مثل آلاف وآلاف غيري عرفتُ سميرَ عبد الباقي منذ زمن طفولتي، حين كان اسمه يُطبَع مع أشعاره وموضوعاته خلف غلاف مجلة «سمير» التي هيمنت وقتذاك على حياتي، كواحدةٍ من أحلى المتع التي بقيت تتكرر في كل يوم «أحد» من أيام الحياة. انشغفتُ بالمجلة واعتقدتُ – مثل كثيرين غيري آنذاك، بلا ريب – أن مجلة سمير تحمل اسمه هو.
«موال الصبا في المشيب» هي رواية تغنمُ من سيرة صاحبها، لها فـَخار الأنشودة بما فيها من تلاحُق ضرباتٍ يضربها "البطلُ" وضرباتٍ يتلقاها، ولها شجْو المرثية إذْ تمرقُ الروحُ فيها، روحُه، على قبورٍ وتهدهد وجوهَ المفقودين من بشرٍ وأشياءٍ وأزمان. فخارٌ وشجوٌ؛ غيرَ أنها – هذه الرواية - ليست أنشودة ولا عَدودة، والبطل هو طفلٌ لكنما له إرادة ونفوذ حتى على الجنِّيات والعفاريت.
هذه الرواية تبدو كأنها نسخة سمير عبد الباقي الخاصة من «كتاب الموتى» أو بالأحرى «كتاب خروج الموتى إلى النهار» وقد قام هو بتجهيزه في مُجاهَدة مُضنية لكي يُدَسَّ معه في طيات أكفانه – بعد عمرٍ مديد – من أجل أن يبتهل بصدقِه وإقراراتِه لنيْلِ النجاة والخلاص. أمَّا افتتاحيات الفصول فأُفسِحَت لالتماعاتٍ قرآنيةٍ خاطفة.
هو «سمير»، ابن «عبد الباقي أفندي عوض» المدرس بالمدرسة الإلزامية والست «علية» بنت المعلم «يوسف الخميسي» نجَّار وخبير السواقي الضليع في الصنعة، وعلية هي من بنات البنادر اللائي تزوجن في القرى فأخذن وأعطين.
لا يأملُ سميرُ من قرائه سوى التأني على كتابه وعدم التعجُّل بالمصادرة، يأملُ ألَّا يتلكأوا في فحص الشكل الأدبي لكتابه هذا، فيعيقون أيَّ وصولٍ إلى المحتوى. إنه يصيح صيحات لأجل أن تُتاح له فرصة إسقاط الثمرة، ولا وقت لديه؛ لَكأنه مثل دجاجة متوفِّزة تكاد بيضتُها تنزلق منها ويبهظُها التريُّثُ لأجل تمحيصِ مَأمنٍ يترأف بالبيضة. «موال الصبا في المشيب» هو كتابٌ يجاور - في رأيي - كتابَ «لويس عوض» الثمين «مذكرات طالب بعثة» من حيث النفاذية والقدرة على الإحاطة والنكهة الشخصية، بصرف النظر عن التنظير الأدبي.
الراوي يروي عن نفسه بصيغة المفرد الغائب باعتباره «الصديق التوأم»، العليم طبعاً، للمروي عنه، كما يروي عن نفسه أيضاً بصيغة المفرد المخاطَب، الثوري، الرومانسي، الفضولي، المنكور من أعدائه، المنكود من أصدقائه. ودفتر الأحوال هذا يستقطر من الذاكرة الصافية للكاتب حالاتِ طفلٍ في قرية مصرية عبر سنوات النصف الأخير من أربعينات القرن العشرين وبداية الخمسينات بما في ذلك من أصداءٍ للحرب العالمية الثانية ولنشاطات الأحزاب والجماعات السياسية في مصر خاصةً «حزب الوفد» و«الجماعة الإخوانجية»، وقد لا يفوِّت القارئُ منظرَ عبد الباقي أفندي بعد أن اشترى جهازَ راديو وهو يصطنع عربةً صغيرة دبَّجها خصيصاً من أجل نقل بطارية هذا الراديو إلى وابور الطحين حيث كانت تحتاج للشحن يومياً من موتوره. وبين مقاميْن كرَّس أهالي ميت سلسيل ولاءَهم؛ فهنا «سيدي مجاهد» الحاضر الذائع الـمُدلَّل كأنه «أوزير»، وهناك «سيدي أبو خشبة» المهجور الـمُرجَأ المرهوب كأنه «سِت» في مفهومه الصحيح، وليس غريباً أن يكون «أبو خشبة» شرساً في حراسته لمصر، مثل «ست»، وهو الذي اشتُهِر بأنه قد قاتل الصليبيين بخشبة هائلة لم تكن سوى صاري مركب شراعي، وهزمهم.
يبدأ السردُ من لحظة وجود السارد على شاطئ المتوسط وسط صفوف المقاومة داخل «بيروت» أثناء الحصار الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية في سنة 1982، ثم الاحتفال الأممي بمرور خمسين سنة على تأسيس أحد الأحزاب الماركسية اللبنانية، وكأن ذلك الاحتفال قد صار بمثابة تعويض أو إلهاء لحظيٍّ للكاتب عن حسرته الدائمة على قرار حلِّ حزبه الماركسي المصري في سنة 1965 وسط ملابسات سياسية متشابكة ومثيرة، آنذاك. إن شاطئ المتوسط سوف يلمُّ له بيروت مع بلطيم مع ميت سلسيل، ثم يدعه يبري أقلامَه ويفتح ورقته البيضاء ويتركَّز في قريته «ميت سلسيل» تلك التي من أعمال «المنزلة» محافظة «الدقهلية» لكي يستوفي مَروياتِه.
قد يمر الإنسانُ وهو طفلٌ في الخامسة من عمره بموقفٍ عاطفي يهزُّه ويزعزع وجودَه لكنَّما يتأبَّى عليه البكاءُ في وقته وحينه، ولا توافيه الدموعُ ساخنةً إلا بعد سبعين سنة! هذا ما كان مع سمير عبد الباقي حين رغب في كتابة قصة حبه الأول مع «منيرة» الطفلة الجميلة بالمدرسة الإلزامية لـمَّا كان هو صغيراً تحت سن القبول بالمدرسة غير أنه منتظم بالدراسة – في صفوف البنات - بطريقة غير رسمية. وذات يومٍ حار قائظ ماتت منيرة وهي تلعب بعدما عادت من المدرسة بشهادة نجاحها، وصُعِقت القرية بخبر موتها وانهار أبوها والتاثت أمُّها وقد أنكرت موتَ طفلتها، ثم سكنها هاجسٌ رهيب بأن ابنتها قد دُفِنت حية فظلت تهبُّ من نومها، إذا نامت، وتعدو إلى قبر الميتة الصغيرة الحبيبة لكي تنبشه وتستعيد فقيدتَها، بينما ترنَّح سميرُ، العاشقُ الصغير، مفجوعاً فكاد يموت إذْ سمع الخبر، غير أنه رفض تصديقَه رفضاً نهائياً مؤبداً، وبات يلتقي محبوبته تحت الأرض بطريقته الخاصة. وسرعان ما ضرب الموتُ من جديد؛ فصرعَ «سامي»، الأخ الأصغر لسمير، إثر سقوطه من شرفة بيت أحد أخواله بينما كانت إحدى الخالات تلاعبه وتُلاهيه، كما جندلَ «صفاءَ» الأخت الصغيرة وهي محمومة بجريرة مرضٍ ما.
منعَ أبوه أبناءَه من النزول في الترعة، اتقاءً للمخاطر والأمراض، وكان يتشدَّد ويتحوَّط أكثر مع سمير المفرط في شقاوته، ولقد لجأ الأبُ كثيراً، قبل خروجه من البيت، إلى كتابة إمضائه المعقَّد – على حال إمضاءات ذلك الزمن - غير القابل للتقليد بقلم الكوبيا الحسَّاس للْبَلَلِ على فخذ الولد سمير كوسيلة ردعٍ، لكن سمير لم يفشل نهائياً في الاحتيال على تدابير الأب التي حمت أبناءَه في النهاية من البلهارسيا وغيرها. آنذاك كان الطفل سمير يحلم بلقاء «جنيّة البلح الأحمر» المخيفة، الكائنة في أعماق مياه الترعة بينما تُبدي أصابعَها المصبوغة بالدم الأحمر على هيأة ثمار بلح أحمر طافية على سطح الماء إغراءً لمن سيكونون ضحاياها، واهتدى سميرُ إلى أنه سيقبل النزال مع الجنيّة، وسيتقدم نحو ثمرات البلح الأحمر تاركاً الجنيّة تظن أنها أفلحت في الإيقاع به بينما هو واعٍ لأحابيلها، وسيخوض المغامرة واثقاً من كونِه سيظفر بأحضان بنات الحور وبالجنيات وبكنوز الملك الشمردل، ثم سيعود بغنائمه سالماً إلى أبيه وأمه ويعوِّضهما عمَّا ألحقه بهما من أذى. أمَّا أمه فكانت تربي أبناءَها بالمقولات ضمن وسائلها الأخرى؛ «الغني هو اللي يقدر يستغني»، «اللي يلم سبع لُقمات – من بقايا الطعام بعد انتهاء الوجبة – يبقى له في الجنة قيراط»، «الإناء يستغفر لِلاعقه».
على مسرح المدرسة الإلزامية، وبحضور الأهالي في احتفالٍ بالمولد النبوي، اُختير وهو طفل لتمثيل دور «الأمين» فكان من نصيبه الصراخ بذلك الأمر القاطع المحيِّر الصدَّاح: «اِئتوني بثوْب!»، وذلك من أجل حلِّ معضلة نقل «الحجر الأسود» بعدالة ذكية أخَّاذة تُدهِش بُلهاءَ قُريش الكفار والمشركين، وغدا نجاحه المؤثر في «اِئتوني بثوْب!» بمثابة حظوة نَالَ بسببها قدراً من «الرِّفعة» بجدارةٍ شخصية فأُعفي من بعض عقوبات الضرب بالمسطرة على ظهر يديه، كما كان مُتَّبعا.
ما أوفر الغارات التي كان يشنُّها برفقة زملائه وزميلاته، الصغار، على الجنائن والحقول ومغافلة الحرَّاس ومعالجة الأسلاك الشائكة والموانع والشِّراك، والعودة ظافرين بالغنائم مهما اتسخت الثياب أو تمزقت ومهما جهدت الأبدان أو انجرحت. وما أبهر الاجتراءات الجنسية الباكرة والمتعددة التي وجد نفسَه يتغشَّاها – خاصةً مع «نرجس» زوجة الفلاح المحرومة الشهيَّة العفيَّة العارمة الجميلة على الرغم من اعتلال إحدى عينيها، ومع «زهزهان» حبيسة أخيها المحتاجة للمواساة والمذعِنة لدغدغات المواسي الصغير، ومع «مديحة» فتاة وابور الطحين والتراحيل الحسناء ذات النمش، ومع المتواطئة راكبة القطار الذي كان يركبه أيضاً أبوه كما زوجُها، ومع «عزيزة» التي استغلته ليقوم عنها بأشق الأعمال، وغيرهن – وكان سمير، الصغير، قد وجد نفسَه يخوضها لأنه كان يتلقى «وحيَّ» أو «وسوسةَ» أو «تحريضَ» تلك الاجتراءات وسُبُلَ وفنون إغواء النساء من دليلٍ مُدقق، من طيفٍ غامضٍ، من خبيرٍ مُلهِمٍ لعله كان أقرب أصدقائه إليه، من قبل أن يتعارفا حتى.
يا لَنباهة وقيادية تلك البنت التي اسمها «وطنية» من زميلات سمير في الشقاوة واللعب والعفرتة، ولقد راقني أن مثل هذا الاسم كان لطفلة قروية في منتصف أربعينات القرن الماضي. كانت «وطنية» ضمن شركاء سمير الدائمين في معظم الأنشطة اليومية الحافلة، وربما كانت هي أكثر مَن قدَّر مواهبَ سمير في ابتكار وسيلة لشفط اللبن الرائب والحليب، من خزائنه البعيدة المغلقة، عبر فتحات النوافذ باستخدام سيقان الفول المجوَّفة، وفي مطاردة أسراب الوطاويط وقت بدايات المساء، وفي اصطياد فراشات الحقول ثم ربطها بخيوطٍ، بعد اخترام أجسادها، ثم إطلاقها للطيران المحدود المرهون بطغيان الآسرين المتحكمين الصغار.
برفقة الكاتب سيتمادى القارئُ في نبْش الخفيِّ، ويرمقُ - عبر غُلالةٍ - نِتفاً من مغامرة ومأساة الخال الذي كان يدرس بالأزهر ويهبطُ القريةَ في زياراتٍ يتألق فيها كداعيةٍ وخطيب قدير ومثالٍ عالٍ للورع قبل أن تنكشف، إثر زيارة مفاجئة إليه من أخيه الأكبر، قصةُ زواجه السري من امرأة زقاق أو عطفة «أبو جبة»، وكان ردُّه هو إصابته بالشلل الفوري منكسراً انكساره الشامل النهائي وعودته محمولاً على كتف أخيه. في كنف هذا الخال الأزهري بالذات، أيامَ ألقِهِ، استطاع ابنُ عبد الباقي أن يناكف ويجادل في قصة بناء «فُلك نوح»، وبينما بات هذا الخالُ قعيداً محسوراً كان خالٌ آخر، هو «الخميسي»، يجوب البحارَ، ويسكن بأحضان نسائه في الموانئ، ويزور قريتَه ميت سلسيل لِماماً في هيأة عابرٍ "لا مُنتمٍ"، لكنه دائماً كان يخصُّ سميرَ ابنَ أخته علية بصُحبة مميَّزة أطلعه فيها على مكنون رأيه في أهل قريته باعتبارهم «غنم أبيض»، ذوي صخب وعجيج، وكان قد دبَّج سيمفونية تعبِّر عن حالهم هي «سيمفونية المأمأة» التي طالما عزفـَها بفمه لأجل إسعاد ابن أخته، لكنه كفَّ عنها عندما أظهرت القريةُ وعياً سياسياً نابهاً إبان الاحتفالات بفوز حزب الوفد في انتخابات أُجريت وقتذاك.
اعتقد سميرُ بأن جدته لأبيه قد غضبت ذات مرة على بنت غجرية مدَّاحة بسبب ضجيج طبلتها وغنائها المزعج اللجوج فاستدرجتها الجدةُ – على ما يَظُن – وسحرتها بقرة! وكانت الجدة، العجوز، شبه العمياء، قد وضعت هذه البقرة تحت وصايتها شخصياً ومنعت الأطفال من الاقتراب منها مما عزَّز ظنونَه عنها، إلا أنه اقتربَ فكان أنْ استشعر بداخل تلك البقرة كائناً إنسانياً رهن الاحتجاز بسبب السحر، ولقد ازدادت هواجسُه عن جدته، قبل قليلٍ من موتها، حتى قام بمغامرة التسلل إلى غرفتها الحصينة الغامضة التي يملؤها الظلام وتتكدس فيها أسرارٌ وكنوز.
كان سمير منقولاً إلى الصف الثالث الإلزامي وقتَما كان ابنُ قريته «حسين عبد ربه» (المناضل الماركسي والصحفي المعروف، لاحقاً) منقولاً إلى الصف الرابع حين تعارفا، وقد انبهر سميرُ بسعة معارف حسين وبآرائه السياسية والاجتماعية، وكان لا بد أن يسأله عن السر، ذاك الذي لم يكن غير «القراءة»، وأعاره حسينُ كتابَ طه حسين «المعذَّبون في الأرض» فانقلب كيانُ سمير حتى إن أمه أصرت على قراءة ذلك الكتاب لاستبيان ما جرى لابنها فكاد يحدث لها ما حدث له، وبالطبع فإن سمير الصغير كان قد انتبه – بعد الكتاب – إلى كروب المعذبين من أهالي قريته أولئك الذين طالما كان يرى عذاباتهم من قبل لكنه لم يكن يعي ما كان يراه بل إنه كان يستمرئ اعتبار تلك العذابات جزءاً من لهوه ولعبه. كانت القرية تجيشُ بالنقاشات والأحاديث والمسامرات ذات الطابع السياسي، نهاراً، وليلاً تحت أنوار «الكلوب أبو رتينة»، في تتبُّع مدهش لأحوال العالم كما للأحوال الداخلية المصرية، وقد كان قرار «مصطفى النحاس» بالسماح للفدائيين بمحاربة جنود الإنجليز في منطقة القناة هو الذي ألهبَ حماسة الصبي حسين عبد ربه، الذي لم يكن قد بلغ الرابعة عشر، فعقد عزمَه و فرَّ من القرية للالتحاق بالفدائيين. في تلك الفترة وبذلك اللقاء مع حسين تحددت معالم النطاق الذي سيحياه سميرُ طوال حياته بما في ذلك سنوات الاعتقال السياسي الخمس والحبس الانفرادي ولقائه اللاحق بزميلته الجامعية ومحبوبته «جوزفين»، وكذلك إحساسه بالاغتراب في البيت القديم بعد التعديلات التي أجراها عليه أبوه.
في وجدانه ليس غير الإسكندرية منارة لإشراقات الروح؛ الإسكندرية بالذات وقتَ زارها صغيراً مع أبيه لأجل وَصْل قريباته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث رأى البحرَ لأول مرة، وحيث شاهد فيلماً لأول مرة أيضاً في سينما «الهمبرا»، ولقد انضربَ بالسحريْن في ضربة واحدة، وهو يشهد بأنه ظل لا يدري كيف يعبِّر عن لقائه الأول القديم بالبحر حتى سمع، بعد ربع قرن، التعبيرَ الذي أطلقه ابنُه «أشرف»، الطفل الصغير، واصفاً ما لم يقدر هو على وصفه؛ «الدنيا بتستحمى» حين رأى النيلَ لأول مرة من مركبة نهرية.
لقد زالت القريةُ وزال العالَمُ بحسب المواصفات التي أوردها ابنُ عبد الباقي أفندي في كتابه، لكن، على أية حال، ليس هنالك ما لن يزول. يفنى البشرُ ويحلُّ محلَهم خلقٌ آخر، تضمحل عمائرُ وبنايات وسرايات وخرابات وتحل محلها بناياتٌ وإقامات وخرابات، ويبقى التذكُّر. التذكُّر هو بعثٌ وهو إحياء. فِعْلُ التذكُّر الوافي المثابر الأمين الثاقب - حتى بدون العكوف على تدوين هذا التذكُّر - له القدرة على البعث والنشور والإحياء، بالمعنى الكامل الحرفي وليس على سبيل المجاز؛ إحياء كل امرئٍ فنى وانطوى وكل حصاةٍ فُتِّتت أو جدارٍ زالَ وكل موقفٍ وكل إحساس وكل عتمةٍ أو استنارة وكل الدهاليز والأركان والروائح وكل العفاريت والجنيات. الطاقة التي تنطلق وتُبَثُّ بأثر التذكُّر تبقى أبداً ولا تفنى، باعتبارها طاقة، ولا تني تحوم وتدور وتجول حتى يلتقطها لاقطٌ، أو حتى يستنزلها ذهنٌ أو أذهانٌ في أزمانٍ أخرى وإذْ ذَاك تكون بمثابة لُقية معرفية أو رؤيا أو إلهام. أمَّا المتذكِّر فهو أيضاً، بلا ريب، يُعيدُ بعْثَ نفسِه على صورةٍ قديمة سابقة؛ يعيدها بعدالةٍ؛ يعيدها بعد أن يتلبَّسه سمتُ القاضي النزيه.
إنه يطبخ لنفسه الآن مستحضراً نكهة أمه في طَبْخِ المأكولات التي علمته إياها والتي لا تزال، وفي الأثناء فإنه يسرحُ – ضمن ما يسرحُ – في تسوية مواقف لم تُسَّوَّ أيام اللعب مع رفاقه ورفيقاته الصغار، محاولاً إقرار كل حقٍ إلى صاحبه الجدير به، وعالماً أن ذلك ليس أمراً قليل الجدوى. سيتذوَّق طعامَه منتشياً بحلول النكهة المبتغاة فيه، ثم سيتركه جانباً لكي يتم نضجه، نصفَ ساعة لا غير، ويمضي إلى حديقته الصغيرة لكي يحفر وينقل شجيرةً عليلة من موضعها إلى موضعٍ آخر خالٍ من الحصوات أو الجوامد التي تعيق نزولَ جذرها إلى مداه، وبعد أن يعيد غرْسَ النبات سيقرصه الجوعُ ويشعر بالنهم فيهرع راضياً إلى صحونه يغترفُ فيها، برفقة طيف أمه.
لقد أعطانا ابنُ عبد الباقي عطيةً، وهو الآن يتملَّى ما أعطى، بينما ينعمُ برفقة الساحر الباقي اللطيف المرح الصريح النزق اللعوب صاحب الحذر وصاحب الفضول؛ برفقة القط «ميشكا».
atif_sol@yahoo.com
--------
«موال الصبا في المشيب»، رواية/على هامش السيرة الذاتية. المؤلف: سمير عبد الباقي. الناشر: دار إيزيس للفنون والنشر، القاهرة، 2013، 433 صفحة.