ما أصعب كلمات الوداع! وما أصعب أن يتصدر الجمل فعل كان بعد الرحيل الذي لا يزال صعبا مهما كان متوقعا. فبالرغم من أنني كنت أزوره كل مرة أعود فيها للقاهرة، وكانت آخرها قبل خمسة أشهر، وأدرك كم تدهورت حالته الصحية، وكم كان في مسيس الحاجة إلى الرعاية وإلى المال اللازم لها، في واقع مصري اختلت فيه القيم وضاعت القامات، فإنني كنت أجده مملوءً بالحياة وبالرغبة في الانتهاء من مشروع قاموس المصادر (مصادر الفعل العربي) الذي كان يحدثني عنه بلا توقف، وعن ميزاته وعما سيحدثه من ثورة معجمية. وقد كان سليمان محدثا بارعا، مليئا بالأفكار والحكايات، وخاصة بين أصدقائه الذين يرتاح إليهم، صامتا وخجولا في المحافل العامة. لكن صحته كانت تتدهور، ولم يكن ثمة من يهتم به غير اسرته الصغيرة، أو بالأحرى ابنه الوحيد باسم، وعدد محدود للغاية من الأصدقاء.
وبالرغم من أن سليمان فياض رحل عن عالمنا بعد أسابيع من إكمال عامه السادس والثمانين (ولد في 7 فبراير 1929 – ورحل في 27 فبراير 2015) فإنني على يقين بأنه لو لقي الرعاية الصحية التي كان في أمس الحاجة إليها في هذا العمر المتقدم، لواصل هزيمته للشيخوخة الزاحفة، والعمل على قاموس مصادر الأفعال العربية حتى أخرجه للنور، ولأكمل الجزء الثالث من كتاب النميمة الذي كان يحكي لي عن «بورتريهاته» الناقصة التي يريد أن يكتبها. فقد كان مترعا بالحياة، ومحبا لها بالرغم من كل المصاعب. لذلك فإنني كنت اغتاظ كل عام حينما يعلن عن نتائج جوائز الدولة، ولا أجد بين الأسماء اسم سليمان فياض الذي كان مرشحا لجائزة النيل، ولم يحصل عليها برغم أنه أجدر بها من كثيرين ممن فازوا بها في السنوات الأخيرة، ولأنني كنت أدرك كم كان في حاجة إلى ما يجيء معها من مال يوفر له ما يحتاجه من رعاية صحية، تمكن إرادته الجبارة في الحياة من التشبث بجسد يذوي، ويحتاج إلى الكثير من الأدوية.
عرفت سليمان فياض في مطالع الشباب حينما وفدت إلى القاهرة لإكمال تعليمي الجامعي متعطشا للتعرف على عوالمها الثقافية الثرية، بعد أن أمضيت سنوات دراستي الثانوية وعطلاتها في القراءة النهمة التي كنت ألتهم فيها أكثر من كتاب في اليوم الواحد. كان للقاهرة في هذا الوقت تقويما ثقافيا ثريا يمكن المهتم بالثقافة أن يذهب إلى نشاط ثقافي كل يوم من أيام الأسبوع. فلم تكن بها ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية الشهيرة وحدها صباح كل جمعة في كازينو أوبرا، المطل على ميدان الأوبرا الجميلة قبل أن يحرقوها، ولا صالون العقاد الثقافي الذي كان يدور في نفس وقت انعقادها. ولكن كانت هناك في بقية أيام الأسبوع ندوات وتجمعات ولقاءات ثرية أخرى، لجمعية الأمناء لأمين الخولي كل أحد، ورابطة الأدب الحديث لمصطفى السحرتي كل اثنين، والجمعية الأدبية المصرية التي كان صلاح عبدالصبور وفاروق خورشيد أبرز نجومها كل ثلاثاء، ونادي القصة ليوسف السباعي كل أربعاء، وغيرها من اللقاءات الأسبوعية. وقد التقيت سليمان فياض في واحدة من تلك التجمعات التي كنت أتردد عليها جميعا، بنهم معرفي لا يشبع. فقد كان لنهم الشباب للمعرفة طاقة لا تنفد، وهي ندوة أنور المعداوي التي كانت تعقد في مقهى «باراداي» الذي يطل على ميدان الدقي مساء كل خميس أو جمعة على ما أذكر، وكان من أبرز روادها عبدالقادر القط ورجاء النقاش وغالب هلسا الذي كان يسكن على مبعدة خطوات من تلك الندوة، ويا طالما عزمنا، سليمان فياض وأنا وآخرين، على منسفه الأردني الشهير. وكان عبدالقادر القط يلتقي أنور المعداوي ومحمود شعبان الشهير بـ«بابا شارو» في مقهى آخر قريب من باراداي هو مقهى «إنديانا» قرب ميدان الدقي أيضا. لكن باراداي كانت الندوة الأسبوعية الكبيرة التي تلتئم حول أنور المعداوي ويتردد عليها عدد غير ممن يقدرون ترفعه الأخلاقي الصارم، من عينة عبدالجليل حسن وأبو المعاطي أبوالنجا، وعبدالمحسن طه بدر وآخرين.
وكان سليمان فياض يعمل في الإسكندرية في ذلك الوقت، وكانت له شلة من أصدقاء الزقازيق والمنصورة القدامي تتكون من أبو المعاطي أبو النجا، وعبدالجليل حسن تتردد جميعها بانتظام على ندوة المعداوي.
وقد توثقت علاقتي بسليمان فياض عقب انتقاله للعمل بالقاهرة، مدرسا للغة العربية في إحدى مدارس امبابة. حين كان يبحث عن شقة، وكنت انا على وشك الزواج وقتها عام 1966، أبحث عن شقة وكانت أزمة المساكن قد بدأت تسفر عن أولى تجلياتها الباكرة. لأنني كنت قبلها أتنقل بين الشقق في القاهرة بيسر، مرة مع بداية العام الدراسي لأسكن مع زملاء الطلب الجامعي، ومرة أثناء الصيف لأنهم كانوا يعودون لبلادهم بينما علي البقاء في القاهرة التي كنت أعمل بها طوال سنوات دراستي الجامعة. بل وأختار عادة بين أكثر من شقة. وقد عثرت على شقة في حي المنيل في عمارة كان صاحبها شقيق صديقنا الراحل عبدالغفار مكاوي، الذي كان من أعضاء الجمعية الأدبية المصرية. وكان شقيق مكاوي يعمل مديرا إداريا في القصر العيني وقد بنى تلك العمارة من ستة أدوار (24 شقة)، واختار معظم سكانها من عائلته، ومن أساتذة القصر العيني، ولم يبق فيها غير الدور الأرضي بشققه الأربعة الذي رفض الأطباء سكناه. وانتهى الأمر بأن قدمني عبدالغفار مكاوي لأخيه فاستأجرت إحدى هذه الشقق، ولما أخبرت سليمان فياض بالأمر هرع هو الآخر إلى عبدالغفار مكاوي الذي قدمه بدوره لأخيه، فاستأجر الشقة المجاورة لشقتي. ومن وقتها بقينا جيرانا وأصدقاء لما يقرب من نصف قرن. أعرف تصاريف حياته كما يعرف أمور حياتي، وبقيت بيننا تلك الحميمية التي تدعمها الجيرة وصحبة القلم. لذلك سعدت بقراءة كثير من مخطوطاته قبل أي أحد آخر، بل وشاركت في اختيار عنوان إحدى مجموعاته، وكان حائرا في إيجاد عنوان لها، وهي مجموعة (زمن الصمت والضباب)، ولا يريد أن يسميها باسم أحدى قصصها، كما جرت العادة من قبل، فاخترت كلمات من ثلاثة عناوين من قصصها وصغت منها العنوان الذي كان دالا على عالمها في نفس الوقت، فأعجبه الاقتراح ونفذه. وأخذت معي مخطوطة روايته العلامة (أصوات) إلى بغداد في رحلتي الأولى لها، لحضور مهرجان أبي تمام بالموصل عام 1971، فنشرت طبعتها الأولى هناك عام 1972.
من قلب الأزهر إلى فضاء الحداثة
ويوشك سليمان فياض أن يكون نسيج وحده في مشهد الكتابة الأدبية العربية، لأنه تلقى تعليما أزهريا كاملا، وصل فيه إلى درجة العالمية في فقه اللغة، ولكنه راد في الوقت نفسه أحد أهم تيارات الحداثة والحساسية الجديدة في الكتابة القصصية منذ مجموعته الأولى، وهو الأمر الذي لم يحققه إلا من استوعب منجزات الحداثة الغربية في السرد القصصي خاصة، وتمكن من سبر أغوار بنيتها التحتية ثقافيا وفكريا وفلسفيا، وهو أمر نادر بالنسبة لأزهري تقليدي النشأة والتعليم. فقد ولد في قرية برهمتوش بمحافظة الدقهلية؛ وبعد أن حفظ القرآن في كتّاب القرية، انتقل للدراسة في المعهد الأزهري بالزقازيق، ثم في كلية اللغة العربية بالأزهر، حتى تخرج منها عام 1956، ثم حصل منها على العالمية عام 1959. وكانت أعلى درجات الأزهر العلمية في ذلك الوقت، وتؤهل حاملها للقب «عالم». ثم عمل بعد ذلك مدرسا في الأردن والسعودية ومصر، ولكنه مارس الكتابة الصحفية والأدبية والإعلامية طوال عمله في التدريس، كما مارس معها الكتابة الأدبية والفكرية والمعجمية على السواء.
ومن البداية يمكننا القون أن لسليمان فياض مشروع أدبي وثقافي ضخم متشعب النشاطات، ولكن له أربعة محاور أساسية. أولها بلا شك هو محور الكتابة الإبداعية في القصة القصيرة والرواية؛ وثانيها هو محور الكتابة الفكرية والمعجمية التي استفاد فيها من دراسته الأزهرية، وتمكنه من اللغة والنحو والتراث العربي القديم، ووعيه في الوقت نفسه، بسبب ثقافته الحديثة الموازية بما فيهما من تعقيدات ونقائص. وثالثها هو محور الكتابة للأطفال والناشئة والذي أعاد فيه كتابة التاريخ العلمي لعلماء العرب والمسلمين وبسطه للناشئة. أما المحور الرابع فهو محور متعدد النشاطات، ينطوي على مختلف الأدوار التي نهض بها في الحياة الثقافية من ناحية، وعلى الكتابة الإذاعية والتليفزيونية وإعداد الأعمال الأدبية لهما، والتي تتلمذ فيها على يديه أسامة أنور عكاشة، من ناحية أخرى. وكنت منذ عرفت سليمان فياض، وكانت له وقتها مجموعة قصصية واحدة، هي (عطشان يا صبايا) 1960، شكلت علامة من علامات تطور القصة القصيرة في مصر، قد أدركت أهميته وتفرد أسلوبه واستشرافه الباكر للحساسية الجديدة التي كانت تتبلور في ذلك الوقت في الفضاء الثقافي المصري.
إنجازاته في بنية السرد ولغته:
فإذا بدأنا بالمحور الأول سنجد أنه ترك لنا فيه تسع مجموعات قصصية تواصلت عبر نصف قرن بدءا من مجموعته الأولى (عطشان يا صبايا) 1960 وصولا لأخر مجموعاته (حكايات المجاورين) 2007. وبينهما: (وبعدنا الطوفان)، (أحزان حزيران)، (العيون)، (زمن الصمت والضباب)، (وفاة عامل مطبعة)، (الذئبة)، و(ذات العيون العسلية)؛ وست روايات قصيرة هي (أصوات) 1972، و(الصورة والظل) و(الفلاح الفصيح) و(القرين) و(لا أحد) و(أيام مجاور) 2009. ويمكن أن نلحق بهذا المحور أيضا كتابان من الصور القلمية المهمة هما (نبلاء وأوباش) و(كتاب النميمة) قدم فيهما صورا قلمية لكثيرين ممن عرفهم في الحياة الثقافية أو في المجال المصري والعربي العام، وهو الكتاب الذي كان يريد أن يكمل جزأه الثالث.
والواقع أن هذا المحور هو الذي وضع اسمه بقوة على خريطة الأدب المصري والعربي طوال مسيرته الإبداعية الخصبة. لأنه تفاعل فيه مع أفضل منجزات السرد العربي قبله. والواقع أنني كنت منذ عرفت سليمان فياض، وكانت له وقتها مجموعة قصصية واحدة، هي (عطشان يا صبايا) 1960، شكلت علامة من علامات تطور القصة القصيرة في مصر، قد أدركت أهميته وتفرد أسلوبه الذي اعتمد فيه على منهج هيمنجواي في الكتابة السردية؛ وعلى الخط المباشر بين العين والموضوع، وبين الموضوع والقارئ. فقد كان مولعا بقصص همنجواي، ومتابعا لكل ما يكتب عنه، منذ وقع في يده كتاب كارلوس بيكر الشهير عنه، وعن طريقته في الكتابة التي سماها بجبل الجليد العائم. فقرأه أكثر من مرة. وقد أصبحت كتابة سليمان فياض، منذ مجموعته الأولى تلك، صنو كتابة هيمنجواي في قوتها وصلابتها، واقتصاد التعبير فيها ودقة لغتها. وأهم من هذا كله ما يمكن دعوته بمضارعتها، أي بحضور عالمها المتوهج وكأنه مضارع لنا، شديد الحيوية والتوهج، كما هو الحال في الفعل المضارع، ينبض كل شيء فيه بالحياة والحضور والحركة.
لأن أهم ما يميز أسلوبه القصصي هو استخدامه لمنهج هيمنجواي المعروف باسم «جبل الجليد العائم.» وهي طريقة في الكتابة ومنهج في الرؤية معا: ترى أن البشر مثل جبل الجليد العائم لا يظهر على سطح الماء منه إلا الثمن. وأن الملاح الماهر يعرف من الثمن الظاهر وحده شكل الجرم الثلجي الضخم المختفي تحت الماء في البحار القطبية وطبيعته، فيتفادى الاصطدام به. على عكس الملاح الغشيم الذي يصطدم به وهو يظن أنه تفاداه كما جرى لقبطان باخرة «التيتانك» الشهيرة. وإذا ما نقلنا الاستعارة إلى الإنسان، فإن منهج هيمنجواي، والذي تبناه سليمان في الرؤية والتعبير معا يدرك أن ما يظهر من الإنسان هو الثمن الظاهر مثل جبل الجليد العائم، وأن ما يختفى منه سبعة أضعاف ما يظهر. وأن على الكاتب الماهر أن يتعامل بدقة وحساسية مع الثمن الظاهر من الإنسان وحده، ليكشف للقارئ عبره عن السبعة أثمان المختفية منه؛ دون اللجوء إلى أي من التكهنات المائعة، أو التخمينات الفجة. حيث يستطيع الكاتب الذي يعمد إلى هذا الأسلوب السردي الذي يركز على السطح المرئي، ويلتقط تفاصيله بدقة وحساسية، أن ينقل لك مما يبدو على السطح من دمدمات الأعماق دون أي تكهنات حولها. وهذا الأمر يكسب السرد صلادة غير عادية، وقدرة على الاستمرار مفتوحة دوما على كثير من التأويلات.
ومع أن سليمان فياض ولد في نفس العام الذي ولد فيه يوسف إدريس، فإنه ما أن بدأ الكتابة حتى كانت موهبة إدريس الأدبية الجبارة قد أسقطت جيلين كاملين من الكتاب في ظلها: الجيل الذي بدأ الكتابة قبله مباشرة، وكان من أبرز كتابه في هذا المجال شكري عياد وسعد مكاوي ومحمد أمين حسونة ويوسف الشاروني وغيرهم، والجيل الذي جاء بعده مباشرة وكان من أبرز أعلامه أبو المعاطي أبو النجا وصبري موسى وعبدالله الطوخي وصالح مرسي وغيرهم. فما أن أصدر سليمان فياض، وهو من نفس عمر يوسف إدريس، مجموعته الأولى حتى كان يوسف إدريس قد أصدر خمسة مجموعات (أرخص ليالي، جمهورية فرحات، أليس كذلك، البطل، حادثة شرف) وروايتين (قصة حب، والبيضاء) وثلاث مسرحيات (ملك القطن، وجمهورية فرحات، واللحظة الحرجة) اكتسحت في طريقها كل ما جاء قبله مباشرة وما جاء بعده على السواء. وسقط جيلان من الكتاب في ظل تلك الموهبة الجبارة. لكن تميز أسلوب سليمان فياض القصصي هو الذي جعل مجموعته الأولى تلفت الأنظار، ودفع الكثيرين، وأنا منهم، إلى اعتباره المقدمة الحقيقية لجيل الستينيات وحساسيته الأدبية المغايرة. كما أن إنجازه كما سنرى من التعرف على محاوره الأخرى، لا يقل تنوعا وثراءً عن إنجاز يوسف إدريس.
ريادته للحساسية الحداثية الجديدة:
لكن كتابته القصصية، والتي توزعت بين المجموعات القصصية والروايات القصيرة التي تميزت من بينها روايته البديعة (أصوات)، تشكل النقلة النوعية التالية لتلك التي أحدثتها واقعية يوسف إدريس الشعرية في السرد. نقلة أكسبت السرد القصصي والروائي معا صلابة غير عادية وغير مسبوقة، ولغة بالغة الصفاء والبساطة والقدرة على التعبير والنفاذ، مما جعلها قادرة على تجسيد أعمق المآسي المصرية، في القرية المصرية خاصة، بتلك البساطة المعجزة والشاعرية معا. ومن يقرأ قصصا مثل «وبعدنا الطوفان» أو «يهوذا والجزار والضحية» أو «رغيف البتانوهي» أو «اللص والحارس» يدرك طبيعة النقلة النوعية التي أحدثها سليمان فياض في الكتابة عن القرية المصرية. وتجسيد واقعها وفلسفتها العميقة في الحياة معا. فهو مشغول في عالمه السردي الذي تتضافر فيه عناصر من الواقعية والحداثة معا، بتغلغل قوى الدمار التي لا تقهر، سواء أكانت اجتماعية أو ميتافيزيقية، في نسيج الحياة. وبهشاشة الفرد وعزلته في مواجهة قوى التسلط والاستبداد.
والواقع أن العنف الذي يعمر عالمه السردي، وكأنه قدر لا فكاك منه، ناتج عن رغبته في دفع المواجهة بين هذه القوى المتصارعة إلى غايتها القصوى. ومع ذلك يبدو إنسان سليمان فياض، برغم هشاشته وعدم قدرته على دفع الأذى عن نفسه، كائنا لا يقهر، وكأنه تجسيد لسنتياجو، عجوز هيمنجواي في مواجهة البحر، يمكن تدميره ولكن تستحيل هزيمته. كما يصبح للعنف في عالمه وظيفة جمالية لأن الإنسان يجهز عبره على عزلته، ويكشف عن رجولته وجدارته بمواجهة تحديات الحياة الصعبة والتغلب على عبثيتها. لكن أهم ما يتميز به عالم فياض السردي هو أنه يطرح مثل تلك الرؤى الفلسفية العميقة بطريقة شعرية وتجسيدية وقد تغلغلت في وعي أبناء القرية المصرية، وتخللت ثقافتهم وأغانيهم ومأثوراتهم الشعبية وطقوس حياتهم اليومية. وقد ساعده على تحقيق ذلك لغته السردية التي تتسم بالكثافة وثراء حمولاتها الدلالية. فهذه اللغة هي السر عندي في أنه حينما انتقل إلى كتابة الرواية بعد ممارسة طويلة للقصة القصيرة، جاءت معظم روايته قصيرة من ناحية، ولكنها شديدة الدرامية من ناحية أخرى. فروايته البديعة (أصوات) تشكل نقلة نوعية في تعامل السرد العربي مع الآخر الأوروبي. حيث تتخلى عن حبكة الطالب الذي ذهب للدراسة في الغرب، أو السائح الذي توجه له زائرا، وتجلب المرأة الغربية إلى قلب القرية المصرية لتكشف لنا عن الوجه المأساوي لحياة القرية وتخلفها من ناحية، وعن حدة هذا الصراع الأبدي بين الأنا والآخر، من ناحية أخرى.
محور الكتابات الفكرية والمعجمية:
فإذا انتقلنا إلى المحور الثاني: محور الكتابة الفكرية والمعجمية سنجد أنه أنجز في هذا المحور أيضا مجموعة من الأعمال المعجمية واللغوية اللافتة، ضمت11 معجما وكتابا هي: (الدليل اللغوي العام) 1987، و(معجم الأفعال العربية الثلاثية المعاصرة) 1988، و(أنظمة تصريف الأفعال العربية الثلاثية) 1989، و(الحقول الدلالية الصرفية للأفعال العربية) 1989، و(معجم المأثورات اللغوية والتعابير الأدبية) 1993، و(الأفعال العربية الشاذة)، و(النحو العصري) 1996، و(أزمنة الفعل العربي النحوية - 14 زمنا) 1998، و(استخدامات الحروف العربية) 1998، ومعجم (السمع والمسموعات) 2003، و(معجم الإبصار والمبصرات) 2005؛ وأنه كان يعمل على معجمين آخرين هما (المفصص على المخصص)، و(معجم معاني المصادر والأفعال ومشتقاتها). وقد حظي كتابه (النحو العصري) بشهرة واسعة في مصر خاصة، وأصبح أحد أهم المصادر اللغوية التي يستعين بها الكتاب والمترجمون لتيسيره النحو وتبسيط تعقيداته، وتسويغه للمستخدم بوضوح وسلاسة.
هذا بالإضافة إلى ثلاثة كتب أخرى يمكن تصنيفها في مجال الأعمال الفكرية هي: (أئمة الإسلام الأربعة) 1996، و(الوجه الآخر للخلافة الإسلامية) 1999، و(العلوم التطبيقية وإنجازاتها العلمية في الحضارة الإسلامية) 2001. وحتى ندرك أهمية منجزه في هذا المحور، وقد سبق أن طبعت مجلة الدوحة كتابه (الأئمة الأربعة) هدية لعددها الثالث، فإنني سأقدم هنا كتابا آخر من كتب هذا المحور لأنني أرشح هذا الكتاب لتقريره على طلاب المدارس الثانوية، إذا ما كنا جادين في محاربة الفكر الإرهابي الذي يتذرع بالدين، وتنوير عقول النشء كيلا يحشوها الإسلامجية المتاجرين به بترهاتهم. هذا الكتاب هو (الوجه الآخر للخلافة الإسلامية) الذي صدر لأول مرة عام 1999 عن دار ميريت، وأعيدت طباعته بعد ذلك عدة مرات.
ويتكون الكتاب من مقدمة ومدخل وستة فصول وملحق بالغ الأهمية هو رسالة الصحابة لابن المقفع، والتي دفع حياته وبصورة مأساوية ثمنا لكتابتها. وفي مستهل تلك المقدمة ينطلق الكاتب من سقوط آخر الخلافات الإسلامية، وهي الخلافة العثمانية في العقد الثالث من القرن العشرين، والتي سقط بسقوطها نظام الدولة الدينية والمدنية معا، والتي كانت في حقيقتها أبعد ما تكون عن الأمرين الديني والمدني. وكانت هذه الخلافة رابعة الخلافات الإسلامية الكبرى التي عرفها تاريخ المسلمين بعد الخلفاء الراشدين. «وقد سقطت هذه الخلافة مثلما سقطت من قبلها الخلافات الأموية، والعباسية، والفاطمية؛ وكانت كلها خلافات قهر امبراطورية، لأسر ملكية حاكمة، أموية كانت أو هاشمية أو تركية أو عثمانية. خلافات يضع خلفاؤها على وجوههم أقنعة الدين، إذا جاز أن يكون للدين قناع، فقد كانوا في حقيقتهم ملوكا دنيويين، يستخدمون شعارات الدين لإخضاع البلاد والعباد. ويهدمون في كل يوم مقاصد الدين، ومن هذه المقاصد: العدل وحرية الاعتقاد، والأمن، والتكافل الاجتماعي، والإخاء والمساواة، واستقلال بيت مال المسلمين، عن بيوت أموال الحاكمين.»
بهذا الوضوح الصارم من البداية يكشف لنا سليمان فياض حقيقة مفهوم الخلافة الذي بدأت ملامح تزعزعه وتصدعه بعد خلافة الراشدين، وبدايات «الفتنة الكبرى» التي انفتح بعدها الباب للخلافة الأموية التي يكشف لنا الكتاب عن أنها كرست باسم الخلافة أحد أسواء نظم الحكم وأكثرها رشوة وفسادا. لذلك يستغرب لتباكي فقهاء السلاطين ومدعي الثقافة والمعرفة على ضياع الخلافة، بدلا من الاحتفاء بالتحرر من قهرها وقمعها للعامة وتبديدها لأموال بيت المال وفسادها. وينادون بعودتها لا لأنها ركن من أركان الدين، وهي بالقطع ليست كذلك فقد اختلف في أمرها الفقهاء على مر العصور، ولكن لأنها تتيح لمثل هؤلاء الفقهاء المتاجرة بالدين وتوظيفه سياسيا، بما يعود عليهم بالمال الحرام. ويكشف لنا الكتاب من البداية الفجوة الواسعة بين آراء المطالبين بعودة الخلافة، وأراء الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، لأنهم جميعا يسقطون الخلافة النبوية، أي خلافة الدين والدنيا التي تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية عن خلفاء القهر، والحاكمين غير الخلفاء، فملكهم ملك دنيوي عضوض فحسب، وإن ارتدى عباءات الخلافة الدينية ومسوحها، فهم مستخلفون في الأرض بمعنى أنهم يخلفون حكاما سابقين عليهم. وليسوا خلفاء نبوة.
الوجه الآخر للخلافة الإسلامية:
ويكشف لنا الكتاب التاريخ الحقيقي لما جرى زمن الخلافة الأموية التي استمرت 89 سنة، وحكم فيها 14 خليفة قتل خمسة منهم. وزمن الخلافة العباسية التي تكونت من 22 خليفة، أصبحت بعدهم الخلافة إسمية لا فعلية، واستأثر بنو بويه ثم السلاجقة ثم الخوارزم وغيرهم بالسلطة دونهم. وقد قتل من العباسيين أربعة عشر خليفة: أولهم الخليفة الثالث المهدي، وثانيهم الهادي بن المهدي الذي كان يتآمر لخلع أخيه هارون من ولاية العهد، فسممته أمه الخيزران. ثم الأمين بن هارون الرشيد، الذي حاربه أخوه المأمون، حتى هزمه وجاءه عبدالله بن طاهر أمير جيوشه برأسه. ثم توالت المؤامرات بالسم أو القتل على الكثيرين من بعدهم. وقد «ارتكب الخليفة الناصر بالله خطأ لا يغتفر، فحين رأى الخوارزميين يوشكون أن يحلوا محل السلاجقة ببغداد بعث برسول إلى امبراطور المغول جنكيز خان يدعوه إلى تحرير الخلافة العباسية والخلفاء العباسيين من الخوارزمية، وفرح جنكيز خان بهذه الدعوة» ص58 واستمهله قليلا حتى يوطد سيطرته على ساحته الخلفية التي امتدت من كوريا شرقا حتى خوارزم وأفغانستان وفارس غربا، ثم كان عصف المغول (بقيادة هولاكو) ببغداد هو ما أنهى الخلافة العباسية، ودمر الكثير من حواضرها، وفي المقدمة منها بغداد وحلب ودمشق. ولم يوقف هذا الزحف المغولي المدمر غير جيش مصر في عين جالوت الي لم يقم بعدها للمغول قائمة.
ويعرفنا الكتاب على كيف أدى استشراء الفساد والمؤامرات داخل قصور الخلافة نفسها حتى أصبحت خلافة أسمية يدعو فيها الخطباء للخليفة في المساجد، بينما يتحكم وزراءه وقواد عسكره في مصيره، ويديرون الخلافة بدلا منه. لكن أهم ما يكشف عنه الكتاب وخاصة في الفصل الرابع (الحالة الاقتصادية والاجتماعية في خلافات القهر) هو أن الخلافة العربية في جوهرها خلافة قهر واستبداد، أموية كانت أو عباسية أو عثمانية. وأن نظام الخلافة نفسه كان نظاما قمعيا لا يترك صاحب رأي دون أن ينكل به. وكيف أن الأئمة الأربعة تعرضوا جميعا للتنكيل على أيدى مختلف الخلفاء لأنهم لم يمالئوا الخلفاء الفسدة. وإذا كان الكثيرون يعرفون محنة ابن حنبل مع المأمون وزبانيته، فإن الكتاب يكشف لنا عن أن أبي حنيفة النعمان قد تعرض للاضطهاد في زمن آخر خلفاء بني أمية «مروان بن محمد، المعروف بالحمار» حينما أبى العمل مع واليه بالكوفة ابن هبيرة، فحبسه وكان يأمر بضربه كل يوم، حتى أوشك أن يموت دون أن يعدل عن رأيه. وانتهى به الأمر وقد خاف أبن هبيرة أن يموت أبو حنيفة في محبسه فتقوم عليه الكوفة والموالي، إلى الفرار بأهله إلى مكة. لكن معاناة أبي حنيفة مع الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، بعد سقوط دولة بني أمية لم تقل عما فعله به ابن هبيرة. بل فاقتها في الملاحقة والعذاب والصمود. فقد رفض أبو حنيفة هدايا الخليفة وعطاياه، ورفض العمل في ديوانه، ولقي بسبب هذا الرفض صنوف الإذلال حينما أجبره على الإشراف على بناء سور بغداد، ثم عد طوبه، وانتهى به الأمر إلى السجن والجلد اليومي الذي أفضى به إلى الموت. بالصورة التي يقدم عبرها أبو حنيفة صورة ناصعة للمثقف الذي يأبى أن تحتويه السلطة، أو تستخدمه في تبييض وجهها الأسود، حتى ولو دفع حياته ثمنا لمواقفه.
سير العلماء العرب والمسلمين:
أما المحور الثالث والذي اهتم فيه بكتابة سير قصصية تاريخية علمية للناشئين عن حياة العلماء العرب والمسلمين في العلوم التطبيقية وإنجازاتهم العلمية في الحضارة الإسلامية، فقد استمر عمله به عبر خمس عشرة عاما، ونشر فيه أكثر من أربعين كتابا صدرت معظمها عن مركز (الأهرام) للترجمة والنشر. وتطول قائمة العلماء التي قدمت هذه السلسلة سيرهم وعرفت القراء بإنجازاتهم في محاولة منه لجعلهم نماذج مألوفة يحتذيها النشء: من ابن النفيس، وابن الهيثم، والبيروني، وجابر بن حيان، وابن البيطار، وابن بطوطة، إلى ابن سينا، والفارابي، والخوارزمي، والإدريسي، والدميري، وابن رشد، وابن ماجد، والقزويني، وابن يونس، والخازن، والجاحظ، وابن خلدون، والزهراوي، والأنطاكي، وحتى ابن العوام، والطوسي، والكاشي، والوزان، وابن الرزاز، وتقي الدين، والرازي، والكندي، والخليل، وابن حمزة، والزرنوجي، وابن ماسويه، وياقوت الحموي، وثابت بن قرة، وابن ملكا، وابن الشاطر، والصوفي، والكرخي، وابن خاتمة، وابن سيدة. وهي قائمة تكشف عن مدى تنوع المجالات المعرفية والعلمية والفكرية التي نبغ فيها هؤلاء العلماء، فيشعر معها النشء بالثقة في ثقافتهم، والاعتزاز بإنجازاتها، مما يرسخ وعيهم بهويتهم وفخرهم بتواريخها ورجالاتها.
والواقع أن لسليمان فياض سلسلة أخرى في هذا المحور هي سلسلة أبطال العرب، التي صدرت هي الأخرى عن مركز الترجمة والنشر بالأهرام، وتضم خمس كتب هي: سعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وعقبة بن نافع. وهي السلسلة التي لم يقدم فيها سوى خمسة كتب، بينما قدم أكثر من أربعين كتابا في سلسلة العلماء والمفكرين. مما يشير إلى اهتمام سليمان فياض بأن يقدم للنشء نماذج تحتذى في العلم والفكر أكثر من الحرب والسياسة. وكأنه كان يقول لهم إن سبيل النهضة العربية، واستعادة أمجاد الأمة الإسلامية يكون باحتذاء طريق هؤلاء العلماء والمفكرين قبل أي شيء آخر.
النشاط الثقافي العام:
أما إذا انتقلنا إلى المحور الرابع وبدأنا بالتعرف على مختلف الأدوار التي نهض بها في الحياة الثقافية فسنجد أنه كمعظم الكتاب المصريين في جيله، وفي الأجيال السابقة عليه، كان عليه أن يعمل عملا يدر عليه دخلا مضمونا يعول به أسرته، تماما كما فعل نجيب محفوظ طوال حياته، وأن يكرس بقية جهده بعده للعمل الأدبي والثقافي. وقد عمل سليمان فياض أغلب سنوات عمره مدرسا للغة العربية. بدأ أولا في المملكة الأردنية عام 1957 والمملكة العربية السعودية 1961-1962. ثم التحق بمدارس مصر عام 1963 في البداري بمحافظة أسيوط ثم الإسكندرية التي انتقل منها عام 1966 إلى أحدى مدارس امبابة بمحافظة الجيزة وظل يعمل بها إلى أن طلب إحالته للمعاش التيسيري عام 1984. ولكنه وقبل انتهاء دراسته الجامعية في الأزهر عمل كاتبًا صحفيًّا في مجلة الإذاعة والتليفزيون (1954- 1955). ومجلة البوليس (1955 - 1960). ومجلة الشهر(1960)، وصحيفة الجمهورية (1960). وما أن ترك القاهرة للعمل في السعودية حتى انتهى عهده بالعمل الصحفي الذي استفاد منه كثيرا، بالضبط كما استفاد هيمنجواي منه في تكثيف لغته وتعميق شعريتها، وتخليصها من أي ترهل أو إطناب.
لكن عودته للعمل بالقاهرة عام 1966 عادت به هذه المرة للعمل الثقافي الموازي في الإذاعة والتليفزيون، وكان قد مارس الكتابة للإذاعة والتليفزيون في مصر والبلاد العربية منذ عام 1955. فله برنامج يومي بعنوان: "قاموس المعرفة" بالبرنامج العام بإذاعة القاهرة استمر لأكثر من عشرين عاما. وأثناء هذا العمل أشرف على إصدار عددين خاصين بالقصة القصيرة بمجلة (الهلال) في عامي 1968 و1969. ثم عمل مراسلا لمجلة (الآداب) البيروتية بالقاهرة طوال عامي 1972 و 1973. وفي ثمانينيات القرن الماضي أشرف على إصدار سلسلة قصصية مهمة هي (مختارات فصول) التي نشر بها بعض أهم المجموعات القصصية المصرية والعربية، فقد أصدر منها 25 عددا في عامي 1984 و1985. وفي تلك الفترة أيضا عمل نائبا لرئيس تحرير مجلة (إبداع) بالقاهرة (1983- 1994).
وإلى جانب كل هذه الأنشطة الثقافية المهمة كان سليمان فياض يمارس بشكل منتظم لأكثر من عقدين من الزمان الكتابة الإذاعية والتليفزيونية وإعداد الأعمال الأدبية لهما، والتي تتلمذ فيها على يديه أسامة أنور عكاشة. فهو لمن لا يعرفون عضو بنقابة المهن السينمائية فرع السيناريو. وكان له الفضل في توجيه أسامة أنور عكاشة، في بواكير حياته الأدبية حيث بدأ عكاشة حياته كاتبا للقصة القصيرة، إلى كتابة المسلسلات الإذاعية، ثم التليفزيونية التي برع فيها عكاشة وسجل عبرها بصمته المميزة في هذا المجال. وهو الأمر الذي اعترف به عكاشة في أكثر من مناسبة. فقد كان لسليمان فياض القدرة على دفع الكثيرين للمغامرة، أو مواصلة الانتاج في أكثر من مجال، وخاصة لعدد من أبرز كتاب جيله، وجيل الستينيات من بعده. في هذا المجال يعترف بهاء طاهر في شهادة له عنه، وفي أكثر من حديث شخصي معي، بأنه لولاه لما نشر شيئا من أعماله المتميزة التي كان لسليمان فياض فضل دفعها للنشر رغما عنه في بعض الأحيان.
سليمان فياض .. وجلال أمين .. والماضي المسكوت عنه
بينما أكتب هذا المقال عن سليمان فياض، قرأت بشغف مقال جلال أمين في (الشروق) القاهرية عن «سليمان فياض وروايته الرائعة: أصوات». وهي بالفعل رواية رائعة بكل معنى الكلمة. أدركت أهميتها الكبيرة منذ قرأت مخطوطتها، وأخذتها معي في رحلتي الأولى للعراق عام 1971 لنشرها به، فظهرت طبعتها الأولى عام 1972 كما ذكرت وليس عام 1970 كما ذكر في مقاله. وقد حظيت الرواية بالاهتمام الأدبي والنقدي منذ ظهورها، وكتبت عنها كثير من الدراسات الجادة باللغة العربية أولا، وبغيرها من اللغات الأوروبية بعد ذلك. لكن ما شاقني في مقال جلال أمين حول هذه الرواية أمران: أولهما تأويله لأسباب قلة حظ هذه الرواية من الشهرة الواسعة التي حظيت بها بعض الأعمال التي تناولت قضية العلاقة الشائكة والمعقدة بيننا وبين الغرب. وثانيهما سكوته عن الحديث عن سياقات معرفته القديمة بسليمان فياض في منتصف الخمسينيات وقد ذكر أن هذا كان زمن تعرفه الباكر عليه.
يقول جلال أمين: «لقد عرفت سليمان فياض في وقت مبكر من حياتي، إذ تعرفت عليه لأول مرة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، حينما كنت أنا في العشرين وهو في السادسة والعشرين. ولم ألتق به بعد ذلك إلا مرات قليلة، وعلى نحو عارض، مما لم يسمح لي بمعرفة أوثق به، ناهيك عن تقصيري الفادح في قراءة إنتاجه. نعم، قرأت له قصتين قصيرتين أو ثلاثا، وأعجبت بها، ولكن ليس بالدرجة التي تدفعني دفعا إلى الذهاب فورا لاقتناء روايته المشهورة وقراءتها. ها أنا ذا الآن اكتشف خطأي، وأحاول التكفير عنه». وأقول له إنه لأمر طيب أن تكتشف خطأك، وتحاول التكفير عنه. ولكنك أنتهجت الطريق السهل للتكفير عنه، بكلماتك الطيبة عن روايته الرائعة. بينما كان الكثيرون ممن يعرفون علاقتك الباكرة بسليمان فياض، وأنا منهم، يتوقعون أن تحكي لهم الآن عن المسكوت عنه في تلك الفترة. وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر. ورحل عنا عدد ممن شاهدوا تلك الفترة أو عايشوها دون أن يكتبوا عنها من رجاء النقاش إلى سامي خشبة. وها أنت تكتب عن ذكرياتك القديمة، وإن كنت تخص بجل ما قرأت لك منها أفراد أسرتك القريبة وما بقي في ذاكرتك عنهم.
وقد أتاح لك رحيل سليمان فياض الفرصة للحديث عن هذه التجربة المهمة في تاريخنا الثقافي والفكري والتي شاركت فيها معه. وهي تجربة حزب البعث القصيرة في مصر، والتي كنت أنت، كما عرفت من سليمان فياض نفسه، أحد أركانها. فما هو السر في أنك لم تنتهز فرصة رحيله للحديث عن جانب مهم من تجربته، لم يتح له أن يكتبه، ولا يتسنى لنا أن نعرف الكثير عنه دون شهادات من عاصروه. فقد يكون من المؤسف أن تنطوي صفحة هذه التجربة معك، كما انطوت مع سليمان فياض! ومن قبله مع سامي خشبة ورجاء النقاش. وأنت تقول لنا أنك أصغر منه بست سنوات، يعني أنك شارفت الثمانين، مد الله في عمرك! لذلك أحثك هنا على أن تكتب عن هذه التجربة، سياقاتها الاجتماعية والسياسية، وأسباب قصر عمرها، خاصة وأن كثيرين ممن شاركوا فيها في شرخ الشباب، وأنت منهم، قدموا فيما بعد إسهامات متميزة في الفكر والنقد والإبداع، مما يجعلها تجربة ثقافية في المحل الأول، قبل أن تكون سياسية بأي معيار من المعايير. رفدت واقعنا الثقافي بمجموعة من التيارات التحتية التي ظلت فاعلة في انتاجهم الأدبي والفكري فيما بعد، وخاصة محورية فكرة العروبة فيه.
وربما يجيب الحديث عن المسكوت عنه فيها عن بعض تلك الأسئلة التي طرحتها في مقالتك عنه، وخاصة تلك التي تتعلق بأن الرواية لم تحظ بما تستحق من الشهرة والاحتفاء. فهل لاستقلال تلك المجموعة التي انضوت تحت لواء أفكار البعث الباكرة فكريا وشخصيا دور في هذا المجال؟ لقد فسرت ذلك بأن له علاقة بشخصية سليمان فياض، لأننا «نعرف الآن بما لا يدع مجالا للشك أن حجم الموهبة شيء، والقدرة على تسويقها شيء آخر. ومن معرفتي المحدودة بسليمان فياض أستطيع أن أقول إن شخصيته ليست من النوع الذى يجعله ماهرا في تسويق إنتاجه. إنه قوى المشاعر، لاشك في ذلك، شديد الثقة بموهبته ومواقفه، ولكنه، فيما يظهر، لا يعلق درجة كافية من الأهمية على تقدير الناس لما يكتب، أو ربما شغلته مشاغل أخرى تتعلق بمطالب الحياة اليومية، عن الانهماك في ذلك النوع من العلاقات العامة الذى يؤدى إلى الشهرة والانتشار.» وقد دفعتني ملاحظة بعض من شاركوا في تجربة البعث الباكرة تلك في مصر عن قرب، إلى أن أعزو فشل التجربة في مصر، لنزعة الاستقلال الفكري الشخصية لدى أغلب من عرفت منهم. والبعث في تجلياته السورية والعراقية وحتى اللبنانية أقرب إلى التنظيمات الفاشية والعسكرية منه إلى حلقات الفكر النقدي والاستقلال بالرأي، وهو أمر يبدو أنه يميز خصوصية التجربة المصرية قصيرة العمر فيه.
وربما تنقلني نزعة الاستقلال تلك، والتي عززها قصر عمر التجربة البعثية وإخفاقاتها في مصر، إلى الأمر الأول الذي طرحته مقالة جلال أمين، ولم تسكت عنه هذه المرة، وهو سر عدم تسليط أضواء الشهرة على رواية سليمان فياض البديعة (أصوات) برغم جدارتها بها. وقد فسر الأمر بأن هذه الرواية، على عكس ما سبقها في هذا الميراث السردي العربي الطويل من التعامل مع الآخر الغربي، منذ محمد المويلحي وحتى الطيب صالح، لم تنتصر للحضارة الموروثة ضد الحضارة الوافدة في تصويرها للصراع بين الحضارتين. وإنما «وصف سليمان فياض الجانب المأساوي في التقاء الحضارتين، فنجح في ذلك نجاحا باهرا، ولكنه أنهاها بما يشبه الانحياز للحضارة الحديثة، أو على الأقل بتسليط ضوء ساطع على ما في ثقافتنا من نقائص وحماقات». وهو أمر بالغ الدلالة على أن ثقافتنا لاتزال تميل إلى من يتبنى رؤاها، مهما كان تخلفها، ويدافع عنها، لا إلى من يفضل مواجهتها بحقيقتها. كما أنه أشد دلالة لأنه يجيء من أزهري أمضي جل سنوات تكوينه الثقافي في مؤسسة الأزهر حتى حصل على أرفع شهاداتها: العالمية. بل وأنفق جزءا كبيرا من مشروعه الثقافي في خدمة اللغة العربية معجميا (11 معجما)، وخدمة التراث الثقافي وتاريخ الفكر العربي (7 كتب) وتيسير سيرة أعلام الحضارة العربية والإسلامية وعلمائها ومفكريها للناشئة (40 كتابا).
لكن سليمان فياض بقي في هذا كله واحدا من أعمدة التحديث، والفكر الأدبي الجديد الذي يأخذ الكتابة الإبداعية إلى الصرامة في الكتابة ونصاعة التعبير واقتصاده، والبعد عن الترهل العاطفي، والرأي المستقل الذي لا ينحاز لعوار المؤسسة، ولا يأخذ مواقف كيشوتية منها في الوقت نفسه. لذلك ليس غريبا عليه أن يكون ناقدا حادا لما تنطوي عليه ثقافتنا من نقائص وحماقات، في هذه الرواية البديعة وغيرها من الأعمال الإبداعية العديدة التي تركها لنا (تسع مجموعات قصصية وست روايات قصيرة، وثلاث كتب في الصور/ السير القلمية)، والتي تحتاج منا إلى العودة إليها والحوار الخلاق مع كشوفها الأدبية والفكرية على الدوام.