التجار، فاعتاد الناس عليها. لأنها المتوفرة، ومن يريد أن يبحث عن منشأ له سمعته فليدور بين أسواق العاصمة لساعات، وربما أيام... أرى امرأة تضع حاجيات الصين في كيسها وتمضي، وهيئتها من الخلف تذكرني بإنعام.

أين ساعات قسم الأرشيف الخاملة؟ أيام البدلة الأنيقة، وابتسامة الموظفات وثرثرتهن التي لا تشبه حتماً ثرثرة البشر الحاليين! أين إنعام الحزينة بملابسها السود؟ أين اللذة المسروقة خلف دولاب الأضابير؟

*        *        *

تساقطت حبات مطر قليلة مع بداية الليل. رنَّ جرس الباب فخرجت من حجرة شكرية وقطعنا حديثاً كان يدور عن يوم كانت شابة وتسكن مع عائلتها قرب معسكر الهندية. كان حمدان في الباب، أراد الدخول لأنه واقع في مشكلة وصراع سيقوده للجنون كما قال لي. ضعف بدنه كثيراً ونمت لحيته بعجالة بحيث أخفت عظمتي وجهه البارزتين.

جلست قربه على القنفة وكان بصره ساهماً في حجرة الاستقبال. ياقة معطفه تخفي نصف رأسه، ولم أشاهد منه سوى عينين خبا البريق فيهما. تمتم بلهجة مرتبكة:

- عمي عماد، ساعدني.

هززت رأسي ليكمل، تشجع وقال:

- توصلت إلى المجرم!

- أي مجرم؟

لسعات في فروة الرأس، وسخونة تحتل جسدي.

- الذي قتل أبي.

-............

- لكنني لا أستطيع فعل شيء. لست من الذين يقتلون.

- من هو؟

- أريد منك أن تحفظ هذا السر. إنه الشيخ مؤيد!

كيف عرفه؟ تساءلت مع نفسي. محقّ بتصوره هذا، فمؤيد تنطبق عليه صفة القاتل. حلقة الدين التي يعقدها بعد صلاة العشاء يمكن أن تدفعه لقتل الناس. إنها فسحة لأرمي الفعلة بحضن إمام مسجد الرحمة ورواده الملتحين. لكنّي لم أستطع، فقلت:

- لا أوافقك. هو رجل طيب.

أرتفع صوت حمدان:

_ لا، أنت لا تعرفه. إنه إرهابي.

- كيف عرفت؟

- وهذا سر أيضاً. نقل لي بعض الأصدقاء الفارين من السيدية أنه كان يريد قتل أبي. وهو من قتل سجّاد لاعب الكرة.

يا لها من صور تنفلق أمامي. يتحدّث حمدان كأنه على يقين. أذهان الناس تنتج سيناريوات تنجز بسرعة. ربما لا تصل إلى شيء. وشايات وأحقاد وعواطف دينية تندس بين الوقائع لترسم خريطة ثانية لحركة البشر.

قلت له، وأنا أحاول رسم مشهد محكم:

- لا تفعل شيئا.. سأتحقق من الأمر.

نهض من دون أن يشرب شيئاً. وضع يديه في جيب معطفه وانسحب بهدوء، وفي الباحة صادف شكرية وقد خرجت من المرحاض الخارجي فغمرته الدهشة. قدمتها له على أنها من أقاربنا. تحدثت شكرية وتوجست مما ستقوله وهي تصوب نظرها بصعوبة إلى وجه حمدان:

- يا ولد، من قتل أبوك هو إنسان طيب!

الصدمة لفّت كلينا، والصمت الذي يخرقه ارتطام قطرات المطر بسقيفة الحديد في الباحة ترك لحظات من الارتباك والقلق. جسدها الضئيل والضوء الأصفر الخافت الذي يرسله المصباح يرسمان لوحة كئيبة. أحسّ أنها  كابوس. تركتنا شكرية بضع خطوات. لحقها حمدان. اندفعت وراءهما:

- جدتي، هل تعرفين الشيخ مؤيد؟

أجابته من دون أن تلتفت له، واستمرت بالمسير نحو حجرتها:

- أنا أعرف كل البشر في أرضنا. مؤيد لم يقتل أباك، لكنه يقتل الناس، ومن قتل أباك لا يقتل الناس!

لم يفهم حمدان لكنني فهمت. الكارثة ستقع، ولأول مرة ينتابني خوف مذل. رعب لم أعرفه حتى في زمن الشباب.

حمدان يندفع خلف العجوز في حجرتها وأتبعه. لساني لا يستطيع تمزيق ما ينسج في ليلة الأربعاء من شهر كانون الأول. زوجتي نائمة وخارجة عن مدار الدقائق التي تمر. كذلك الجيران ومنهم عائلة رعد الشهيد. ددو نائم الآن أو يشاهد التلفاز من دون أن يفقه شيئاً من نشرة الأخبار، وماذا يعني انفجار سيارة مفخخة في العاصمة؟ الحي بأكمله لا يدخل ضمن نطاق ما يجري في هذا المشهد. تجلس العجوز في سريرها وحمدان يقرفص على الأرض!

- لنخرج يا حمدان، الجدة شكرية تريد أن تنام.

- لا يا عمي، الجدة تعرف الكثير.

حمدان يرمي الكلمات بتوتر، وشكرية صامتة. أريد منها أن تخرجني من الوحل. لكنها تبدو غير مهتمة. تنشغل عنا بفتح صرة قماش خضراء. حمدان تتوالى أسألته من دون أن يجد أجوبة. أرتاح قليلاً من عدم اكتراثها لنا.

ما الذي جلبته لنفسي؟ بصيرة العجوز ستقدّمني لقمة سهلة للزنازين والمقصلة. سأكون خبراً في الفضائيات: إمساك إرهابي خطير في السيدية. أغدو نذلاً عند أهالي الحي. تختفي فجأة ليالي الصيف فوق السطح وأغاني يوسف عمر والغزالي. طفولة ملاعب الغولف في حدائق المنصور في الخمسينات، والأجانب يلعبون ونحن نحمل لهم حقائب المضارب لقاء عشرة فلوس. الشرقيون لا يدفعون المال مثل الأوروبيين... ذاكرتي ستنتهي في حجرة مظلمة، وبين إرهابيين حقيقيين.

سحبت حمدان من الحجرة مؤكداً له أننا سنجلس مع الجدة نهار الغد. كنت أود كسب الوقت والانفراد بشكرية. تحقق لي ما أردته، وعندما أغلقت الباب الخارجي شعرت بأن طعم الهواء في رئتيَّ منعش للغاية!     

*        *        *

لم أتصور أن تكون شكرية خطرة الى هذا الحد. ابتعدت عنها في تلك الليلة، وبقيت وحدي حتى ساعة متأخرة. كلمت ديار عن اللحظات الحرجة مع ابن التافه وعن الشيخ مؤيد الصيد الثمين. العمامة ليست مقدسة على الدوام. تجدها ملطخة وتجد من يسعى لتلطيخها أيضاً. لا أحد فوق الشبهات، والكل مُدان في أذهاننا. سأل ديار «هل تضمن حمدان؟ يعني ما رأيك أن ينضم إلينا مثلاً؟»، وكان هذا ما يدور في جمجمتي. حمدان يمكنه الولوج إلى عالمنا لأنني أعرفه حق المعرفة. بسيط وهادئ ويتألم من الداخل لسقوط الناس في الشوارع. يستطيع أن يكون من العيون التي توصل لنا الأخبار وبذلك نوسّع شبكتنا عبر عالمه والوجوه السيئة التي تدور فيه. حمدان لا يقتل إنساناً. أعرفه، لكن لو ملأنا ذهنه بالغاية التي نهدف إليها، سيأتي مسرعاً، كالأعمى، يقدم الأسماء الوسخة التي يعرفها. هو تائه الآن. قلق. ينظر للسماء من دون أن تصله الإجابة، وأبوه مات فهل يقبل أن يُقتل بشر جدد أبرياء؟

الشيخ مؤيد إمام مسجد الرحمة يمكن أن نقتله من دون رحمة إذا كان حقاً يستحق القصاص، وندفن معه شكوك حمدان حول مقتل والده. حتى يسقط السيئون معاً!

ظهيرة الخميس أتى حمدان، وقبل جلوسنا في الحديقة تعثر ببلاطة ناتئة فسقط على نبات الياس المحاذي للممشى. أنهضته وقد غمره الخجل. كانت عيناه تنقّبان عن شكرية، وعند سؤاله عنها جاءت وهي تدب بخطواتها البطيئة. فرح حمدان مثل فرحي يوم وجدتها عند موقف الباص. لفحات هواء باردة تضربنا وتنسحب. زوجتي تلتحف بروب قديفة أسود وشعرها خليط من ألوان سببه الأصباغ والحناء. أربعة كراسٍ تشكل مربعاً وسط حديقة كان الثيل فيها بنياً. ذَكَر الفاختة يرسل هديله فوق جدار السطح، فأتذكر طفولتي حين حوّل أبي هذا الهديل إلى أغنية يوم كنا في بستان الحاج راضي «كوكو كتي، وين اختي، بالحلة، شتاكل، باكله»

شكرية ألزمت الصمت منذ ليلة البارحة. لن تتكلم حتى أسمح لها، ودفعت زوجتي لتعمل لنا النسكافيه داخل المنزل، وقبل أن يتفوّه حمدان اندفعت في حديث عن أهالي السيدية. عائلة سلمان الاسكافي تركت بيت العائلة بسبب تهديد جاءهم، وخضير المطيرجي يقبع الآن في سجن بوكا بالبصرة، وشذى القحبة هربت بعد اغتصاب فتياتها الأربع وقتلهن في مدرسة النور الابتدائية.

انتهى حديث السيدية بصلية رصاص في السماء، تبعتها رشقات أخرى في أمكنة متعددة. نهضنا على عجل، وبغريزة حب الحياة إلى تحت الطارمة الكونكريتية، وقد حملتُ شكرية بذراعي كأنها طفلة صغيرة. بدت مرعوبة من المشهد. الحياة غالية حتى لو اجتاز الإنسان مائة عام. أجلستها على دكة حجرية قريبة من النافذة، وأتت زوجتي مسرعة من المطبخ ودعتنا للدخول. بينما حمدان يكرر مفردة كشفت عن توتره:

«مواجهة، مواجهة!»

عيوننا تنظر للفضاء الذي اختنق بالعصافير والزركي والفاختات والطبان، ثم، وبعد ربع ساعة اندسّت بين الطيور مروحيتان أمريكيتان، ليتوقف الرصاص، وتختبئ البنادق والقاذفات والوجوه الملثمة باليشامغ البيض والحمر. المروحيتان فضّتا النزاع على الأرض. لا يتجرأ أحد أن يطلق عليهما النار لأنهما ستردان بقوة.

عاد الهدوء للسيدية ولكن المروحيتين استمرتا في التحليق بشكل دائري، فغمرنا الأمان، وخرجنا للحديقة والكراسي الأربعة وكأن شيئاً لم يكن. دفعت مديحة للداخل لتعيد تسخين النسكافيه، وسمعنا صراخ أبي رعد على ددو، لكي يدخل البيت... ثم كلمت حمدان:

_ ربما كلامك صحيح. الشيخ مؤيد هو المجرم!

ونظرت إلى شكرية التي هزت رأسها لتأكيد كلامي. ثم قلت:

- لكن لا تعمل شيئاً.

قال حمدان لشكرية:

- جدتي. هل عندك معلومات عن مؤيد؟

أجبته بدلاً عن شكرية:

- الجدة لا تعرف. اسمعني جيداً، عندي كلام كثير معك حول أمر جديد. تعال الليلة.   

*        *        *

لم أستضف حمدان في حجرة شكرية، بل طلبت منه الصعود إلى غرفة المكتبة. كلّمته عن وجود مجموعة أعرفها وضعت على عاتقها النيل من القتلة. ليست ميليشيات حزبية أو طائفية. بل وطنية. انبهر، وفتح فمه دهشة، وامتقع لون وجهه. تحدّث بارتباك بحيث وصلتني المفردات بصعوبة. توقف أكثر من مرة. كلمة تعلو نبرتها وأخرى تهبط إلى درجة لا تسمع:

- يا عمي، ميليشيات.. سنية وشيعية.... تقتل..العراقيين، لا أريد أن أكون... منها.

- إنها ميليشيات لا ترتبط بالدين إطلاقاً، ولا بالأحزاب، ولا بأي طرف خارجي؟

هدأ قليلاً:

- من يدعمها بالمال؟

أخبرته بما نؤمن، وحدّثته عن ديار وعبود وثروتيهما التي نذراها للوطن. لكنه، بدا غير مصدّق أنه يوجد أشخاص بهذه الفروسية والنبل، والهيام بتربة بلدهم. حاولت إثبات وجود أناس كهؤلاء في العراق. ردد بصوت واطئ وهز رأسه قائلاً:

- أشك بوجود ملائكة.

ثم ارتفعت نبرته وقال بانفعال فاجأني:

- حتى لو لم يكونوا ملائكة، وقد جاؤوا لمساعدتنا سأكون معهم!

أجبته بسرعة:

- أؤكد أنهم كالملائكة!

وأردفت:

- زملائي وأكثر من الأخوة.

وأضفت له كاذباً:

- منذ مقتل أبيك حاولت معرفة قاتله. أخبرت مجموعتنا عن ذلك والبحث مستمر.

موقف حمدان لان كثيراً وطلب مني يومين للتفكير. انتهت المهلة وبعدها بيوم واحد أتى إلى بيتنا ليلاً، ليعلن انضمامه إلينا،  وليس لوحده  بل مع صديقته الطالبة الجامعية سلمى. صُعقت من الخبر. امرأة شابة تعلم بما نقوم، وديار لا يعرف بالأمر. أكد حمدان أن سلمى أهل للثقة ومتحمسة مثله. لأن خالها قُتل على الهوية وتريد الانتقام.

الانتقام يحرّك الكثير من الناس في شوارع العاصمة، فيقترفون الأفعال، رغم الطيبة الباقية في نفوسهم. الطيبة يمكن أن تدمّر إنساناً يعتقد بأنه قويّ وصلب. ليس ثمة تناقض أو اضطراب في العقل.

حين علم حمدان بولعي منذ الستينات وحتى الآن بتاريخ بلدنا أفضى لي بحكاية عن وجود وثيقة لدى سلمى موقَّعة من قبل سياسي عراقي عاش في زمن الأخوين عارف، تشير إلى ما سيحدث للبلد بعد أربعين سنة. نبوءة غربية أو تخطيط لمصالح الدول العظمى. حمدان لا يعرف بدقة الأسماء المذكورة في الوثيقة لكنه يؤكد وجود مفردة الأمريكان فيها. لقد اطلع عليها حين جلبت سلمى الوثيقة إلى الجامعة المستنصرية لتريها له خفية، ومن دون علم عائلتها التي امتلكتها بالصدفة حين اشترى الخال المقتول أكوام كتب قديمة بالجملة من شارع المتنبي، وكانت الوثيقة مخبأة داخل أحد الكتب. هذه المكتبة تعود لشخص واحد لأن أغلفتها الداخلية ممهورة بالاسم نفسه وتاريخ اقتناء الكتاب. ربما الأحفاد باعوا المكتبة لأن الحصار الاقتصادي في التسعينات جعل من الكتاب مادة كمالية قياساً بالرغيف الأسود. 

*        *        *

تسكن سلمى في حي الحمراء، بالقرب من نفق الشرطة القميء، الذي عُلّقت عند طرفيه قطعة خشب تنبه السائقين الى قلّة ارتفاعه، وقد نُسجت حوادث مؤلمة للغاية عن هذا النفق. سمعناها من رفاق أخذوا يتندّرون بألم حول ما حدث. منها أن عاملاً في عقد الثمانينات كان يعمل بعلوة الخضار، جلس فوق عربة شحن محملة بالبطيخ، ونظره للخلف. وحين ولجت السيارة بسرعة داخل النفق، كانت فروة رأس العامل ودماغه قد التصقا بالجدار. بينما شاحنة البطيخ مضت لتخرج من الجانب الآخر، ولم تتوقف إلا عند وصولها الى نادي التجارة.

يمتاز حي الحمراء بسعة بيوته التي تصل إلى 400 متر، وخضرة حدائقه، وشوارعه المبلطة العريضة، حيث قامت شركة مدماك الهندية باكسائها في فترة الثمانينات، وإنشاء أرصفة متينة صمدت حتى الآن قياسا بأرصفة عراقية بناها السارقون هذه الأيام. منطقة الحمراء تحاذي حياً معزولاً للسفارات. جمهورية الصين الشعبية عاد سفيرها للبناية ليجدها أنقاضاً بعدما سُلبت مقتنياتها كباقي سفارات رومانيا وفلسطين والسودان في نيسان 2003. بينما يحدّها من الشمال حي الجامعة الأكثر فخامة، والذي يمتد إلى حي العدل صعوداً حيث الكاظمية.

يعني أن سلمى تعيش في حي راقٍ. لم تكبر وسط بيت ضيق، وعَوَز يجعلها تنتظر الفرصة لتحقق ما تريد، وتشبع رغباتها المكبوتة في ظرف اختل فيه القانون. كما أن هذا الحي لا تكون الطائفة فيه مهيمنة بطقوسها وقوانينها المقدسة. نساء حي الحمراء بلا حجاب، وقريبات من أحدث الموضات، والشباب يمضون في عالمهم بعيداً عما يقوله رجال الدين. يوجد في الحي مسجد وتكية كزنزانية، وسمعت أن حسينية أنشئت مؤخراً. يبقى شاخص الحي يتمثل بالتكية التي أربكت أهالي الحي وقت إنشائها وما زالت، حيث يشاهد الأهالي السيوف والأسياخ المدببة وهي تخترق أجساد الدراويش، بينما أصوات الدفوف تُسمع حتى الكنيسة في شارع الربيع...

لكن هذه الصورة قديمة، وأعتقد أنها اختلفت بمقدم عام 2006، وثورة هوية الأحوال المدنية، وأسماء البشر والعشائر، لكنها، مع ذلك، ما زالت إحدى المنارات الإيمانية الثلاث...

أذكر في نهاية الثمانينات يوم اتصل بي هاتفياً صديق وهو يضحك، طالباً مني القدوم إلى بيته في حي الحمراء على وجه السرعة. قال لي: هناك عرض لن تشاهد مثله في حياتك أبداً، ولأنني أعرف هذه الصديق ونزواته التي تجلب المتعة غالباً، توقعت جلسة خمر ونساء، وملذات أخرى. لم أكن ممن يهمهم السهر الليلي، ولكنني لم أكن أرفض دعوة تتعلّق بهذا الأمر من ذلك الصديق... المفاجأة كانت كبيرة بسبب ما شاهدته. فقد أنيرت مساحة ملعب كرة القدم بأنوار معلّقة على أعمدة طويلة كتلك المنصوبة في الشوارع الرئيسة، والناس تجمهروا بكثافة. باصات نقل متوقفة بلا ترتيب، ورجال أمن ينتشرون بملابسهم الزيتونية وبنادقهم الرشاشة. هذه الجموع تشكل حلقة كبيرة تؤطر حلقات أصغر لدراويش يضربون الدفوف، ويشعلون النيران... ما الذي جمع هؤلاء الدراويش؟ تساءلت. نبّهني صديقي الى ما يحصل في زاوية من المشهد المتسع أمامي، فهالني ما رأيت. كان عزت الدوري يتوسط مجلساً، ويميل برأسه يميناً وشمالاً. انكشف سر وجود دراويش البلاد وتكياتهم في مباراة صوفية مذهلة.

رائحة غريبة شممتها هناك. خليط من مواد وخشب محترق وبخور، وغبار متطاير. وشاهدت رجلاً ينتشل صاجاً حديدياً من موقد، يحمله بيديه ولا يظهر على قسماته أي شعور بالألم، وآخر يضع سهماً مشتعلاً بالنيران في فمه، وجسد تشوّهت ملامحه بأسياخ وخناجر. أصاب الذهول أهالي حي الحمراء والمناطق القريبة وقتها؟ وأدهشني كم إن الحياة تحمل في طياتها أسراراً غير التي نعرفها في الكتب. أشياء لا ُكتب، وأنما تتجسّد فقط أمام أبصارنا، فتتركنا مذهولين وجبناء أمام حقيقة لا نستطيع تفسيرها. نبدو كالأطفال المرتبكين حين يهمّون بدخول مبنى المدرسة لأول مرة.

ما الذي يُبعد الألم عن تلك الوجوه الملتحية؟ أهي الكرامات أم الجن وعوالمه الغريبة؟ بقيت تلك الذكرى في رأسي، وبقيت تلك المشاهد بما فيها من سحر وإبهار وأسرار.

حي الحمراء لا يعني أنه يملك شاخصة حمراء فسُمّي بلونها، وإنما أخذ عنوانه من اللاشيء أو اللامعنى، كحي الخضراء الذي يجاوره. تسميات تتحول مع السنوات إلى مصباح ينير ذاكرة من خطا في أزقة تلك الأحياء. حتى أرقام المحلة والزقاق والدار والهاتف، لن تُنسى أبداً. فهي عناوين جسّدت بدايات اختلافنا عن الآخرين، وخصوصية بيوتنا الأولى.

أما ما يخص عملنا، فلو حددنا حي الحمراء بخطوط هندسية، فإن منفذ الهروب الآمن يتمثل في جسر حي العامل، أحد أحياء المدينة الأقل ثراءً، حيث يمكن لرجالنا الابتعاد عن موطن الخطر.

حي الحمراء ستعبث فيه المجاميع القادمة من حي العدل، والتي نسمع بين آونة وأخرى كيف تفتك بسائقي سيارات الأجرة، والعابرين من ضواحي العاصمة الفقيرة، الذين يرومون الوصول إلى مدينة الإمام موسى الكاظم...     تلك هي صورة مدينة سلمى الصغيرة!

 

الفصل الرابع

التقيت بحمدان وسلمى قرب جسر المشاة في باب المعظم. بقينا عاجزين عن اختيار مكان نجلس فيه. نحن في أواخر العام 2006، وثمة خشية أن تجلس فتاة مع شاب حتى لو كانا برفقة مسنّ مثلي. مقاه شعبية مزدحمة بالرجال والدخان. لا سبيل إلا التسكع مشياً على الأقدام في مناطق مزدحمة، أو الذهاب إلى غاليري حوار. حدثتها عن سروري بانضمامها إلى مجموعتنا، ثم فتحت الموضوع الذي يشغل بالي: الوثيقة السرية.

سألتها ونحن نخطو باتجاه الوزيرية:

- هل جلبتِ الوثيقة؟

- لا، لم أستطع إخراجها من درج أخي.

تدخّل حمدان قائلاً:

- أخ سلمى يعتقد بأنها ستجلب مصائب للعائلة، ولكنه يقول أيضا إنها يمكن أن تباع وتجلب مالاً للعائلة.

قلت لسلمى:

_ أريد منك وصفاً كاملا للوثيقة. موضوعها؟ ما تتذكر فيها من الأسماء الموجودة؟ تأريخها؟ أي شيء؟

- آخر مرة قرأتها قبل أكثر من شهرين، ولأني لا أحب التاريخ السياسي فلم أعرها اهتماماً إلا حين قال أخي إنها مهمة. تتكون من ثلاث عشرة ورقة صفراء. فيها وصف للوضع الدولي وانعكاسه على العراق على ما أتذكر. فيها كلام عن إمكانية قيام تعاون وثيق بينUBI وبين نامق. هذه الأحرف الانكليزية بالتأكيد هي رموز لمنظمة أو دولة أو كيان ما، أما الاسم فلم يكن كاملاً، وربما يشير لمجموعة ما. وفي الأوراق الأخيرة دوِّنت أهم المكاسب التي ستقدمها UBI  إلى نامق لو حقق ما تقترحه القائمة (و) وأقنع زملاءه. لكن القائمة (و) ليست عندنا. كما أنها تخلو من التاريخ المحدد، بل كان مكتوباً أعلى الجهة اليمنى عبارة «ستينات القرن العشرين».

توقفت سلمى عن الحديث، ونحن نهمّ بعبور الشارع العام حيث بناية أكاديمية الفنون الجميلة، التي يقع خلفها غاليري حوار، المحصن الوحيد تقريباً من هجمات المسلحين نظراً لقربه من بناية السفارة التركية، فالمداخل مغلقة ورجال الأمن ينتشرون بكثافة. فكّرنا أن نجلس في كازينو الغاليري.

حدثت سلمى:

- هذا يعني أنها تعود لحقبة أربعة رؤساء، وليس من المؤكَّد  أنها تتناول حقبة الأخوين عارف.

- لا أعرف.

قال حمدان:

- طلبت من سلمى تفتيش كل الكتب القديمة بحثاً عن القائمة واو. لكنها لم تجدها.

قلت:

- ينبغي البحث عنها. ربما تكون الوثيقة حقيقية!

دخلنا الغاليري. كانت اللوحات في كل مكان. فنانون وفنانات يجلسون في الكازينو، وأغنية انكليزية بإيقاع هادئ تنساب فتشعرك لوهلة أن كل ما يدور في العاصمة من مشاكل مجرد حلم فقط. بناية الغاليري شُيّدت زمن الحكم الملكي، وكانت منزلاً لوزير الدفاع طه الهاشمي. التاريخ هنا. صراعات وأحلام غبية. تمنيات يقودها العسكر لرفعة شأن الوطن. تطفو على المصير الأسود الذي وصلنا إليه:

- ما بك عمي؟

سألني حمدان... أكّدت له أن البلد يدور برأسي. ما معنى أن يشتبك شباب العاصمة في ما بينهم في لعبة قتل مجانية، بدلاً من التفكير في المستقبل أو السفر والسياحة حول العالم؟

قالت سلمى:

- سأقنع أخي أن هناك مَن يرغب بشراء الوثيقة بمبلغ جيد. أخبر زميلك ديار ليوفّر المال.

- لا، اسألي أخاك عن المبلغ الذي يريده وسأبيع أي شيء للحصول عليها.

بعد أن جلب عامل الكازينو سندويشات كبة موصل التي طلبناها،  أكملت:

- لكن أريد اللقاء بأخيك والوثيقة للتأكد من كونها حقيقية!

قالت سلمى:

- لو افترضنا أنها حقيقية، ماذا ستفعل؟

- سأعمل الكثير!

وأضفت مستدركاً:

- ما اسم صاحب المكتبة. حمدان أخبرني أنها ممهورة بتوقيع الشخص الذي كان يملكها.

- نعم، نجاة إسماعيل. والبائع متجوِّل، يعرض كتبه على الأرض، وكل يوم في مكان.

- نجاة، امرأة أو رجل؟

- لا أعرف، ربما رجل!

التهمنا الساندويشات، وتحدثنا عن حكايات البؤس في العاصمة. كانت الساعة تتجاوز الواحدة ظهراً. السماء صافية والشمس ساطعة. وحرارة شهر كانون الأول تخفّف من سطوتها. منحوتات هنا وهناك، وملصقات دعائية لمعارض فنية على الجدران. أبرز ما يلفت النظر أن وجوه رواد المكان غالباً ما تحمل مسحة حزن، كأغانينا، وأشعارنا، وحكاياتنا الشعبية. وجوه سومرية يغمرها اللون النحاسي، كقدر لا فكاك منه.

كان حمدان يحادث سلمى بصوت خافت. عندما نظرت نحوهما ابتسما وشعرا بالخجل. بادرت سلمى بالكلام:

- يا عم. قد يفاجئك قبولي العمل معكم، إذ كيف لشابة مثلي أن تنخرط بمجموعة تنفذ اغتيالات. إنه خالي، رجل مثقّف وودود قُتل غدراً بسبب طائفته. هو لا يصلّي، بل يشرب الخمر. من الظلم أن يُقتل من أجل انتماء ديني لم يختره. غير ملتزم فيه.

قلت بحرقة:

_ حتى الملحد يموت أيضاً بسبب طائفته!

أكملت سلمى:

_ سأزوّدكم بالأسماء فقط. لكن سؤالي هو: هل توجد ميليشيات طيبة؟ ومن يقودنا، أقصد الأستاذ ديار،  هل هو بالطيبة التي ذكرها لي حمدان؟ أكاد لا أصدّق بوجود إنسان ملائكي هذه الأيام. ليس في العراق فقط، وإنما في العالم،  بهذه الصورة. يترك حياة هادئة، ليأتي إلى حياة كلها عنف...

_ إنه كذلك يا ابنتي.

_ أتمنى ذلك. والآن سأعطيك اسم شخص يسمونه في مدينتا طرزان الحمراء.

ابتسمت، وعلّق حمدان مازحاً:

_ هل القرد شيتا معه؟

لم تبتسم سلمى، بل أضافت  بمرارة، ومن دون أن تلتفت إلى حمدان:

_ هذا الطرزان قاتل، واغتصب أكثر من امرأة. اسمه سعد محيسن.

أخرجت مفكرة السنة الموشكة على الانتهاء، ودوّنت اسمه واسم الحي ورقم الزقاق، وأكدت لسلمى أنها ستسمع أخباراً تفرحها. هذا الطرزان سينتهي برصاصة في رأسه. سعد محيسن هذا سأضعه في رأس ديار.

ملامح سلمى جادة، ووجهها الدائري ازداد بياضه في الشال الأسود. شعرت بالارتياح، وكانت سعيدة وهي تنظر إلى حمدان، فقلت لهما:

- متى تتزوجان؟

ارتبكا. لم يتوقعا هذا السؤال. بقيا صامتين وتغيّرت ملامحهما وتعرَّق وجهاهما.

يا الله ما أحلى تلك القسمات الخجولة التي أراها. أحاسيس أخاذة، وعواطف دافئة نقية. بعيدة عن العنف والدماء. لا تعرف القسوة، ولا أحابيل السياسة ولا التاريخ. مشاعر بدائية كأنها حديقة تزخر بالورود!

قالت سلمى بحسرة:

- كيف نتزوج؟ فقد فقدت خالي، وحمدان فقد أباه.

- النسيان، أجمل دواء لنا نحن البشر!

هواجس سلمى أربكت ذهني. ففي قرارة نفسي أشك، وعندي نوع من الحيرة تجاه ديار، لكن الشّك يكبر تجاه عبود، إنما إيماني يبقى قوياً بالأهداف التي نسعى إليها، وهذا ما يجعلني أبادر دائماً إلى تقديم سجل ناصع البياض عنهما. أكدت لسلمى أننا بعيدون عن أية دوافع دنيئة، وحمدان يعرفني منذ كان صغيراً يلعب في الزقاق، ويعرف أنني مستقيم وتشهد بذلك المحلة كلها.

- نعم يا سلمى، لو حدثني أي شخص غير الأستاذ عماد عن هذه المجموعة لما صدَّقته.

لحظاتنا مجنونة. بنت شابة تندفع، كأن ملاكاً أو شيطاناً يسكن عقلها. هي لا تفكر الآن بالخطر، كأي شاب مراهق يحمل البندقية في الشارع. صورة واحدة في الرأس وعليها أن تتمثل... الانتقام.

خرجنا من الغاليري، ورجعنا إلى باب المعظم، وهناك تفرّقنا. كان سوق الخضار مزدحماً بالناس. حركة البشر لا توقفها الانفجارات والاغتيالات مهما كثرت. إنها طبيعة الإنسان. خطوت إلى ساحة الطلائع أنوي عبور جسر مدينة الطب فوق نهر دجلة. النوارس تطير، والوثيقة التي دخلت ذهني فجأة تبعدني عن التفكير في أي شيء. ماذا لو كانت حقيقية؟ لقد كذبت على سلمى حين قلت إنني سأفعل الكثير إن كانت حقيقية. لا أعرف ما الذي سأفعله.   

*        *        *

التاريخ الذي عشته وعاصرت أحداثه مجرد مغامرات متلاحقة وغبية. تجمعها صورة واحدة هي إرباك حياة الناس... أستيقظ فزعاً من نومي بسبب «كوابيس سياسية»، هكذا أسميها. أكون بطلاً لحلم سخيف مثل صعودي في طائرة المشير عبد السلام عارف وهي تصارع العواصف الترابية أو ربما دسيسة العطل المدبَّر... تسقط الطائرة فيموت المشير، بينما أهبط أنا على قرية بمظلّة رُسم عليها العلم العراقي بنجماته الثلاث. الأهالي يتركون حقولهم ويزحفون صوبي وهم يرددون أهزوجة «ما كو زعيم إلا كريم»، يحملونني على الأكتاف بالرغم من أن الأهزوجة تخصّ قائداً أُعدم في الإذاعة. يضربون بأقدامهم الأرض، وأيديهم تمسك اليشاميغ المرقّطة فوق رؤوسهم...

كابوس آخر أكون بطله كالعادة. هذه المرة أرى نفسي رئيساً لأحد مجاميع العمل الشعبي في السبعينات. أوجّه الطالبات والطلبة في ظهيرة تموزية لبذل المزيد من الجهد لإكمال بناء المدرسة. أشعر – في الحلم طبعاً – بثقة وإيمان ووطنية كاسحة. يثيرني رجل بعمامة وجبّة سوداوين يحمل حقيبة دبلوماسية خرج للتو من مطعم أمام موقع العمل. أشاهد رواده عبر الواجهة الزجاجية وهم يأكلون ويتحدثون، لكن يافطة المطعم غريبة. كُتب عليها: «نكسب الشباب لنضمن المستقبل». وأنا أدخل المطعم رأيت الوصي عبد الإله يجلس مع النقيب محمد سبع والعقيد فاضل عباس المهداوي. يتكلمون والبسمة لا تفارق محياهم. طاولة أخرى تضمّ حردان التكريتي يتحدّث مع فيصل الأول ويحرِّك ذراعيه لشرح فكرته، وعندما يسكت ويتحدث الملك كان حردان ينصت ويهزّ رأسه موافقاً. فجأة سمعت صوتاً مألوفاً في آخر الصالة. كان ديار وشكرية وعبود يجلسون إلى طاولة واحدة، وهناك كرسي فارغ كأنه لي. جلست قربهم، ليقول عبود: «حدِّق بإمعان يا عماد».

الغريب أن كل تلك الأحلام تنتهي بوجه بشع يلاحقني. يشتت المشهد. أهرب منه بالاستيقاظ من النوم وبمفردات الرحمن وآيات قرآنية تتلوها زوجتي، وتتعوّذ من الشيطان الذي لا تعرف لماذا يطارد زوجها؟

التاريخ ليس ملائكياً، وهناك من يستثمر حادثة منه لكي ينفّذ رغباته. تلك الرغبات التي تصنع الطغاة. كل المرارات المنطلقة للسماء اختلطت بالتقديس وعُجنت بالشعارات، وبدت للآخرين معتادة الحدوث، فهي خطوة كما يروّج لها لإمساك المستقبل الجميل!

يقال، إن بغداد مستقبلها إما غريق أو حريق. مقولة تداولتها النسوة العجائز والملالي والممسوسون، ووصلت إلينا كأنها حقيقة لا لبس فيها. الناس تأكدوا من صدقها حين اشتعلت الحروب، فالحريق ابتدأ منذ زمن، والغريق انتهت حكايته. لا يمكن أن تغرق العاصمة ونهر دجلة ينخفض منسوبه مع الأيام. لا مياه ترتفع لتصل إلى البيوت كما حدث في فيضان بغداد عام 1954...

التاسع من نيسان أذهلنا. أي شعور علينا أن نحمله؟ كيف تبدو دواخلنا وقد شاهدنا الهمفيات والجنود الزنوج والشقر في أزقتنا؟ سقطت تماثيل السيد الرئيس، وهرب صاحبها إلى المخابئ السرية، وإلى البساتين، قبل أن يُمْسَك بلحيته الكثة المخيفة. كانت أعمارنا تختبئ بين شعيرات لحيته، ليترك لنا بعدها الدهشة والغضب والفرح والحزن والصدمة. هكذا نحن مثل طقسنا المتقلّب، لا حدود واضحة تُظهِر لنا الأشياء في شكلها الحقيقي. دائماً ثمة مفاجأة ما علينا انتظارها!

كثيرة هي الكتب التي قرأتها في السنوات الأخيرة. حقائق تكشفها مذكرات الشيوعيين والبعثيين عن أحداث الستينات والسبعينات. المحصِّلة الوحيدة التي عرفتها أن البلد كان يُدار بنوازع المغامرين. هم متفقون مع بعضهم حين تكون الغاية واحدة. عدو مشترك ينبغي إزاحته عن الكرسي، وحين ينجحون تبدأ محنة البلد. تصفيات ودسائس بين الأخوة. ميول حازم جواد وميول السعدي، وميول سلام عادل وميول........، وهلم جرّاً.

بغداد تهزها المتغيرات، والعائلات تترك بيوتها بسبب أوراق تُرمى من خلف الباب، أو باتصال هاتف خلوي، أو رسالة sms تأتي حروفها الكارثية عبر الأثير. عائلة حمدان وصلتها برقية عاجلة عُلِّقت بالباب الحديد تقول «اتركوا المنزل وإلا...... ». هذه البرقية دفعت حمدان إلى حسم تردده والانضمام إلى مجموعتنا... حي السيدية ينزع جلده بصمت رهيب. تغادره عائلات ليستقبل عائلات جديدة. أنا باق حتى الآن. صدفة مذهبية جعلتني  قادر على البقاء وعدم  الهروب من المدينة...

ددو المجنون وحيد في زقاق لا أطفال فيه. وحده ينظر للطيور، ويرمي الحصى على عصافير حديقتنا. تقدم زوجتي له الحلوى، فيدخل البيت، ويطالع الطيور قرب ماعون الخبز المبلل. يشعر بالخجل منا فيبتسم للحمام والعصافير، ولكن حين تغفل مديحة عنه، يهجم على المكان، وبعدها يخرج راكضاً... أخذ الأب يخشى على ددو من تلك الأخبار التي تتحدث عن تفخيخ المجانين، واستدراجهم من قبل العصابات لتنفيذ عمليات انتحارية، فتراه دائم الانتباه. وأسرَّ لي أنه مستعد لسجنه بالبيت، وتقييده بالسلاسل، على أن يفقده مثل رعد الصغير...

قلت لشكرية قبل يومين في طريق عودتنا من عيادة طبيب فحص قلبها بتكليف من ديار:

- ما الذي يحدث لنا؟

لم تنطق بكلمة كعادتها في البدء. صمتت. ومع دخول سيارتنا في زحمة تقاطع أربعة شوارع، أجابت:

- أسمع منذ طفولتي أن بلدنا غني، وسأموت ونحن فقراء!

أبواق السيارات تشتبك، وشتائم هنا وهناك تنطلق من أفواه سائقين نزلوا من سياراتهم وراحوا يرفعون أيديهم لبعضهم. أسمع أحدهم يقول «نحن العراقيين ما إلنا جارة. متخلفون». هذا الكلام نسمعه يومياً في كل مكان، وعلى الرغم من أنه كلام يتكرّر، لا أحد يتنازل ولو للحظات لتمرير السير. الشمس توشك على المغيب في تقاطع العمارات السكنية في حي صدام سابقاً، وحي السلام حالياً... سألت شكرية:

- لو أتاك عمر جديد، ماذا ستكونين؟

- أكون عاهرة في شبابي، وقارئة بخت في شيخوختي!

صُعقت من إجابتها:

- ماذا؟

- أمثالي تناسبهم هذه الحياة.

- أكنت عاهرة في شبابك؟

ابتسمت العجوز، وقالت:

- سأخبرك تفاصيل حياتي في ما بعد.

تقدمت مركبتنا قليلاً. تحركت بضع خطوات، لتعلق ثانية بين السيارات والوجوه الغاضبة. قلت لشكرية:

- هل تخافين الموت؟

- تريد الصراحة، نعم، أخافه.

- هل لأن ماضيك أسود؟

- لا، إنما لأني لا أعرف ماذا بعد الموت.

- الحساب، والجنة والنار.

- أعتقد أن الله سيُدخل العراقيين الجنة بلا حساب. لكني أخاف العالم الجديد الذي سأكون فيه.

علّقت:

- تقولين سندخل الجنة جميعاً.

امتنعت عن الإجابة، وبدا الضيق يظهر على قسماتها، وقالت:

- هل أنت مكلَّف بالتحقيق معي؟

تحررنا من الزحام. انفلتت سيارتنا هاربة من حالة عراقية مستديمة، ومع ضغط قدمي على دواسة البنزين بقوة، لفت نظري شيخ مسن يدفع عربة محملة باسطوانات الغاز السائل، علّقت:

- أي حياة هذه!         

*        *        *

تمثال عبد المحسن السعدون المزيَّف يستكين في ليل بغداد خائفاً من السرقة والرصاص والدوريات الأجنبية التي تمر بين آونة وأخرى. دكاكين المشروبات الروحية تضاءل وجودها بسبب المتشددين الإسلاميين. لكن شمخي، عامل ديار، اتصل هاتفياً بأحد أصدقائه، فأتى ذلك الرجل بسرعة على دراجته النارية حاملاً ما طلبه ديار من المشروب...

الليلة اجتماع شهري في شركة ديار. عبود يشارك لأول مرة، وحمدان أيضاً، وشكرية حاضرة بضآلتها. إنها أشبه بمناضل سابق يتم الاحتفاء به. ضيف شرف ننتظر منه المزيد. لا يكفي أن تعصر ذهنها لتقدم لنا الأسماء فقط. أو تسرّ لنا برأي حول خطورة عملية ننفذها.

أخرجت شكرية من كيسها القماش أعواد البخور، وطلبت منا إشعال أطرافها وتعليقها في زوايا المكتب. كانت رائحة جسدها مشبعة بعطر القرنفل، وتردد لنا أنها الوحيدة بين زميلاتها التي عرفت القراءة والكتابة في الخمسينات. تعلّمت على يد شاب كان يزورها مراراً. حتى تمكنت من قراءة الكتب التي تحبها. قرات أبو معشر الفلكي، وتنبوءات ابن دانيال، وغيرها. قالت لنا:

- لا تظنّوا أنني لا أفهم حديثكم « المثقف ».

أين كان يزورها الشاب؟ لم أسألها. فقد انطلق وراح ديار يصف لنا أحوال العاصمة وما يحدث فيها بالضبط.

- تكلم ديار:

في بغداد الآن خلايا يقتصر عملها على إثارة العنف وتغذيته. هناك غايات كثيرة بحسب من يدفع الدولارات. قد تموِّل إحدى الخلايا الطرفين المسلّحين.

قال عبود وقد ابتسم بلا معنى:

_ العاصمة فيها تجّار حروب وأزمات. شركات يافطتها إنسانية وهي بالفعل وكر للقتلة.

أردت تلطيف الجو فقلت:

_ مثل شركتنا «الأماني»!

نظر إلي عبود بغضب، وكذلك ديار. ضحك حمدان وشمخي فقط. حتى شكرية صمتت ولم تنبس بحرف.

_ أعتذر. كنت أمزح فقط.

ردّ ديار بالقول:

_ يا صديقي مزحتك ثقيلة.

لم أتصور أن يبلغ الغضب بهم هذه الدرجة. شركة الأماني بحق هي وكر للقتلة، ولكن مقصدها يختلف عن مقاصد أوكار بغداد الأخرى، فوكرنا فيه الثقافة والنضال، والحلم من دون مقابل.

_ آسف، أخطأت. أعذروني.

_ أبداً، نحن من يعتذر.

_ أنت صديقنا

_ عمي عماد أمر عادي!

انتهت المزحة على خير... قطة ديار ماءت فوق كرسي وُضع في زاوية المكتب، فتوجّه ديار لينزلها على الأرض. لا أعلم، هل حقاً لا تستطيع النزول بمفردها؟ قطة كسول تتثاءب بيننا. تشاركنا المكان ولا أقول التمنيات! فهي على الأقل غريبة المولد. أوروبية. مدللة في بلادي على عكس قطط العاصمة الباحثة في القمامة عما يسدّ رمقها.

الساعة التاسعة ليلاً في بغداد وحلمنا يكبر، ربما يكون آخر الأحلام. لكنه يبدو متاحاً لأنه لا يستند إلى نظرية خائبة كتبها أحد الأموات...

ترك ديار كرسيه خلف المنضدة الزجاجية كما في كل مرة، وجلس على قنفة مقابلة لساحة النصر. على الرغم من أن غرفة مكتبه تحتوي على طاولة مستديرة للنقاش، فهو لا يريدنا أن نعيش الشكليات بأي صورة كانت!

عبود الحداد كان فرحاً باللقاء ومندفعاً في الحديث بمرارة عن عراقه الذي تركه عنوة:

- بغداد تموت، وذكرياتي تُقْتَل يومياً مع كل انفجار. العراقيون دمروا العراقيين. كسرة وعطش. مدينتي الصغيرة لا تعرفني. أنا وثروتي معكم حتى النهاية.

ذهب شمخي وعاد يحمل قوري الشاي المهيّل والاستكانات، وجلس على السجادة، قائلاً:

- عندي اسمان يعملان ضمن مجموعة تستهدف رجال الشرطة والعسكريين من محلتهما!!

قال ديار:

- هل لهما علاقة بالطنطل؟!

ضحكنا، فتغيرت ملامح شمخي من الجد إلى المزاح. يعتقد شمخي أن ثمة وحشاً أو سلعوة أو طنطلاً في مدينته الوشاش. يخرج في الليل ليقتص من الناس. هناك جثث ممزقة بأنياب غريبة وجدت في المزابل، ويحلف بالأولياء أن أصدقاءه لمحو الطنطل وهو يدخل أحد البيوت المسكونة، والتي هجرها أصحابها. ذلك البيت الذي كُتب على جداره الخارجي عبارة «مطلوب عشائرياً» وخُطَّ على بابه عبارة أخرى «لا يُباع ولا يُؤجَّر».

قال شمخي وهو يستعيد جديته:

- شابان يرتبطان بالخارج، وأجرتهما تُدفع بالأوراق الخضر.

أجابه ديار:

- أوكي، سنضع الاسمين على  قائمة المشكوك بهم حتى نتأكد.

ثم تحدث حمدان بصوت منخفض:

- والشيخ مؤيد هل تم التأكد منه؟

التفت ديار نحوي، ثمّ أجابه:

- نعم، إنه من المتدينين السفلة. مسجده يستعمل كوكر في السيدية.

نهض شمخي حاملاً صينية الشاي. وزّع علينا الاستكانات، ورجع إلى مكانه. بعدها انطلق عبود وقد ارتفعت نبرة صوته:

- يجب أن نخترق الكل. الدولة والمجموعات المسلحة والناس البسطاء. بالمال نستطيع الوصول إلى أي شيء نريده.

قاطعه ديار:

- إمكاناتنا لا تسمح بالتمدد أكثر، والمال الذي نمتلكه نحوِّل قسماً منه لمساعدة الناس. مشكلتي هي في آلية التوزيع. كنا نقدِّم المساعدات عبر المساجد والحسينيات لتوزّع على الفقراء... الآن لا يمكننا ذلك. كثرت العمائم الملوثة!

قال عبود:

- مساعدة الناس فائدتها ليست كبيرة.

قلت موجهاً الكلام لعبود:

- ما نسعى إليه هو التخفيف، على قدر ما نستطيع، من الظلم. نحن بالتأكيد سنتوسَّع، لكن عليك أن تؤمن بأننا لن نغير عالمنا الوسخ بالكامل...

ردّ عبود:

- أستطيع، وعبر الجدة شكرية، الوصول إلى مناطق لا تتوقعونها. أماكن في المنطقة الخضراء وتلال حمرين وبنايات الوزارات وكل المحافظات...

وأدار رأسه صوب شكرية، فأطلقت ابتسامة وظهرت أسنانها الثلاث الباقية، وازدادت الأخاديد في وجهها، وعقّبت:

_ سأجمع كل الخيوط التي تريدونها!

وضع ديار استكان الشاي من يده على الطاولة الصغيرة، وتوجّه إلى حمدان يدعوه للمشاركة وإبداء الرأي في أي قضية تدور بباله.

فقال حمدان:

- لا أتفق مع العم عبود، لأن أية انطلاقة صوب الدولة سنتضرَّر منها.

نزلت من الأريكة وتمددت على الأرض مثل شمخي، الذي كان ينصت جيداً، وقلت:

- صحيح، الشخصيات السياسية التي نؤمن بأن بعضها يستحق القتل لا يمكن الوصول إليها.

كنا مجموعة، مثل المجموعات الكثيرة التي تخطط لإزالة أناس من الوجود.

قال ديار بثقة لحمدان:

- أخبر سلمى أن طرزان محلتها يقبع الآن في الطب العدلي!

تحدث حمدان بانبهار:

- حقاً، مات؟

- نعم، هو على أحد الأسرّة في باب المعظم. تحرياتنا عنه أكدت إجرامه.

قلت لديار:

- أنت بطل يا صديقي، وما تفعله سيسجله واحد منا كتاريخ سري للعاصمة.

- لا أهتم للبطولة. القادم هو ما يثيرني.

بدا حمدان وكأنه منزعج. لم يتصور أن تنتهي حياة إنسان هكذا، بسرعة، حتى ولو كان سفّاحاً، الشعور نفسه الذي واجهته أولاً في بداية الأمر مع ديار. لكني أطير فرحاً اليوم حين يُداس كل صرصار تافه.

مضى حديثنا حتى وقت متأخّر. كنا ثلاثة عبرنا الستين نحتسي الخمرة، واثنان سيعبران الثلاثين يرتشفان الشاي والقهوة. وشكرية تقترب من الثمانين أو تجاوزتها، وقد فضّلت تركنا والنوم على إحدى القنفات. أخشى أن تكون جلستنا هذه، أشبه بالجلسات التي كنت أشارك فيها في زمن الأخوين عارف، وأخشى أيضاً أن تشبه جلسات فرقة الحمزة، زمن الوحدة والحرية والاشتراكية، وأخشى أن تكون مثل حلقات العقيدة في الشهور الأولى بعد السقوط...

ما يخيفني حقاً أن الاندفاع هو نفسه في كل صور الاجتماعات السابقة.     

*        *        *

ترك حمدان وعائلته السيدية وسكنوا في البياع. هجرة داخلية. تنفيذاً لما جاء في الورقة الصغيرة المحشورة في الباب. وجدوا عائلة هجّرت من البياع وتبادلوا البيتين، وكان العهد بينهم أن يحافظ كل طرف على بيت الآخر حتى ينتهي زمن التنقلات.

حكايات عراقية تولد كل يوم. مخاض عسير. نسمع أن عائلة وجدت في بيت عائلة أخرى تركت منزلها آلة تصوير فوتوغرافية تحوي فيلماً لم تستنفذ صوره. تُستخدم الكاميرا لتصوير العائلة الجديدة فتختلط الوجوه مع بعضها. ينتهي الفيلم عند الصورة رقم 36 ليُحفظ إلى زمن تأتي فيه العائلة المهجّرة لتحميضه وفرز الصور. في الفيلم نرى أيضاً لحظات ترك المنزل وتحميل الأثاث للعائلة المغادرة.

أشعر أن مخلوقاً غير مرئي يسير في الشوارع. يبحث عن الطرائد، غولاً. أو وحشاً. أو تنيناً شفافاً يصفع الأرواح ويبعثر الأيام كيفما يشاء. طنطل شمخي قد يكون حقيقة، ولكنه ليس بالشكل الذي يصوِّره لنا. فليس خرافة ظهور وحش يملك عقلاً منظَّماً في بغداد، وذراعين تطالان أي شخص مهما كبر نفوذه. ربما الموت نفسه أخذ شكلاً مادياً وراح يُظْهِر جسده أمامنا...

حرب الثمانينات كانت تُرسِل الجثث إلى الثلاجات ثم إلى العائلات ثم إلى المقابر. ثمة ترتيب لا بأس به يجعلنا غير مرتبكين. نحزن وكفى. اليوم انكسر هذا البرتوكول والجثث في المساحات القفر. تبقى أياماً حتى تتعفن وتختفي بعض أجزائها في بطون كلاب عراقية جائعة، أو بنات آوى. يُدفن الجسد البشري في بطن حيوان بدل دفنه في التراب. أكثر الجثث المرمية لشباب لا يتجاوزون الأربعين سنة. كلما حدقت في جثة أحدهم وهي مرمية في الشارع، أول ما يتبادر إلى ذهني ملامح آخر دقيقة قبل انسلاخ الروح واندفاعها غاضبة إلى السماء. ما هي المفردات التي اندفعت من فم الضحية؟ توسّل ودموع أم شتائم مفزعة تقذف مع البصاق بوجه القتلة؟ كل دقيقة أخيرة تزيد من كمية الحداد المستمر منذ عشرات السنين. تبدأ من قصف الجيش بقيادة بكر صدقي لقرى الجنوب في الثلاثينات وتمر بالحشود المتساقطة على جسر الشهداء إثر معاهدة صالح جبر، إلى الأنفال وانتفاضة الجنوب، حتى اللحظة.

كل رصاصة تنطلق، بعبثية أو قصد، في سماء حي من أحياء بغداد يعني قتلاً لملامحها. تشويه متعمد يبعث على تغيير صورة قديمة إلى صورة أكثر بشاعة. أحياء العامرية والسيدية والحمراء والعدل وأبو غريب والصليخ والأعظمية وسبع أبكار وغيرها.. دخلت في حالة تاريخية نادرة. دخلت تلك الأحياء لعبة من دون إرادتها مع أحياء الصدر والشعلة والبياع والشرطة الخامسة والكاظمية والعبيدي والتراث وغيرها... هذه المسَمَّيات تجسدها مشاعر وأفكار تجد من ينصت لها...

أجلس في بيتي، وصوت فؤاد سالم يصدح بأغنية أحبها وأسمعها دائما «مشكورة»، فالمفردات واللحن والصوت تعيدني إلى الوراء. إلى ماضٍ تضايقني فيه أشياء كثيرة لكنني أحبه بشغف. مشاعر متناقضة لكنها تعيش في داخلي.

طيلة حياتي لم أجد شخصاً يشبهني. أحبّ السياسة لكن لا أغامر في معتركها. تتوقف رغبة إسعاد الناس عندي حين تصل الأذية لجسدي. أغرق في عاطفة حكايات أشخاص لا أُحب الاقتراب منهم، ولا ممن أقلّ منهم. نوري السعيد وسيرته، وهتلر، وستالين، وتشرشل، وغيرهم. في سيرهم طموح إلى فعل لا أستطيع تنفيذه، ولن أجتاز ذلك الحاجز الذي يجعلني وجهاً لوجه مع أصحاب الرتب العالية، والمغامرين، والأبطال، والسعيدين بنوازعهم التي أوصلتهم إلى ما يطمحون إليه...

ذهب هاني الفكيكي أواخر الخمسينات إلى دمشق، لإعادة ترتيب أوراق البعث هناك، وأخذه العجب حين وجد الرفاق السوريين  يجلسون في مقهى يجمعهم بالشيوعيين والقوميين. يتجادلون في ما بينهم. لم يحدث هذا الأمر في بغداد، وإن حدث فثمة دماء ورصاص. حقد يستكثر على الإنسان حياته، حين يعتنق فكراً مختلفاً.

فُتح باب غرفتي العلوية. كانت زوجتي على وشك البكاء. تهدَّج كلامها، وارتمت في حضني:

- علينا ترك السيدية.

- لن يحدث لنا شيء، الصدفة المذهبية جعلتنا في مأمن.

قالت، وقد ارتفعت نبرة صوتها قليلاً:

- السيدية مخيفة، مخيفة...

- اهدئي، ستتحسن الأمور.

لا أعرف كيف أحدّثها عن التحسن؟ انطلقت الكلمات من لساني بلا وعي. هكذا. يبدو أننا ما زلنا متفائلين في قرارة أنفسنا. مثلما كان ذلك التفاؤل المصاحب للذة الرطبة. لذة الأرشيف، حين أختلي مع إنعام خلف أكداس الورق. هذا المسن كان يريد إبهاج امرأة فقدت زوجها في التسعينات.    

*        *        *

أحدِّق ببلاهة في شاشة التلفزيون، حين أسمع أعداد الجثث المجهولة الهوية. لن تكفي المرء دمعة تسقط فيرتاح. أو ينوح لبعض الوقت في غرفة لوحده. بل يزيدني الشوق إلى جعل ديار يقتصّ من القتلة. أتمنى أن تكون الخمسين جثة مجهولة الهوية التي وجدت اليوم في العاصمة، نحن من أبعدناها عن الدنيا. جميعهم سفاحون، وعندها سينقلب الحزن إلى فرح أكيد. من يكتشف ذلك، وكلهم ضحايا بنظر العالم؟

لن يدرك ابن الذي يعيش في محافظات بعيدة ماذا يدور في العاصمة. هاجس الموت القريب منا، يجلس بجانبنا في الباص ونحن نخترق أسوار المدن والأحياء الصغيرة. نتمنّى المفخَّخات والعبوات والقذائف، فهي تمنحنا حظاً في العيش أكبر مما يمنحنا حاجز أمني مزيّف. الشوارع الرئيسة مؤمّنة نوعاً ما قياساً بأزقة فرعية عنوانها موت محتم، وهذا يعني أن العاصمة قد تحولت إلى مقاطعات صغيرة، بأسواقها وعيادات أطبائها، ونجّاريها وجنابيز الطيور، وشحاذيها الذين يدورون في الطرقات، وفرح القابلة المأذونة بولادات وفيرة بعيداً عن صداع المستشفيات الحكومية. لكن مدمني الخمرة لم يأخذوا حصتهم من هذا التوزيع. بدوا كأنهم زنادقة ملعونون في كل الجهات والأحياء.

حين أضع خارطة بغداد على الطاولة، أستطلع الأحياء فيها محاولاً تلوينها بما أراه واقعاً حقيقياً. ثلاث قوائم، القائمة الثالثة منها للأحياء الملتبسة. ذاكرة المدن تنهض فأستذكر بدايات تشكلها مع فتوَّتي الأولى، وشبابي، وكهولتي وشيخوختي الآن. مساحات شاسعة صارت اليوم مقاطعات. طال الإهمال أزقتها القديمة الضيقة، فبان ضعفها أمام الجميع. من سيكتب «بغداد في الألفية» بعد كتاب عباس العزاوي «بغداد في العشرينات» فكلا الزمنين ينتابهما الوهن، ولكن الضعف القديم مبرَّر لأنه كان بداية لعصر جديد.

الطائفة ملاذ السياسيين وبيتهم الكبير. من دونها لا يساوون شيئاً. نوازع وأحلام تستيقظ، فيكون التاريخ بمثابة ورقة رابحة تُرمى في صندوق. سنابك خيل، وصليل سيوف، وغبار متطاير شاهدناه في الانتخابات الماضية. كان كل فرد يحمل سيفاً، ودرعاً ورمحاً. لن ينفع الجدل، أو العتاب، لأن ساعة الحقيقة أزفت. مسكين المثقف، ذلك الذي خرج على طائفته،  فصوته  يعادل صوت إنسان لم يشاهد المدينة، ولا يملك التلفاز أو المذياع. راع يعيش مع أغنامه في البادية، لكنه محبّ لطائفته، وسيسأل عن رجالها المخلصين حين يصل إلى المدينة، وهناك يعيش مثقفاً مع أفكاره وتصوّره عن الحياة...

عند اقترابي من مركز الاقتراع في ذلك اليوم، كنت أحاول إبعاد التاريخ عن رأسي. ثرثرة أسمعها تطالبني بأن أكون ابناً للطائفة، وثرثرة أخرى تدعوني لرد الدَّيْن لمن ساهم في تثقيفي، وحبي للكتب. أما الآخرون فهم بعيدون عني بمئات الأميال. أريد أن أُعطي صوتي للأكثر بعداً عن هذا وذاك ولكن!...

انتخابات!! المناطق الفقيرة التي كانت تحيط بالعاصمة صارت تخترقها. ينقلون عادات لا تتفق أبداً مع المدينة. أطفال عراة تماما بين الأزبال، أو نسوة يعرضن غسيل ملابس العائلة على الحيطان الخارجية، أو رجل حافي القدمين يغسل سيارته في الشارع من دون أن يعبأ بفيضان المياه على الرصيف.

أزقة لا تنام إلا مع نيام الصبية، وانتهاء جلسة النميمة النسائية أمام عتبات البيوت. حمى من العادات تحتاج إلى أدوية تنتجها الدولة وتفرضها بالقانون. لكن كل الخوف أن نصل إلى دولة يديرها رجال غسلوا سياراتهم في الشارع، أو نساء نشروا غسيلهم على الحيطان  الخارجية.

 

الفصل الخامس

سألت شكرية عن مدى الخطر في السيدية، فقالت ينبغي البحث عن مكان آخر. صدمتني وكنت أتوقع أن تبعد المخاوف عنا.

بعد ليلة سهرنا حتى شروق الشمس نتبادل حكايات أيام زمان، وشخصيات بقيت عظامها فقط، أكدت وبما لا يقبل الشك أن الحي الذي نسكنه بات أخطر الأحياء في العاصمة، وأن مذهبي لا يعطيني الأمان. قالت لي:

- إذا لم تُقْتَل، سيخطفونك للمبادلة!

وأردفت، وهي تقلّب كومة أحجار ملونة:

- أرى المسلحين يتجمعون هنا. لا بد أن نترك المكان قبل أن يتحركوا للقتل والسلب والخطف.

بعد النصيحة، كشفت العجوز لي عن حقيقة تخصّها وبلا خجل، ونفذت وعدها لي بإنارة حياتها الماضية. أخبرتني أنها كانت عاهرة منذ الخمسينات حتى تركت المهنة نهاية الثمانينات. عرفت الرجال لمدة تزيد على ثلاثين عاماً. كنت صامتاً أحدِّق في ملامح وجهها وأتخيل صورتها وهي شابة تتغنج في شارع الكفاح ومنطقة الميدان. تشتم الزبائن بعبارات داعرة. تقول إنها كانت من الصنف المتوسط. عاهرة الأفندية، والموظفين، وليس للجرخجية والعربنجية وعمال البناء. مومس لطبقتين. وهبت اللذة حتماً للشيوعيين والبعثيين والقوميين وكل الأحزاب. عراقية لا تفرِّق بين واحد وآخر. من بين خبرياتها اللافتة حادثة دخول الشرطة السرية زمن الباشا نوري السعيد إلى مخدعها وهي تضاجع شاباً كان اسمه جواد. لم يقذف جواد وينتهي من مهمته حتى قُذِفَ من فوقها بركلة شرطي. كان عارياً، ومرعوباً. يخفي عضوه بيديه  الذي ارتخى بفعل الصدمة. سُمح له أن يرتدي سرواله فقط وسُحب إلى الشارع في يوم شديد البرودة بفعل هواء شباطي،واختفى داخل السيارة. ربما كان شيوعياً! في تلك الليلة نامت شكرية مبكراً لأن البيت بقحابه وقواديه كانوا مصدومين، كما أن الزبائن تبخّروا.

وفي حكاية أخرى من مغامرات شكرية الساخنة التي جعلتني أضحك كلما تذكرتها أنها في إحدى ليالي بداية الحرب العراقية الإيرانية دخل عليها شاب حليق الرأس. كان جندياً وسيذهب للالتحاق بالجبهة. تبتسم وهي تصفه بأنه «كان كئيباً، وتمتم بعبارات لم أفهمها قبل أن يعتليني. قال إنه يعشق الناضجات. فقد ترك نساءً صغيرات في البيت الذي أديره خفية... عند إدخال عضوه بفرجي صرخ (وحدة)، ثم أخرجه، ثم أدخله صارخاً (حرية)، ثم أخرجه، بعدها (اشتراكية)، وبقي يكرر العملية والصراخ معاً، (وحدة حرية اشتراكية) حتى ركلته وضربته بيدي قائلة له: (تريد تسجنّي بمالتك)، وندهت على جسام ورميض القوادين لإخراجه من البيت قبل أن يقذف. إذ كان يمكن أن يقذف البيت بأكمله في سجون البعثيين!».

تقول شكرية إنها ابتدأت بالدعارة متأخرة، في العشرينات من عمرها وذلك عام 1956، قبل مظاهرات العدوان الثلاثي على مصر، وكم تمنت أن تعمل وقتها مع شهيرات تلك الفترة. لم يحدث ذلك بسبب تهديد عمَّتها وقواديها لها بالقتل إن تركت البيت... تاريخ للذة كتبته الرغبات. تجارب لم تدوَّن حتى تحولت شكرية إلى قوادة في بداية الثمانينات ثم ابتعدت عن المضاجعة تماما عند احتلال مدينة الفاو من قبل الإيرانيين عام 1986 كما تروي. قررّت وقتها في موقف وطني: «سأرجع للفراش عندما يسترجعها جيشنا المقدام»، وأضافت:

- أخبار الحرب كان يعلمها حتى الأطفال. إنه زمن!

خبرة طويلة في الدعارة لم تنته إلا في التسعينات مع الحملة الإيمانية التي أطلقها صدام، وانتهى معها عهر البيوت في الأحياء الفقيرة، لكن عهر البيوت المدعومة من رجال السلطة بقيت كما هي. كان العهر للسلطة فقط، حتى تبعثرت عاهرات العاصمة الشعبيات وقتها، وأغلقت البيوت السرية خوفاً من بطش رئيس لا يرحم.

كان سبب عهرها لا يختلف عن الأسباب المعروفة التي تقود البنات الفقيرات إلى أقرب مبغى. توفيت الأم، والأب تزوج من أخرى فأذاقتها الخالة الويل، فهربت إلى أزقة المدينة. نامت مع الرجال في الخانات، والفنادق الرخيصة قبل استقرارها في بيت يهب المتعة لمن يشتري. تعلمت قراءة الطالع من زميلتها الكاولية نغم، صاحبة الباع الطويل مع اللذة والفنجان والكف. وأحبت ذلك الشاب الذي علّمها القراءة. ورفضت الزواج منه لأنها تعرف أن هذه زيجة لا تستمر، مع أنها أحبته وأحبّها.

العهر في البلاد لا ينقطع، فقبل أكثر من ثلاث سنوات لم تكن المجنزرات الأميركية تمر في شوارعنا، لكن الظلم كان موجودا بكثرة. تلال من الألم تُشاهد في الطرقات والأسواق والمقاهي ودوائر الموظفين وبارات شارع أبو نؤاس الخفية والمساجد والحسينيات وكل تجمّع بشري. لم نعد نكترث لمن جاء من وراء المحيطات. لكن في الوقت نفسه ثمة انزعاج وسخط يذكراننا بوجود الأمريكان في شوارعنا!

سألت ديار مرة عن إمكانية القيام بعمل ضد الأمريكان، كأن نحاول وضع قناصة في أعلى البنايات، وقنص الجنود وهم فوق سيارات الهمفي. أكد ديار أن العراقيين السيئين أخطر من المحتلين، فالأمريكان سيرحلون عن البلد مهما طال الوقت، والوسخ العراقي، ابن القحبة كما وصفه، سيبقى ينخر بجسد الوطن.

إذن، سأهرب أنا وزوجتي وشكرية إلى مكان آمن، والسبب هو التاريخ الذي رصفت حكاياته مع الرصاص وأزيز محركات الدبابات عند الفجر.

سخونة تجتاحني عندما أسمع أحد التافهين من وراء الحدود في التلفزيون وهو يتحدث بعاطفة ستينية رخيصة، وقاموسه اللغوي الترابي يدفعه دائماً إلى ترديد الأفكار نفسها. أشعر بأنه يتحدث من قعر بئر فارغة إلى أناس لا يجيدون الوصول إلى رأي خاص بهم. أشخاص يعشقون مفردات النخوة والاقتدار وما يرافقهما. كلمات صوتية بامتياز. سأهرب من السيدية. هذه هي الحقيقة. أترك الحي ليس للمسلحين، بل لعشاق متاحف التاريخ.

بيتي كبير وفيه من الحجرات ما يكفي لعائلة من عشرة أشخاص. لا نشغل منها سوى أربع، واحدة للضيوف وثانية للنوم وثالثة لمكتبتي وأخرى لحاجيات الصيف والشتاء. الوحدة ضيف ثقيل باستمرار. فلا أقارب لنا في العاصمة. ثلاثة إخوة يعيشون في المحافظات بسبب الوظيفة، والأب والأم ماتا، والذاكرة هي الوحيدة التي تستعيد الوجوه والمواقف والحكايات، وعقم زوجتي جعلني أستكين للأيام والساعات. أشعر بأنني إذا تركت مديحة سأضيع. لا أستطيع الابتعاد عنها مهما كانت المغريات.

*        *        *

عائلة حمدان انتقلت للسكن في البياع، التحق غسان بمجموعة سرية لكي ينتقم لأبيه. يرى أن من قتل أباه ينتمي إلى مذهب آخر، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى تفكير عميق، لكن هل يعلم أن السيد الوالد كان يبيع رؤوس أبناء محلته بالدولارات لمجموعات أخرى كما أكد لي ديار بعد ذلك؟

توسل بي حمدان لإيجاد طريقة ما يُبعِد فيها أخاه عن الخلية المسلحة. بات غسان عنيفاً حتى مع أفراد أسرته حين يطلبون منه ترك الثأر وأن يدَع لله مهمّة الاقتصاص من المجرم! أمه لا تريد أن تفقده. طلبت من حمدان أن يأتي بغسان إلى أي مكان ببغداد للجلوس معه. ارتاح حمدان لهذا الاتفاق، ولكن بعد أيام أتصل ليقول إن غسان لا يريد لقاء أحد من أهالي السيدية.

ما دفعني لقتل أبي حمدان هو الحفاظ على حياة أناس كانوا سُيقتَلون بسببه. عاد الابن ليكمل مسيرة الوالد لكن من دون نذالة وطمع وخسّة. يريد الانتقام. إنه مثلنا نحن ننتقم للبلد وهو ينتقم لوالده. نحن نعمل على نحو منظّم وهو يعمل بعشوائية. النتيجة أناس يُقتَلون ويغادرون إلى السماء، وتبقى دورة العنف تدور. ترى، ماذا لو عرف حمدان؟ هل سينتقم مني؟ وينهار الحلم في داخله في الوصول إلى السيئين؟ سيعرف أن القاضي هو المجرم!

حادثة القتل تمر في خيالي. كنت أحسّ بأنني أشبه بالذين ينصبون نقطة تفتيش وهمية على الطريق ويفتكون بالسائقين والركاب، أو الذين يدخلون بيتاً ويسفكون دماء أهله. لكن أصرّت نفسي على أن الفرق كبير ما بين العفن والعفَّة!

وجد لي ديار بيتاً صغيراً يعود تاريخ بنائه لخمسينات القرن الماضي. يقع في شارع السعدون قرب ساحة الفردوس التي أُسقط فيها تمثال السيد الرئيس المناضل! حي في مركز العاصمة، وهذا يعني لا خوف من القتل على المذهب. تركت ضواحي بغداد الكرخ وأتيت إلى بغداد الرصافة. كانت ملابسات الانتقال صعبة، فملامح الجيران في السيدية أفصحت عن وجود شكوك في معتقدي. لماذا أترك الحي؟ هل كذبت عليهم عندما ترددت إلى مسجد سعد بن أبي وقاص، وشاركتهم صلاة الجماعة. لم يكن هناك وقت لشرح ذلك. ضُحى يوم جمعة حمل العمّال نصف العفش وودَّعنا السيدية إلى يوم سنعود فيه. لكن مع خروجنا إلى الشارع الرئيس كانت خمس رصاصات تقريباً تنطلق باتجاهنا. طلقات الشكوك تندفع وتكاد تخترق الباب الأيسر للّوري. صعدنا جسر الجادرية، فغمرنا الأمان قليلاً. ثم صرخ سائق اللوري:

- أنت مطلوب ولم تقل لي!

- لست مطلوباً والله العظيم.

- ما هذه الرصاصات إذاً؟

- لا أعرف. ربما أطفال ثوريون رمونا برشقة وداع.

وضحكت ملء فمي بوجه السائق. ضحكة هستيرية. مرارة في الفم والذهن... نسير وسيطرات الجيش والشرطة في الشوارع. لا أحد يسألنا عن ورقة رسمية تبرر نقل الأثاث كما في السابق، فالمشهد يتكرر كل يوم. نهاجر داخل العاصمة. نجرب أحياءها، لأن النفس تود التغيير. من قال إن ثمة مشكلة في المدينة؟ أو إن الأمان منعدم؟ أو إن العصابات تدخل البيوت عنوة وتختطف وتعتقل من تشاء؟ أناس العاصمة يملأهم البطر، لا يحبون المكوث في مكان واحد طيلة حياتهم!!

كل ذلك يأتي في زمن الحرية. الديمقراطية تتيح لنوازعنا المريضة أن تتورم بفضل القانون. نكرات ووجوه قذرة يمكن أن تتحدث باسمي وباسم الناس. تلك العقول المقفلة التي لم تتعلم من التاريخ شيئاً.

عندما أنزلنا عفشنا الصغير، وجدت شباب المنطقة الجديدة بانتظاري، وشاهدت زوجتي تخرج من بيت مع امرأة عرفت في ما بعد أن اسمها أم يوسف. زوجتي تبدو مختلفة، أو أثارت بداخلي شعوراً لم أجد له عنواناً.

كان البيت صغيراً، وتراثياً. أرضيته مبلطة ولا توجد فيه حديقة. ليس هناك ما يشغل زوجتي، لا ورود ولا شجيرات، ولا أوراق تتساقط كل خريف. لا طيور تلتقط فتات الخبز. الكونكريت في كل مكان، والطابوق المفخور يذكرني بآثار بابل القديمة.

قبل ترتيب الأغراض جلسنا نرتاح قليلاً وكانت شكرية تحدق إليّ بعينين غطتهما التجاعيد. شربنا أول قوري شاي جاء من الجيران، بينما صورة غسان لم تفارق مخيلتي.

*        *        *

رجعت إلى السيدية بعد يومين، لجلب قسم من مكتبتي. يشدّني حنيني للذكريات الموجودة في كل كتاب اشتريته من سوق السراي وشارع المتنبي، ومن تلك العربة الخشبية الواقفة قرب مقهى الزهاوي. لخربشة بالقلم على الهامش تذكّرني بأيامي وآرائي. لرفاق الأمس وآرائهم بكتاب أعرته لهم أو كتاب استعرته ولم أرجعه. حتى كتب لينين الحمراء لم أحرقها طيلة فترة انخراطي بحزب البعث أوائل السبعينات. لكن الجرذ اللعين الذي استوطن بيتي لم يمت بالزرنيخ. استطاع أن يقرض صلعة لينين، وكتبا أخرى. هل يمكن النوم في بيت يخلو من الكتب؟ شعرت في البيت الجديد بأنني أفتقد لشيء ما. لم تنفع توسّلات زوجتي ولا حدس شكرية الأسود حين أسرّت لي قرب الباب، إن مغامرتي في الرجوع إلى السيدية خطرة للغاية.

حقاً كانت خطرة، واللحظات المتوترة كادت تضغط على زناد رشاش أو مسدس ما. دخلت بيتي، وما إن بدأت بوضع مجموعة من الكتب بصناديق الفاكهة الخشبية  الفارغة، هجمت عليّ مجموعة ملثمة بيشاميغ مرقطة بالأحمر وأشبعوني ضرباً وركلاً. صفة الخائن تنفلت من جميع الأفواه. ثلاثة أشخاص ركبوا لحظة عراقية متكررة. وطن حر وشعب سعيد لا تعني لهم شيئاً، ولا الوحدة والحرية والاشتراكية. إنهم زملاء نزوة التسعينيات والألفية الجديدة. مفردات الله والكفار والمرتزقة وغيرها، فبعد الضرب الشديد اندفعت من دون وعي إلى طائفتي. أكرر اسمها بوجههم. هي الملاذ الأخير، الخلاص، الجنة الموعودة، البقاء حيَّا.

- أنا سني، أنا سني!!

أنزلوني من الطابق العلوي وأنا أحاول تذكيرهم بهيبة سنواتي الستين. أنعتهم بأولادي لكنهم لا يسمعون. يقول أقصر الصبيان:

- قل ذلك للشيخ.

وأردف كأنه يحدث نفسه:

- عجوز وخائن!

بصق على الأرض وبعدها خرجنا للحديقة. قطة رمادية وقفت متوثبة للهرب قرب نافورة المياه البلاستيكية، وعصافير طارت إلى شجيرات النارنج من صحن فتات الخبز الذي تملأه زوجتي كل صباح. تذكرت جلساتنا وقت العصر ونحن نحتسي النسكافيه ونأكل البسكويت. صبيّان ملثّمان، يرتدي أحدهما تراكسوتا أبيض كُتب عليه بالانكليزي نادي الزوراء الرياضي، يقفان بالباب. مجموعة من خمسة صبيان نفذت العملية. أبو رعد يقف أمام باب منزله ويشاهدني. تدخّل قائلاً لهم:

- إنه منا، لا تؤذوه. أستاذ عماد ليس عميلاً.

كان ددو يحدِّق بالرجال ببلاهته المعهودة، ثم اندفع بحركة أفرحتني، حين حمل حجارة من الشارع وأطلقها على الملثمين. ركض أبوه صوبه، لكنه انفلت منه بعيداً ليأخذ حجارة أخرى ويقذفها إلى إحدى السيارتين المتوقفتين بباب بيتي. هاج اثنان واندفعا مع الأب صوب ددو، العاقل وليس المجنون هذه المرة، ليمسكه الأب ويحمله على كتفه، ولكنه فوجئ من رد فعل المجموعة، حيث أطلق أحدهم رصاصتين في السماء، وقال أنحفهم له:

- أدخل بيتك.

أركبوني معهم في سيارة أوبل رصاصية، وانطلقت خلفنا السيارة الأخرى. قطعة قماش غامقة تعصب عينيّ قبل أن نستدير من زقاقنا. أحدهم، لهجته ريفية، يهدّدني بأنني سأخضع للتحقيق أمام الشيخ. دارت المركبة في شوارع فرعية قصيرة فتأكدت أننا في السيدية وهذا ما زوّدني بالأمان. كم مرة تكرر هذا المشهد مع أشخاص غيري؟ وكم تكرر في التأريخ أيضا، لكن مع ماركات لسيارات مختلفة. لكل مرحلة سياراتها، وكل مجموعة تنصِّب نفسها حامية للنظام، أو للثورة، يكون لها ماركة سياراتها في السبعينات سادت سيارة الفوكس واغن بصندوقها الأمامي الذي يخفي الشخص حتى وصوله إلى قصر النهاية. تقف المركبة ويقودني اثنان إلى مكان ما. أجتاز حديقة، أحسّ بأن الأرض ترابية وأشعر بأوراق شجرة تحت رجليّ. ثم حرارة حجرة ما، ولغط في حجرة أخرى. مفردات أخي وبارك الله فيك وجزاك الله خيراً وغيرها تقترب مني. هل هي موجهة للشخصين الممسكين بيدي. لا أعتقد، لأنهما لم يتحدثا مع أحد؟

- لا يا إخوان، فكوا العصابة. هذا أستاذ عماد.

نبرة الصوت مألوفة. سحبوا العصابة، فوجدت نفسي أمام الشيخ مؤيد وهو يبتسم لي. أخذني في الأحضان. كان في الحجرة ثلاثة شبان أحدهم من المجموعة. قال الشيخ:

- آسف. لا بد إن الإخوة اعتقدوا بأبنك «منهم»، أو من الجواسيس. هيا ارتح قليلاً.

- لقد صُعقت بهم، الإخوة، يا شيخنا. لا يهم، أنا آسف، أو أنهم لم يميزوا.......

الارتباك شل فمي، اللغة لا تستطيع أن تعبر عما يحمله الرأس. قلق، وخوف. هؤلاء يحكمون في حيز مكاني خاص بهم. يحلمون بالوصول إلى نقطة على الأرجح غير موجودة. التاريخ يحرِّكهم. المآثر. البطولات التي سطرها أناس على الورق لشخصيات ربما وهمية.

جاء رجل يحمل صينية الشاي ذكرني بشمخي، لكنه لا يخاف الطنطل أو أي وحش. هو الطنطل بعينه! أنا ضيف مجموعة تحمل فكرة في رأسها. مجموعة تشبهنا، يجتمعون ويخططون لإزالة أناس من الحياة. مثل غسان شقيق حمدان ومجموعته، وآخرين في العاصمة والبلد كله. الدولة تفكر، والأميركيون يفكرون، وجيران العراق يفكّرون. الكل يغرق في التفكير والتخطيط لإبادتنا، وحده الإنسان الفقيرالذي يركض لتأمين رزقه لا يفكر. ينتظر مصيره ولا يعرف متى وكيف سيموت؟

- اشرب شايك، أنت «منا» وأنا أعرف ذلك.

- نعم. نعم.

يعني الشيخ أن «منهم» سيقتل، والصدفة جعلتني «منا». الولادة تحدد المصير، والكتب والآمال يمكن أن تذهب بضغطة زناد مسدس يطلقه رجل أمي. الأميون في كل مكان. الانقلابات السابقة، الشيوخ،  القادة القادمون. السيدية تئن بالجهل.

قال صبي كان ضمن المجموعة التي خطفتني:

- يا شيخنا، الأخ عماد ترك الحي قبل يومين وشككنا بأمره.

ابتسم الشيخ بوجهه وأجابه:

- صحيح كلامك، لكني أعرفه منذ التسعينات.

أكملت الشاي وباغتتني نوبة شجاعة. تصميم يدفعني للمغامرة وإمساك فكرة تتلخّص بالبقاء مع الشيخ. هذا البيت بعناصره المسلّحة يمكن أن يصفّي نصف حي البياع المجاور. يقتل غسان وحمدان وآخرين. قلت:

- يا شيخنا، هل تعرف أن الصدفة قد رمتني قربكم.

لم يفهم الشيخ مؤيد السفاح.

- إيماني كان يدفعني للبحث عن مجموعة تقتص من الخونة.

- لكنك تركت مجلسنا قبل أكثر من سنتين.

- نعم، كنت وقتها متردداً، وفكرت بزوجتي فيما لو اعتُقلت.

- اتركها على الله!

حين نلتصق بالتاريخ البعيد، يصيبنا الجبن. نخاف من ذلك التاريخ المدوّن في المخطوطات. حكايات وأساطير كتبت بريشة طائر. المؤرخون والوراقون والنساخون زرعوا فينا الرهبة عبر زمن ممتد. لا يهم إن كذبوا وتملقوا السادة والأمراء. أفكارهم أفكارنا. قدموا قصص الأولين وعلينا أن نكون كالأطفال المتجمّعين أمام نار موقد في الشتاء والعجائز تقص علينا الخرافات. أوهام الرعب تصلنا وتصل الأجيال اللاحقة. لا أمل بأن يأتي جيل ليسقطها من حساباته دفعة واحدة فنتحرر!

*        *        *

كان ديار حزينا في مكتبه هذا اليوم. أعدم ثلاثة من مجموعتنا أثناء تحريات أجروها عن رجل اسمه جعفر كاظم في منطقة البياع. تجمع الناس في شارع عشرين ليشهدوا لحظات إطلاق الرصاص على أجسادهم. هؤلاء الثلاثة لم ألتق بهم، ولكني كنت أسمع أخبارهم من ديار. حي البياع لا يمكنني أن أدخله بعد الآن لأنه خطر كباقي الأحياء المشابهة له، والتي تقع في ضواحي العاصمة. أخبرت ديار عما حدث لي في السيدية، وكيف أصبحت من رجال الشيخ مؤيد كذباً، ففرح وقال لي بنبرة مفخّمة: إنك تفكر كقيادي بارز يا رفيق عماد!

هذا اليوم وفي منتصف النهار التقيت بأخ سلمى أبي نوار في غاليري حوار ومعه الوثيقة، وكان معنا حمدان، وسلمى التي وجدتها حزينة، وليست على سجيتها كما يوم تعرفت عليها.

عندما عرض الوثيقة بفايل شفاف، كانت الأوراق الصفر تطالعني، وعند تقليبي للأوراق استنشقت رائحة قدمها التي أيقظت فيّ الذكريات. بيت العائلة. أصدقاء الطفولة. الجيران. سجائر جمهوري. السينمات. العادة السرية فوق السطح أو بين الأشجار أيام الصيف. الزعيم. المسرح المدرسي وأدوار البطولة التي لم أنلها!

أبو نوار في الخمسين من عمره. يبدو بليداً وجشعاً. أفصح عن نفسه من دون أن يعلم، حين ذكر لي أن الوثيقة كان يطلبها أناس كثر وبمبالغ كبيرة، لكنه فضَّل التريّث في بيعها. هذا القول كذبة مكشوفة لزيادة السعر، فأمثاله لا يعرفون تاريخ البلد أو أسماء رجالاته. لقد أفصح عن بلادته حين قال:

- حل مشاكل البلد وربما العالم في هذه الوريقات.

ابتسم حمدان، وقال:

- أبو نوار، ليس إلى هذه الدرجة.

سلمى حزينة. مذهولة. ما الذي يشغل بالها يا ترى؟ تنكّس رأسها كلما التقت نظراتنا...

بعد تفكير في الليلتين الماضيتين وجدت من المناسب أن أخبر ديار بأمر الوثيقة، فحتى لو استلفت المال لشرائها لا يمكن أن أعرضها للإعلام من دون الاحتكام إلى آراء الصديقين. ربما يفكان مغاليق حروف المنظمة أو الجهة المذكورة فيها، أو يعلمان الاسم الحقيقي لنامق. طلبت من أبي نوار الذهاب إلى شركة الأماني في شارع السعدون. وهناك سيتم الاتفاق على السعر وفحص الوثيقة جيداً. وافق بعد تردد، وبتشجيع من حمدان وتأكيده أنني أهل للثقة.

نهضنا، وحين خطا قبلنا أبو نوار مع أخته، اقترب مني حمدان، وأخبرني بأمر صدمني:

- عمي عماد، زملاؤنا لم يقتلوا طرزان الحمراء، إنما فتكوا بأخيه الطيب، وعد محيسن، وليس سعداً!

- ماذا تقول؟

- نعم، لقد قتلنا نفساً بريئة.

- لا يمكن ذلك. ديار لا يخطئ.

- بل أخطأ. وسعد أطلق تهديده لأهل الحمراء بمكبر الصوت بأنه وعشيرته سينتقمون لأخيه، ولم ينصبوا مجلساً للفاتحة حتى ينتقموا من القاتل وأهله.

إن صح الأمر فإنه كارثة. لابد من إخبار ديار بسرعة لكي ينهي هذا الطرزان.

- سلمى تقول إنها انسحبت من مجموعتنا، وجاءت معنا اليوم على مضض، لأن أبا نوار أجبرها ويريد بيع الوثيقة، لقد أخبرته منذ أول لقاء. حتى أنا يا عم سأنسحب، لا أريد مضايقات من ديار. أرجوك.

- نعم، نعم، بالتأكيد.

العراق يدور وينقلب على ظهره، فتظهر عورته للشمس. البلاد تسكر من دون انتشاء. القيء على الأرصفة والساحات العامة. تلوثنا بالجرم أخيراً. لم نعد نبصر الصورة بذلك الصفاء. اللعبة لم تعد توفِّر النشوة.

ركب حمدان وسلمى سيارة الكيا وانطلقا. استأجرت تاكسيا مع أبي نوار وطلبت من السائق أن ينطلق عبر الشارع السريع وليس عبر شارع الجمهورية، فسوق الشورجة الآن مزدحم ولا يمكننا أن نتأخر أكثر. كان أبو نوار يضم المظروف البني إلى صدره. يعتقد بأنه كنز وينبغي عدم التفريط به. يبدو ساهماً. جميعنا مرتبكون وساهمون. قسماته تشي بأنه خائف. كلنا قلقون وخائفون. قال لي:

- أين بالضبط في شارع السعدون؟

- في ساحة النصر...

انكمشت لهفتي للوثيقة وتمددت حروف اسم وعد في رأسي. سعد أسم قريب جداً من وعد. خطأ لا يُغتفر. اشتعلت محلّة سلمى بسبب حرف خطأ في الإسم.

حين وصلنا إلى بناية الشركة في عمارة من ثلاثة طوابق. كان الوقت قد تجاوزالساعة الثانية ظهراً. ضغطت جرس الباب، مرة، ومرتين، وثلاث مرات، حتى ظننت أن ديار غير موجود. لكنه خرج لي وبدا مرتبكاً، وراح يردد:

- أهلاً، أهلاً.

حين دخلنا كان عامل الخدمة شمخي يقف قرب باب الغرفة الداخلية ويحدِّق إلينا. قادنا ديار إلى غرفة المكتب بعدما عرّفته باسم أبي نوار. حدثته عن وثيقة العهد السري، وعرضتها أمامه على المنضدة الزجاج. وقفت خلفه أتطلع للمرة الثانية في مفرداتها. كان صامتا، يقرأ بنهم ويهمهم بكلمات لم تتضح، ثم أخذ يبتسم حين أكملها وانبرى قائلاً:

- كل ما هو موجود فيها لا يشير لأهمية!

امتعض أبو نوار ونهض بقوة ليخطف الوثيقة من أمام ديار موجّهاً كلامه لي:

- كنت أعرف أنكما ستقولان ذلك، حتى أبيعها ببلاش. لست غبياً.

قفز ديار من كرسيه غاضباً، وقد أخرج من درج مكتبه شدة من فئة المائة دولار ورماها بوجهه قائلاً:

- تافه، أستطيع أن أشتريك وأشتري عشيرتك.

أُصبت بالحرج، حاولت السيطرة على الموقف. أمسكت بأبي نوار عند الباب الرئيس الذي أغلقه شمخي بسرعة. ديار يأمرني أن أتركه ويأمر شمخي بفتح الباب لأن أبا نوار قد أخذته نوبة هستيرية وراح يصرخ مردداً «عصابة،  عصابة»، انتهى المشهد بإعادة شدة المال إلى ديار وقد لُمته على ما فعله.

- ربما الوثيقة حقيقية ونكون قد فقدنا كنزاً.

- لا، هذا مشروع احتيال. لعبة أو حبكة كتبها لص فاشل. العراقيون تفننوا بعمليات النصب.

وقبل أن أسأله عن كارثة الطرزان أردف:

- اتركنا من هذا التعبان، ولنفكر في كيفية الحصول على معلومات من الحشرة المسجونة في الغرفة.

- أي حشرة؟

- تعال معي.

اتجهنا للغرفة الداخلية فوجدت شاباً في مقتبل العشرينات يرتدي بنطلوناً أسود وتي شيرتاً أبيض. مقيد اليدين ومعصوب العينين.

 لأول مرة أشاهد إنساناً بهذه الصورة. أفصح ديار عن شخصيته وقال:

- عنصر في مجموعة مسلحة في البياع.

كان الشاب يبكي فيما ديار يتحدّث، ويحلف بالله وبالخلفاء وبأبي حنيفة أنه لا يعرف شيئاً. ووجّه كلامه لي حين سمع صوتي:

- عمي، عندي عربة لبيع السمك في سوق البياع الكبير. حتى سمك الجري أبيعه خفية. ما أعرف ميليشيا.

كان يتألم وفي نبرته حشرجة وخوف. تأثرت كثيراً وحاولت التخفيف من قلقه. فقلت له إنني سأكون معه إن كان بريئاً، فلا يمكن أن نظلمه، وسحبت ديار من يده إلى غرفة المكتب.

- هل أنت متأكد؟

- ألم أقل لك ساعدني في التحقيق معه، لست متأكدا ًطبعاً. جماعتنا استدرجته عندما ابتعد عن زملائه الواقفين في رأس شارع عشرين. حتى إذا لم يشهد واقعة الإعدام فلا بد أنه يعرف من قام بذلك.

حكايات لا نعثر على مثيل لها في الكتب. تلاحق للصور. أطفال في القمامة يبحثون عما يمكن أن يباع. يدورون تحت شمس الصيف الحارقة، وتحت مطر الشتاء. يسرق العتاكة الجائعون فجراً من بيوت المنصور النائمة ما يقع تحت أيديهم. صوندة مياه. كرة قدم. دراجة هوائية. ولكنهم مهما حاولوا لن يستطيعوا سرقة الاسترخاء من تلك البيوت المتدثرة بفخامتها!

تذكرت غسان ومجموعته في البياع. لم أخبر دياراً بذلك خوفاً من المفاجآت غير السارة. يمكنني أن أسأل الشاب عن غسان. لكن لأترك القضية في رأسي هذه الليلة. قلت:

- حقيقة هذا الشاب سأعرفها غداً. أريد منك وعدا ًيا صديقي بألا يُعذَّب أو يُقْتَل.

- جيد، ونحن نبحث عن الحقيقة أيضاً.

- ما اسمه؟

- عباس خلف.

فجأة سمعنا مواءً شديداً. قطة ديار تستغيث في الشرفة. نهض ديار كالملسوع عن كرسيه، فتبعته، لنجد هراً أصفر بخصيتين ثقيلتين يعتلي الجميلة، ويعض رقبتها بشدة، حتى تطاير فروها فوق البلاط.

تقدم منه ديار ليركله، لكن الهر المغامر تسلق السياج وهرب إلى البناية المجاورة. انفعل ديار، وهو يحمل قطته ويربّت على فروها ويؤكد لها أنه سيقتل الهر برصاصة مسدس حين يشاهده مرة أخرى. كنت مبتسماً ومندهشاً من سلوك ديار. بدا متأثراً للغاية حين أدخلها للغرفة، وهو يصرخ على شمخي:

_ باب الشرفة لا تفتحه أبداً، أسمعت.

_ نعم عمي. صار.

قال ديار وهو يداعب خليلته:

_ عماد، هذه القطة لا أستبدلها بقطط العراق كلها.

_ يعني تستبدلها بقطط العرب؟

- ولا العرب. قططنا كلها غبية.

وضع ديار القطة على طاولة المكتب الزجاج، قرب الأوراق والملفات الملونة، ونهض ليستحم. اعتذر مني لأنه وسخ جدا ًولم يدخل الحمام منذ يومين.

- حالما أكمل السيجارة المشتعلة بيدي سأذهب.

بهذا أجبت ديار، وبقيت أنظر إلى فرو القطة المدهش كيف يعلو وينخفض. ما أحلى قسماتها كأنها فتاة مراهقة تفور بالغريزة!

ياه، تذكرت وعد، فنهضت لأكلم ديار من خلف باب الحمّام. لم يسمعني جيداً، لأن صوت رشاش المياه كان عاليا، وأيضاً كان يدندن بأغنية «بعيونك عتاب» لعفيفة اسكندر. فتح الباب ومدّ نصفه العلوي مستوضحاً كلامي.

- قتلنا وعداً البريء، وليس سعداً المجرم.

- أي سعد ووعد؟

- تمزح، حقا لا تعرف. طرزان الحمراء.

- نعم، مات الطرزان في غابة محلته، ههههه...

- ديار، لقد قتلنا أخاه.

- من قال؟

- سلمى وحمدان، وقد انسحبا من المجموعة.

أغلق ديار باب الحمام، وقال لي:«اذهب لترتاح الآن، سنتكلم غداً حول ذلك». ما هذا البرود الذي يحمله؟ تصورت أنه سينتفض لهذا الخطأ. يتألم. أين عبود؟ صديقي الآخر، سأخبره أن دياراً انفعل كثيرا لأجل قطته التي كادت تُغتصب، ولم يُصْدَم لقتل إنسان بريء. كان علي أن أضرب باب الحمام بقوة مرة ثانية، وأسحب دياراً بعريه للصالة. لكني تريثت، أو جبنت، أو اقتنعت بأن الغد سيأتي.

هل كان سبب سكوتي على لا مبالاة ديار هو المبلغ الشهري. ست أوراق من فئة مائة دولار تهينني فعلاً. متى أصل إلى ذلك المشهد الذي حلمت فيه كثيرا؟ فأقول: «يكفي، لا أريد المبلغ. شكرا».

جاء شمخي حاملاً بخاخ ماء وقطعة قماش ليأخذ جولة تنظيف على المكتب. قال لي بصوت خفيض:

_ هو من فتح باب الشرفة!

_ حقاً؟ لماذا لم تخبره؟

_ حين يغضب عليّ السكوت. هذا أفضل.

سحقت عقب السيجارة بالمنفضة، وسألته:

_ كيف وصل بك الأمر إلى العمل معنا؟

- كنت أعمل في مطعم قريب، ومرة شكوت لأستاذ ديار، حين جلبت له نفر كباب سفري، عن مشقة ساعات العمل الطويلة. بعدها بأسبوعين طلبني للعمل بأجر مضاعف، فوافقت.

- كيف إذاً شاركتنا الفكرة؟

_ عملت شهرين من دون أن أعلم. لكني أتيت ذات يوم حزيناً لمقتل ابن عمي سائق التاكسي في حي العدل. ذبحوه.

_ وديار عرض الأمر عليك.

- نعم، قال لي أخبرني فقط اسم أي مجرم في محلتك. أي إنسان سيىء تعتقد بأنه يقتل الناس. كشفت له لحظتها اسما فقُتل خلال أقل من شهر!

ودّعت شمخي ونزلت من البناية. ابتعدت قليلا متجهاً إلى موقف سيارات الكيا، وقبل أن أركب شاهدت عبود يترجَّل من سيارته الكولف الحمراء التي أُوقفها أمام باب البناية ومعه شابتان، واحدة ترتدي بلوز رماني وتنورة سوداء، والأخرى بنطلوناً عريضاً أبيض وقمصلة جلد بنية، وكانتا تضعان الحجاب.

*        *        *

البياع، مدينة تزهو بشارع عشرين. حيث تمتد الدكاكين على جانبيه لمسافة كيلو مترين تقريباً. يُعَدّ هذا الشارع المكان الأكثر أهميّة لتسوّق ونزهة أهالي ضواحي العاصمة. مقاه ومطاعم، وأرصفة مكتظة ببسطات لم تنقطع منذ بداية الحصار في التسعينات، بل ازدادت مع زوال الأمن الاقتصادي وغارات أمانة العاصمة في السنوات الثلاث التي اتبعت السقوط. كان الشارع الكبير فرصة للشباب لمعاكسة الفتيات أيضاً، فالكثير من الزيجات،  كما المصائب، نبتت فيه. لم يكن يهدأ إلا بعد منتصف الليل، لكنه اليوم لا يختلف عن شوارع بغداد. عند الغروب ينتهي كل شيء، ولن يجازف أي شاب بالتلويح بابتسامة لفتاة، خوف أن تكون قريبة أحد الملثّمين.

شارع عريض يفصل البياع عن السيدية، وحين ذهب حمدان وعائلته إلى هذه المحلة، لم يجتز سوى إشارة مرور، واستدارة في زقاق قريب من بناية فرقة الحمزة البعثية سابقاً، والتي تحولت إلى حسينية ترفرف بيارقها السود عالياً. ما بين البياع والسيدية حكايات من رصاص. قناصة في البنايات العالية وكأنهم في لعبة إلكترونية. إطلاقات من هنا وهناك، وتزداد الرصاصات ضراوة مع كل تفجير يصيب المدينتين. في أحد الصباحات الباردة كنت في موقف البياع أروم الذهاب صوب دائرة التقاعد لاستلام راتبي. هذا الموقف خارج المدينتين، فأمطرت السماء أعيرة نارية أتت من مدينتي من السيدية. رشقات عنيفة جعلتنا نحن المتقاعدين والطلبة والموظفين نحني أجسادنا راكضين للاختباء خلف الباصات وأكشاك المطاعم. نسوة مرعوبات وأطفال يبكون، ومسنون يحملون سنواتهم المتبقية للاحتماء بالجدران. بدا الصباح عراقياً بامتياز! حشد هارب، وجسد ملقى وقد أُصيب في الكتف... شتائم، ودماء، وسيارة مسرعة انطلقت باتجاه مستشفى اليرموك...

استعار البياع اسم الشورجة من قلب العاصمة، وأخذ يمدّ سوقاً صغيرة بالبضائع داخله، ليحوِّلها إلى مركز تجاري كبير. تتسوق منه دكاكين ضواحي العاصمة. الهامش يلتف حول نفسه، وينشئ حياته الخاصة بعيداً عن المركز. لن يرحل التاجر الصغير ويخاطر بحياته من أجل صناديق بيبسي كولا أو معجون طماطم. مدينة احتمت بأكملها بحواجز كونكريتية أحاطتها من جهاتها الأربع، مثل السيدية تماماً، حيث لكل حي فتحتان، أشبه بالإنسان، واحدة للدخول، والأخرى للخروج.

تلك هي صورة مدننا الصغيرة في العاصمة، ومشقة الفرد الأولى تتجسد في استمرارية ذهابه للعمل والرجوع منه. كما أن فرص الرزق تضاءلت، والسعيد من يجد عملاً في محلته. يبذل الجهد أضعافاً حتى يرضي رب العمل. أما الموظف فإنه واقع بين نارين. نار الاستمرار في الدوام الرسمي، والذهاب حيث بناية الدائرة البعيدة عن أحياء الضواحي، وبين نار المفخخات ومجموعات الملابس المدنية واليشامغ التي يمكن أن تظهر في الشارع، فتنقلك مباشرة إلى السماء.

عند مطالعتنا لمقاطعات الكونكريت في بغداد، نستذكر حقيقة لمَسَها الجميع قبلنا. الفقر الذي يختص بأحياء معينة. مدن تعرفها من البيارق المرفوعة فوق أسطح بيوتها، ومن زحمة شوارعها بالسابلة، ومن أسواقها المبعثرة. الضجيج يعني أنها مدينة فقيرة، بينما الهدوء يشير إلى مدن أخرى، بلا أطفال، وبلا بيارق. تسمع فيها أصوت العصافير والحمام، وتنعم بالخضرة في حدائقها الكبيرة. ليست هذه المدن، كالمدن الأولى التي أشجارها أبنية اسمنتية وتخلو من الحدائق. لا نقول عنها جميلة. لأنها لم تصنع جمالها من تلقاء نفسها، إنما التاريخ هو من غرس أشجاره فيها. وكذلك الأخرى، ليست قبيحة من تلقاء نفسها، لأنها لم تعرف المياه أصلاً.

 

الفصل السادس

اعتذرت لحمدان وسلمى بسبب ما جرى في مكتب ديار وبسبب الخطأ الذي حصل في قضية وعد. قلت «حقاً ارتكبنا فظاعة، وندم ديار لذلك حين كلمني في اليوم التالي».

- ظننتك تمزح أمس، أو أنك سمعت إشاعات تود الحديث حولها. اقترفنا الخطأ الأول في مسيرة عمل امتدت لثلاث سنوات!

أخذت رقم هاتف غسان من أخيه. حاولت الاتصال به، لكنه لا يرد على الرقم الغريب. بعثت رسالة نصية أفصحت فيها عن هويّتي وكتبت اسم الشاب المعتقل عباس خلف، فاتصل فوراً، وقال:

- أهلاً عمي عماد.

- ابني غسان، أحتاجك ولا تخيّب ظني بك.

- أين عباس؟

- تعال غدا مع حمدان إلى قاعة حوار.

- من خطف عباس؟ هل هو حي أم ميت؟

- حي. تعال لتنقذه!

اتصل حمدان ليلاً ودعاني لأبذل كل الجهد في إبعاد أخيه عن المستنقع الذي انغمس فيه. قال إنها فرصة لتحدِّث غسان عن مخاطر الانتساب إلى ميليشيا. ابذل معه المستحيل. ثم طلب توضيحاً عن الشاب المعتقل عباس فسردت له قصته بالكامل. تخيلت بعد انتهاء المكالمة أن غسان قد تغيرت هيئته. لم يعد ذلك المراهق المبتسم دائماً، والذي يلاحق الطالبات عند خروجهن من المدرسة. توقّعت أنني سأراه بقسمات خبرت القتل، أو على الأقل شاهد أشخاصاً يُغدر بهم. سمع البكاء والتوسلات. ترك سماع أغاني حاتم العراقي وصلاح البحر وحسام الرسام واستبدلها بهواجس وانفعالات وأحقاد. نزع ملابسه الملونة أو أحرقها ليرتدي الملابس السود. نسي النوم مبكراً واعتاد على السهر في الواجبات الليلية للحفاظ على أمن البياع. أبناء بغداد يتغيرون بسرعة. يكبرون فجأة مع بندقية الكلاشنكوف. تتوسع أذهانهم عند سماع كل مقولة تنطقها العمامة. نسوا البراءة كما نسيها الآباء عندما ارتدوا الزي الخاكي وتوجهوا إلى جبهات الثمانينات.

حقاً تغيّر غسان كثيراً، بدا نحيلاً. وأنفه الطويل أصبح سمة بارزة في وجهه. كانت ملامح الأخوين ترسمان قسمات الأب المقتول. كأن أبا حمدان يجلس الآن معنا يرقب أبناءه ويود إخبارهم حقيقة السيد عماد المثقف. الرجل الذي بلا أبناء ولا يعرف قيمة أن يعيش الابن بلا أب. السيد عماد لا يمكن أن يعرف كمية الحقد لدى الابن على قاتل أبيه. طائفتي هي المذنبة الآن بنظر غسان ولست أنا.

قال غسان:

- عباس ولد بريء، يتيم الأب، ولو قتل ستموت أمه المريضة فورا.

أجبته:

- كن صادقاً معي، بربك، هل عباس عنصر في ميليشيا؟

- لا، هو يعمل بائعاً للسمك، حتى إنه يبيع سمك الجري للزبائن في السوق الكبيرة المحاذية للأحياء الأخرى.

- هل شهدت واقعة إعدام شبان في البياع؟

- نعم، كانوا خونة، يعملون مع الأمريكان، ويزوِّدون المحتل بالمعلومات عن المنطقة.

حمدان ينصت للحوار، وناظم الغزالي يغرق المكان بأغنيته «سبع ليالي»... أغنية تنير وجه الأجيال المتلاحقة التي ولدت وعاشت وماتت. دورة أخطاء. عجلة تسير من دون سائق أو هدف. قلت:

- أنت ولد طيب، لماذا انضممت لميليشيا.

- الميليشيا ليست سيئة. وأنا ما زلت طيباً.

- قتل الناس عمل جبان.

نظر حمدان إليّ بطرف عينيه، وانشغل بحكّ عود الثقاب المحروق بسطح المنضدة لإزالة بقعة شاي. تحدث غسان:

- نحن نقتل السيئين، وكل من يساند الحيوانات التي تفجّر نفسها.

فكّرت، نحن نقتل «السيئين» أيضا!! سألته:

- هل قتلت أحداً؟

- حتى الآن لا، ولكني على استعداد لذلك.

وأضاف:

- حدثني عن عباس. أكيد أنك تعرف من خطفه.

- نعم أعرف، ولكني أريد دليلاً على عدم انتمائه إلى ميليشيا.

قال غسان:

- الانتماء إلى ميليشيا ليست تهمة، ويبدو أنك يا عم عماد تعرف الجهة الخاطفة جيداً.

ارتبكت، وربما حديثي عن الدليل كشف بعضاً من شخصيّتي الأخرى. كان غسان ينظر إليّ نظرات مباشرة لا تنكسر. يسددها إلى عيني. كسر حمدان الصمت:

- الميليشيا والقاعدة قذارة واحدة.

وصوّب نظره إلى أخيه وأكمل:

- عليك أن تبتعد عن رفاقك. تحدثت كثيراً معك لكنك لا تقتنع. من قتل والدنا مجرم، والله سيعاقبه.

ثم أدار رأسه باتجاهي قائلاً:

- أليس كذلك يا عمي.

- نعم، نعم.

بدا الغاليري والعاصمة والعراق والعالم أشبه بأزرار في لعبة. كل ضغطة على زرّ تكشف لنا عن بشر مسرعين، يتعثرون، ينهضون، ثم يتعثرون ثانية ليسقطوا في حفر ومطبات.

عاد غسان للكلام بعصبية:

- قل من خطف عباس؟

أنّبَه حمدان غاضباً:

- لا ترفع صوتك. صديقك سيرجع لأهله إذا كان بريئاً.

حدّق إلينا رواد مقهى الغاليري وقد لفتنا انتباههم. كنا متطفّلين على عالمهم. فنانون وأدباء وإعلاميون وطلاب أكاديمية الفنون الجميلة القريبة. لغتهم الفن ولغتنا الرصاص. أقدِّرهم وأجلِّهم، وأشعر بالتفاهة إزاءهم حين أقترب منهم. فأنا أعلم أن ثرثرتهم وأحلامهم، وتأمّلاتهم، لا تستطيع إنقاذ شخص بريء من يد حفنة مجرمين.

تحدث غسان بهدوء ولكن بخبث:

- كم من المال تطلبون فدية؟

ابتسمت بوجهه:

- لسنا من هؤلاء، وعباس سيرجع الآن إلى أهله لكن بشرط.

نظر إليّ متسائلاً، فأضفت:

- أن تترك الميليشيا وتعود لأمك وأسرتك.

انفرجت أسارير حمدان. بينما غسان غرق في صمته، ليقول بعد هنيهة:

- سأتركها، لا أريد أن يُقتل عباس، فأمه ستموت.

قبّل حمدان أخيه وعاد ليقبّلني بشدة، ولفتنا للمرة الثانية أنظار المثقفين. خرجنا من الغاليري وذهبنا إلى باب المعظم سيراً. وفي الطريق تحدثنا عن البياع والسيدية وأحوال بغداد، وكيف يأتي المجرمون من خارج البلد ويدفعون الدولارات لنتقاتل في ما بيننا؟ كان غسان وديعاً. قدماه تخطوان بخفّة وتقفزان فوق المطبات المائية على الرصيف. بدا أنه يفكر في أمر ما، ولكن لا علاقة لي بما يدور في رأسه. كنت فرحاً وسعيداً إلى درجة لا تصدق. أحسّ بنوع من راحة الضمير، عاد الابن إلى حياته الطبيعية بعدما جعلته يبتعد عنها حين فتكت بوالده النذل. يعني ابتعدت عن الخطأ تماماً الآن.      

                                     *        *        *          

في الشهور الماضية امتلأت الشوارع بالجثث، والحرب الأهلية الشاملة التي كنّا نقرأ عنها في الكتب والصحف صرنا نعيشها. الهوتو والتوتسي يلعبون في أزقة عاصمة دأبت عبر تاريخها على أن تطرد أبناءها خارج الحدود، أو تضعهم وراء القضبان، أو تسكب عليهم الذلّة. الشعارات تزداد بأصباغ ملوّنة على جدران المزابل والفضائيات. الوطن هو الغاية، وأهله إلى الجحيم. جماعة الشيخ مؤيد تلتقط الشباب من الأحياء المجاورة، وجماعتنا تجاهد لإسقاط عناصر الشيخ في المصيدة كما يقول ديار. حمدان يبكي وهو يحدّثني بالهاتف لأن أخاه عاد للميليشيا حالما أطلقنا سراح صديقه عباس. لقد غشّنا الولد. المفردات والوعود غير مقدّسة، وما أرخص الكلام في بلد هذي حاله.

ديار يقول لي: «لا يمكن الانتظار حتى الحصول على معلومات مؤكدة،  فإنه لا يمكن الحصول على معلومات مؤكدة مائة بالمائة عن السيئين»، وقد صدمني حين قال «75 % تكفي. والأخطاء تحصل». إذاً السيئ الحظ هو من يكون من ضمن الـ25 %. أي أن وعداً وأمثاله سيكثرون في عملنا. ولا داعي لأن نحزن ونرهق ضميرنا بمثاليات غير منطقية.

أُغلقت مداخل السيدية بأكوام التراب والبراميل الفارغة وخردة الحديد، إلا من مدخلين اثنين شمال الحي، واحد للخروج وآخر للدخول. عناصر الأمن في الشوارع الرئيسة فقط ولكن داخل الأزقة الشيخ مؤيد هو القائد العام للقوات الملثّمة، والناس يتعاونون معه باعتباره زعيم المنطقة.

طلب مؤيد مني أن أكون العين لمجموعتهم في حي الفردوس، وقال لي بالحرف: «لا ترجع للسيدية ابقَ هناك ونقّب عن المرتزقة الذين يعملون مع الاحتلال». شيخ مريض بحب الله، هذا هو الإيمان الذي يفيض على الناس دماً...

الأعداء في كل مكان يصعب التفريق بينهم. ليست لهم ملامح واضحة. من يقاتل الأمريكان يمكن أن يسحق العراقي. جثة الأمريكي غاية قصوى، وللحصول عليها يمكن أن ندفع عشر جثث عراقية، أو أكثر. التاريخ كفيل لكل مجموعة مقولة تُختطف منه لتبرير هذه المعادلة... تاريخ منفلت، وفي متناول الجميع.

وأنت تسير في أحياء العاصمة، وخاصة الضواحي، ستجد صِبْية بملابس سود يحملون بنادق كلاشينكوف. مراهقون. يعرفون بدقّة أخبار الموضة وأين وصلت في تسريحة الشعر أو الملابس أو الأحذية، وتحولوا خلال السنين الثلاث الأخيرة إلى أداء دور يتحكم فيه رجال عن بعد، والأهم عندهم أنهم يمتلكون موبايلات ترنّ بأهازيج دينية حزينة، وأغاني حماسية لا تشبه بالتأكيد أغانٍ الحرب العربية_الإسرائيلية عام 1967 ولا أغاني المقاومة الفلسطينية ولا حربَي إيران والكويت.

يافطات سود تملا الجدران عن آل البيت، وأخرى تحمل شعارات سياسية وطائفية، وملصقات لشخصيات سياسية إحداها تعود إلى أياد علاوي وقد شُطر وجهه واستُكمل بوجه صدام حسين. وآخر رسموا له قروناً، وثالث سُوِّد وجهه بالكامل. بيوت مهدمة تشاهدها وأنت تسير بين الأحياء، وشوارع مقفلة وهمفيات الأمريكان تزاحم السيارات المدنية التي تفسح لها المجال وتبتعد عنها بمسافة مائة متر أو أكثر، فالسائق لا يغيب عن باله أحياناً يافطة الخشب الموضوعة في مؤخرة آخر سيارة عسكرية «انتبه.. قوة مميتة».

مفردة الموت تتكرر في الأمكنة والأزمنة والأحلام. شكرية تصمت كثيرا ثم تطلق على نحو مفاجئ آراء مثيرة. «قبل خمسين سنة كان العهر معروفاً. كان فقط في بيوت البغاء، أما الآن فقد خرج إلى الشوارع».

زوجتي مديحة تزداد وحدة والقلق يلفّها معظم يومها على الرغم من أنه ليس لنا أولاد نخشى خروجهم إلى الأزقة. حزن تركها البيت في السيدية والانتقال إلى بيت غريب وحيّ جديد يتطلب إقامة علاقات جديدة، وكذلك حزن صور الأشلاء الممزقة للناس في الفضائيات، جعل أخاديد سنواتها الخمسين تندفع إلى الستين. تقول: «أشكر الله أن جَعَلنا بلا ذريّة». كما أن الكوابيس أخذت تزورها، وغالباً ما تصرخ في الليل، فتجيء شكرية وتبسبس ببعض المفردات وهي تمسك رأسها، لكن زوجتي أسّرت لي بان الكوابيس تزامنت مع سكن شكرية في بيتنا!

سلمى اصطدمت بأول فعل. أرادت طيبتها أن تزيل الطرزان من المحلّة لكنها فشلت. بالتأكيد هي تعتقد أنها قاتلة. كذلك حمدان لم يعد مهتماً بمعرفة قاتل أبيه. «الرب الذي في السماء هو من ينتقم». هكذا يقول، «ونحن لا نستطيع منع الشر في مدننا لأن الشر متأصّل فينا».

الهدوء والسكينة، والاختباء خلف الأبواب أفضل طريقة للبقاء. وصفة مجرَّبة زوَّدَنا بها المتوحّدون والانطوائيون والمتصوفة والمعوّقون وربات البيوت.

صحف متعددة أراها على أرصفة الباب الشرقي. بائعون يروِّجون لصحيفة انفردت بنشر خبر سار عن المتقاعدين. لن يثيرني الأمر، بينما أمثالي أصحاب الرؤوس البيض، يتلقفون الجريدة وكأنها طوق نجاة...

يدور البلد في رأسي وأنا متوجِّه إلى السيدية، صوب وكر الشيخ مؤيد ، ابن طائفتي.

*        *        *

أثناء صعودي باص الكيا المتوجه للسيدية، فاجأني شخص كان جالساً بالمقعد القريب من السائق، وبيديه ورقة نقدية حين قال:

- أخ عماد، واصل الأجرة.

كان يبتسم، لكن لم أعرفه. ملامحه ليست غريبة، وسنه تقارب سني، غير أن رأسه يخلو من الشيب تماماً بفعل الصبغ الأسود الذي خفف قليلاً من حدة الأخاديد في بشرته. عندها نزل راكب شاب في الكرادة قرب معمل جلود للأحذية، ومع توقف المركبة، ترك الشخص مكانه وصعد من الباب الخلفي ليجلس قربي. كان ذهني يدور بين ثلاثة أسماء تطابق هذه الملامح، وعندما احتضنني بالقبلات مبدياً انزعاجه المبالَغ فيه لعدم تذكّره، أفصح عن شخصيته، وفعلا كان أحد الأسماء الثلاثة. بلال الطيار، رفيق فترة الشباب في حي المنصور. انتقلنا صيف النكسة إلى منزل جديد، أو لأقل حجرتين فقط، وحديقة شاسعة وثلاث شجرات نخيل نوع بربن. حي جديد ورفاق جدد. كان بلال أحد الأصدقاء الأربعة الذين ذهبوا معي إلى سينما روكسي في شارع الرشيد، وكان الفيلم الذي اخترناه « أم الهند <.

قال:

- كبرت كثيراً، آخر لقاء كان على ما أتذكر في نهاية الثمانينات.

- نعم، بعد انتهاء الحرب مع إيران. التقينا صدفة في علاوي الحلة.

- وكنت فرحاً بانتهاء الحرب وبالنصر!

قلت بخيبة:

- ظننت أننا انتصرنا بالفعل.

قلت له إنني ذاهب لزيارة صديق يسكن السيدية، لكنه أصر على اصطحابي إلى منزله في حي الشرطة الخامسة. اعتذرت لأنني كنت على موعد معهم، ولكن تبادلنا أرقام الموبايل. وتحدّثنا عن الأحداث والشخصيات التي أتت لحظتها في البال، نزلت في السيدية، بينما الباص انطلق مكملاّ طريقه إلى البياع. حدقت فيه. كان يبتسم عبر النافذة، وملامح وجهه قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً أراها الآن وقد التصقت بقسماته. أيام كان الباشا والملك الصغير قد ودّعا البلد والحياة، وكذلك الزعيم، والأخوان عارف، بينما البكر وصدام كانا في نشوة الحكم.

تحيط بالسيدية جدران إسمنتية تمتد بمحاذاة الشارع الرئيس، وهناك فتحة في الكونكريت وقفت عندها طفلة ترنو للعالم الخارجي. ربما تنتظر أبا أو أخا. لاطفتها بوضع يدي على شعرها، ودخلت الزقاق. كان غياب الدولة واضحاً من أكوام التراب التي تغلق مداخلها، ومن الصمت المميت الذي يرين على البيوت ولا يقطعه إلا هديل الفاختات وزقزقة العصافير. وصلت إلى وكر الشيخ مؤيد بعد استجواب من رجال ظهروا لي فجأة، ولفت انتباهي صراخ ينبعث من إحدى الحجرات في البيت. فتقدمت حيث الصوت مستثمراً ثقة الشيخ بيّ. لكن رجلاً حليق اللحية منعني، وسألني عما يدور في ذهني، فقلت له:

- ربما أملك معلومات عن الشخص المحتجز.

- لا، إنه من منطقة بعيدة. لا تعرفه.

- دعني أراه.

أجابني وهو يحاول إبعادي واضعاً يده على صدري:

- الشيخ يريدك، فاذهب له.

وجه سيغادر دنيانا. فتوى طائشة سترديه قتيلاً، ويُرمى في حاويات القمامة. أسرة تنتظر معيلها وأطفال ينتظرون والدهم، ويريد أحدهم أن يريه ما كتبت له المعلمة «أحسنت يا دكتور» في دفتر الإملاء. لن أستطيع إنقاذه... الغريب، أن السيدية محاصرة بحواجز الاسمنت، بينما الشيخ مؤيد يعيش في حرية وأمان غريبين...

انتظرت أكثر من نصف ساعة احتسيت خلالها الشاي وتبادلت الحديث مع رجال قتلة، مستفسراً عن الوضع في السيدية إلى أن دخل الشيخ مبتسماً. جلس بجانبي على الأريكة الخشبي، وهو يحييني ثم قال:

- أود التأكد من أمر.

- قل يا شيخ.

وطلب من شاب طويل القامة له لحية خفيفة تناثرت شعراتها، أن يجلب ملفاً ورقياً من الدرج السفلي. كان الملف عن أبي حمدان الذي قتل في العامرية، وفيه معلومات أذهلتني، تشير إلى أنني حضرت مقتله. حاولت الإنكار والتعلّق بأية كذبة. لكن الشيخ قال بهدوء مميت:

-يا أستاذ عماد،  كنا نراقبك، وشاهدناك مع الأصلع.

شعرت بدنوّ أجلي، وقد توقف ذهني عن إيجاد مخرج مقنع. هل كان أسم أبي حمدان في قائمة الشيخ فعلاً كما أكد حمدان، أم أن الأصلع قاتل مأجور ويعمل مع الجميع؟ ما الذي يجري في بغداد؟ أناسها تتوزع أسماؤهم في استمارات خاصة بيد الملثّمين. حلقات تكبر وتكبر كأنما حجرٌ أُلقي في ماء راكد.

تعرفت على الشيخ مؤيد لأول مرة في بداية التسعينات في مسجد سعد بن أبي وقاص. كنّا نصلي مع الجماعة الفروض الأربعة، أما صلاة الفجر فكنت أفضل تأديتها في بيتي. لا أريد أن يظهر جسدي المرتخي بفعل خمر منتصف الليل في المسجد. لكل فعالية وقتها ومكانها. لم أجد شخصاً يشبهني. يرافق القنينة والسجادة على مدار ساعات اليوم. الأهم عندي أن تنظر لوجه الله باستمرار، من دون أن تحتقر البشر. كما أنني لست مدمناً لا أستطيع الفكاك من سحر القنينة، بل أرى أن نشوة الخمر لا تتعارض أبدا مع نشوة فعل الخير.

كان الصمت عميقاً، رسّخه الشيخ عند خروجه من الحجرة، وتحدّث إلى ذلك الحارس الواقف بباب حجرة الضحية، ثم عاد إلي:

- أخ عماد، لسنا ضدك لأنك شاركت في قتله، لكن نريد أن نعرف مع من تعمل؟

- لا أعمل مع أحد، ولي ثأر قديم معه!

- صارحني، أنا معك.

- صدقني يا شيخنا، قتلته لأنه ساهم في قتل وخطف أناس من السيدية.

هدأ الشيخ، وعاد يسألني:

- كيف عرفت أنه قام بتلك الأفعال؟

- سمعت من هنا وهناك عن تاريخه الأسود في مدينتنا.

أجابني بسعادة ومن دون أن أفهم مقصده:

_ أنت صلب، ولن تبوح بسهولة!

ملامح الشيخ تؤكد إيمانه بما يفعله. الآخرون حطب جهنم. سيختفي صاحب الأنين والتوسلات في الحجرة المغلقة، ويصمت رغماً عنه. يذهب للعدم. عدم حياتنا التي تتطلب وعيا أعمق من ثنائية الجنة والنار. هناك من يردد، لا جدوى من أن نصلي ونصوم ونعبد الله ما دامت هناك رصاصة ستنهي حياتنا بدعوى تنفيذ حكم الله. باسم شريعة الله نقتل. ونحن الذين نتحاور معه كل لحظة في خضم عالمنا البائس. أفكّر بنسبة الخطأ عند ديار25 %، ترى ما هي النسبة عند الشيخ مؤيّد؟ إنها لعبة التناقضات والحسابات التي أدمنّاها.

إننا ميالون بطبيعتنا إلى بناء الحواجز، لكي ندجّن أنفسنا. ننبهر بفكرة وننفعل إزاءها. فتغمرنا الراحة، ونشعر بأننا صانعو أحداث، حتى لو كانت تافهة. مرات نبدو محايدين، ومرات كثيرة منحازين لأشياء عديمة المعنى. نحن المقذوفون في بلاد موبوءة بالتعصّب والجهل والخرافات!

بانت أنياب الشيخ مؤيد بعد سقوط صدام، وبرز قيادياً فوق العادة. تحرَّك ليقود حلقة كل يوم بعد صلاة العشاء ليتحدث في الدين والسياسة والتاريخ. حضرت بعضاً من محاضراته، فلمست تحريضاً على الدنيا بأكملها. تلك المحاضرات كانت آخر عهد لي برؤية محراب الصلاة، والزخارف الإسلامية وجلباب إمام الجمعة. ليس الشيخ مؤيد هو من جعلني أهجر المساجد، وإنما كلمات الوعّاظ المليئة بالكذب على الناس وعلى الله كانت هي القشة التي قصمت ظهر تفكيري، وزودتني بذلك الإحساس حول انعدام الخط الفاصل بين حب الله وقتل البشر!

حين خرجت من بيت الخلية الملثّمة، تملّكتني أمنية أن أملك مجموعة من الخنازير البرية الشرسة، فادفعها نحو بيت الشيخ مؤيد. خنازير قذرة مرعوبة تفرّ بين الحجرات والممرات!

توجهت إلى دكان قريب لأشتري علبة كاكاو كبيرة، ثم دخلت إلى زقاقنا لأسلم على أبي رعد. كان عليّ أن أشكر ابنه ددو على فعلته الشجاعة! ددو هو الوحيد الذي وقف بوجه الرصاص. لا ينفع العقل مع المسلحين، ولا منطق ينفع معهم... مررت ببيتي، ألقيت نظرة من خلف الباب المغلق بسلسلة حديد وقفل رمادي. كانت أوراق الشجر على الأرض، والحمام والعصافير في الحديقة. لا تزال في ماعون البلاستيك الأزرق بقايا خبز يابس. ربما الطيور ما عادت تريدها، وتتساءل عن معنى الغياب. لا أجوبة، ولا أحد يعلم بالضبط وقت العودة. تملكتني نوبة حزن ودمعت عيناي، فابتعدت عن المكان، وخطوت صوب بيت الجيران. التقيت أبا رعد، فراح يرشق وجهي بسيل من القبلات، حتى طلب مني العودة بعد أن أخبرته بأن المجموعة الخاطفة كانت تابعة للشيخ مؤيد. بدا أنه لم يفهم ما قلته، أو ربما خاف أن يفهم. وقد علّق قائلاً:

- الشيخ يحمينا منهم، وفقه الله!

لم أُعلق على حديثه، وإنما احتضنت ددو وقبّلته رغم مخاطه النازل من منخريه. أحسست بأن هذا الطفل ابن العاشرة من عمره، يدرك ما يدور في بلدنا، وأنه أقرب لي من أبيه العاقل. مجرد شعور فقط... قال ددو لي وهو يلتقط حجراً من الرصيف:

- سأضربهم.    

*        *        *

فاجأني ديار عندما أشار لي بنسيان الشيخ مؤيد، متعللاً باستنتاجات وجدتها غير مقنعة: «نتركه يعيش لأن زمرته كثيرة العدد ولها نفوذ في كل مكان، وبمقتله ربما نصنع عدواً نحن في غنى عنه». وعندما قلت له «ما أدراك أنه بهذه القوة؟». أجابني: «رجالنا تتبعوا أثره وجمعوا لنا معلومات دقيقة عنه، وعن المجموعات التي يقودها». لم يقنعني ديار بكلامه، فهؤلاء الرجال الخفيون الذين يعملون معنا لم ألتق بواحد منهم يوماً، وكلما سألت دياراً عنهم كان يؤكد أن شرطهم لمساعدتنا هو عدم كشف أسمائهم لأي شخص. وأصابتني الحيرة من موقف ديار تجاه الشيخ مؤيد. فلو تركنا مؤيد لازداد عدد الضحايا. قلت لديار:

- نمسح مؤيد، وستتفتت مجموعته.

- لا يا صديقي أنت واهم. سيظهر مؤيد جديد.

- وسيكون علينا أن نزيله أيضاً.

هكذا هو الأمر إذن، العنف يجري في عروقنا، والسعيد من يستخدمه لصنع طيبة تغمر الكون. الجريمة يعاقب عليها القانون لأنها ارتبطت بنوازع تافهة، وبطموحات فردية ضيقة. أما إذا أصبحت منظّمة واجتماعية، صارت نضالاً من أجل المجتمع.

زممت شفتيّ ممتعضاً، وتذكرت حديث شكرية حين أسرّت لي:

- هل تثق بديار؟

- إنه أخي، قلت.

شكرية تخرّف. أرى سنواتها الثمانين تضغط على موهبتها وقدرتها على كشف المخفي. أخطأت مرتين في غضون شهر واحد، عندما كشفت لي ولعبود، وعبر خرزها الملون أن شمخي عامل الخدمة لدى ديار هو عنصر أمني يعمل في الدولة. كانت صدمة لنا لكون شمخي يعرف تماماً ما نعمله. لكن بعد مراقبته لأكثر من شهرين وجدنا أنه لا يتصل بأحد غيرنا. يعيش وحيداً في بيته، وعند حديثنا معه بطريقة غير مباشرة لم نصل إلى ما يؤيّد شكوكنا، فتابعنا رقم هاتفه الخلوي عبر الأشخاص الذين يعرفهم ديار في شركة الهاتف، ولم يكشفوا لنا عما يثير الشبهات!

الخطأ الثاني لشكرية كان حول قضية سياسية، أطلقته وفق نظريّة وجدتها غريبة، إذ قالت إن رئيس الوزراء سيستقيل هذا الشهر، فالرجل بما يبذله من جهد كبير لوقف الاقتتال الطائفي، لمس من المقربين منه عدم اكتراث بما يواجهه البلد من مخاطر، ولمَسَ أنهم يفكرون في مصالح أحزابهم وتدعيم مراكزهم الخاصة. قد أكدت أنه سيستقيل هذا الشهر كونه لا يستطيع العمل لوحده!

يبدو أن المجد لا يتحقق إلا على حساب الآخرين. فكل القيادات التاريخية التي لمع اسمها كانت ظالمة، سافكة للدم. تبني أمجادها على حروب إنسانية خاسرة. تنظر للتاريخ كغاية. هذا صحيح، ومؤكد، ولا ينطبق على حقيقة ما أنجزه مع ديار. فأنا لا اشعر بالمجد، ولا بالفخر، وكلما عرفت نهاية كل شهر الوجوه التي قذفنا بها إلى جهنم يغمرني الارتياح. ارتياح لأن الشر قد تقلّص. لا أطمح لشيء سوى تقليص عدد السيئين في شوارع العاصمة، وهذا ما يسعدني! لهذا لا أحتكر الحقيقة لنفسي، ولست من المنغلقين على فكرة. أية فكرة!

الشتاء يطلق أمراضه الموسمية. شراب البابونج تعدّه زوجتي لي وأنا متدثر ببطانية قديمة نقش عليها رسم نمر شرس، وتطلب مني باكية بألا أتركها، وكأنني سأموت فعلاً. ليس لي غيرك، تقول وتردّد عبارات أضفت على فضاء الحجرة كآبة وقلقاً أصفر. لن أموت بمرض، فأنا المحسود بأن التقدّم في العمر لا يمرّ على جسدي. لا سكّر، ولا ضغط، ولا جلطات دماغية وقلبية. سأموت فقط بذلك المرض الذي يجعل من شروق الشمس شواهد رخامية!

- عماد، لا تتعب نفسك. خذ إجازة مفتوحة. ديار سيتفهم الأمر.

- عزيزتي، البقاء في البيت هو المرض.

- أتمنى أن أموت قبلك. الرجل أقوى من المرأة.

مسكينة مديحة. تتصور أنني كاتب في شركة ديار للاستيراد والتصدير. هي لا تعرف شيئاً عن الحريق الذي أحمله في جسدي...

صوت الرصاص يقوى ويخفت كل حين، وهدير المجنزرات الأمريكية يشقّ سكون الليل. الأمان تجده في وسط العاصمة أكثر من الضواحي، التي تكون في هذه الأوقات مسرحاً لزيارات غير مرحّب فيها. مسلحون يمكن أن يطرقوا أي باب، ويفعلون ما يشاؤون بالعائلات. رجالاً ونساءً وأطفالاً. يمكن أن يقتلوا ويغتصبوا، أو يسرقوا محتويات بيتهم. وإذا كانوا لصوصاً فإن رب الأسرة سيفرح، لأنهم لصوص وليسوا سفّاحين. تلك هي تجارة الليل!

مات ليل العشاق في بغداد، وتحول شعراؤها إلى كتابة مدونات الرثاء. جدران كونكريتية عالية أغلقت المدن ورُصفت أمام واجهات الدكاكين، ورُسمت عليها بالأصباغ الزيتية لوحات تؤكد وحدة العراقيين ومناظر طبيعية خلابة، ورسمت أيضاً يافطات الدكاكين المندثرة خلفها، وتفنن أبناء البلد في الكتابات الساخرة، منها «حلاقة هاني أطفر وتلكاني»، أو «بائع اللفات خلف الصبات». بالتأكيد لا تخلو هذه الجدران من لافتات العزاء السوداء. بعضها لفاجعة الحسين ومصائب آل بيته، وبعضها الآخر لضحايا سقطوا بالمصادفة...

ندب مستمر، وعويل، وثارات يعلوها الغبار. بلد الحزن والأنبياء والأولياء، وبلد القتلة والسارقين والخونة، وبلد الحالمين والمغلوبين على أمرهم منذ قرون. لنا تاريخ حافل بالانتكاسات يمتد حتى عنق الخليقة، وكذلك فيه المسرات، والمفاخر في بغداد الرشيد. لكن حالنا اليوم يشير إلى كوننا ورثة شرعيين حقيقيين للمظالم السابقة...

أهذي، أهذي بصمت بلا مفردات تسمعها زوجتي النائمة، أو شكرية في الحجرة الأخرى. تيار الكهرباء غائب، والأنفلونزا حاضرة بمخاطها اللعين. سواد الحجرة يعني سواد عالم يزداد عتمة...

حين أضع رأسي على الوسادة، يستيقظ أبو حمدان، فأحاول الهرب من شبحه. يبدو من القوة بحيث يمنعني من تشتيت صورته. هناك صوت يأتيني من بعيد، يتهمني بالنذالة، والخسة. يردد: كان أبو حمدان يثق بك ثقة عمياء، وقد غدرت فيه. لن تنفع الكلمات التي ستبرر بها فعلتك». أتقلّب في فراشي، وأسدد بين فترة وأخرى ضوء مصباح قداحة السجائر إلى الساعة المعلّقة على الجدار. انقطاع الكهرباء لا يجبر بندول الساعة على التوقف. يتحرك، فأتحرك معه. ساعات الليل تندفع نحو الفجر، ومعها تندفع نبضات قلبي إلى الجمجمة. أتدثر بالغطاء، فأفكّر في جسد أبي حمدان هذه الأوقات. رطوبة التراب. عظام وكفن وبقايا لحم. ديدان تسحق ملامح إنسان. تقضي على آخر هيئة له.

ولا يزال المشهد حاضراً يوم ذهبت إلى حي المنصور لزيارة صديق، وشاهدت الجثث على الأرض. تذكرت البرنامج الشهير «صور من المعركة» الذي كان يعرض في التلفزيون المحلي في الثمانينات ويظهر القتلى الإيرانيين وأشلاءهم، حتى إني استعدت قصائد أديب ناصر، شاعر الموت، وهو يتحدث هذه المرة عن القتلة ومن يقف خلفهم. يقول وبنبرة خطابية: «هذه الأجساد الخيرة تسقط بسبب الحقد والجهل والتطرف. سفاكو دماء يجوبون شوارع عاصمة الرشيد. لكننا نهتف بالمجرمين ونقول لهم: إن النصر آت». المفارقة، أن وقت عرض البرنامج اليومي كان عند العشاء. فأي شهيّة قدمها لنا السابقون؟      

*        *        *

تجوّلت قبل أسابيع في سوق الهرج في الباب الشرقي، وشدني عالم البسطات. أقراص مدمجة لأفلام إباحية تجاور بسطة لأقراص تحوي محاضرات دينية ومشاهد نحر لعراقيين وأجانب، وأخرى لعملات نقدية نادرة، ونياشين لجنود وضباط في حربَيْ إيران والكويت. صيدلية على الرصيف أنشأها مراهق يبيع فيها حبوب الفياغرا الزرقاء، وحبوب هلوسة وأدوية للأوجاع وللأرق. أمام سينما غرناطة المقفلة رجل التفّ حوله الناس ليجربوا حظهم في لعبة اللكو. اختفى من السوق السلابة بسكاكينهم المخيفة لأن الأمريكان يشنون باستمرار غاراتهم عليهم، واعتقلوا الكثير منهم. الأمريكيون لم يعرفوا الرشوة، وهذا ليس لنبلهم بالتأكيد، فالقاذورات الأخرى أمام أعينهم، من بضائع مزوّرة وأدوية غير مجازة وأفلام إباحية وقمار. المفارقة أن غارات المتشدّدين بعيدة عن هذه السوق. سوق هرج ومرج!

كلما اقتربت مناسبة دينية يختبئ أهل العاصمة ويحاولون البقاء في منازلهم وعدم التجوّل. موظفون في إجازاتهم وأصحاب الدكاكين يتركون رزقهم إلى موعد آخر. كل ذلك لأن العاصمة ستطلق زفيراً من النار والقنابل المتفجّرة. انفجارات تهب الموت لكل مستطرق سيء الحظ. كما تهب الشجاعة والشهادة والعبث والجهل.. ولن تنتهي القائمة. كل طيف يقتني من هذه الأوصاف ما يريد فيلصقها بالآخر. تديّن المرء يفرض تصميماً لا يتزعزع. صلب كتلك العاطفة التي تجبر الإنسان على الخروج مشياً إلى كربلاء. لن يكون بعد المسافة ما بين عتبة البيت والضريح إلا مسافة إلى الجنة. مثل من يعبر الحدود ويأتي لتفجير جسده طامعاً بلقاء الرسول. التاريخ يحرك الشخصين. لكن الاختلاف كبير بينهما حين يتعلّق الأمر بدنياي، فالأول يمارس طقساً يخصه. لن يقتلني بمشيه حتى لو لفّ الكرة الأرضية، بينما الثاني، لا يدخل الجنة، إلا حين يحوّلني إلى جثة متفحمة...

اليأس والحزن مفردات فقدت معناها. ينبغي اختيار مفردة يكون زخمها بحجم الكون. مفردة يتداولها الناس البسطاء في ما بينهم. تماماً مثل مفردة الموت التي تغيرت منذ الثمانينات وصولاً للتسعينات، وحتى اليوم. لن نوصل للآخرين حقيقة موت يتناسل مع كل خطوة نخطوها. لن نفاجأ إن أشرقت الشمس من الغروب، أو خُسفت الأرض بمدينة.

الموت، وفناء الجسد، والجنة والنار، وتلك الصور التي يضخّها الدين في رؤوسنا كل يوم، تقابلها صور تضخّها السياسة وملامح أبطالها، والإنسان، يمضي في اللعبة من دون أن يعلم مصيره. يُغضب من؟ ويرضي من؟ يأتي إلى العالم بلذة لا يدرك أسرارها، ثم يكبر ويرضخ للعلامات التي يشاهدها أمامه. يكون طيباً أو نذلاً. ثم يغادر إلى غير رجعة، وهكذا، نقرأ سِيَر الموتى وهم ينفعلون بلحظاتهم. ينامون في الطرقات، أو بين خنادق الجبهات. أو يستلذون بمتعة في الخفاء. لقد أمسوا ذاكرة نستطلعها من خلال الأحاديث العابرة أو الكتب.

لماذا تضيق بغداد بناسها؟ تتغير ملامحها مع نهاية كل يوم. المباني تشيخ، والبيوت تنشطر إلى وحدات سكنية صغيرة. أرصفة مدمَّرة، وحدائق تختفي. أشجار تنتظر سفاحها يحمل منشاراً ليقطعها، فتسقط وهي باكية، بينما الأطفال الصغار يهللون.

ذاكرتي تحمل بغداد أخرى، فتية. شعرها أسود، وخدودها متوردة، وخضراء. بغداد النظيفة من درن أحزابها ومغامرات جنرالاتها الريفيين. أشعر بأنها ستنتهي بموتي، أو أنتهي بموتها، وكلانا أصابه الضعف.

 

الفصل السابع

بلال ينتظرني في مقهى حسن عجمي. اتصل هاتفياً مرّات وفي آخر مرة سأل بمرارة:«متى نجلس معاً لنستذكر ماضينا؟» كنت أنا أيضاً أحتاج إلى الجلوس معه. إنسان يكره السياسة ويحب الفلك وقراءة مجلة طبيبك. صبري القباني رئيس تحرير المجلة كان شخصيته المفضلة في الستينات. كان يقول لي في ذلك الوقت: «صدقني، الدكتور صبري عندي أحسن من كل السياسيين». كنت أنعته بالمراهق، وأؤكد له، أن الأسئلة الجنسية في نهاية المجلة هي السبب الأول والأخير في حبه للمجلّة وللدكتور. ينزعج وينعتني بالمتكبر والمتثاقف والسياسي الصغير.

تشعر بالأمان في الشوارع الرئيسة. لن تجد حواجز التفتيش الوهمية أو تتوقع عملية خطف تحدث، إلا إذا كنت مستهدَفاً بالاسم. الشبان مستهدفون على الدوام من طالبي الهويات وخبراء العشائر العراقية في أزقة ومدن الضواحي. تنزعج مجموعات القتل المتنقلة عندما تجد شاباً من عشيرة مختلطة. يسحبونه بقوة ويضعونه في صندوق السيارة الخلفي لينقل إلى الوكر، وهناك يبدأ التحقيق. وغالباً ما يكون المحقِّق شيخاً متديناً. صلّى فرضاً قبل أن يأتوا بالضحية أمامه. يسأله عن العشيرة ثم عن اسم شيخها، ويتم فحص هاتفه الخلوي بحثا ًعن أسماء تنتمي للطائفة الأخرى، وعندها يتصلون بتلك الأسماء مخترعين دراما صغيرة للإيقاع بالضحية...

يجب على الشاب السنّي أن يحفظ عن ظهر قلب أسماء آل بيت رسول الله بحسب ترتيب إمامتهم، وكذلك أماكن مراقدهم. الشاب الشيعي عليه أن يحفظ وعن ظهر قلب أسماء أصدقائه السنة وشيوخ عشائرهم، وأن يحفظ دعاء نهاية الأذان وأقوالاً لأبي حنيفة وابن حنبل... أعترف، أنني بحثت لساعات في شارع المتنبي بعد تفجير المرقَدَيْن في سامراء عن كتاب يحوي سير الأئمة الاثني عشر، وكنت بالفعل اقرأ مثل طالب مجتهد، أو فتى في الحوزة. لا بد أن أحفظ التواريخ والأماكن، وكل ما يجعلني شيعياً حقيقياً. أرددها قبل النوم، وعند ركوبي الحافلات، وفي جلسات الحديقة عصراً. شعرت بالسعادة لكوني نجحت في الاختبار مع نفسي.

القتل والتمثيل بالجثة يمكن أن تشاهده بأم عينك لو تعتاد على ذلك، كما تعتاد على تلك الحكايات في أحاديث الجيران والأصدقاء. لكنك إن دخلت بيتك فالحزن سيتلاشى بسرعة. مثلماً تحدّث والدي ذات مرة وهو مصدوم حين شاهد جثة الباشا نوري السعيد كتلة لحم مسحوقة بتراب الشارع ومحروقة. كان يتكلم متألما. لكنني لم أتألم لألمه، بل كنت فرحاً بموت أعداء الشعب وصعود الطيبين للسلطة! بعد عدة أيام ما عاد أبي يتحدث عن العائلة المالكة في قصر الرحاب وكيف سفكت دماؤها؟ أو عن الوصي وجثته المعلّقة وكيف اقتُطع عضوه التناسلي ووُضع بفمه؟ ترك حكاية المجزرة التي لم يشاهدها بأم عينه، وبقي يردد فقط حكاية نوري السعيد.

أحثّ الخطى إلى شارع الرشيد. معظم المطاعم مغلقة. القليل منها تفتح أبوابها، بينما الذعر في الوجوه. رجل مسنّ يقبع في دكان لا تتعدى واجهته المتر وعمقه متران يحاول إخفاء عيب بنطلون ممزق. دخلت المقهى وكان بلال يبتسم لي مرحباً. أخذنا طاولة بعيدة عن الرواد. ذكريات وحكايات تندفع في فضاء المقهى الرطب. هذا المقهى الذي شُيّد قبل ولادتنا يمكنه أن يساعدنا في التقاط أسماء الرفقة الشبابية. قال بلال:

- هل استفدت من ولعك بالسياسة؟

- اتركنا من السياسة وحدِّثني عن نفسك.

- لقد تزوج أولادي الثلاثة وهم يحلمون بالسفر وترك البلد.

- من جهتي أنا بقيت من دون أطفال.

- حقاً؟!

- أما زلت تقرأ مجلة طبيبك؟

أجابني مسروراً:

- نعم، ما زلت أشتريها من شارع المتنبي.

وأضاف:

- كما أواظب على قراءة كتب الفلك والتنجيم، وقد وصلت إلى أمور مدهشة مع الكتب الروحية. شمس المعارف الكبرى، وسحر الكهان للطوخي والأجزاء الثلاثة من سحر هاروت وماروت هي دليلي في الزمن العراقي!

- لم أفهم قصدك؟

والتفت من حوله ليتأكد من انشغال رواد المقهى عنا:

- استحضرت الجن قبل ثماني سنوات، وعندي جني يأتمر بأمري، ومنذ العام 2003 وحتى اليوم أطلب منه إخباري بالطريق الآمن الذي أسلكه.

أجبته مستغرباً:

- الغيب علمه عند الله!

- لا، هذا ليس غيباً. من يزرع عبوة في الطريق أو يترك سيارة مفخخة قرب سوق شعبية هو حدث جرى في الماضي، والجنّي يمكنه رؤيتهم بقوة ما يمتلكه.

- يا ليتك تنصح الحكومة بتطويع الجن في أجهزتها الأمنية بدلاً من البشر. أقلها لا يكلفون ميزانية الدولة شيئاً.

قال بلال مستاءً:

- لا تسخر مني يا عماد.

جاء عامل المقهى حاملاً استكان الشاي فأكمل بلال:

- ومن قال إن السياسيين لم يسخروها!

- هههه، لم أفكر بذلك.

- دائماً ترى الأشياء بوجه واحد. هناك عالم يجاور عالمنا، ويمكن أن نستعير منه ما يفيدنا.

واضاف

- عالم الجن فيه الخسّة والعمالة والانتهازية مثل عالمنا! إنهم يتصارعون في ما بينهم، ويمكن أن يخونوا الأهل مقابل مصالح شخصية، ولا يهمهم لو قتل الآلاف مقابل تحقيق أهدافهم.

رشف جرعة من الشاي، واستدرك:

- لكن أحياناً يفشل الجني بتحديد موقع العبوة والسيارة المفخخة، فمرّة كدت أقتل!

استهواني حديثه، وفكرت بشكرية، وقلت:

- لي قريبة مسنة تسكن بمنزلي لها معرفة بعالم الغيب، مثلك. لكن لا أعرف إذا كان  الجن يساعدها!

أجابني بلهفة:

- حقاً، أود رؤيتها.

- أشعر بأن عالمها كبير ومليء بالأسرار.

- لا بدّ أن  هذه العجوز لديها جنّي. هل سألتها؟

- لا، لم أكن أعرف أن الجن يؤدي مثل هذه الخدمات، وأن قدرتها العجيبة تأتي من قواها الخفية.

قال بلال ممتعضاً:

- يا صديقي، حياتنا فاقت التوقعات. السحر مشروع إن كان في مصلحة الناس، هذا ما أقتنع به. لقد شاهدت شيخ مسجد في حيّنا مقتولاً أبشع قتلة. كانت كفاه ملتصقتين بأذنيه كأنه يؤذّن.

- إنه عنف يفوق تصور البشر والجن معاً.

- كيف إذاً ننهي العنف؟

- نتخلص من الفاسدين والسفلة......

قاطعني بلال:

- كل مجتمع فيه فاسدون، أريد منك الطريقة أو الوسيلة.

- بالقتل!

- من يقتل السيئين؟

- الناس الشرفاء، الوطنيون.

- اتركنا من الأحلام. حدثني كيف يتم ذلك؟ هل الدولة تقوم بهذا العمل؟ الدولة نفسها فيها أشرار يقتلون...

كلّما واجهني شخص بشكوك حول وجود «الطيبين» الذين يواجهون «السيئين» عن طريق القتل أصبح قلقاً وأتساءل هل ما نفعله هو إجرام وخسة؟ لكننا لم نقتل أي إنسان طيب، سوى وعد، وقد حصل ذلك عن طريق الخطأ.

عاد بلال للحديث:

- الدولة فيها المجرم والسارق والمتعصب لطائفته، فيها الشريف والوطني. والصراع بين هؤلاء مستمر. ووسط هذا علينا نحن الناس العزّل أن نبذل مقاومة لكي نتمسك بالحياة. نستعمل كل وسيلة للبقاء. عالم الجن السري هو الكفيل وحده بإنهاء المأزق. أنا يا عماد أحمي عائلتي وعائلة أخي في هذا العالم المجنون والفاسد. وإذا أردت فأستطيع حمايتك، وأخبرك كل يوم عن الشوارع الخطرة في العاصمة حتى تكون على يقظة!! لكن عليك أن تؤمن بذلك.

بدت قسمات بلال جادة. مجموعات الجن تشارك أيضا في إحاطة الناس بالأمن، وربما هناك ميليشيات من  الجن  تعمل العكس، تشي بالأبرياء وهم يحثون الخطى إلى حتفهم غدراً...

خرجنا من المقهى ودخلنا إلى دكان حجّي زبالة، لنشرب عصير الزبيب الشهير. جدران الدكان تعجّ بصور الزعماء السياسيين القدماء. صحف ألصقت تعود للزمن الملكي. انتهت العقود الماضية من دون أن تسفر عن شيء.

أخذت بلال إلى بيتي في حي الفردوس. لا بد أن يرى شكرية ويتحدث معها. كانت آراء بلال تثير فيّ الفضول. لكن سنوات عمري الستين التي سالت في شوارع بغداد، تقول لي إن أقواله حماقات! ومع ذلك فكّرت في الحالة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان ليحمي نفسه ويحمي عائلته من هذا الجنون.

فتحت الباب الخارجي، كانت شكرية تجلس في الباحة الخارجية، وعندما تلاقت نظراتهما، ومن خلال قسمات وجهيهما التي تغيّرت، ظننت أنهما يعرفان بعضهما، إذ راحت شكرية تهمهم بصوت عالٍ، فيما راح بلال هو الآخر يصرخ، ويقول لي أخرجها من بيتك يا عماد. قسمات شكرية تبعثرت، ورشقت من فمها كلمات ورذاذاً متطايراً. بلال يصرخ وينعتها بالمجرمة والخبيثة. خرجت زوجتي مرعوبة، وعيناها تطلبان مني تفسير ما يجري. حقاً، كانت اللحظة أكبر من طاقة عقلي على معرفة الحدث العجيب. سقطت شكرية على الأرض وقد أُغمى عليها. بلال يسحبني إلى داخل البيت بقوة. تتبعنا زوجتي وهي تبكي. دفعت بلالاً واتجهت إلى شكرية لكي أوقظها من الصدمة وكان يردد لي: «اتركها، كاذبة، ملعونة». كان جسد شكرية بلا حراك، تتنفس ببطء. كتلة سوداء مرمية على الأرض المبلطة بالموزايك الأصفر. جارتنا أم يوسف كانت تتابع ما يجري من فوق الحائط، ولم تنبس بكلمة...

حملت شكرية إلى الداخل لتعتني بها زوجتي، وسحبت بلالاً من يده إلى الحجرة الأخرى لينوّرني بما يحدث، وسألته:

- هل تعرفها؟

قال بلال وملامحه غاضبة:

- لم أر خلقتها الشيطانية أبداً، لكن وجهها الشيطاني جعل الجنّي الذي يخصّني يحذّرني فاشتبك مع جنيّها وكاد يقتله فهرب وتركها فانهارت.

صور مشوشة تجتاح مخيلتي، بدت كل الأمور التي أفقهها في هذه الدنيا مجرد قصاصات، ورق متطايرة.

- بلال، رحمة لوالديك، لا أفهم؟.

-هذه الشيطانة تعمل ضدّك، وهناك أشخاص يستعملونها لغاية أجهلها حتى الآن!

 

الفصل الثامن

اليوم الذي انهارت فيه شكرية كان أغرب الأيام. كان يوماً جعلني أحسّ بالجنون المطبق. بغياب أي منطق يحكم الحياة التي نعيشها. بالنسبة للناس كل شيء ممكن. ما عاد العالم بمفاهيمه قادراً على تقديم أجوبة. اختلطت الوقائع بالأوهام. المعقول باللامعقول. ذهني تشتّت. حملت جسد شكرية الضئيل راكضاً في شارع السعدون لاستأجر سيارة لنقلها إلى مدينة الطب. كان بلال يرافقني ممتعضاً، ويطلق بين آونة وأخرى شتائم ضد شكرية، حتى أوقفته بعصبية طالباً منه السكوت أو المغادرة، لكنه اعتذر ورافقني. وصلنا المستشفى، وتوجهنا لردهة الطوارئ. كانت الصالة تعج بالمراجعين، ورأينا عناصر من الشرطة بعضهم يبكي والبعض الآخر يرفع يده بالدعاء. ربما زميل لهم في العناية المركزة. وجوه دبغتها شمس صيفنا الحارقة. نسوة باكيات يفترشن الأرض في الزوايا. حزن محلّي بعناوين مختلفة. نده عليّ بلال وطلب مني الذهاب إلى استعلامات الطوارئ لأنهم طلبوني. لا بد من تسجيل اسم المريضة في سجلات المستشفى.

وقفت عاجزاً عن تقديم معلومة تخص شكرية. فهي لا تمتلك هوية الأحوال المدنية. مما أثار موظف المستشفى الذي راح يرسم بذهنه سيناريوات عديدة. كيف أقول إنها من أقاربي من دون أن أعرف اسم أبيها؟ وقد زاد بلال الطين بلة حين أراد أن ينهي المشكلة وقال: «العجوز شحاذة وجدناها عند أرصفة باب المعظم فاقدة الوعي».

رفع الموظف سماعة الهاتف وطلب شخصاً من المستشفى. توقعنا دكتوراً أو ممرّضة من قسم الطوارئ، لكن المفاجأة أن عناصر الأمن أحاطونا واقتادونا إلى إحدى الحجرات. بدا بلال أشجع مني حين راح يتدافع معهم، وينذرهم بأنه سيحرّك وزارة الداخلية بأكملها ضد ما يفعلونه. أما أنا فكنت صامتاً، وحزيناً، وشعرت بدواخلي تتكسر. أنظر إلى شفاه عناصر الأمن وهي تقذف الاتهامات والتهديد. طالبة منا أن نقول الحقيقة!

بقينا نصف ساعة أو أكثر في الحجرة. أخذوا بطاقة الهوية والموبايل وحتى علبة السجائر. أدركنا أن المشكلة كبيرة وأننا في ورطة. راح القلق ينهشني من أن يكون عناصر الأمن مخترقون من قبل الميليشيات. بلال يؤنبني لأنني أسكنت الشيطان في بيتي قرابة ثلاثة أشهر. شكرية أم المصائب ومن يقف خلفها أيضاً. قال لي: أنت عالق بشبكة العنكبوت!

حدقت من النافذة الموصدة إلى نهر دجلة الذي يختفي ماؤه بسبب حزم القصب الكثيفة على جانبه الأيسر. بينما بيوت صدامية الكرخ تبرز في الضفة الأخرى واضحة للعيان. ذلك الحي الذي بني وفق طراز حديث من قبل حكومة البعث وسُمّي باسم القائد. يستكين الحي قرب النهر ومن خلفه تقع عمارات حيفا العالية التي سكنها رجال الأمن السابقون والميسورون واللاجئون السياسيون العرب.

قلت لبلال ساخراً بعدما استجمعت قواي من الصدمة وغرقت في نوع من اللامبالاة:

- ها بلال، أين جنيك؟

كان بلال جالساً على الكرسي يحتضن رأسه بكفيه. حدق فيّ طويلاً ثم أجاب:

- أتركني ولا تتكلم معي. إنني استحضره. سيأتي لنجدتنا.

- أتمنى ذلك، ولو نجح الأمر، سأكون من أتباعك وأتباعه.

دخل شرطيان مسلحان واقتاداني إلى حجرة ملاصقة للحجرة القديمة التي بقي فيها بلال. كان فيها سريران ودولاب ملابس ومنضدة قريبة من الباب استقرّ عليها بوتاغاز صغير  وإبريق شاي وكيس صغير من السكر. أغلق الباب وبقيت وحيداً ألملم حيرتي وجزعي من الدقائق القادمة. ربما سيبدأ التحقيق مع بلال وسيتلّفظ بكلام ضد شكرية دافعه الكره فأضيع بسبب نزوة غضب منه. ما الذي جعلني أسمح لبلال بالقدوم إلى بيتي؟ ولكن لماذا انهارت شكرية حين رأت بلالاً وهي لم تعرفه سابقاً؟ أية أسرار أجهلها؟ هل حصلت معركة بين الجنّ في منزلي؟ من هم الذي يسعون إلى إلحاق الضرر بي، على ما قال بلال، وأنا لا أملك شيئاً. لا مال ولا حتى بنون. لو تركوا الموبايل أو سمحوا لي الاتصال بديار. بالتأكيد سينهي المشكلة بسرعة. إنه أخطبوط، وعلاقاته بالضباط والسياسيين قوية. كما أن الدولار الذي يمتلكه يستطيع أن يُخرج السفاحين من الزنازين. وخطرت لي فكرة الادعاء بأن العجوز شكرية قريبة لديار وربما هذا سيتيح لي الاتصال به، فلا أمان مع عناصر الأمن. رصاصة في الرأس. كما مات أبو حمدان. وجثتي تُرمى في نهر دجلة القريب.

تمر الدقائق وأنا وحيد في الحجرة. أمراض شتى وآهات تستقر فوق الأسرّة البيض في هذه المستشفى الكبيرة، في بناية كانت تسمى «مدينة صدام الطبية»، وبعد سقوط الحكم، حذف الاسم من اليافطة الكبيرة المواجهة للشمس، فظهرت جملة «مدينة الطبية» وما بين المفردتين كانت مساحة شاغرة تتزاحم فيها أفراحنا وأحزاننا، وذكرياتنا الممتدة على جسد وطن بقي على الدوام مصاباً بالحمى...

ثمة صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود تتطاير في رأسي. كان في إحداها عماد بشاربيه الأسودين، وتسريحه شعره الخنافس، وبيده كأس بيرة مثلجة في بار غاردينيا الصيفي في شارع أبي نؤاس... ماذا يعني ذلك والشيب والغبار، والرصاص عناوين مستمرة لحياتي.

ديار يسكن رأسي منذ نصف ساعة. حتى فتح الباب بمفاجأة تبهر العاقل والمجنون معاً، حتى إنها ربما تربك جنّي بلال. ديار بجسده الضخم أمامي وصلعته. يحدق فيّ ولكن ليس بقسماته المعتادة الطيّبة، قال بعصبية:

- أخرج، هيا بسرعة.

خرجنا إلى صالة استقبال المستشفى، وأمرني ديار أن أجلس على كرسي لدقائق. كان مشغولاً، ومتوتراً. يرمي طرف السلسلة الذهبي ثم يلفها على إصبعه، ويدخّن، حتى ذهب إلى موظف الاستقبال الذي أوقعنا في المأزق. المرضى والمراجعون في الصالة يؤدون دور الكومبارس على أكمل وجه. امرأة عجوز تبدو ريفية، سمراء، تبكي وقد احتضنت بجلستها على الأرض طفلاً صغيراً ينظر مشدوها إلى المكان. أشخاص يدخلون ويخرجون، والألم يملأ مدينة صدام الطبية سابقاً.

أتى ديار صوبي وسألني عن بلال، ومتى عرفته؟ قلت له إنه صديق قديم وربما أنت تعرفه.

وحين سردت له أسماء أخوة بلال والمكان والزمان قبل عقود لم يتذكر. قال لي:

- سأخرجه، وسنذهب جميعاً إلى المكتب بعدها.

بعد دقائق أتى شرطي ممسكاً ببلال، ليسلمه إلى ديار قائلاً:

- نحن في الخدمة!

طيلة الطريق إلى شارع السعدون لم أتكلم مع ديار، وهو لم يتكلّم. بقي بلال يشتم الدولة والقدر السيئ الذي وضعنا فيه صدام. يثرثر حتى أوقفه ديار من دون خجل أو مراعاة لحالته:

- يكفي. احمد الله أنك لم تمت!

توسلت إلى بلال أن يهدأ، وحدثت دياراً عن شكرية وحالتها الآن، فرمى حجته عليّ كوني السبب في انتكاستها. أردت الردّ، لكنه طلب مني الصمت حتى نصل إلى المكتب وهناك سنتكلم في كل شيء

وصلنا إلى المكتب، كان عبود بانتظارنا، وشمخي عامل الخدمة أعدّ القهوة كأنه يعلم بقدومنا. بدت قسمات عبود متجهّمة، وطريقة ترحيبه تعكس ما يريد أن يقوله ديار لنا في هذا المكان. جلسنا على القنفات الجلدية، وترك ديار مؤخرته تستقر على منضدة صغيرة، ووجه كلامه لي.

- حدثنا عن بلال.

_ بلال يريد أن يفهم ما الذي يحدث؟ أجبت ثم أضفت:

- هو صديق، منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. هل من شيء؟

- صديقك يعمل مع جهة سيئة، متنفذة!

حين تكلم، سدد بصره إلى بلال، الذي انبرى بالردّ.

- يا جهة، يا متنفذة. أنا متقاعد، وعندي ولد في هولندا يرسل لي النقود لأعيش.

قال عبود:

- أردت قتل العجوز شكرية.

قاطعه بلال:

- لم أرد قتلها. جنّيها هرب مني!

حدق ديار بعبود، ثم قال:

- كيف عرفت؟

سكت بلال، ونظر صوبي، فحاولت أن أتدخل رغم جهلي بعالم الجن:

- أنتم في هذه الغرفة أصدقاء لي، وجميعنا في عمر واحد. أرجو أن تصدقوني. لم أصادق طيلة حياتي أشخاصاً سيئين حتى اليوم، لذا أود أن تتأكدوا أن بلالاً إنسان نقي، وله تجارب مع الجن، إنما همه أن يساعد نفسه وأقرباءه. يخبره الجنّي عن الطرقات المستهدفة، مثل شكرية التي أخبرتنا في بعض المرات عن المخفي.

قال ديار:

- عماد، ماذا تقول؟ هل تصدِّق هذه الخرافات؟

- أصدِّقها كما صدَّقنا شكرية!

فجأة سمعنا طرقاً عنيفاً على الباب، فانتابنا القلق. خرج شمخي راكضاً من المطبخ وفتح الباب. اندفعت إلينا فتاة شابة بعمر الثالثة عشرة تبكي، وتصرخ، وارتمت تحت قدمي ديار لتقبّل حذاءيه الأسودين اللامعين. تشكو من أهلها الذين سيقتلونها. بدا ديار مرتبكاً، ومنزعجاً. سحبها لتقف على قدميها، ثم طلب منها الذهاب إلى الغرفة الأخرى فمشت بانكسار. كانت ترتدي العباءة السوداء فوق دشداشة بنفسجية، ونعلي بلاستيك رخيصي الثمن.

لم يستطع ديار التكلم بعدها. ذهنه تشتت، وراح يكرّر عبارته «المصائب لا تأتي فرادى». عندها تكلم عبود أو ربما همهم ببضع مفردات لم أتبينها. أحسست بأنه أشبه بالتابع الذليل، ولا يمتلك شخصية قوية. حتى ديار انكسرت صورته عندي منذ بداية اليوم. بلال كان يحدِّق من دون أن يفهم شيئاً.

كانت قطة ديار تمشي بهدوء فوق السجادة. تقف لحظات تحدِّق بنا، ثم تكمل مسيرها، لتجلس أسفل منضدة المكتب، ولسانها لا يكفّ عن لعق فروتها.

قال ديار موجّهاً كلامه لي:

- أوصل صديقك للشارع ليذهب، وعد إلينا يا عماد.

نزلنا، وفي المصعد حدثني بلال عن الطفلة الشابة فأكدت له أني لا أعرفها، كما سألني: كيف عرف ديار أنني سببت لشكرية انهياراً في بيتك؟ لم أجبه. فمن المؤكد أن هناك جواسيس لديار قرب بيتي، وهم من أبلغوه بما حدث. قبَّلني، ودمعت عيناه، وقال لي:

- لست الإنسان الذي يسبب مشاكل لصديقه. الله وحده يعلم كم شعرت بالسعادة حين التقينا بالمصادفة، حتى زوجتي سعيدة لأن زوجها وجد رفيقاً قديماً، فأنا قلّما أخرج من المنزل...

ركب بلال في باص الكيا، ورجعت إلى لمكتب. كان الغروب قد ارتمى فوق عمارات شارع السعدون، وبدت الأضواء تشاهد هنا وهناك، والألواح الفوسفورية تلمع بيد رجال المرور. زوجتي حتماً قلقة، لكني سأطمئنها باتصال هاتفي!

 

الفصل التاسع

حين ارتمت الطفلة الشابة باكية تحت قدمي ديار، تذكرت هناء المراهقة في منتصف الستينات، وكيف اغتصبها ديار الطائش رغم أنها ابنة جاره، وبنت محلته. ذلك المراهق لم يمت، ولم يمتلك الإرادة كما أكد سابقاً، ليتحول إلى شاذ جنسي وقد اجتاز الستين...

رجعت إلى الشقة. كان عبود وحده في الصالة. يحدق من النافذة إلى شارع السعدون، والأرصفة التي أخذت تقفر. جلست من دون أن أتحدث معه. ثمة نفور يزداد في داخلي تجاه هذا الإنسان الذي تلطّخ بالشائعات القديمة، وما زالت تطارده حتى الآن. فلا أؤمن أن هذا الرجل جاء إلى البلاد لكي يشاركنا الفكرة النزيهة. حتى الفكرة التي سعينا لها بدت الآن غريبة وموحشة، وربما السواد الكثيف بين المدن وناسها هو ما جمّل لي فكرة ديار. قال إن الكثير في المنافي يدعمون فكرته، ويمدونه بالمال، لكن من هم هؤلاء؟ هل سلوك ديار ومواقفه الأخيرة ما جعلني أطرح مثل هذه الأسئلة؟

ودَّعنا شمخي عامل الخدمة بعد انتهاء عمله وذهب إلى بيته، وجاء ديار ليجلس قربي على القنفة. طلب من عبود أن يجلب كرسياً والجلوس قبالتنا. أمر خطير سيحدث، أو فكرة مجنونة أخرى ستنطلق!

- أود الصراحة منك، هل أخبرت صديقك بلال بما نفعله؟

- لا.

- جيد.

ما قاله ديار، كان أشبه بالقيء، ألقاه على وجهي وملابسي. مفردات قذرة لم أتوقعها. الملاك تغوَّط في مكتبه! فانبعثت رائحة الخراء في دروب العاصمة. الناس أصابهم الدوار والقرف. لم أصدم وحدي، بل كل إنسان بائس ارتعب مما قاله ديار. الطيب ظهر عفريتاً يتحكّم في الأزقة وبشرها. لا يساعد الناس ولا يملك مصباح علاء الدين. هذا العفريت يعشق الدولار، ولا ينفِّذ طلبات الفقراء الذين يفركون المصباح!

«الآن سأخبرك، أن عملنا طيلة الفترة الماضية كان دافعه المال وأشياء أخرى!» هكذا بدأ حديثه.

ما قاله يمكن أن يكون حواراً في إحدى الروايات  البوليسيّة التي تعنى بالجاسوسية، وليس بالحقيقة. لكن منظر عبود وخدوده المترهِّلة، وشحم عنقه المتدلي، وأسنانه الصناعية تؤكد هذا القول. كنت أحدِّق بوجه ديار، وبشامته التي تناثر سوادها في الغرفة ملطخاً الستائر البرتقالية، وأرضية الكاربد.

عندما توقف عن الكلام أجبته، وحمى تتصاعد في جسدي:

- ماذا ستأخذ من دنياك؟ المال؟

أمسك ديار كفي وقال:

- يجب أن تفهم. هكذا هي الحياة!

- نعم، إنها الحياة قذرة.

سحبت كفي، ورحت أحدق بعينَي ديار.

_ وما هي الأشياء الأخرى!

لم يجبني ديار، وإنما راح يبرر موقفه:

- السنوات علمتنا في الغربة أن نلتقط الفرصة، كما التقطها القادمون الجدد للبلد. والتقطها سابقاً صدام حسين. علينا أن نترك ما تقوله الكتب والأديان. مثلاً يمكنك يا صديقي الطيب أن تبرز إلى الواجهة، وتُنتخب فتكون تحت يديك سلطة تحقق منها ما تريد. تحقق العدالة التي تنشدها وتحلم فيها. الصعود إلى كرسي العدالة يحتاج إلى إغماض عينيك وذهنك قليلاً. في الطريق عثرات ولا بد من تحطيمها.

كانت مشاعر الصدمة والغضب تطلق حرارة تدبّ في رأسي قلت:

- هذه نذالة، وخسة، وخيانة، ولؤم، و.......

قاطعني ديار وأكمل كلامي:

- وابتذال، وسفالة، ونكوص، وعهر، وأستطيع أن أعدد مثل هذه المفردات حتى الفجر! صورة الوطن التي تحملها في ذهنك ماتت. صورة الستينات وما بعدها. الأجيال العراقية التي وُلدت في زمن القمع والحروب والحصار كوَّنوا صورة أخرى للبلد، وعلينا نحن الكبار أن نعيها، وندركها في كل خطوة أو مشروع ننفذه!

- أنت خائن، وما تقوله قذارة!

مرّت لحظات من الصمت، ثم قلت:

-  الإنسان اليساري لا ينجرف إلى هذه الوساخة.

- لست يسارياً. كانت مرحلة مراهقة وانتهت، كما أنك أنت الآن لست يساريا!!

وأضاف:

- على الأقل الطريق واضحة أمامنا، لكنك تتخبط...

- أتخبط!!

أردت الخروج من المكان، لكن دياراً منعني من الخروج وصمّم على تقبيلي، وأخذته شهقة بكاء كاذبة مردداً:

- أنت أخي، إجلس. أنا لا أريد أن أخفي عليك حقيقتي.

تكلم عبود، والرذاذ يتطاير مع كلماته:

- نحن زملاء قدماء.

صرخت بعبود وأنا أسعى للنهوض والخلاص من كماشة ديار:

- أنت منحطّ. تتحدث عن زملائك القدماء ماذا فعلت بهم؟

أنفجر عبود بوجهي:

- وأنت حقير وساذج!

هدّأ ديار الجلسة بصراخه على عبود التابع الذليل، وكلّمني بنبرة منخفضة:

- منذ قدومي إلى البلد اخترتك لأنك صديق أثق فيه، وصدّقني إن غايتنا واحدة!

- عن أي غاية تتحدّث؟

- أن نفعل شيئاً لهذا البلد. كل واحد منا له تفكيره وطريقته في الوصول إلى الهدف!

- بربك ماذا تخرِّف؟

سدد عبود أسلحته:

- أنت متورط يا سيد عماد. يمكننا الآن أن نخبر حمدان بأنك ساهمت بقتل والده.

أشياء تتكسر. صور تتمزق، والهواء لم يعد نقياً في الغرفة.

- أوصَلَت الأمور إلى هذه الدرجة؟

سكت ديار عن عمد. إنه ثعلب. ترك عبود ابن القحبة يتكلم:

- لم نهددك، لكننا نود اطلاعك على ما آمنت به معنا.

كان سكوتي أشبه بالخرس. الغروب في بغداد يعني بداية المخاطر، والسواد يتكاثف في الخارج. قوات الأمن تتأهب، والأمريكيون كذلك. الملثّمون من كل طائفة ومذهب يدعون الرب أن ينصرهم. العاصمة تختنق. بأي شيء تختنق؟ لم تعد المفردات تعبر عن الاختناق. الدم. الرصاص. الحقد. الولاء. الطائفية. حزن التاريخ، والقائمة تطول حتى تصل إلى السماء.

أكمل عبود:

- لن يستوعب حمدان الأمر. هذا مؤكد، لأن العراقيين تسحرهم الأفكار، وحمدان واحد من الأجيال الجديدة التي ستحكم العراق. سيقتلك حتماً، فأبوه طيب، وليس كما تظن أنت!

وأكمل:

- حمدان كان معنا ليثأر، وأخوه يقتل الناس ونحن نعلم بذلك يا صديقي، وهذا سر أنت تعرفه ولم تخبرنا. لكن لا يهم. ما دام غسان وجماعته أصدقاء لنا، كما الشيخ مؤيد وجماعته أيضاً.

- ماذا؟

- هذه هي الحقيقة، وأخبرناك بكل شيء لأنك معنا، ومشارك في كل خطوة خطوناها.

أخذت الظلمة تتكاثف خارج النافذة، فنهضت للخروج والذهاب لبيتي. هنا، قال ديار وقد عدل جلسته:

- ستنام معنا الليلة، اتصل بزوجتك لتنام عند أم يوسف إذا كانت تخاف النوم بمفردها!!

- لا يمكن. سأذهب!

صرخ الداعر عبود بصوتٍ آمر :

- ستبقى معنا الليلة.

نظر ديار إليه نظرة غضب ثم قال بصوت قاطع:

- أصمت يا عبود، عماد سيبقى.

توقف الغروب خارج النافذة. اليوم لا يقبل أن ينتهي. دهر طويل مضى منذ لقائي ببلال في المقهى.

- أُم يوسف عينك التي لا تنام!

- أجل، كنت أخاف عليك من الاغتيال.

- تخاف عليّ أم تراقبني؟.

- أنت تظلمني. طيب أجعلها تنام في أي بيت تريده.

- كلا سأذهب.

فاجأني ديار:

- قلت لن تذهب يا رفيق. الليلة سنزيل غضبك بمفاجأة!

جلست بعيداً عنهما. لا أعلم لماذا حملتني الذاكرة إلى أبعد نقطة من طفولتي. وأنا أتوسل أبي أن يأخذني معه إلى ملهى في الميدان. أواخر الأربعينات. كنت متلهفاً لمشاهدة جعفر لقلق زاده وفاصلته المضحكة أمام السكارى. يبتسم أبي ومعه أمي من إصراري، ويقول أبي:

- وهل ستشرب العرق المستكي أيضاً؟ وتبقى للرابعة صباحا من دون أن تنعس؟

حدثنا أبي كثيراً عن نكات جعفر لقلق زاده. طبعاً نكاته اللائقة فقط، أما الإباحية فأنه يسرّ بها إلى أمي، فينفجران معاً بالضحك. كنت أتمنى أن أكبر بسرعة لأعرف الأسرار والحكايات التي تخصّ الكبار. العالم كان مقفلاً على طفل صغير مثلي.

سألتهما:

- ما الغاية من أفعالكما!

قال عبود:

- أن يبقى الشارع غير مستقر!

- كل هذا من أجل المال؟

- لنا مصالح كبرى لا تخطر على عقلك الصغير، المحتشد بالحروف!

تحدث ديار، وهو يقترب مني:

- رغم ما جئنا من أجله، فهذا لا يعني أننا لم نُزِل السيئين من الشوارع!

وأكمل عبود: القاتل يقتل القاتل. هكذا حتى يزولوا من عاصمتك، أليس هذا ما تريده؟

وأضاف:

- أخبرناك لأننا نريد أن نجعلك اسماً كبيراً، وكذلك لمساعدتنا أكثر، فأنت لم تغادر البلد!

توسَّل ديار أن أتصل بزوجتي لأخبرها بأنني سأنام خارج البيت. اتصلت، واستحلفتني إن كنت قد وقعت بمصيبة. قلت: «لا مصيبة، أنا مع أصدقاء العمر».

ارتاح ديار، وسحبني من يدي، وتوجّهنا نحو النافذة لننظر إلى شارع السعدون الذي اختفت منه السيارات. تظهر سيارة شرطة فجأة، أو رتل همفي، أو موكب حكومي...

يا الله، كان الشارع لا ينام. يكره الصمت. سينمات، وبارات، وخطى، وحكايات، وبشر يمضون. صمت بارد يجعل جسدي يبكي. كل عضو فيّ يبكي. كل قطرة دم تبكي، أمام تلك السنوات الهاربة. قال ديار:

- كنا نعبد الحزب الشيوعي. أنا أسالك: كيف تصفه الآن؟

بقيت صامتاً، فأكمل:

- عاشقوه مساكين ومحكومون بتاريخه، لا يستطيعون الفكاك منه. مثل أغنية قديمة، أو فيلم بالأبيض والأسود، لو أدخلتها في سباق الأغاني مع أغان حديثة في إحدى الفضائيات، فإنها لن تفوز حتى لو كانت من الروائع. السبب أن الجمهور، وهؤلاء الشباب، وحتى بعض الكبار، لن يصوّتوا. الحزب مات. ينبغي وضعه في المتحف وفي الذاكرة. مثل حزب البعث. والدور القادم على الأحزاب الإسلامية، وهكذا. الغبي من يبقى على الثوابت!

أتى عبود صوبنا، واعتذر مني. وقال:

- سترى مفاجأتنا أيها الصديق العتيق!

حدّقت فيهما، ثم ركّزت بصري على قطة ديار النائمة. دخل عبود إلى الغرفة الداخلية، وبعد لحظات خرج ومعه الفتاة الصغيرة، وصرخ بانتشاء.

- إليكم نجمة الليلة، اللوليتا ميادة.

اختفت العباءة السوداء، والنعلان البلاستيك. وظهرت الفتاة بملابس ضيقة، وأصباغ تلطّخ وجهها الطفولي. سيقان نحيلة يملأها الزغب الأصفر. روح الافتراس الوحشي كانت تحوِّم في المكان. كنا الثلاثة نعود لزمن عتيق. زمن عج بالانفعالات، والأوهام.

هذا اليوم مسكون بالغرابة. لم أعد قادراً على الكلام. لكن ضربات قلبي تزداد، وخدر يزحف في جسدي. هويت على القنفة الجلدية، وفي منتصف السقف كانت الثريا تتألق بشدة، بينما حصان لوحة القماش على الجدار ينظر إلينا.

 

الفصل العاشر

سحبت جسدي من المكتب فجراً ونزلت إلى شارع السعدون. السيارات قليلة. ربما تمر سيارة محملة بالمتفجرات لتذهب إلى غايتها. الرصيف لا يكف عن استقبال السابلة. عمال بناء يحثّون الخطى، وماسح أحذية يحمل صندوقه الخشب على كتفه بحزام عسكري، ورجل سوداني يذهب باتجاه محلة البتاوين.

طوال ليلة البارحة فكرت بالخلاص، والابتعاد بأقل الخسائر. الطفلة ميادة، أو المراهقة بجسدها النحيل وابتسامتها، أضافت إلى اللعنات التي ألعنها لنفسي لعنة أخرى. أي اندحار يواجهنا؟ تضحك ميادة في ساعات الصباح الأولى، بعد ليلة كنت أسمع تأوهاتها وصراخها...

سألتني:

- أأنا جميلة؟

- أنت مسكينة!

- صحيح عمو، مسكينة.

نمت ليلة أمس في  المطبخ، ولم تنفع توسلات ديار وعبود في دعوتي إلى اللذة. كان اغتصاباً حقيقياً. رفضت الخروج من غرفة المطبخ، ونمت على فراش شمخي الذي يستخدمه وقت خلو الشقة للقيلولة. اضطجعت، بين أواني الفافون، وأقداح الزجاج والملاعق، وعلب الشاي والسكر، والقهوة والكاكاو. بينما أسمع تعليقات ديار وعبود تصلني من الصالة وتدعوني إلى إنهاء فترة التعفف.

- الراهب عماد!

- الأبيض حد اللعنة!

- نبي الألفية.

ثم أتت ميادة إلى المطبخ، وهي تمد يدها لي. كانت ترتدي تنورة سوداء قصيرة، وقميصاً أبيض مورّداً ومعقوداً من طرفيه، بينما عقفت جديلتيها الطويلتين بشريط وردي. شفتاها ملطختان بالأحمر وعيناها يظللهما الكحل... فتاة صغيرة لا تجيد دور العهر. كأنها إحدى فنانات السينما. الغانية اللعوب. أو عناوين من نوع تلك التي غزت ملصقاتها واجهات السينمات في الستينات. أية ليلة للمتعة، والنهار قد حمل كل هذه المفاجآت؟ لقد تمزقت صورة قديمة. مات الماضي. أو قتل. أو انهار ذلك الجبل الشاهق من المفردات والأفكار، والأماني.

ميادة يطوقها حزن أبدي. يستقر داخل سنوات أبيها وجدها، والعشيرة، والبلد. جسد نحيل وضئيل انتهكته كروش متدلية ومشعرة. ميادة كانت نطفة في التسعينات، لم تكن قد وُلدت بعد. ثم دفقت وتكورت وقُذفت إلى البلاد. كبرت ولم تشعر باللاجدوى أو المعنى الحقيقي لعيشنا في هذه اللعبة الكبيرة. حتما لم تفكر بالموت، أو بالزوال الذي يجعل من أنبل الأفكار والأفعال مجرد ذكرى. كما أنها لم تستطع أن تختار ما تريده، بل انجرفت مع السيل الذي دفعها حتى وصلت إلى ديار.

الشمس توشك على تخليص نفسها من الأفق، والناس مستمرون بالحركة. الدسائس المخصصة لهذا اليوم تستيقظ، وتنهض صوب الأحياء. عبود. ديار. شكرية. حمدان. غسان. بلال. سلمى. مديحة. شمخي. أبو حمدان. أم يوسف. ميادة. هناء. سلمان. أبو نوار. عباس. الشيخ مؤيد. أبو رعد. ددو. السيدية. البياع. بغداد. الدولة. العراق. الأمريكيون. العقول المقفلة... الجن.. أهذي وأنا أسير إلى الأمام!

وصلت إلى مفترق طرق. الابتعاد عن الرفاق القدامى. أو البقاء معهم. أحصي الخسائر من وراء كل قرار. يا لها من انتكاسة! فالخسائر تلوّنت ولم أعد أبصر ما يضرّني شخصياً وما يضر إنسانيتي. فكرت بزوجتي. مصيرها. تاريخي الذي ضخّمته كثيراً وعشت بداخله. بالأحرى ليس هو بتاريخ، وإنما عمر يجمّله الماضي. أي أحزاب أو أي إيمان بمعتقدات تنهار مع أول ضربة. لكن ما حدث ويحدث لنا يجعل أي إنسان يفكر في أيامه الحاليّة، في ذلك العنف المنفلت، وهل وصلت إلى الحد الأقصى؟ كل ما كان يساند صدام خسر في النهاية، ومن كان يكرهه ذاق مرارة نظامه. هكذا انتهى الأمر. العقل تافه إذاً. لا حقائق تتمسّك بها. التاريخ غبي،ولا يهم إن قال عن صدام إنه طاغية. الفاعل في الشارع هو من يمسك المقود ويحدد من سيعيش ومن سيُقتل. القصائد الجاهلة تتحول إلى رصاصات في شوارع العاصمة. كتلة غبية عمياء تتدحرج في الأحياء والمدن. علينا أن نهرب منها. نختبئ. يسكت العالِم أمام شخص أميّ يقرأ القرآن وهو خاشع من دون أن يفهم معنى ما يقرأ. سبب جهله، وخشوعه، تتم تعبئته حتى يمكن وصفه بالقاتل، والإرهابي، وبأنه ضد كل ما هو جميل في الحياة. في بلادنا، الكثير ممن يبكون خشوعاً لله يذبحوننا...

البشر يتكاثرون في الشوارع، فالشمس صعدت في الأفق. غيوم متفرقة وريح باردة، ودكاكين تفتح أبوابها. على رغم الخوف من لهيب الانفجارات اليومية. من يبقى في بيته ليبقى في مأمن يموت جوعاً، ومن يخرج  معرَّض للزوال. الدقائق تمضي في جريانها، وخطواتي تستمر آلية إلى ساحة الفردوس حيث زوجتي، الموجودة في البيت التراثي الذي استأجره لنا ديار. أعود لعالمي بسبب أصوات رصاص أو أبواق السيارات العسكرية ذات النبرة الخاصة، وأنظر لمخزن بيع الخمور الذي تهشم قبل يومين من قنبلة زُرعت فيه ليلا. ثم سرعان ما أعود إلى الماضي. إنه مرض يلتصق بي. يجعلني مسحوراً بالشخصيات والأحداث التي اندثرت، حتى وصلت الأمور إلى حدّ أنني كم تمنيت لو عشت في عصور غابرة. هكذا. أمنية بلهاء. أو ربما عشق لتلك السطور التي قرأتها وبثّت في داخلي الاندفاع على أمل أن تتحول إلى حقيقة. ألتقي بمدحت باشا وحاشيته، وبعبد المحسن السعدون قبيل انتحاره، وأسأله عما يشغل باله، وعن الهموم الحقيقية التي دعته إلى إطلاق رصاصة في رأسه... إنها تواريخ وأحداث. حصار الكوت ومجاعة أهل الموصل. نواح أهالي بغداد حين وصلهم خبر أبنائهم المجنّدين في الجيش العثماني وقد ماتوا في صقيع القوقاز. ثورة العشرين. الأحداث لا تنتهي، وفي بعض المرات أسأل عماداً الذي يعيش في الماضي: أليست هذه عواطف وافتعالات محضة؟ والحقيقة قد تكون شيئاً آخر. ألا يحتمل أنك لو عشت في تلك العصور الغابرة لكنت تريد أن تعيش في عصور ما قبلها؟ أفكّر ما كل هذا؟ متى يصبح المستقبل، وليس الماضي، هو ما يشدّ شباب مجتمعاتنا لبناء حياة أفضل؟ أي مجتمع هذا؟ الشيوعي يريد العودة إلى الستينات والقومي يريد العودة إلى الخمسينات والإسلامي يريد العودة إلى عصر الرسول، من الذي ينتج كل هذا العنف الأعمى إذاً؟

شاهدت زوجتي باكية حالما دخلت البيت. جالسة على كرسي في الباحة التي تواجه طارمة ضيقة. انتفضت عندما رأتني، فوضعت سبابتي على فمي لأمنعها من الصراخ أو إحداث جلبة تلفت انتباه أم يوسف. عين ديار. سحبتها إلى الداخل وأخبرتها بما اتخذته من قرار. ترك البيت والابتعاد عن أصدقائي. قالت لي:

- لماذا نمت خارج البيت؟

- سأخبرك لاحقاً!

اتصلت ببلال. هو الوحيد الذي فكرت أن ألجأ إليه. فلا يمكن أن أذهب إلى أخوتي في المحافظات. لا كركوك ولا الشرقاط ولا الفلوجة ملجأي الأخير. العاصمة لن أتركها، وليس ذلك للدفاع عنها، فأنا لا أملك أي سلاح الآن. لكني لا أستطيع العيش خارجها. تكلمت مع بلال وكان متلهفاً لسماع صوتي، فليلة أمس حاول مراراً الاتصال ولكني كنت أقفل الهاتف خوفاً من تطور الأمور مع ديار وعبود. قال:

- أنت في ورطة وعلينا أن نلتقي.

فاجأني قوله. تذكرت جنيّته وسكتُّ. أخبرته بأنني أود الاختباء ورجوته أن يساعدني. قال:

- بيتي بيتك، أترك منزلك وتعال فوراً!

هكذا، خرجنا بسيارة أجرة إلى حي الشرطة الخامسة جنوب العاصمة. لا أحد يذهب إلى الضواحي المخيفة. أحياء فقيرة تصدّر الموت بالجملة.

كنت أعلم خطورة الذهاب إلى تلك الأحياء، ولكن بلالاً أكد لي أنه سيقف قرب محطة لتصريف المياه الثقيلة. المجموعات الملتحية تنقِّب عن العشائر العراقية في بطاقات الهوية. لا تهمهم الصورة. ملامح قسمات ذلك الإنسان السيئ الحظ تُداس تحت الأقدام. الويل لمن ينتمي لعشيرة الزوبعي، والويل لمن ينتمي لعشيرة السواعد! لا مجال للتهرب باختلاق الحكايات، لأن كلتا العشيرتين تعودان 100 % للطائفة في هوية الأحوال المدنية!

القدر جعل نسبة ضئيلة من عشيرتي تسكن الجنوب، وهذا هو المنفذ الضيق للبقاء حيَّا. ذلك ما قاله لي بلال وزودني باسم رئيس العشيرة  الجنوبيّ عند حدوث الكارثة. زوجتي تبكي بصمت. بلا دموع. طيلة الطريق. بينما أتحدث مع السائق عن الخراب في العاصمة والبلد.

 علّق السائق:

- صدام أرحم. كان ظالماً وحيداً ونتجنّبه، الآن لا يمكن تجنب مئات القتلة واللصوص في الشوارع!

قلت بحذر:

- كلامك صحيح!

سيارة شحن الأثاث قديمة. متهالكة. تطلق دخاناً أزرق اللون. الزحام يبدأ من المسرح الوطني ولن ينتهي إلا بصعودنا جسر الجادرية. قال:

- الأمريكان تركوا الحبل على غاربه. يتفرجون على أولاد الخايبة وكيف يقاتل بعضهم بعضاً. تفو على الزمن.

- جيراننا يتصارعون في ما بينهم أيضاً. وعندنا ضيوف ثقلاء!

ابتسم السائق لمزحتي. دواخلي تحترق منذ أمس. فجأة تهشّم حلم أو طموح أو أمل. ما عدت أعلم حقيقة ما كنا نفعله. أو ما فعلته أنا بمساهمتي بقتل أبي حمدان السيئ. سأذهب إلى بيت بلال لاختبأ كالجرذ. مستعيداً ذلك الخوف القديم حين كنا نتوارى في البساتين من ملاحقة عناصر الأمن في نهاية الستينات. كنت أتساءل وقتها: هل يستحق الأمر فعلاً أن نراهن على الروح؟ من أجل من؟ القضية، لكن كيف نضمن أن ربح القضية والانتصار سيفضيان إلى الراحة؟ تلك التساؤلات منعتني من المغامرة في أعمال كبيرة ضد السلطة. فقط كنت مستمعاً ومجادلاً. أود أن تبقى الأمور نظرية لأنني مقتنع بأن هناك من يملك عقلاً يفكر، وآخر يدوس الناس بقسوة بسبب الجهل والعمى.

كيف سأقضي الأيام القادمة؟ رجل متقاعد يعني رجل «مت قاعداً»، فأول أيام إحالتي إلى المعاش شعرت بفراغ كبير، ووحدة تزرع خلايا موت بطيء في الجسد. بعدها وجدت الملاذ بالتوجه للمسجد، يومياً. صلوات خمس. أربع منها أؤديها مع الحشود. خلف الإمام الذي لا يتكلم بالسياسة إطلاقاً، ولا حتى المجتمع الذي ينهار بالجوع في حصار التسعينات الأمريكي. الخرس أصاب المؤمنين وقتها. كل قارئي القرآن، وكل الصائمين في رمضان، وكل الحجاج، والناطقين بالشهادتين. لا أحد يتكلم مثلاً عن البذخ في عيد ميلاد الرئيس يوم 28 نيسان من كل عام، بينما أجهزة الأمن تطارد أصحاب معامل الحلويات لأنهم يضرّون بالاقتصاد الوطني باستعمالهم السكر. الحلاوة فقط لكعكة الرئيس، وليأكل الناس التمر، ففيه من الفوائد الكثير كما تروّج  برامج التلفزيون الحكومية...

انسقت للمساجد في التسعينات ليس طمعاً بدخول الجنة، وترك الحياة الفانية. بل انقلبت لكي أجد السكينة والاطمئنان، وأعطل الذهن في طقوس يومية، وحكايات جديدة. التاريخ يعود ثانية بحلّة مقدسة. لكنه هذه المرة بعاطفة ضخمة لا يتقبلها كياني دفعة واحدة. الغرابة أنني لمست صورة تتشابه كثيراً مع صور سابقة، فالشعار والهدف والنظرة للمستقبل واحدة لا تختلف. الخطيب يشبه الرفيق تماماً. كلاهما يقدم الأدلّة على صدق ما يدّعيه. بينما النوازع البشرية الدفينة غير معنية بما يُقال ولا بما يُكتب!

لم يعد للعقل معنى. القيم العقليّة تنهار. انهارت بالحصار وليس في قاعة الخلد. أحرقت كتاب «في سبيل البعث» وكتب الياس فرح والعيسمي وصلاح الدين البيطار والرزّاز. آمنت بأن مقولة الاختلاف، أو الانحراف، في التطبيق كذبة. لا تخص البعثيين فقط وإنما كل نظرية اختلقها أناس استمنوا في لحظات ذهنية على مر التاريخ. التنظير لم يقتل إنساناً، فهو جنة على الورق، لكن حين تختلط الأفكار بنوازعنا وخاصة إذا التصقت بعقل جاهل أو إنسان ذاق مرارة الجوع والفقر فإنها تتحول إلى بلاهة. جزّ رقبة كل من يخالف. يعني أنني كنت مخطئاً طيلة الحرب الثمانينية، وربما الريح الطائفية أو الوطنية هي التي سحبتني مع القطيع الحاكم، فلا يمكن أن أتصور الإيرانيين وهم يدخلون بيوتنا. تاريخ مضى وأجيال كبرت، وأخرى جاءت مع الخبز الأسود في التسعينات، وأخرى تتفتح الآن بين الرصاص والانفجارات!

بعد صلاة العشاء كنت أعمِّر الطاولة بالعرق الرخيص وكؤوس وصحون المازة، وأضع شريط يوسف عمر في جهاز التسجيل لأحلّق في عالم ثان، عالم خاص بي، سرّي للغاية. الله وحده يعلم ويعرف ما يدور في ذهني من تساؤلات. مديحة لا تصلّي ولكنها متعجّبة مما أقوم به: « الصلاة أو الشرب. حدد موقفك يا عماد».

كان علي الانتهاء قبل ثلاث ساعات أو أكثر من صلاة الفجر، إنها صلاة أشعر بأنها قريبة مني. السجادة الملوّنة وأداء فريضة ربما تفضي إلى حقيقة أجهلها. اطمئنان يلفّني حين أتلو الآيات وأردد الأدعية مع نفسي. لا بأس أن نؤمن بخشوع ونسكر بانتشاء ما دمنا لا نؤذي أحداً، وفي هذه الأيام تأكدت فلسفتي حين وجدت الخاشع يذبح الإنسان وهو سعيد، ومنتشياً بفعلة لا يصلها إلا المؤمنون جداً!

قرأت الكثير من قصصنا وحكاياتنا فوجدت أن البطل المخلّص وهم. سواء أكان يسارياً أو مثقفاً أو غير ذلك. كل من يدّعي أنه سيخلّص المجتمع من آفاته يسقط. لأن المجتمع ما لم يخلّص نفسه، لن يخلّصه أحد.

نمرّ بمحاذاة السيدية فتبكي زوجتي بصوتٍ عالٍ هذه المرّة. يلتفت السائق مستفسراً، فأوضح له أن منزل العمر هنا. تركناه لأبن طائفتنا الشيخ مؤيد. امتعض السائق وشتم الكل من دون استثناء، لم يستثني أحداً. ثم أضاف:

- تكرم الأخت.... الكحبة أشرف من الجميع!

- نعم، إنها لا تؤذي. بل ربما تنفع.

ابتسمت زوجتي  ابتسامة انفلتت من وجهها المبلل بالدموع!

تكلم السائق مندفعاً:

- وضعنا الآن أشبه بماء فيه طين، وهناك أياد تحركه دائماً... ونحن ننتظر أن تكف الأيدي حتى يترسب الطين ويصفى الماء!

ما قاله السائق رغم أنه بسيط لكنه حقيقة. في السابق كان الناس يطلقون صفة السيئ على الإنسان الذي يشرب الخمر أو يزني أو يسرق أو يكذب. لكن هذه الأيام تغير الحال. إنها أمور بسيطة قياساً بمن يحمل الكلاشنكوف ويقف في رأس الشارع، وينتمي إلى مجموعة تتعامل مع أرواح البشر كأسماء وأرقام في ورقة. الحل غير موجود، و الاستقرار  توفي لحظة انطلاق أول رصاصة صوب إيران عام 1980...

دخلنا مستعمرة حي الشرطة الخامسة واليافطات السود تملأ الجدران. قرأت شعاراً كُتب على حائط مدرسة ابتدائية اسمها «أجيال» يقول «يا لثارات الحسين» يا إلهي، من الذي عليه أن يدفع الثمن؟ من هو المخطئ لينال جزاءه؟ ممّن الثأر بعد ما يزيد على ألف وأربعماية سنة؟

أين بلال؟ أشاهد مراهقاً يقف وهو يحمل رشاشه، وآخر فوق بناية مستوصف. بلال قال: ستجدني عند تقاطع محطة المجاري.

السماء تلبدت بغيوم سود، والهواء يبرد، وميادة اغتصبت بإرادتها!

 

الفصل الحادي عشر

اللعبة مستمرة. مشروع جديد كالعادة. قال بلال: «تعال إلى مملكتي» يقصد عالم الجن الذي يتعامل معه منذ فترة التسعينات وحتى الآن. تطورت أدواته في حقبة الاحتلال، واتخذت مقاصد أخرى. وافقت على الفور، وكان دافعي الأول هو الابتعاد عن خطر ديار، وعن خطر المجموعات المسلحة، وعن خطر ما لم أتحسّب له. أفكّر قد لا يستطيع غير الجنّ إيجاد حل للانفلات والجنون الذي نعيشه. الآن عند بلال سأتعرف على أسماء الجن، وعلى عوالمهم الخفية!

أكثر من عشرين يوماً قضيتها مع زوجتي في حي الشرطة الخامسة. رأيت وجوهاً جديدة في الزقاق. ملامح تظهر وتتنقل بين أكوام النفايات وبرك المياه وحشود الأطفال. فقر وآهات تكاد تسمعها في بيوت يسند بعضها البعض الآخر. ليست مدن صفيح، لكنها بيوت إسمنتية انشطرت مثل الاميبيا مع تراكم السنين والظلم. أولاد يكبرون وزيجات تنمو، وخُرِقَ العادة الشهرية الملطخة بالدماء تطالعك مرمية في القمامة المبعثرة في كل مكان، فتعلم أن الأطفال قادمون ليشيبوا مع الذباب، ومع طفح المجاري الذي يجعل زيارات الجيران لبعضهم صعبة. تشبعت الأجساد بالروائح القبيحة فباتوا لا يتأفّفون منها. لا زمني صداع في الأيام الأولى بسبب الطين العطن والماء الآسن الموجود في البرك ربما منذ السومريين. زوجتي أصابها القيء، وبلال قال ساخراً:

- أرقى العطور الفرنسية عندنا!

كومة من أسلاك الكهرباء التجارية تلتف على أعمدة كهرباء الدولة. فوضوية الأسلاك بألوانها المختلفة تخنق العمود. ثم تنتقل لتعبر الشارع وتحتضن عموداً آخر. أشعر بأن الكهرباء الوطنية تستغيث من هذا العبث. لن يصلح حال الكهرباء أبداً، ما دامت الأسلاك الملونة موجودة وتزداد.

في الأيام الماضية اتصلت بحمدان بحجة معرفة أحواله، ثم أخبرته أن يلغي أي اتصال مع ديار. لقد انكشف ديار لنا. هو قاتل. الملاك تحول إلى شيطان. لم يُصدم حمدان مثلي، بل قال: «كنت أتوقّع ذلك». حذرته أن يصمت لأنه يتكلم بالموبايل، وأكدت ثانية له أن يرفض أي اتصال من ديار لاحقاً، لأنه سينتقم منا جميعاً. كنت أبغي من هذا القول قطع الطريق أمام ديار فيما لو أسرّ لحمدان حول من وشى بأبيه. لم أندم حتى اللحظة على ما قمت به، وسأنكر، وأكذب حتى لو عرف حمدان. سأتهم الشيخ مؤيد قائد السيدية الجزّار.

كيف أدرك حمدان حقيقة ديار وهو الشاب الذي تنقصه التجارب وخبرة السنوات؟ لقد انتصر وعيه على وعي المسن صاحب الخبرة. ذلك له تفسيران، الأول، أنني غبي وساذج، والثاني، أن  جيل حمدان الذي عاش تسعينات الحصار، والحرب الأخيرة امتلك وعياً يفوق وعينا. هو يعيش في الحاضر ومنغمس فيه، بينما أمثالي ينطلقون من الماضي دائماً ويحملون أفكاراً جميلة عن أوهام ماتت.

يوم أمس انطلقت الزغاريد في سرادق عزاء، وقبلها بيوم كان أهالي الفقيد يشيعون ابنهم تحت أنغام راقصة تعزفها فرقة موسيقية. عزاء فريد. أغنية لحسام الرسام يرددها المشيعون الشباب لزميلهم. حقد لن ينتهي إلا بالثأر من القاتل المجهول. انطلقت الزغاريد أمس في سرادق العزاء بعد جلب شابين بريئين مقيدين من حي آخر، وإفراغ ثلاثين رصاصة بجسديهما. عندها لبس الرجال العقال، وأطلقت النسوة زغاريدهن وهن يهتفن «ثأرك مربع يا ولد».

ماذا يعني ذلك لتاريخ البشرية؟

أقلِّب كتب بلال الصفر، وأشاهد الجداول والأسهم والحروف المقلوبة والكلمات التي تبعث على الضحك. حقاً تأخذني السخرية إلى أبعد مدى وأنا ألمس كيف أن العقل كلما قلّت قدرته على المحاكمة بمنطق عششت فيه الخرافات. الكثير قد لا يصدق ما يفعله بلال، ومن يشابهونه، وربما عالم الجن عندهم من الخرافات، أو الأمور غير المحسومة، وخاصة حين يمتد تأثيره إلى البشر. لكن الصورة تتسع لمشاهد كثيرة، وربما يظهر تنين في العاصمة، أو وحش يستيقظ من كهوف التاريخ. كل شيء متوقع في بغداد...

قبل مجيئي إلى الشرطة الخامسة بأيام، قرأت كتاباً عن أسرار هروب نوري السعيد ومقتله. كانت ذكريات الدكتور صالح البصام عن الباشا، وكيف اختبأ في بيتهم لحظة اندلاع الثورة؟ يتكلم البصام في حنين عن حياة الزمن الملكي، ورجالاته. كانت الثورة انقلاباً، ودليله ما حدث للبلد بسبب الأنظمة المتعاقبة. ما لفت انتباهي تصريح لنوري السعيد أمام الصحافيين «يحتاج البلد إلى الكثير من الخدمات والقليل من السياسة»، لكن ماذا عن شريط الفقر الذي يحيط ببغداد وقتها يا باشا!

بيت بلال متصدع. ليس لأنه قديم، بل لأن الرطوبة وسوء البناء قد جعلاه بهذه الصورة الكئيبة. هذا الأمر ينطبق على غالبية البيوت التي بنيت بشق الأنفس، فكل صاحب منزل يتذكر بدقة كيف جمع الدنانير، وكيف استلف، لكي يعلو البناء طابوقة طابوقة؟ إنه الفقر الذي يزوّد الحي بهوية خاصة!

شاهدني مصطفى، ابن بلال حين أقفلت الموبايل بعصبية ونحن عائدين من دكان يبيع المواد الغذائية، وسمعني عندما أطلقت شتيمة «ابن الكلب» على ديار الذي يحاول الاتصال باستمرار، ويرسل لي الرسائل القصيرة الخالية حتى اللحظة من التهديد: «عد لعقلك، أنت صديقي القديم»، أو: «ستجتاز الصدمة، وتعود».

- عمو، لا تخاف، كلنا معك!

احتضنت مصطفى وقبلته. كان شاباً في سن العشرين. ممتلئ الجسم، وبشرة وجهه بيضاء بفعل مساحيق التجميل التي يضعها معظم الشباب هذه الأيام. يعشق قناة روتانا الغنائية. وفي الوقت نفسه مخزّن المراثي الحسينية في هاتفه النقال.

وصلنا إلى البيت وكانت حمرة الغروب تخيّم على البشر. ما أقسى الغروب في مدينة لا تعرفها! كانت زوجتي وزوجة بلال كالعادة يندبان الحاضر، ويستذكران الماضي الذي حمل معه ذكريات شبابهما الذاوي. كانتا جالستين في غرفة المعيشة، غير آبهتين لنشرة الأخبار ومقدمها الذي لا يُسمع صوته. قالت أم إياد إن زوجها ينتظرني في حجرته، فدخلت عليه ووجدته يقرأ في أحد كتبه الصفر القديمة، وعندما رآني قال:

- الليلة ستتعرف على صديق يشبهك تماماً!

وأضاف:

- هو جار لي أعتقد أنك ستحبه.

عرفت أن صديقه رسّام. عاد إلى بيته مؤخراً بعدما تركه قبل سنتين، وكانت حجته أن سكان الحي جهلة، ومزعجون، وطباعهم لا تعرف الهدوء، إضافة إلى وساخة الشوارع والروائح العطنة التي كادت تصيبه بالجنون. لكنه اليوم يعود لكي يحتمي بهؤلاء الناس، وبالمياه القذرة، وبالنفايات. لا يهم إن أزعجه الأطفال بالصراخ ورمي الأحجار علي بيته. إنهم أبناء طائفته الأعزاء! حماته من الجحيم.

كان الفنان اسمه أمجد السعيد. يصغرني بخمسة عشر عاماً. عشت معه رفقة ليلية خالية من الهواجس. نسيت فيها أصوات الرصاص التي نسمعها كل حين، ونسيت حرقة التهجير، ونسيت مشكلة ديار وقلقي من عائلة حمدان. قنينة خمر مستوردة، وأصباغ، وكتب، وعقل يذهب معك حيث تتمنى. كان السعيد يقترب من الجنون كلما أطلق لنا حلوله تجاه ما نمرّ فيه، يقول والكأس لا تفارق يده:

- لو كانت عندي سلطة لجعلت الدم يجري بالشوارع!

ويعود للكلام وقد ملأ كأساً أخرى:

- سأقتل تلك الوجوه التي أعرفها، تلك التي أشاهدها كل يوم وهي تكذب فيما  تدَّعي الإيمان.

تمنيت مع نفسي لو كان السعيد هذا مكان ديار، ويملك ثروته الضخمة.

كانت حجرته مبعثرة، وهو لا يخجل من تلك الفوضى. ما يعانيه هذا الرجل أكبر من اتهام الناس له بالجنون كما أسرّ لي بلال. قال الرسّام لبلال:

- ابقَ في عالمك، بين عظام الهدهد وفرج أنثى الضبع، ادخل بين الحقول التي تنشئها على الورق. تعلّق بطلسم، وإياك أن تكفر بما تعتقد فيه. لا تتراجع، وستصل إلى ما تريده، حتى لو طال الجنون رأسك، وانقلبت عليك الجن، والكوابيس. كن صلباً حتى تتحول إلى جيفة!

ستائر الحجرة وردية، رُسم عليها عاشقان في لحظة عناق. بينما المدفأة القديمة ماركة علاء الدين ترتكن قرب الحائط، كانت أشبه بشخص رابع معنا. ثمة كتب غير مرتبة على منضدة تناثرت عليها قشور البرتقال، وهناك كيس حليب مجفف مفتوح، وكوب خزفي، ودستة أصباغ زيتية، وفرش رسم، وعلبة بسكويت بالفراولة.

ثمل السعيد، وراح يتحدث عن نفسه كثيراً. كان جندياً في حربَي العراق مع إيران والكويت. نجا بأعجوبة في الانكسار الأخير للجيش، حتى إنه رجع مشياً على الأقدام من البصرة إلى بغداد عام 1991. امتهن مهناً كثيرة في التسعينات، وعاش حكاية حب فاشلة، دفعته إلى معاقرة الخمرة والحبوب المخدرة وشم التنر مع شبان يصغرونه. يشتم كل من أحب السياسة والأحزاب منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن. ابتسمت بوجهه، وعندما حاولت الكلام راح بلال يدعوني لعدم الرد في إشارة منه بوضع إصبعه أمام فمه.

من الأفضل أن أصمت، ولا أتكلم، فأنا لست سياسياً، ولا حزبياً مرموقاً في أي حزب من تلك الأحزاب التي عاثت في بلدي فسادا. أنا قاتل ضمن مجموعة توقعت أنها لا تنتمي لأي حزب أو عقيدة سوى عقيدة الوطن والدفاع عنه. فكانت العقيدة هي المال والنزعة إلى تدمير الوطن المقدس. نزواتنا تحكم، والعقيدة قشرة أو غلاف يخفي ذلك السواد القابع في داخلنا. نعم، كل المولعين باليوتوبيا والجنات الخضر على الورق يتحوّلون إلى وحوش عند استلامهم السلطة.

من دون مقدمات نهض السعيد من جلسته، وتوجه صوب الشرفة الصغيرة المطلة على حديقة البيت الصغيرة. ارتشف من كأسه جرعة وأدار مؤخرته للزقاق الوسخ وضرط ضرطة أذهلتنا. كنا نتابعه بحذر وهو يتركنا. خشينا أن يرمي بنفسه إلى الأسفل. ما فعله أضحكنا كثيراً، وراح بلال يتقلب مختنقاً بكركرات أدمعت عينيه. لكني اقتربت من كيانه المهشّم. يأس بلون الفحم، ورائحة القاذورات المنبعثة من هذا العالم. خطا أمجد مع أنينه نحو لوحة القماش البيضاء مفرغاً عصارة ألمه بلطخات سوء على بياض اللوحة، ثم تناول جرعة من كأسه، وعاد إلى اللوحة يخلط في ألوانها حكاية بائس عراقي من هذه البلاد. ظل يروح ويجيء بين الكأس واللوحة ونحن نتابعه بترقب، وبصمت، حتى عاد إلى مكانه بيننا.

بدت اللوحة غارقة بالرموز، مختنقة بأسرار إنسان يحلم بالهروب من الشرطة الخامسة والعاصمة والكون. لم يكن جنّي بلال يعي حقيقة فعل الضرطة على الشرفة. ربما غمره الضحك أيضاً، وربما رثى لإنسان لا مفرّ أمامه سوى التحديق بالناس، والغرق في كأس الويسكي والبكاء أمام الألوان.

لم أسأله لماذا فضّل لقب السعيد، وهو غارق في التعاسة؟ كنت أعتقد أن اسمه الفني يجب أن يكون «أمجد الحزين» مثل لقبي الذي اخترته لنفسي منذ الستينات «عماد الغريب».

خرجنا من بيته ليلاً، وكان الصبية المسلحون ينتشرون في الزقاق. صوبوا نظراتهم نحونا، لكنهم تركونا لأن بلالاً ابن الحي. كانت روائح المياه الثقيلة الطافحة تنبئ بأن الاستقرار بعيد جداً عن أجسادنا ومدننا. دولة غير معنية بالجمال. كما أن الواحد هنا تعوَّد على القذارة، ولن يساهم حتى في تنظيف عتبة بابه، هكذا كانت تبدو لي أكثرية البيوت، ولكن الغريب هو في ولع هذه الأكثرية بتنظيف سياراتهم، ورش المنظفات المستوردة عليها. السيارات لامعة دائماً في أحياء الهامش، بينما بيوتهم، وأزقتهم أمست مكباً للنفايات.

في تلك الليلة، ووسط ظلمة انقطاع الكهرباء الروتيني، كانت حياة أمجد السعيد فكرة تستقر في رأسي. كم من أمثال هذا الإنسان في البلد؟ غير متدين ولكنه طيب إلى أقصى الحدود. ما فائدة الأديان إذاً حين تكون سبباً للقتل؟ لكن من وضع الدين جانباً وحكم البلاد أكثر من خمسة وثمانين عاماً نصب المشانق أيضاً.

خصص لي بلال حجرة في بيته، وراح يحاول باستمرار تدمير وحدتي ويأسي عبر كَرَمه المبالغ فيه، وزوجته وولده مصطفى لا ينفكان يذكراننا بأن الأمور ستتحسن، وسنرجع للسيدية وعلينا ردّ الجميل واستضافتهم هناك. لكن كيف ذلك الشيخ مؤيد لا يزال هو السيد؟ ربما ضعفت سيطرته العلنية بحسب آخر الأخبار التي نسمعها من التلفاز أو من زملاء بلال في المحلة، ولكنه بالتأكيد يثير الرعب في قلوب عائلات لم تغادر الحي. لكن دياراً يخيفني أكثر من الجميع لأنه يتحرك في العلن، ويرتبط بوجوه طالما أخافتنا. رجال مخابرات لبلاد لا همَّ لهم سوى مصالحم. كيف سأذهب إلى المصرف لأستلم راتبي التقاعدي؟ معضلة كبيرة. ربما سأطلب من بلال أن يؤمن لي الطريق عبر جنيّه الشريف، غير المرتشي أو العميل لدى المخابرات.

تقع دائرة التقاعد العامة في ساحة الشهداء، والغريب أن تمثال عدنان خير الله الذي قتله صدام في نهاية الثمانينات،كما تقول الإشاعات، لا يزال موجوداً بالقرب منها. يحدق إلى الدائرة والمتقاعدين. لم يسقط كما سقطت تماثيل ابن عمته، ولم تنته معاناة المتقاعدين رغم بلوغنا السنة الرابعة على التغيير.

زوجتي نائمة وكوابيسها تزداد كل ليلة، والظلمة تتكدس بلزوجة في حجرة رطبة ضيقة. أصوات رصاص، وهاونات تُسمع بين فينة وأخرى، والأذن تلتقط من حجرة الجيران القريبة صوت لطمية ورثاء حسيني. تدثرت بغطائي وحدقت في السواد. ثم احتضنت جسد زوجتي، وبكيت!

 

الفصل الثاني عشر

رسائل الـsms القصيرة تتزاحم على هاتفي الخلوي. ديار يقذف برسائله عبر الأثير. يهددني بأنني سأُشطب من قائمة الأصدقاء القدامى. وهذا يعني تحوّلي إلى عدو ينبغي تصفيته، وثمة رسالة يتيمة جاءتني من شمخي يقول فيها إنه ترك ديار وعصابته أيضاً لأنه كشف أمرهم. لعبة لم أصدقها، وحتى لو كان شمخي صادقاً كل الصدق فإن الظروف والوساوس تمنعاني من الاتصال. هل أدرك شمخي أخيراً وحشية ديار؟

اقترب موعد استلام راتبي التقاعدي من المصرف والمشكلة لم تُحَلّ. أذاً لم ينفعني جنّي بلال. سكت حين أخبرته وراح يفكر لحظات قبل أن يقول: «إنها مشكلة حقاً». نفدت نقودي، وأصبحت مع زوجتي عالة في بيت صديق يحاول حتى الآن خدمتنا بذلك الوجه المبتسم، كأول أيامنا في الشرطة الخامسة. غمرني شعور بأنني مسن أحمق، وتافه، ونكرة، وأنساق دائماً وراء أفكار بلهاء. ربما سأخترع مصطلحاً أسميه «غريزة البله»، فلا أختلف عن أي إنسان ينساق وراء غرائزه.

وسط مخاوفي من ديار كان علي التفكير بالرحيل من بيت بلال. وترك حي الشرطة الخامسة. يكفي أننا كنا ضيوفاً ثقلاء على أسرة صديق. زوجتي لم تعد تطيق صبراً وتود الرجوع إلى بيتنا في السيدية حتى لو تعرضنا للأذى. إنها على حق، فهي لا تعي طبيعة عملي مع ديار. وتكرّر على مسامعي: «من خرج من داره قلَّ مقداره». وأشعر بأن وجودنا في منزل بلال بات لا يطاق حتى تداخلت الوساوس وصرنا نفسّر بخوف كل كلمة تنطقها عائلة الصديق. زوجتي حتى الآن لا تملك تصوراً واضحاً عن الجهة التي تود اغتيالي. من أنت حتى يطاردوك؟ مسؤول في الدولة أو في حزب؟ قالت ذلك متندرة بألم...

فعلاً، إننا ثقلاء جدًّا...

وجدت نفسي بالصدفة متطفلاً على مصطفى الابن، عندما كان في البيت بمفرده، وذهبت أمه مع زوجتي لبيت جار في تلك الظهيرة، وعدت من بيت السعيد لأسمع أنيناً وآهات من خلف باب حجرته، ومن دون أن أعي حقيقة ما فعلته، حدقت من ثقب الباب لأجده وقد عرض في جهاز DVD فيلماً إباحياً. أجساداً غير معنية بالطوائف كانت على الشاشة تتلوّى بالشهوة. أعضاء تناسلية بحجم الشاشة أذهلتني. تركته. خفت أن يأتي أحد ويشاهد المسن بشعره الأشيب متلصصاً على الشاب في بيته. تركت جسدي يضطجع على الفراش في حجرتنا. تذكرت أول صورة إباحية شاهدتها في حياتي مع صلاح. صورة تلك الفتاة العارية بالأبيض والأسود. كان ذلك في منتصف الخمسينات من القرن المنفرط، حيث لا أقراص مدمجة ولا أجهزة عرض فيديو. لا بدّ من الرحيل!

لأول مرة استسغت فكرة الهجرة إلى كركوك حيث يعيش أخي الأصغر جلال. تلك المدينة التي لا تزال حائرة في تحديد مصيرها. أريد منها فقط أن توفّر لي الأمان والراحة، وسأقسم بأن أترك كل ما يتعلّق بهاجس الدفاع عن الناس. أنا تافه. أعترف أمام نفسي، وأستحق الرعاية حتى من الأشخاص النكرات، والقتلة. ماذا لو سامحني ديار وعبود الآن؟ وتركاني أعيش حياتي المتبقية بسلام. سأكون ممتناً لذلك، وليعملا ما يشاءان بالناس وبالبلد. أنا فقدت طاقتي واعتقاداتي وأحلامي وآمالي...

أسرّ لي أمجد السعيد قبل أيام، ذلك الفنان القابع وسط القمامة والنجاسة، بأن فكرة الانتحار تراوده. صدمت وقتها، فعلى الرغم مما مر بي من أحداث، لم أفكر بالانتحار إطلاقاً، وهذا ما جعلني أتأمل شخصيتي بدقة. لم أستطع حقاً معرفة ما إذا كنت جباناً. الشفقة التي أسكبها دائماً على زوجتي وضعت ذهني وكياني وتفكيري كله في خانة عدم التسبب بالحزن لأناس آخرين مهما كانت الظروف. حتى المضاجعة نسيتها منذ تسع سنين. لم أشته زوجتي. استعضت عن الممارسة الجنسيّة  بالضم والتقبيل والحنان. لا توجد لذة كاملة، وإنما ترانيم مقدسة نتلوها لذكريات مضت ولن تعود.

عند ديار رأيت لأول مرة ما يبثّه قمر الهوتبيرد الأوروبي، وشاهدت وأنا مصدوم مشاهد العري في قنوات كثيرة. يتنقل ديار وفق ما يشتهي بالريموت كونترول. بالضبط كما يحرك عناصره في الشارع بين الناس. كانت دهشة سببها حرمان الأعوام الطويلة في بلد لم يكن فيه غير قناتَيْ بثّ تلفزيوني، وربما ثلاث، وفجأة، نفتح أعيننا على حرية وآراء سياسية وأخبار عامة في القمر العربي. أفلام وتقارير علمية ومباريات كرة قدم، ورؤساء دول يتكلمون على الهواء مباشرة. كل هذا رائع، لكن هذه الحزمة كانت زائفة، لأنها أتت مع العبوات، والإرهابيين، والمجنزرات. عماد المُبْعَد عن نقطة الاشتهاء الحقيقية لجسد امرأة ما، يخطو نحو الشيخوخة والأفكار، وهنا الفراغ الكبير. يبحث عما يشغل ذهنه بوصفات غبية لأمراض مزمنة!

عالمٌ من المتناقضات طيب، نذل، شهواني، بخيل، كريم، شاذ. لكن الطيب يمكن أن يكون قاتلاً، والمؤمن بالله كذلك، ومن يستمني مثلاً في عمر الستين يمكن أن يحب الناس إلى درجة المرض. يقول الفنان السعيد إن مضاجعة امرأة محرومة من الجنس، أو حتى عاهرة  أفضل من سماع رجل دين يتكلم بالسياسة. يعتقد ذلك، ويظن، أن الزنا الحقيقي لا يرتبط بجسدين أرادا تدوين تاريخ للذة، بل بعمامتين متصارعتين تدوِّن كل واحدة منه تاريخاً يخصها، وبين التاريخين تسقط الجثث، والأفكار، ويُسكب مني البشر في الشوارع. هذا الرجل سيجن، أو ينتحر، أو يقتل إنساناً مذنباً بحسب رأيه. أمجد السعيد لا يحمل البرود الذي أحمله، ولا يعرف وصفة الانحناء حتى تمر العاصفة. أغلي ثم أبرد، بينما السعيد يغلي فقط، وربما سيتبخر!

كلمة عاهرة من الفنّان السيعد ذكّرتني بالعجوز شكرية. هل ماتت؟ عاهرة العاصمة وساحرتها. ديار وعبود جلباها لكي يهينا بغداد أكثر وأكثر. جسد ذاو بعباءة سوداء يدب صوب العفونة. كيف أدخلتها بيتي وجلست معها؟ إنها نزوتي البلهاء، الغبية، أو جهلي الذي يرتفع منسوبه وينخفض من دون أن أدري. كم من هذه النزوات وجدت عبر تاريخ البلد؟ نزوات قادة ووزراء ورجال أمن. نزوات سلطة. شكرية تاريخ للشعوذة والعهر. صولة زمن كانت فيه مسميات كثيرة للأشياء. سيارة الفولفو أو الفيات، وساعة الرولكس، ومطعم تاج ران، والاورزدي باك، وبطانيات فتاح باشا، وأحذية جلود، وقصر الرحاب، وجسر الخر، والسيد النائب، وملهى جعفر لقلق زاده، وحلويات الخاصكي، ومكتبة مكنزي، وسينما روكسي، وعناوين أخرى التصقت بتاريخ كل إنسان وُلد وكبر في البلد. أعوام شكرية الثمانون تعني العراق، فكيف سأكون بإمكاني أن أبتعد وأهرب من تلك العباءة السوداء وكيس تبغها الأحمر؟

خبر حزين جاءني عبر الأثير قبل يومين، حين اتصل أبو رعد وقد أخذته العبرة. قال لي: مات صديقك ددو. قتلته دورية دخلت السيدية عندما قذفها بالحجارة. نيران رشاشات أمريكية حصدت جسد ددو الصغير. حزنّا أنا وزوجتي وبكينا، حتى بلال وعائلته شاركونا الألم. هم لا يعرفونه. أنا ومديحة فقط نعيد لحظاته السابقة في زقاق من سيديتنا الجميلة. ددو يمقت المكوث في البيت ويفضل الشارع. يتوق إلى حرية أفقدته حياته...

يا الهي، ما هو إحساس رجل يفقد ولدين في خلال بضعة أشهر. يختفيان عن الوجود، ويمسيان في الذاكرة. ملابسهم وحاجياتهم. صورهم الفوثغرافية. لحظاتهم الأولى وهم يصرخون في مستشفى الولادة، ثم يكبرون تدريجياً. جلسات الشتاء قرب المدفأة وهم يشاهدون أفلام الكارتون. أو يأكلون جبس الذرة. لحظات أقدرها رغم خلوّ حياتي من الأبناء. كيف سينظر أبو رعد إلى الوطن؟ ماذا تعني له البلاد ومستقبلها؟ سيكفر بالتاريخ والحاضر والمستقبل. الحلم والأمل يصبحان مجرّدين من المعنى...

مرة أخرى أسمع شمخي عبر الموبايل، وهو يحذرني من ديار: «اختف يا عم عماد، و...... ». يؤكد أنه ترك بغداد واختفى بعيداً. لم يذكر المكان لكنه أُلمح إلى محافظات الجنوب حيث أهله وعشيرته، قال: «سكنت قرب مقام أحد الأولياء الصالحين، وإن أتى ديار سيتكفل به هذا الولي ويصرعه في الحال». الطناطل في كل مكان، والوحوش لم تعد تخرج في الليل فقط. يمكن أن نشاهدها في النهار لأنها تتكاثر وتسيطر، وما علينا ألا أن نتخفّى، ونسير بجانب الحيطان مسرعين، ثم نعود لبيوتنا شاكرين الله.

سأتجه شمالاً إلى كركوك، وأبحث هناك عن مقام إمام ما أستنجد به، كما فعل شمخي ولتذهب كل الكتب التي ابتلعتها طيلة الخمسة والخمسين عاماً. أعلّق خرقة خضراء بساعدي الأيمن، وأُلهج بالأدعية كما تفعل النسوة. لا بد لي من اجتياز مدينة الخالص لأعبر إلى مدينة العظيم، ثم مدينة الطوز، وبعدها داقوق، وبعدها تازة، حتى أصل إلى كركوك!

 

الفصل الثالث عشر

كم ديار في العاصمة؟ كم نسخة من الشيخ مؤيد، وأيضاً من جماعة غسان. لا يخاف السيدية أو البياع، ولا تهمه العشائر الغربية أو الجنوبية. يلعب وكما يريد. ربما جاء للبلد لكي ينتقم من سنوات عمره المنصرمة في المنافي. انتقام بالدولار، فما أخطر ذلك عند إنسان تقوده النزوات؟

غادرت الشرطة الخامسة وبغداد مؤملاً الوصول إلى كركوك وحي غرناطة... الطريق البري، وملامح المسافرين تتغير كلما ندخل قضاءً أو ناحية تعود لطائفة معينة. ودعت بلالاً وأسرته فجر هذا اليوم. وليلة أمس ودعت أمجد السعيد في سهرة لا تنسى. ثرثرنا حتى امتلأت الغرفة بالأسئلة وتساقطت من الشرفة على الحديقة. اختنقت الحديقة بعلامات الاستفهام وتطايرت مع الريح. دخلت أسئلتنا الحسينيات واندفعت إلى المآذن في الحي المجاور. اجتازت شارعاً يسمى خط التماس بين الحيَّين، وشاهدت الدكاكين المقفلة والجدران التي بدت عاجزة عن مداواة وجهها الذي خرّبته الرصاصات. أسئلة أرهقت الجلابيب وأربطة العنق والكوفيات معاً. لم يصلنا جواب واحد رغم  كل الأسئلة التي أطلقناها!

طيلة الطريق استجمعت أقوال ديار عن مجموعته الاستخباراتية في الشوارع. إذ كلما توقّفت سيارة الأجرة أمام تقاطع، أو في زحام، أتوقع قدومهم إلى سيارتنا، ليخرجوني بالقوة، ويدخلوني في سيارتهم الحديثة. أكثر من شهر ونصف الشهر لم أخرج خارج حي الشرطة الخامسة. تركت الراتب التقاعدي واستلفت ثمن الرحلة من بلال. هكذا تركت دائرة التقاعد العامة ولم ألق التحية المعتادة كل شهرين على عدنان خير الله.

حقيبتان وجسدان ذاويان وتاريخ واحد ينطلقون صوب الشمال. لن أهتم إن كانت وثيقة أبي نوار غير مزورة، ولا يهمّني من هو نامق الذي يفترض أنه وقع عليها خفية، وباع البلد فيها مع زملائه للخارج. أود المغادرة مع زوجتي العاقر والابتعاد عن العاصمة التي أراها الآن قد تفتتت. الدولة نائمة أو تجاهد لفرض الأمن. ذلك لا يهم عندي. فتلقائية الحياة اليومية قد تهشّمت، وعماد المسن قتل إنساناً من أجل فكرة. مات صدام وانجلى الخوف السميك، وامتلكنا شجاعة استثمرناها على أسوأ صورة وهوى. أهكذا نكون عندما نفكّر؟

حين توقفت مركبتنا في قضاء الطوز عند مطعم بيشتوان، ونزل الركاب كان القلق قد تبدد عند الكثيرين، فالخالص والعظيم خلفنا، ونقاط التفتيش القادمة حتى كركوك فيها عناصر أمن كردية، وهذا يعني جوّاً من الأمان. فكلما صعدنا شمالاً لا تعود الطائفة تعني شيئاً، وكلما هبطنا جنوباً تزدحم الجثث على الهوية. لم أسأل بلال إن كانت الجن تنقسم إلى طوائف، ولم أعرف منه إن كان الجنّي الذي يسيّره مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً؟ إنما أخبرني بحقيقة وأنا في طريق الهروب أجلس في المطعم أن جني شكرية طالما حاول كشف مكاني في الشرطة الخامسة، وكان بلال يقاتل بمساعدة تعاويذه وطلاسمه مرتزقة ديار الناريين. لم يعلمني بذلك من قبل، وحجته أنني سأرتبك، والكوابيس ستلازمني ولن أنام أبداً. قال لي: «سيبقى الجنّي خاصتي معك حتى وأنت في كركوك». أغلقت الهاتف الخلوي وحدقت خارج زجاج المطعم الأمامية كأنني أبحث عن حارسي. كان ثمة صبي يمسك اسفنجة مغطسة بمحلول منظف السيارات ويدعك الجاملغ، ونساء وأطفال قرب السوبر ماركت. ابتسمت لزوجتي، وأخبرتها أن بلالاً يطمئن علينا!

هل الشيخ مؤيد يقود سرية من الجن أيضاً؟ جيش يطوق السيدية كأنها مملكة خاصة. هذا الحي قتل فيه حسين كامل وإخوته شر قتلة حين عاد بغباء من عمَّان إلى بغداد. سمعنا إطلاق رصاص ودوي قاذفات ولم نستطع الخروج وقتها إلى الشارع، لأن الأوامر والنواهي كانت صارمة. بعدها فرح العراقيون أشد الفرح، ليس لأن  صدام قتل زوجي ابنتيه، بل لأن فيلم «الأيام الطويلة» لن يظهر بعد الحادثة على شاشة التلفزيون المحلي في كل مناسبة حزبية. البطل الذي جسّد شخصية القائد الأوحد بات خائناً. صدام كامل تلبّس دور عمه النضالي. وها هو مقتول مع أخيه الكبير في السيدية.

أنهيت تناول طعام الغداء في الجناح المخصص للعائلات، ذهبت إلى المغسلة. وعند مدخلها كانت تنتظرني مفاجأة لم أتوقّعها إطلاقا.

رأيت إنعام، زميلة الوظيفة في التسعينات، وقد ذوت بشرتها، ونالها الكبر. اختفى شعرها بين طيات فوطة بيضاء، وازداد وزنها. كما أن أولادها الصغار باتوا شباباً.

وقفتُ عند انحناءة حائط المغسلة، أختلس النظر نحوها. أتابع حركاتها مستذكرا صورتها القديمة. المرأة التي كانت الأقرب لي بعد زوجتي مديحة في هذا العالم. كانت تردد دائماً سؤالها العتيد. لماذا لا تتزوج المرأة التي تفقد زوجها ولديها خمسة أبناء؟

أخيراً قررت. اقتربت من طاولتها ببطء، وألقيت التحية. تغيرت قسمات إنعام بين الدهشة والفرح. بينما ردد أبناؤها التحية بصوت خافت.

- أهلا أستاذ عماد، شلونك.

ذكرتُ للأولاد بأنني وأمهم كنّا زملاء دائرة واحدة وقسم واحد في التسعينات. كانوا أربعة رجال مهندمين جيداً، وفتاة تشبه أمها تماماً، مع ملامح زمن جديد يتضح في شكلها ولباسها. أخذ صغيرهم يذكّرني بأنه كان يأتي مع أمه للدائرة. أتذكر ذلك الطفل الصغير الذي كان يعبث بالأضابير، وأصص الزهور المرصوفة على الشبابيك. لقد كبر فعلاً!

إنعام ستسكن في كردستان هرباً من عنف بغداد. فأخبرتها أيضاً أنني أهرب إلى كركوك للسبب نفسه. ارتاح الشباب أكثر، وراحوا يتحدثون عن حوادث عاشوها أو سمعوا عنها، ومنها حكاية فجرتني بالكامل، وكانت سبب اتخاذ قرار الهرب.

وقبل أن يتحدث ليث، وهو الابن الكبير، راوياً قصته، جاءت مديحة مبتسمة، فعرّفتها بإنعام وعائلتها، ثم راح الولد يروي: جاء شبان مسلحون لبيت فتاة جميلة تدرس الطب، ضربوا الجرس، فخرج والدها إليهم، ليخبروه كذباً بأنهم يريدون ابنته لتدريس أحد تلاميذ المرحلة المتوسطة مادة اللغة الانكليزية. عرف الأب حقيقة مقصدهم، وقال، انتظروني دقيقة لأخبرها. دخل الأب، وسحب مسدسه ورمى أبنته برصاصة في رأسها. ثم خرج إلى المسلحين، وقال لهم: ادخلوا، إنها بانتظاركم!

حضرت أما عينيّ المغرورقتين كل الصور بما فيها صور الشياطين والجنّ والمردة والطناطل. كيف للإنسان أن يستمر في ظل هذا الخوف الذي يحاصره؟.

انتهى اللقاء مع إنعام وعائلتها بخروجنا لنركب سيارة البهبهان، وابتعدت مديحة عن إنعام التي كانت تنظر بإمعان نحوها. لم أحدس ما مرّ في خاطرها، وأية أسئلة، وأي انكسار كان يتبدى في عينين حزينتين. لم تعد تفكر إنعام بحياتها ولم تعد تتساءل عن نوم المرأة الأرملة في فراش بارد، وإنما تفكر بأولادها الذين يعانون العيش هذا العالم بلا سبب. تهرب بهم لأنها لا تريد أن يدوَّن أسماء أبنائها في تاريخنا!

لم تستطع حشود جن حسين كامل من مقارعة جن السلطة فخسرت المواجهة. بينما شكرية وديار نجحا في حربهما الجديدة. طلاسم، ومقتنيات نادرة، وصراع حول ما يحدث بعيدا عن أعين البشر. مخابرات روحانية. الشيخ مؤيد واجهني بحقيقة أنني اشتركت بقتل أبي حمدان في العامرية. هل أخبره ديار أم أن الجن أعلمته، أم أنه كان يريد اغتياله قبلي؟

تلال حمرين قريبة منا. سلسلة طويلة تمتد وتعج بالحيوانات الكاسرة والبشر الملثمين وفيالق الجن والعفاريت. من يدخلها ليلاً سيخرج مقتولاً أو مجنوناً. لكنها يمكن أن تستضيف بشرا أو جنيّاً يريد قتال الدولة. أحدق إلى التلال من نافذة سيارة البهبهان وهي تنطلق صوب داقوق. ترسبات منذ آلاف السنين. قبل الدولة العراقية وقبل الأديان. تاريخ غائر في القدم. كانت فيه الحياة تستجمع أثاثها وديكورها وأشياءها لتستقبل البشر. ثم جاؤوا بضجيجهم وانفعالاتهم، ياه، كم من البشر ماتوا قتلاً منذ مولد البشرية؟ أعداد لا تحصى. ملايين. ربما التلال الماثلة أمامي هي آلام الناس وقد تكلَّست، وتصلَّبت، وبقيت شواهد لا يمكن إزالتها...

الجبال، القمم العالية، المرتفعات، هي تضاريس للروح المعذبة.

المسافرون في سيارة البهبهان يتحدثون عن اللعنة التي أصابت البلد. لا أفهم طبعاً سوى ما أسمعه باللغة العربية فقط، ولا أعرف إن كانت اللغة الكردية أو التركمانية تذهب باتجاه اللعنة نفسها. نقاط التفتيش كثيرة، وليست كآخر مرة في التسعينات عندما سافرت للنزهة مع زوجتي إلى كركوك. اجتزنا حتى الآن عشرين حاجزاً أمنياً ولم نصل إلى كركوك بعد.

الهاتف الخلوي يرن قبل دخولي داقوق، وأسمع مقطوعة بيتهوفن. حدقت زوجتي فيّ، وحين أخرجته من جيبي كان اسم حمدان في الشاشة الصغيرة الخضراء. ازدادت ضربات قلبي، وفتحت الخط، فانهمر صوته مدراراً كأنه شلال. حروف وكلمات ووقائع اقتربت من الخيال. كابوس يمتد بطول الطريق البري ويلاحقني. لكن نبرته لم تكن غاضبة أو متهورة. بدأ حديثه بعبارة: «أهلا ًعمي». ثم اندفع يخبرني بقدومه الآن إلى كركوك، ومعه الجدة شكرية، والعم عبود الذي يقود السيارة. يسألني «أين وصلت يا عمي؟»، أتمتم بأنني في الطريق، وأطلب منه بصوت خفيض أن يتركني لأن دياراً يريد الانتقام مني، لكنه يؤكد أن دياراً غفر لي، أو استجاب لشروطي! أي شروط؟ أنا لم أشترط أبدا... ألم يتركنا حمدان، وسلّم أمر قاتل أبيه إلى الله؟ لقد حزن لمقتل وعد الطيب، وهرب من محرقتنا البغدادية الكبيرة؟

ضربات قلبي تتسارع، وسخونة تغمر الجسد، وذهول حدد بصري أثناء الاتصال بقحف أحد الركاب أمامي وقد التف شعره الرمادي على شكل حلقات. زوجتي تود معرفة ما يحدث. كعادتها، تستفسر مني لتبدّد خوفها من الكوارث الآتية. ملامحها حزينة، لكنني هذه المرة شعرت بوهن شديد. ضعف جعلني لا أقوى على الكلام. أغلقت الهاتف وتتابعت الرسائل القصيرة «سينتهي الإشكال»، و«عبود الطيب قادم»، و«هل نسيت شكرية أمنا الحبيبة<،  ساعة الحقيقة أزفت، ومعها نزّ العرق من مساماتي، وبدا العالم ضيقاً خارج السيارة المندفعة بسرعة إلى الشمال. شعرت زوجتي بالسوء القادم، وبكت وهي تنظر إلى الموبايل تريد أن تعرف من هو المتصل، فقالت متسائلة:

- هل هو ديار أيضاً...؟

- لا، إنه حمدان.

- أي حمدان؟ ديار المتصل!!

لا يمكن أبداً أن أتيه عن نبرة حمدان. كلها طيبة، ونقاء، وحزن... أبداً، ديار لا يعرف هذا البياض...

بكت مديحة بصمت. كان بكاؤها يُثْقل عليّ ولم أعد أعرف ماذا أفعل.

داقوق قادمة ونقطة التفتيش تقترب. توقفنا. عنصر أمني يسأل السائق عن المدينة التي قدمنا منها، بغداد، فيطلب منه إيقاف مركبته عند جانب الشارع، لا بد من التفتيش. نزلنا وكانت صورة للرئيس طالباني معلقة على بناية نقطة التفتيش، وفي السماء سحابات متقطعة من غيوم بيض، وعلى الأرض قطيع أغنام وماعز في أرض تستجدي حتى العشب. أتى دورنا وقدمت بطاقتي الهوية، فالنسوة موضع للشبهة أيضاً، ما دامت الانتحاريات مهووسات بالجنّة كالرجال.

شكرية وعبود وحمدان قادمون. أخشى أن يسقط جسدي على الأرض من هول الرعب. نصعد السيارة ثانية، ويدمدم أحد الركاب ممتعضاً من تلك الإجراءات. يجيبه آخر: «هذا لفائدتنا»، ندخل داقوق، ويتملكني إحساس بأن زوجتي غاضبة وتريد أن تفهم ماذا يجري. لا يهم، فالمشكلة أخطر من غضبها.

اجتزنا مقام الإمام زين العابدين الواقع على الجهة اليمنى من الطريق. كبّرت بعض النسوة الجنوبيات في السيارة بصوت مسموع «السلام عليك أيها الإمام»، تذكرت الذي هرب إلى أحد المقامات. فكرت إنه هروب أفضل من الهرب إلى الجنّ، طالما لا توجد طريقة للهرب من سلطان ديار ودولاراته. لا توجد وسيلة حماية أخرى. فتملكني خشوع ويقين بأن المساعدة يمكن أن تأتي من تلك القبة الخضراء، وبيارق الأعلام المرفوعة. هكذا، مثل شمخي المحتمي بأحد المزارات في الجنوب. تمسّكت بالأمل الذي يبثّه هذا الاعتقاد. وأي أفكار أخرى لن تجدي، فمركبة عبود خلفي، ومعها مركبات الجن التي تطمح للوصول إلى مسن أحمق اسمه عماد. لن يستطيع أخي الصغير الموظف في شركة نفط الشمال مساعدتي، وربما لن يصدِّق أنني مطارد من قبل أناس يمتلكون كل تلك القدرة.

أمرت سائق البهبهان البيضاء بإيقاف مركبته، ونزلنا مع الأمتعة. زوجتي تمانع، وتتنمر بوجهي. لأول مرة أراها غاضبة مني بهذا الشكل «أنت مجنون»، لم أعنّفها، بل تركتها واتجهت حاملاً الحقيبتين والريح تعبث بشعري الأبيض. كدت أنهار لولا قوة الخوف وتمسّكي بما سأشاهده داخل القبة. لم أنظر خلفي، لكني متأكد أن مديحة تتبعني. بالفعل رأيتها تسير منكَّسة الرأس حين توقفت منتظراً سيارة أجرة محلية.

قالت مديحة وهي تبكي:

- بربك، أين سنذهب؟

- إلى مقام الإمام. هناك سنجد الأمان!

- أتؤمن بالإمام يا عماد؟ منذ متى؟

لم أجبها. كانت التلال تحيط جسدين تسمّرا على قارعة الطريق. الأرض مليئة بالحصى ومزعجة كأنها الغربة بعينها. حتى اللغة اختلفت. إنها الحرب الأخيرة التي قلبت كل شيء. لا يزال الدوي مستمراً والبشر يسقطون. فليكن الإمام ملاذنا، ومقامه الطاهر في أعلى التل مقصدنا. يقبع هناك وحده بعيداً عن بيوت البشر، وقريباً من السماء. سأجد القرآن على أحد الرفوف بالتأكيد، وكلماته ستطرد الجن المندفعين إلى الشمال، وربما تقلب كلماته سيارة عبود بمن فيها في الخالص أو العظيم أو سليمان بك. يتملكني يقين بأنني نظيف القلب رغم مساهمتي بقتل أبي حمدان، ورغم أن دماغه تناثر على دشبول السيارة!

طار شمخي إلى الجنوب واحتمى بمزار رجل تقي. هرب من الطنطل الذي فتك بأناس الوشاش. وها أنا ذا اقترب من القبة الخضراء في الشمال. فلتمت الكتب وضجيجها، ولتكن الريح الشديدة التي تعول في داقوق بمثابة مكنسة تزيح قمامة ما آمنت به سابقاً. لا أريد أن أفكر، وأستنتج، وأحكم على الناس. بل أحدِّق في السماء فقط!

مضت سيارة التاكسي تنطلق بنا صعوداً، والسائق العربي يؤكد لنا أن حوائجنا من الإمام سينفذها. مجرّب، وما علينا سوى رمي ورقة حمراء من فئة 25 ألف دينار. فكلما أكرمنا فقراء الإمام بمبلغ كبير، كانت النتيجة أسرع، لكني أحتاج النقود، وما أملكه لا يتجاوز 40 ألف دينار. نزلنا. أنا أجرجر الحقيبتين، وزوجتي تكفكف دمعها بمنديل ترطَّب بالكامل. الشمس تشير إلى اقتراب وقت العصر، بينما الطيور وأسراب العصافير ما زالت تحلق في السماء، فأتذكر حديقة بيتنا في السيدية. لقد هجرتها الطيور، وربما شجيرات النارنج استطالت أغصانها. نقترب من القبة وأشعر بأن جسد زوجتي يلامسني. أبصر العالم من ذلك العلو، وحين أستدير وأجتاز عتبة الإمام، يطالعني القيِّم بكوفيته الخضراء، ممسكاً بيديه سُبحة سوداء، وله كرش ضخم كأنه كرة مطاطية يمكن انتزاعها من بدنه في أية لحظة.

«أهلاً بالزوار».

قالها القيِّم، وانفرجت أساريره عن ابتسامة زودتنا بالأمان.

اقتربت منه، وبحركة ما كان يمكن أن أفعلها قبل تاريخ اليوم، ارتميت على  كفيه أريد تقبيلهما. سحب يده واحتضنني قائلاً:

- لا اله إلا الله.

وسحبني إلى الداخل. كان الخشوع يرطِّب المكان بهدوء ناعم، وأنفي يستطيب روائح البخور والمسك. آيات قرآنية على الجدران، ومراوح السقف تدور رغم اعتدال حرارة المكان. جلسنا مع الشيخ على سجادة كاشانية.

بعد لحظات صمت طويلة. قال الشيخ:

- تحدث عن حاجتك، الله والإمام قربك.

- نعم شيخنا، الجن تطاردني، وربما هي الآن خارج هذا المقام!

انبهر، وزم شفتيه وراح يحدق في عيني:

- كيف تعرف؟

- أخبرني السحرة، ولا أعرف كيف أتخلّص منهم!

بكت زوجتي بصوت مسموع. لم يكن بكاء خشوع بل بكاءً على الحالة التي وصل إليها زوجها. فتألّم الشيخ لذلك، وطلب منها ذكر الله، فلن يصيبنا أي مكروه. ثم تحدث:

- كيف تعرفت على السحرة؟ هل ذهبت إليهم؟ ولماذا يطاردونك؟

- إنها حكاية طويلة. أود منك أن تساعدني على التخلّص منهم؟ أأتلو آيات معينة؟ أو أحمل تمائم؟ فلا يمكنني الوصول إلى كركوك عارياً من أيّ حماية. سيقتلونني.

- ما حكايتك حتى يمكنني مساعدتك.

غمرني ضيق ووهن في جسدي. حكايتي! كيف أروي حكايتي؟. تدور المروحة وأسمع صوتها. أتوقع سقوطها على جمجمتي، فيتناثر مخّي في مقام الإمام، وتتلطخ دشداشة القيِّم البيضاء بقطع من أفكاري. يقفز أنف لينين على السجادة، وأذنا فهد على الرف، وجبهة ميشيل عفلق على النافذة، وتنهمر ملامح الناس الذين عرفتهم طيلة حياتي. مثلما انفجر رأس أبي حمدان في العامرية...

- لأنهم صارحوني بخيانتهم طاردوني، وحين فشلوا استعانوا بالجن!

- السحرة؟

- نعم، القتلة، الخونة، السحرة، كلهم تحالفوا ضدي!

- لماذا صارحوك إذاً، من أنت؟

- أنا عماد المسن، الطيب!

وصلتني رسالة عبر الموبايل، أرسلها عبود. يخبرني ألا أخاف، فسنعود إلى السيدية كلنا، لأن الشيخ مؤيد قُبِضَ عليه. رأى الشيخ الكلمات، ولم يجد فيها ما يجعلني قلقاً، بل قال:

- من أرسلها يحبك، وكأنه يزف البشرى.

- نعم، بشرى الثأر..

- قلبي يوحي إلىّ لو أنك عدت من حيث أتيت، لن يصيبك مكروه!

امتعض الشيخ مني، أو تصور أنني مجنون، لأنني أرفض. فحاولت أن أقترب منه أكثر، متوسلاً أن يقرأ تميمة ضد الجن. زودني بخرقة قماش خضراء وطلب مني أن ألفها على رسغي الأيمن، وقال:

- خذ المصحف، وسيكون الله والنبي وآل البيت معك!

ثم نهض. التفتُّ  إلى زوجتي فوجدتها غارقة في حزن ثقيل. قسماتها شاحبة. لقد كبرت مديحة. كأن عمرها مائة سنة. العالم بلا مشاعر وبلا عقل. هكذا يمضي، مندفعاً بإرادة مميتة.

سأعود إلى أداء فروض الصلاة التي تركتها، وأتخلص من نزوة الخمرة التي أستسلم لها في بعض الأوقات. لستُ مدمناً، ولكن إرادتي تضعف حين تجمعني جلسة مع الأصدقاء. أرضي الرب، وأدعه لا يخجل من مساعدتي!

حملت القرآن وودّعت الشيخ وهبطت من المزار إلى الشارع المقفر. شمس العصر تنسحب ببطء. الغروب قادم. حقيبة بيدي والأخرى بيد زوجتي. نخطو بتثاقل ولا أعرف حتى اللحظة إن كنت سأواصل الرحلة شمالاً. الشيخ نصحني بالرجوع إلى بغداد. لكني لم أسأله إن كان يقصد إلى بيتي في السيدية أو في ساحة الفردوس، أم إلى بيت بلال الطيار. ليتني أجد المأوى الآمن كما وفرته لأقاربي البعيدين أثناء حرب سقوط بغداد، أو سقوط صدام أو سقوط الحياة في الفوضى.

التاكسي قادم ولا بد أن أقرر. وتحركت السيارة إلى الشارع الرئيس، ذلك الشريان الممتد من بغداد إلى محافظات كردستان. هل أنزل للأسفل جنوباً أم أصعد شمالاً؟. ربما الأفضل أن أعود إلى بيتي!

نزلنا من التاكسي قرب نقطة التفتيش، وطالعتني صورة الرئيس طالباني ثانية بابتسامته العريضة. عناصر الأمن مشغولون بالتحديق بقسمات الركاب في طابور السيارات المتوقفة. وقفت قربهم، وتحدثت مع أحدهم، كان يدخن سيجارة ويقذف دخانها بطريقة طفولية.

- ساعدني بإيجاد سيارة تقلني لبغداد.

انتبه لي، وتكلم بلغة كردية لا أفهمها، لكنه أدرك مقصد سؤالي.

كنت أمسك بالمصحف بقوة، وذهني يحاول أن يرسم لي السيدية لحظة دخولي إليها. لا مجال للتفكير بما أنساق إليه، فالكوابيس والوساوس تكبر حين أنشغل بما سيواجهني. فلأعتمد على الحظ هذه المرة. معي القرآن وبركات الإمام والشيخ وقلبه الذي دعاني للرجوع. اتبعيني يا مديحة، فليس في العمر بقية تكفي حتى تختلفي معي.

نده الشرطي علينا فركضنا لاهثين. سيارة كورونا قديمة متوقفة، والسائق العربي يخبرنا أن قضاء العظيم هو آخر نقطة يصلها. نركب معه، فليكن، إنها نصف المسافة إلى حبيبتي بغداد، والله والمصحف والإمام ودعوات الشيخ تساندني.

تركب زوجتي المسكينة خلفي. لم تتوقف عن البكاء. تبلَّل منديلها بالدموع! أحترق من العبرات، والقلق، والتصورات، وأشياء أخرى لا أعرفها. لكن قبساً من السعادة لامسها حين أخبرتها بالعودة إلى السيدية، حيث بيتنا، وحيث العصافير والفاختات والزرازير تنتظر منها وجبة الخبز اليابس المبلل بالماء. سأمضي وقتي أقلِّم أغصان شجيرات النارنج التي استطالت، ولن أمسك بيدي كتاباً بعد الآن!

هل ديار هو المتصل؟ أم حمدان؟ أي طائفة تلاحقي؟ أحاول أن أراجع الرسائل الواردة والاتصالات في الموبايل. كلّها تشير إلى ديار.

تنطلق الكورونا موديل 1981 جنوباً، وسيارة عبود الحديثة تنطلق شمالاً. نقطة الالتقاء أو التقاطع آتية. ربما الجنّي سيزغرد لأن الطريدة قادمة بنفسها إليه.  ستزف شكرية الخبر إلى عبود ليبتسم ويكشف عن أسنانه الصناعية، بينما حمدان يتحسس مقبض السكين أو مقبض المسدس. وديار خارج المشهد تماماً. أشبه برئيس العصابة في الأفلام حين يكشف ظهره فقط للكاميرا، أو يقبع في الظل، أو يوجه أوامره بالهاتف لرجاله. لكن الرئيس يسقط مع عصابته في النهاية.

هبطنا من تلال حمرين إلى سهل العظيم الممتد، وبدا قرص الشمس الأحمر يلامس الأفق. فضاء شاسع يخشاه أهل الجنوب، وحين ينتهي تأتي مدينة الخالص التي يخشاها أهل الغربية. دائماً هناك خوف، إن لم يكن من هذا فمن غيره.

هنا نسجت الحكايات وانتفضت الأرواح في حشرجات متتابعة. أناس ماتوا بسبب ظرف صنعته المصالح والغيبيات. ملثمون يسيطرون على هذه المساحات المترامية. إننا وسط مخاطرة كبيرة، فلا أحد يمكنه السير في هذا الوقت صوب العاصمة. بغداد تقبع خلف متاريس أقضية ونواحٍ، حتى سائقنا عقدت لسانه الدهشة حين أخبرناه بمقصدنا.

«ماذا؟ بغداد؟ ستموتون!»

نظرت إلى زوجتي، رأيت في وجهها التصميم. تخبرني قسماتها بتصميمها على الذهاب إلى السيدية. مديحة تفضّل الانتحار على هذا التجوال.

قال السائق الريفي:

ستكونون ضيوفنا. يبدو أنكم من «ربعنا».

بقينا صامتين!

- لن أترككم لقمة لمسلَّحي الخالص. سنتجه إلى بيتي، وفي الصباح اذهبوا لبغداد.

أشكرك. علينا إكمال الرحلة،  وليكن ما يقدره الله.

ظهر رتل همفي أمريكي في خط السير المعاكس، ولأن الشارع ضيق ذهاباً وإياباً، فقد خرجت سيارتنا عن الطريق وتوقفت على التراب. الأوامر تقول إن على السيارات المدنية المعاكسة التوقف حين يظهر الأمريكان. أما السيارات التي خلف الرتل فعليها الابتعاد مائة متر على الأقل. من سوء حظنا أن الرتل توقف. تلك مشكلة كبيرة، فلا نعرف متى سينطلق ثانية؟ والشمس تنحدر إلى الغروب.

قال السائق:

- أخشى أن يبقوا حتى الفجر. مرة أجبرتُ مع سيارات كثيرة على المبيت عند تلال حمرين قرب الشارع!

- حتى الفجر؟

- نعم!

المصحف لا يزال في كفّي، وسيارة عبود قد تكون متوقفة خلف الرتل. توقف عربات الهمفي يجعلني أفكّر في عودتي لبغداد، أأعود إلى السيدية، أم إلى بيت بلال في الشرطة الخامسة. لا أستطيع الوصول إلى قرار، وأترك الأمر إلى ما سيقرره الحدس والمخاوف والحنين واعتبارات جديدة ربما ستطرأ خلال الساعات القادمة. حتى الآن السيدية هدفي. ولا أخشى وصول الشيخ مؤيد وديار إليَّ.

يفتح السائق باب الكورونا القديمة الرصاصية ويخطو صوب العراء بمسافة تقارب المائة متر. الأرض بنية ولا خضرة، ليس فيها سوى الحصى والأشواك. ثنى ركبتيه وفرش دشداشته البيضاء من الخلف وراح يتبول. مجنون هذا السائق، فالجنود الأمريكيون كانوا ينظرون إليه بخشية، وأخذوا يتكلمون بصوت عال مع بعضهم. أسلحتهم مصوبة إلى السائق الذي يمكن أن يُقتل بلحظة. أتى المترجم صوبنا. كان منفعلاً مسلحاً ويرتدي درعه الخاصة. كانت سيارتنا هي الأولى، وقد توقفت خلفها حتى الآن ثلاث سيارات. بكت زوجتي للمرة للعشرين أو الثلاثين هذا اليوم. طمأنتها بأن القادم  عراقي، وهذا الرجل أثار مخاوفهم بتصرّفه.

- مرحباً عمي.

بادرته بعجل:

- أهلا. لقد اضطر للتبول، وذهب بعيداً لعدم وجود شجرة يختبئ خلفها.

زم شفتيه، وتحدث بهدوء:

- حين يرجع أخبره ألا يتحرك ثانية.

- نعم سأفعل.

وأردفت:

- متى يفتح الطريق؟ زوجتي مريضة وربما تنهار إذا بقيت هنا. أرجوك اطلب منهم أن يسمحوا لنا بالمسير.

نظر إلى زوجتي التي كان على وجهها ملامح إنسان سينهار فعلاً. لكنه أجاب:

- الأمر ليس بيدي ولا بيد هذا الرتل، وإنما قرار القيادة. أتمنى أن نغادر بسرعة، وتصل خالتي للعاصمة بأسرع وقت!

وذهب المترجم إلى الرتل، وهو يشير بكفيه لجندي زنجي قريب كان يتابعنا ببصره. بدت السماء قريبة منا، واحمرار الشمس الغائبة ثقيلاً، فخفق قلبي بسرعة وكدت أنهار.

قالت مديحة:

- نذهب لبيتنا أحسن. حتى لو قُتلنا. علينا الكَفّ عن الدوران في الشوارع والبيوت الغريبة.

- نعم، أنا أوافقك الرأي.

أحسّ بنفسي رجلاً ضعيفاً، ليس بيده حيلة، غير قادر على اتخاذ قرار. حتى صرت أتمنى أن يكون بلال قادراً بالفعل على تأمين الحماية من الجنّ. هكذا سأطلب منه أن يحرسنا. عسى أن يكون حنيّه أقوى من حنيّ شكرية وشيطان عبود.

حتى الآن لا أصدق أن دياراً يطاردنا.

ديار يأمر شكرية، وشكرية تأمر الجني لملاحقتنا، وحمدان يطاردني لأنهم اتهموني بقتل والده!

عاد السائق وأخبرناه بما قاله المترجم، فقال:

- مرتزقة، كلاب الأمريكان.

- بالعكس، كان المترجم طيباً وهادئاً، وهؤلاء الشقر والزنوج يمكن أن يقتلوا كل البشر في السيارات المتوقفة. لنكن هادئين.

- كنا نحتاج إلى خمس دقائق فقط نصل العظيم. حظ تعس.

بدا العالم رتيباً، والصمت الذي تلا رجوع المترجم إلى مكانه يشعرك بأن أسوأ الأمور قد تحدث. تخيّلت خروج الملثّمين والصدام مع الجنود. الأرض مكشوفة والسيارات متوقفة، ولكن لو سقط الملثّمون من السماء فالمكان سيحترق بالرصاص. لا عائلات خلفي في المركبات المتوقفة. رجال فقط. ربما جميعهم من قضاء العظيم القريب منا. مجنون من يواصل السير والدخول إلى الخالص.

ما أفكر فيه هو قبول دعوة السائق الريفي والمبيت في قريته، وعند الفجر سأنطلق إلى بيتي. سأتوقّف عن الخوف والهرب. يتغيّر الحاكم وتتغيّر الوجوه، لكن الأفعال واحدة لا هدف لها سوى زرع الخوف عبر القتل والسجن والرصاص.

سأذهب إلى بيتي لكي أشاهد جدرانه وحديقته، وطارمته الخارجية وأشجاره، وسأبعد الزرنيخ عن رفوف مكتبتي. لأدع الجرذ يقرض الكتب من دون أن أزعجه. أو أحرق الكتب جميعها في طقس تملأه رائحة البخور والحرمل!

رن الهاتف بمعزوفة بيتهوفن فكان بلال على الخط.

- أهلاً عماد، أين وصلتم؟

- نحن في العظيم!

- ماذا؟

أخبرته بما حدث وما فعلته، فسكت لحظات، ثم بكى:

آسف يا صديقي. هددني ديار بخطف ابني مصطفى، فأخبرتهم بأنك غادرت صوب كركوك. كانوا يهدّدوني منذ أسبوعين، ولكني لم أستطع أن أغدر بك وأنت في بيتي. حاول الهرب، فهم مجرمون وخطرون للغاية. يا الهي. إرجع إلى كركوك... في بغداد نهايتك.

بكى وأقفل الخط...

لكن أين الجني يا بلال؟ أحدق في السائق الذي أراح رأسه على المقود مثل رأس أبي حمدان. زوجتي تزداد قلقاً مع كل اتصال، لذا لن أدير نظري نحوها. بلال انهار، وأسقطته السيول المندفعة في الأزقة. قُتِل جنّي بلال وطار رأسه بسيف لامع، وربما ثُقِبَ جسده بالدريل وشُدّ بالبرغي والصامولة.

هل حمدان مندفع إلى الشمال بإرادة جني خبيث؟ أم  بإرادة ديار الخبيثة؟ كيف لشكرية أن تتحمّل خطورة الطريق وطوله الذي يؤثّر على قلبها. أعتقد بأن شكرية الآن في العاصمة، وأعتقد أن حمدان في بيته، وعبود قرب ديار والطفلة ميادة ترقص لهما في شركة الأماني، وكل ظنوني هي هواجس فقط لا غير. أعتقد بأن المركبة تسير بلا سائق. أجزم أن دياراً لا يخشاني أبداً، فليس هناك جهة في البلاد يمكن أن أبوح لها بحقيقة ما دار في بناية تقع في شارع السعدون. ديار يمسك بالعاصمة ورجالها، وعجلاتها وقذائفها، ويمكنه ربما أن يدخل المنطقة الخضراء متى شاء. بلال لم يتصل بي. لم تعد الحقائق ثابتة، فذهني ينبض بالخزعبلات والأوهام، وبحنين إلى موت يهبنيه الله،  كرأفة من خالق لعبده!

الضوء يتمدد وينتشر لأن الأمريكان أناروا همفياتهم بالمصابيح الكاشفة. الشارع مقفر. وصل عدد السيارات المتوقفة خلفنا إلى ست سيارات. السيدية بعيدة وكركوك كذلك. حتى الحلم بالسكينة بات صعب المنال. أمسك المصحف بشدة فيعرق كفي. نزل السائق من الكورونا واستدار صوبي ليحدثني بصوت خافت عبر النافذة:

- ذهبت إلى كركوك من أجل العرق، وجلبته، لن أستطيع التحمل أكثر. إن كنت تود الشرب فتفضل. سنجلس بموازاة المركبة ونواجه العراء والظلمة، والهواء المنعش!

- لكن هكذا ستلفت انتباه الأمريكان.

- لا يهم. لم أعد أحتمل وجود قنينة العرق في صندوق السيارة.

فرش حصيرة من القش على الأرض قرب بابي، فاختفى عن نظر الأمريكان، ثم جلس وهو يلعن العالم، ويردد:

- إمام المسجد في قريتي هدَّدني إن شربت الخمر ثانية، والمحتلون أيضاً يريدون منعي! عدوّين اتفقا عليّ.

وكما توقعت، فقد تناثرت مفردات انكليزية في الفضاء، وتقدمت مجموعة من الجنود صوبنا وقد أنارت مصابيحهم اليدوية ملامحنا، واقتربوا من السائق صارخين.

كنت أنظر إلى مشهد سوريالي غريب: الجنود يصوّبون مصابيحهم ويصرخون. والسائق يمسك قنينة العرق بيده اليمنى ويصب في قدح يحمله باليسرى. لم ينظر إليهم. كان غير مبال بهم، ولا برشاشاتهم. حين وصلوا إليه، ابتسموا، وقال أحدهم:

«Good».

السماء امتلأت بالنجوم، وكنا نسمع أصوات نباح كلاب بعيدة. جسدي أنهكه الإعياء. أرض جرداء موحشة تطبق علينا، فنبدو ضئيلين وسطها. كحجارة مرمية، أو كفئران مذعورة تبحث عن مخبأ.

طلبت من زوجتي أن تمدِّد جسدها على المقعد الخلفي للسيارة لترتاح قليلاً.  كان بصري يمتد حيث سخام الليل، فيتراءى لي السيد الرئيس بلحيته الكثّة. ومصباح جندي أمريكي يوجّه لأسنان ناصعة البياض. أسنان تلمع أمام كاميرات الدنيا!

أكدت لمديحة أننا سنعود إلى منزلنا في بغداد، فتوقفت عن البكاء وتمدّدت على المقعد وغرقت في نوم عميق.

نزلت من السيارة وشاركت السائق شرب العرق، وقد بدا مسروراً وراح يحدّثني أحاديث مضحكة وكأننا صديقين منذ زمن طويل.

أنهينا قنينة العرق والأميركان لم يتحركوا. تمددنا على حصيرة القش وغرقت في نوم لم أذق مثله منذ زمن طويل.