أقرب الى المتاهة نتتبع مع الشاعرة والكاتبة العراقية حكاية لون تحول الى عقدة دافتشية سحرية تذكرنا بالفيلم العالمي المشهور، النص وإن حافظ على نفسه ال"حكائي" إلا أنه دورة مكتملة لصياغة متاهة شعرية للزمن، في التباسه وغموضه وبحثه المستميت على لون الكتابة.

جدي دافنشي

ماجـدة غضـبان

أنفق جدي وقتا طويلا..

لا ريب في ذلك..

الغرفة بما فيها من قطع أثاث و كتب غطيت بنسيج عنكبوت متداخل لا أول له و لا آخر..

و اللون الوحيد الذي طغى على المكان كله..الجدران و السقف مع طلاء إطار النوافذ و الستائر البالية هو اللون الرمادي..حتى بعد تنظيفها من الغبار، وإزالة كل نتاج العناكب لسنوات طويلة..

نظارة جدي في مكانها، كما وضعها قبل أربعين عاما، قلمه مع زجاجة حبر تحول ما فيها الى قطعة من الحجر لم يحظ بلون مختلف ولا الحبر أيضا..

الأوراق رغم اهترائها و اصفرارها حملت ذات اللون..

الأثاث كله رمادي كسحابة لم تجهضها الرعود..

صوره القديمة، ملابسه مع العث..

ليت أبي ترك لي شيئا سوى المفتاح مع الوصية..

شيئا ما يفسر حب جدي للون كئيب و محير كهذا اللون، ألم يدخلها مطلقا؟.

هنالك ما هو واضح حقا:

أن جدي قد عاش عمرا طويلا هنا، بين هذه الجدران الرمادية والأثاث والحبر والأوراق، يكتب دون توقف..

مخطوطات ضخمة على المكتب العتيق، مخطوطات على الأرض والرفوف..

قبل أن يجرفني فضولي للكشف عن سر رمادية غرفة جدي، لم أشعر بحماس شديد لفتح مجلداته و قراءة ما كتب..

جلست أرضا خشية أن يتهاوى الكرسي أو المكتب، و وضعت في حجري أقرب مجلد الي..

ظننت أن الصفحات فارغة للوهلة الاولى، لكني حين اقتربت من النافذة، لمحت تحت الغبار لونا باهتا لكلمات حائلة اللون..

بُـهـِث..، الورق رمادي..و السطور بلون مماثل؟؟؟.

لو لا الغبار لما تبينت خشونة الحبر على الورق الذي لامسته أصابعي معتليا الكلمات الشبحية هنا وهناك..

مسحت الورق بأكمامي..

لاشك في انتظام سطور باهتة يصعب ان تقرأ..

و لا أبالغ أن قلت أن مجرد محاولة قراءتها هي الجنون بعينه، وأن العثور على طريقة ما لرؤيتها كما يجب تعد ضربا من الخيال..

تناولت مجلدا اخر..

السطور الرمادية ذاتها..

والكلمات مشفرة بزمنها.. بلونها، وباختيار جدي للون أحمق..

فتحت المجلدات التي على المكتب و على الرفوف..

كلها متماثلة..

هل غيرت السنون ألوان هذه الغرفة المدهشة؟؟..

أم أن جدي كان مولعا بهذا اللون؟؟..

ماذا عن أبي؟؟..

هل احتار حيرتي ثم شعر باليأس وغادر عاجزا.. ثم لم يعد أبدا..أو يأتي على ذكر لغز جدي لا في حياته ولا في وصيته؟؟.

تجمعنا في الغرفة جميعا الأحفاد و زوجات الأحفاد و أولادهم..

فتحنا كل المجلدات..

عبثا حاولنا قراءة سطر واحد..

أحد أولادي عرض إحدى الصفحات لبعض الحرارة عسى أن يسود سطر فتتضح الكلمات..

صبغنا صفحة أخرى بألوان مختلفة..

اتصلت بعالم آثار علّ هنالك طريقة نجهلها للكشف عن محتويات مجلدات الجد الغامضة..

في النهاية، و بعد شهور من المحاولات المستمية لفك شفرة جدي الدافنشية، افترقنا و في صدورنا حسرة وألم، أن تتحول أربعون عاما من الزمن الى جبل شاهق بيننا و بين كل ما جرى يوما في هذه الغرفة..

كل ما انفق جدي عمره فيه..

كل ما حوته المجلدات..

كل ما أصبح الآن مجهولا أبدا لا أمل في الكشف عنه في المستقبل القريب..

كما أظن.