يقدم الباحث المصري هنا دراسة لعلم البديع وتاريخ الكتابة والتأليف في البديع العربي وفنونه المختلفة بين الشعر والتنظير، ويتتبع نقديا مساراته في العصر المملوكي، وتجلياته المختلفة في شعر هذا العصر الذي أصبحت البديعيات فيه جنسا أدبيا. دارسا دوره في الضرورات الفنية وتأثيره على وحدة القصيدة العضوية.

البديع وبناء النص الشعرى في عصر المماليك

محمد علي عزب

تنقسم البلاغة العربية اٍلى ثلاثة علوم الأول منها هو علم المعاني، ويُعرف به أحوال اللفظ العربي ومدى مطابقة المعنى المقصود لمقتضى الحال، ويدرس الإنشاء والخبر والتنكير والتعريف والتقديم والتأخير وما شابه ذلك، والعلم الثانى هو البيان ويُعرف به كيفية التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة ويدرس التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز المرسل وما شابه ذلك، والعلم الثالث هو البديع، ويُعرف به تحسين خواص الكلام وتنميقه، ويدرس المحسنات المعنوية مثل التورية والطباق والمقابلة والمحسنات اللفظية مثل الجناس والسجع والتصريع، وأول من ألّف فى البديع هو عبد الله بن المعتز " توفى سنة 296هجرية"، وقال فى مقدمة كتابه المسمى بالبديع: «البديع اسم موضوع لفنون الشعر يذكرها الشعراء ونقّاد المتأدبين منهم، أمّا العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفونه، فلا يعرفون هذا الاسم ولا يدرون ما هو وما جمع من فنون البديع ولا سبقنى إليه أحد وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين»1، وقد أضاف ابن المعتز للبديع الألوان البيانية الرئيسية التشبيه والاستعارة والكناية وكان أول من يضم البيان للبديع، وقد وضع ابن المعتز فى هذا الكتاب ثمانية عشر بابا، وترك الحرية لمن بعده فى أن يقصروا البديع على هذه الأنواع أو يضيفوا أنواعا جديدة حيث قال: «ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئا اٍلى البديع ولم يأت غير رأينا فله اختياره»2، وبعد ابن المعتز جاء قدامة بن جعفر "توفى سنة 327 هجرية" وأضاف للبديع ثلاثة عشر نوعا جديدة في كتابه "نقد الشعر"، ووصلت أنواع البديع عند أبى هلال العسكري "توفى سنة 395 هجرية" فى كتابه "الصناعتين" اٍلى خمسة وثلاثين نوعا وهكذا أصبح كل مؤلف جديد يضيف أنواع جديدة للبديع، وما كاد القرن السادس الهجري ينقضي حتى وصلت أنواع البديع عند أسامة بن منقذ "توفى 485هجرية" في كتابه "البديع في نقد الشعر" اٍلى خمس وتسعين نوعا، وفى نهاية العصر العباسي وبداية العصر المملوكي انضم علم المعاني للبديع كما انضم له علم البيان على يد ابن المعتز، واستدل على ذلك بأن الخبر والاٍنشاء والتقديم والتأخير والتنكير والتعريف وغيرها من أركان علم المعاني قد وردت ضمن أنواع البديع في كتاب "تحرير التحبير" لزكى الدين ابن أبى الإصبع المصري، الذى عاش بين نهايات العصر العباسي وحكم الأيوبيين في مصر وبين بدايات العصر المملوكي حيث توفى سنة 654 هجرية وكان ناقدا مجددا وشاعرا لم يتبق من شعره اٍلاّ القليل الذى يبدوا فيه أنه كان شاعرا مبدعا من طراز الشعراء المصريين المجيدين الذى عاشوا في فترة حكم الأيوبيين وأبرزهم ابن سناء الملك وابن قلاقس وظافر الحداد والقاضي الفاضل.

وأصبح مسمى البديع يطلق على كل علوم البلاغة في العصر المملوكي الذى اتُّهِم بأن الشعر فيه قد انحطّ مستواه وأصبح زخرفة خالية من الروح، ومجرّد لعب بالمحسنات البديعية، ومبررات الأدباء والباحثين الذين يتبنون هذا الرأي هي كثرة أنواع البديع في ذلك العصر وكثرة استخدام الشعراء لها، هذا بالاٍضافة إلى نظرة البعض للبديع على أنه زخرفة وصناعة، ومن ناحية كثرة أنواع البديع، واشتقاق أنواع جديدة، وتفريع عدة أنواع من النوع الواحد، فيعود ذلك إلى رغبة بعض الأدباء والمؤلفين في مجاراة سابقيهم، وإلى سبب آخر ارتبط بقصائد البديعيات القائمة على الحشد البديعي، والتي تختلف في بنائها وغرضها عن الشعر الذى يأتي فيه البديع ضرورة فنية يتطلبها النصّ، وترتبط بالصياغة والمعنى وتحسين خواص الكلام، لكى يكون طريفا وجيدا، وهذا هو الهدف من البديع، والقراءة المنصفة لشعر العصر المملوكى تتطلب التفرقة بين هذا وذاك.

أولا ـ البديعيات بين الشعر والتنظير:
البديعيات قصائد طويلة تزيد عن مائة بيت، تأتى على وزن بحر البسيط، وروى الميم المكسورة، غرضها المدح النبوي، واستخدام ألوان البديع المتعددة حيث كان الشاعر يحشد في بديعيته ما تيسر له من أنواع البديع، حتى لو كان حشوا زائد لا يفيد المعنى، بل يضره في بعض الأحيان، ومخترع البديعيات هو صفّى الدين الحلّى "677 ـ 750 هجرية"، وقد سمّى بديعيته "البديعية الكافية في مدح سيد البرية " وقال في بدايتها:

اٍن جئت سِلْعا فسلْ عن جيرة العلِمِ واقرا السلامَ على عُرِبٍ بذي سَلَمِ

فقد ضمنت وجودَ الدمعِ من عدمِ لهم ولم أستطع اٍذ ذاك منع دمى

أبيت والدمعُ هامٍ هاملٍ سربٍ والجسمُ فى إضم لحمٌ على وضمِ

من شانهِ حمل أعباء الهوى كمدًا إذا همى شـانه بالدمع لم يلمِ.3

وقد أشار صفى الدين الحلّى في مقدمة شرحه لبديعيته أنه كان ينوى تأليف كتاب فى البديع لكن أصابه المرض، وقال عن ذلك:" رأيت في المنام رسالة من النبي عليه الصلاة والسلام تتقاضنى المدح، وتدنى البرء من الأسقام، فعدلت عن الكتاب إلى نظم قصيدة تجمع شتات البديع وتتطرز بمجد مدحه الرفيع، فنظمت مائة وخمسة وأربعون بيتا من بحر البسيط، تشتمل على مائة وواحدا خمسين نوعا من محاسنه، وجعلت كل بيت فيه شاهدا، ومن عدّ جملة أنواع التجنيس بنوع واحد كانت العدة مائة وأربعين نوعا، فإن فى السبعة الأبيات الأوائل منها اثنى عشر صنفا، وجعلت كل بيت مثالا شاهدا لهذا النوع."4

واٍلى جانب هذا الكلام الواضح من الحلّى الذى يدلل به الباحثون على أن الحلّى هو مخترع البديعيات، فاٍن هذا الاختراع يتناسب مع الشخصية الأدبية للحلّى الشاعر المولع باستخدام أنواع البديع المتعددة وحشدها في شعره بشكل ملحوظ ويتضح ذلك من ديوانه، وقد ارتبط هذا الولع برغبته فى الابتكار، وأدلل على ذلك بأنه فى سنة 702 هجرية عندما ترك موطنه الحلة في العراق، وذهب الى "ماردين" في الشام كتب في مدح السلطان نجم الدين أبو الفتوح غازي بن أرتق ديوانا غريبا من نوعه، يتكون من تسع وعشرين قصيدة سمّاها الأرتقيات، وهى من الشعر المحبوك الطرفين الذى تبدأ فيه كل أبيات القصيدة وتختم بحرف واحد من حروف المعجم، وينسب ابتكار محبوك الطرفين لأبى بكر محمد بن دريد "توفى سنة 321هجرية "، وما يجعل هذا الديوان غريبا هو أن الحلى الذى اشتهر بهذا النوع بعد ابن دريد جعل قصائده تسع وعشرين، وكل قصيدة تسعة وعشرين بيتا، وتبدأ بحرف من حروف اللغة العربية بترتيبها الأبجدي من الألف للياء، ونظم الحلّى عدة أبيات جعلها مقدمة هذا الديوان قال فيها:

أهدى قلائد أشعار فرائدها درر نهضت بها من أبحر عمقِ

نظمتها فيك ديوانا أزف بهِ مدائحا في سوى علياك لم ترقِ

تسع وعشرون اٍن عدت قصائدها ومثلها عدد الأبيات فى النسقِ

لم أقتنع بالقوافي في أواخرها حتى لزمت أواليها فلم تعقِ

ما أدركت فصحاء العرب غايتها قبلي ولا أخذوا مثلها سبقي5

وربما كان الحلّى يظن أن الشعراء سيتبعونه في طريقة كتابة مثل هذا الديوان الذى تغلب عليه الصنعة، واعتبره الحلّى سبقا شعريا، ولكن ذلك لم يحدث لأن محبوك الطرفين لم يكن مستساغا عند غالبية الشعراء الكبار، ويتضح ذلك من أعمالهم وعدم اهتمام منظري البديع ومؤلفي البديعيات به، والقليلون الذين استخدموا محبوك الطرفين في بعض أبيات من شعرهم، فربما وجدوا صعوبة في تنفيذ مخطط الحلّى في صناعة ديوان بهذا الشكل، على عكس البديعيات التى انتشرت طريقة كتابتها بين الشعراء لمدة ما يقرب من ستة قرون، وقد كتب بعض الشعراء المسيحيين بديعيات في مدح السيد المسيح، ونجاح البديعيات وانتشارها يعود اٍلى أنها تتقاطع مع قصائد المدح النبوي الذى كان محببا للشعراء في ذلك العصر، إضافة اٍلى قصيدة واحدة طويلة وليست ديوانا كالأرتقيات، أمّا من ناحية حشد أنواع البديع في القصيدة فإنه يتفق الجانب التنظيري لشخصية الحلّى المنظّر والناقد صاحب كتاب "الدر النفيس فى أجناس التجنيس"، و"العاطل الحالي والمرخّص الغالي" الذى يعتبر أول كتاب يتناول فنون الشعر العامي الزجل والمواليا والقوما وغيرها، واٍن كنت أرى مقدمة ديوان أبى بكر قزمان القطبي "توفى سنة 555 هجرية" التي نظّر فيها لفن الزجل تعتبر أول مُؤلَّف عن فن من فنون الشعر العامي.

وقد امتزج في ابتكار فن البديعيات جانبا الشخصية الأدبية للحلّى الشاعر والناقد المنظّر الذى يرغب في التنظير للبديع، ونظم قصيدة يمدح فيها النبي عليه الصلاة والسلام، وبذلك أصبحت البديعيات فنّا أدبيا يتموقع بين شعر المدائح النبوية والتنظير لفنون البديع، والكثير ممن كتبوها بعد الحلّى كانوا ينطلقون من هذه الرغبة، وكان من بين مؤلفي البديعيات الكثير من الأدباء الذين يكتبون الشعر والنقد والتنظير، مثل عزّ الدين الموصلي، وابن حجّة الحموي، وجلال الدين السيوطي، ومن لم يكونوا منظّرين من مؤلفي البديعيات كانوا مولعين باستخدام البديع بكثرة فى شعرهم، وكان هذا الولع أحيانا لدرجة الصنعة، مثل عائشة الباعونية الدمشقية المتصوفة، وقد قام على أبو زيد بوضع تعريف للبديعيات، قال فيه: " البديعيات برزخ بين الشعر الرائع والنظم التأليفى، ولا يستطيع المرء أن يدرجها تحت أى منها، والسبب يتمثّل باشتراك العاطفة مع التأليف6.

وذكر البديعيات ــ وخاصة بديعية الحلّى ــ يستدعى ذكر علاقتي الاتصال والانفصال بينها وبين المدائح النبوية، وقصيدة "الكواكب الدرية في مدح سيد البرية" وكذلك سميت البردة أو البرأة للبوصيري المصري "608 ـ 696 هجرية"، والتي تجاوزت شهرتها العصر المملوكي. ورغم أن كعب بن زهير سبق البوصيري بمئات السنين في مدح النبي بقصيدته المسماة البردة "لامية كعب بن زهير"، فاٍن قصيدة البردة للبوصيري أصبحت درة المدائح النبوية في كل العصور ومثالا يحتذى به الشعراء، ونسج العديد من الشعراء على منوالها منذ العصر المملوكي حتى العصر الحديث ومن أمثلة ذلك قصيدة "كشف الغمة في مدح سيد الأمة"، لمحمود سامى البارودي، و"نهج البردة" لأحمد شوقي. وقد بدأ البوصيري قصيدة البردة بمقدمة غزلية طللية؛ سيرا على نهج شعراء المدائح النبوية السابقين لعصره، ولكنه كان غزلا عفيفا جعل فيه أطلال منازل الأحبة الذين تذكّرهم موجودة فى أرض الحجاز «فقد استطاع الموائمة بين المقدمة الغزلية والموضوع، فبينما يحدثنا عن شدة الشوق ولوعة الوجد فإنه لا يتركنا بخيالنا نذهب بعيد عن غرضه، فأطلال المحبوبة هى من قبل ديار المحبوب، والريح التي تحمل شذى المحبوبة هى الريح التى تعطرت بشذى الممدوح »7، وقد اتبع الشعراء البوصيري في هذه المواءمة فى مقدمات قصائد المدائح النبوية، فقد قال البوصيري فى هذه المقدمة:

أمن تذكُّر جيران بذي سَلمِ مزجت دمعا جرى من مقلتي بدمِ

أمّ هبت الريح من تلقاء كاظمةٍ وأومض البرق في الظلماء من إضمِ

فما لعينيك اٍن قلت اكففا همتا وما لقلبك اٍن قلت استفق يَهِمِِ

أيحسب الصبُّ أن الحبَّ منكتمٍ ما بين منسجمٍ منهُ ومضطرمِ8

وقد جاءت بديعية الحلّى على نفس وزن وروى البردة كما أنها في المدح النبوي أيضا، وإلى جانب ذلك فإن البوصيري قال بأنه أثناء مرض جاءته رسالة النبي صلى عليه وسلم في المنام تتقاضاه المدح بقصيدة وكان ذلك سببا لكتابته قصيدة البردة وشفائه من مرضه، وبعد وفاة البوصيري بحوالي ربع قرن، ومجيء الحلِّى اٍلى مصر وإقامته في القاهرة قال ما قاله البوصيري بشأن رؤيا النبي فى المنام، وأن ذلك كان سببا في كتابة بديعيته وشفائه بعدها، ودون الدخول في مدى مصداقية رؤيا الحلّى أو الرؤيتين معا، فاٍن هذا يزيد من التأكيد على تأثّر الحلّى بالبوصيري، وليس علاقة تأثير وتأثُّر كما قال على أبوزيد «إن هناك تأثيرا وتأثرا بين المدائح النبوية عامة والبردة خاصة، وبين البديعيات، فالبوصيري ممثل للمدائح النبوية، والحلّى ممثل للبديعيات، وكل منهما تعرّض لمرض عضال، طالت مدته قبل أن ينظم قصيدته، وقد ألجأ صاحبه اٍلى الله تعالى متوسلا بنبيه آملا فى الشفّاء»9.

ويقارن نسيب نشادي بين بردة البوصيري وبديعية الحلّى، فيقول في مقدمة تحقيقه لشرح بديعية الحلّى: «ولكن بديعية الحلّى أقل شأنا وأضعف حرارة ممّا هى عليه قصيدة البوصيرى، وهنا ينبغى أن نلاحظ أن المقصود ليس البديعية ذاتها ولكن الشرح الذى عليها والطريقة الجديدة فى التأليف البلاغي»10، وهذه المقارنة في رأيي غير مستساغة لسببين:

الأوّل أنها مقارنة بين فنين مختلفين يتصلان في الشكل الفني والمدح النبوي، ويختلفان في طبيعة كل منهما التي تحدّد خصوصيته، فالبردة شعر خالص ليس فيه حشد بديعي، أمّا البديعية فالحشد البديعي فيها مقصود، وهو ركيزة أساسية في فن البديعيات الذى يتموقع بين الشعر والتنظير.

والسبب الثاني هو أن البديعيات بها جانب شعرى، وليست كالمنظومات التي يؤلفها أصحابها بغرض علمي فقط، مثل ألفية بن مالك، وإن كانت البديعيات كذلك فلماذا يتبعها مؤلفوها أو شرّاح البديعيات بالشرح بعد كتابتها، والمنظومات العلمية أساسا لا تحتاج اٍلى شرح، لأنها تُشرح، وتقدم معلومة للقارئ عبر النظم، واٍن كان شرّاح البديعيات قد ركزوا على إظهار المحسنات البديعية وتحليلها أكثر من التركيز على الجانب الشعرى مُتّبعين فى ذلك صفىّ الدين الحلّى، ربما لرغبتهم فى أن تكون شروح البديعيات ذات أهمية تعادل أهمية الكتب المؤلّفة في البديع، وكانت شروح البديعيات بالفعل على نفس الدرجة من الأهمية، ولكن لا يعنى ذلك إهمال الجانب أو التقصير فيه لصالح فنون البديع، وأدلل على ذلك بأن صفى الدين الحلّى قال فى مقدمة شرحه لبديعيته بعد أن أشار لغرضه من كتابة البديعية قال: «ألزمت نفسى فى نظمها عدم التكلف، وترك التعسف، والجرى على ما أخذت به نفسى من رقة اللفظ وسهولته وقوة المعنى وصحته وبراعة المطلع والمنزع، وحسن المطلب والمقطع»11، ويشير ذلك إلى رغبته في تحقيق الجانب الشعرى فى بديعية وفى نهاية مقدمته استشهد الحلّى بالقول المأثور: «اختبار المرء شاهد عقله، وشعره شاهد فضله»12، ومؤلفو النظم العلمي الخالص لا يلزمون أنفسهم بما التزم به الحلّى ومؤلفو البديعيات من بعده، وكانت هناك كتب تضم نصوص مختارة من قصائد البديعيات دون شرح مما يؤكد تواصل القراء مع الجانب الشعرى للبديعيات، ومن أمثلة ذلك كتاب (البديعيات الخمس في مدح الرسول والصحابة والكرام)12، وقد تضمن هذا الكتاب/ المجموع الشعرى بديعيات الحلّى، وعز الدين الموصلي، وابن حجة، وعماد الدين أبى الفدا، وعائشة الباعونية، وطبع في مطبعة المعارف بالفجالة سنة 1897م.

وكان صفّى الدين الحلّى لا يذكر اسم المحسن البديعي داخل متن البيت الذى يتضمنه، فقط كان يكتفى بوضع اسمه أمام البيت، وجاء بعده عزّ الدين الموصلي، ووضع اسم المحسن البديعي أو اِشاره إليه داخل البيت، حيث قال في بديعيته موريا باسم المحسن البديعي:

فحىّ سلمى وسل ما ركبت بشدا قد أطلقته أمام الحىّ عن أممِ

ملفّق مظهر سرى وشان دمى لما جرى من عيون ووشى ندمى

يذيل العار جار جارح باذي كلاحق ماحق الآثار في الأكمِ13

ففى البيت الأول أشار بكلمة "أطلقته" عبر التورية لاسم الجناس المطلق بين "سلمى" و" سل ما"، وفى البيت الثانى استخدم نفس الطريقة فى الإشارة للجناس الملفق الذى يتشابه طرافاه ويكون كل طرف من كلمتين أو أكثر كما في "وشان دمى" و"وشى ندمى"، وفى البيت الثالث أشار بكلمة "يذيِّل" للجناس المذيّل، وهو ما زاد أحد ركنيه حرفا في آخره كما في "جار" و"جارح" وفى نفس البيت أشار للجناس اللاحق وهو ما يختلف طرفاه في اللفظ الأول مثل "لاحق"، و "ماحق".

وسار شعراء البديعيات على طريقة الموصلي في إيراد اسم المحسن البديعي أو التورية به داخل البيت الذى يتضمنه، ومن أشهر البديعيات التي كتبها شعراء مصريون في العصر المملوكي بديعية الإمام جلال الدين السيوطي المسماة "نديم البديع في مدح خير شفيع" والتي قال فيها:

من العقيق ومن تذكار ذي سلم براعة العين في استهلالها بدمِ

ومن أهيل النقي تم النقا وبدا تَنَاقُص الجسم من ضرّ ومن ضرمِ

ووالهُُ واهلُ قلبي ولُبِّىَ من تطريف ما أودعوا في طي نشرهمِ

محرّف الطبع حيث القلب محترقُ مشوش الفكر من كَلْمٍ ومن كِلَم14

وذكر السيوطي عبر التورية براعة الاستهلال في البيت الأّول، وفى البيت الثاني أشار بكلمة "تناقص" عبر التورية للجناس الناقص بين كلمتي "ضر" و"ضرم"، وفى البيت الثالث أشار لجناس القلب بكلمة قلبي وهو ما تتفق فيه الكلمتان في عدد الحروف ولكنها تختلف من ناحية ترتيب الحروف مثل "واله وواهل" وجناس التطريف وهو جناس ناقص تزيد فيه أحدى الكلمتين حرفا عن الأخرى كما في "قلبي" و"لبي"، وفى البيت الرابع أشار للجناس المحرف، وهو جناس تام، تختلف فيه الكلمتان من ناحية النطق، مثل "كلْمٍ" و"كِلَمِ"، فمعنى "كَلْم" بفتح الكاف وتسكين اللام هو جرح والمكلوم هو الجريح (والمعنى أن كلمات الأحبة تركت جرحا في قلبي، وشوشت فكرى، لما دخلني من الوسواس والشك من مكانتي عندهم، مما جعل قلبي يحدثني بما يجعلني أسلك مسلك المجانين والحمقى15.

وعن البديعيات المعروفة منذ القرن الثامن الهجري حتى القرن الرابع عشر الهجري قال على أبوزيد: «مجموع ما وصلت اٍليه من البديعيات نصوصا وأخبارا بلغ إحدى وتسعين بديعية مؤكدة، إضافة إلى اثنتين منها تحتاج اٍلى إثبات»16، وقدم على أبوزيد في كتابه "البديعيات فى الأدب العربي" لمحة عن هذه البديعيات وأعلامها في العصر المملوكي، والعثماني، والعصر الحديث، ذلك الفن الذى ابتكره صفّى الدين في العصر المملوكي، ووضع له أسسا خاصة به تجعله متموقعًا بين الشعر والتنظير لفنون البديع. والقراءة الموضوعية للبديعيات تقتضى أن يفرّق القارئ بينها وبين الشعر الخالص بما فيه قصائد المدائح النبوية التي تأتى على أي وزن وقافية ولا تتطلب الحشد البديعي، وأن يضع القارئ فى حسبانه الأسس التى وضعها الحلّى، وارتضاها الشعراء الذين كتبوا في هذا الفن لمدة ستّة قرون.

ثانيا ـ البديع والضرورة الفنية:
مثلما كان هناك تيّار من مؤلفى البديع فى العصر المملوكى يُدخل فى البديع ما ليس منه، ويفرع النوع الواحد اٍلى عدة أنواع مثل الجناس الذى أصبح اثنى عشر نوعا كان هناك تيار آخر يدعوا إلى ترشيد ذلك، وتجميع الأنواع القريبة من بعضها البعض تحت مسمى، ورواد هذا الاتجاه ابن أبى الحديد المصري في كتابه "العبقرى الحسان"، والخطيب القزويني في "الإيضاح"، وابن الزملكاني في "التبيان"، وبهاء الدين السبكي في "عروس الأفراح في تلخيص المفتاح"، وكان ممثلو هذا التيّار ينطلقون من رغبة عدم تعقيد البديع على الدارسين، أمّا عن استخدام البديع فى الشعر فبخلاف البديعيات التى كانت كثرة استخدام البديع سمة رئيسة من سماتها الفنية، كان الشعراء يستخدمون البديع فى قصائدهم ومقطّعاتهم وفقا لما تتطلبه الضرورة الفنية، وعن ذلك قال الناقد والشاعر ابن أبى الإصبع المصري: «كل ضرب من البديع متى كثر فى شعر سمج كما لا يحسن خلو الكلام منه غالبا وكل ما جاء منه متوسطا فهو مستحسن»17، وأكد على ذلك النقّاد المُجيدون الذين كان لهم حضورهم ومكانتهم فى الساحة الأدبية آنذاك، وكانت كتابتهم مرآة تنعكس فيها ملامح الوعى الجمالى لشعراء وشعراء ذلك العصر، ومن هؤلاء النقاد الشاعر والناقد شمس الدين النواجى فى كتابه " روضة المجالسة وغيضة المجانسة"، والشاعر والناقد البدر الدمامينى في "نزول الغيث المنسجم"، والأديب والناقد والفقيه القلقشندي في "صبح الأعشى في صناعة الإنشا".

ولم تكن المحسنات البديعية جميعها على درجة واحدة من القبول لدى الشعراء، فمنها ما كان مقبولا مثل الطباق والمقابلة والاقتباس والتضمين والتوجيه والتهكم والتنكيت والجناس، ومنها ما كان غير مستساغة، لأنه حشو بلا فائدة أو ضار بالمعنى، وكانت هناك محسنات بديعية ضرورية لا بد من وجودها فى النص الشعرى، وهى المحسنات التى تختص بأجزاء القصيدة ووحدتها العضوية، والتخييل، والتورية.

(1) المحسنات التى تختص بأجزاء القصيدة ووحدتها العضوية
أول هذه المحسنات البديعية هو حسن الابتداء وهو تسمية أطلقها ابن المعتز على مطلع القصيدة، وشرطه عذوبة اللفظ والانسجام، وحسن البيان وجودة السبك، والبعد عن الحشو والتكلّف وألا يكون منفرا، وقد فرع البلاغيون بعد ابن المعتز من حسن الابتداء ما يسمّى براعة الاستهلال، ويتعلّق بالتلميح بالمعنى العام الذى تشير اٍليه القصيدة منذ البداية دون التصريح بذلك، وقد اهتم شعراء العصر المملوكي مثل أسلافهم بمقدمات قصائدهم، وأولوها عناية خاصة لتجذب المتلقي، ومن أمثلة ذلك مطلع قصيدة لجمال الدين بن نباتة، يجمع فيه بين التهنئة والرثاء، حيث قال يمدح السلطان الأفضل ويعزّيه بوالده المؤيَّد:

هناءُ محاذاك العزاءَ المقدما فما عبسَ المحزونُ حتى تبسّما

وقال بعد المطلع:

ثغور ابتسام فى ثغور مدامع شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما

نردُّ مجارى الدمعِ والبشرُ واضحُ وابلِ غيثٍ فى ضحى الشمس قد همى

سقى الغيثُ عنّا تربةَ الملك الذى عَهدنا سجاياهُ أبرَّ وأكرما

ودامت يد النعمى على الملك الذى تدانت له الدنيا وعزَّ به الحِمى18

وكادت المقدمة الطللية أن تختفى من شعر العصر المملوكي، فالشعراء لم يروا أطلالا أو يعيشوا فى بيئة صحراوية، يتنقل فيها السكان من مكان اٍلى مكان ؛ بحثا عن الماء والعشب، لرعى الأغنام، وكان الشعراء يدخلون مواضيع قصائدهم مباشرة، أما قصائد المدائح النبوية فقد كانت تبدأ بمقدمة غزلية طلليه، واتبع الشعراء الاٍمام البوصيري ــ كما أشرت سابقا ــ فى المزج بين التغزل بالمحبوب والبكاء على الأطلال، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت ديار المحبوب هي أرض الحجاز التي عاش فيها النبي، ومن أمثلة ذلك مطلع قصيدة فى المدائح النبوية للشهاب المنصوري، جاء في هيئة صورة شعرية مبتكرة في منتهى الطرافة حيث قال:

أذكت بروق الحمى فى مهجتي لهبا فأنشأت مقلتي عن جفنها سُحَبا

وقال بعد هذا المطلع:

يا نازلين بقلبي طاب منزلكم ويا عريب الحمى حييتمُ عربا

حزتم على البان فاهتزت معاطفهُ وأرخت الدوح من أغصانها عذبا

عجبت كيف سكنتم من محبكمُ قلبا خفوقا من الأشواق مضطربا19

ومثال آخر لحسن الابتداء وبراعة الاستهلال، في مطلع قصيدة للبهاء زهير قائم على التشويق وجذب المتلقي، للتواصل مع القصيدة التى أعلن فيها الشاعر بلغة عذبة رشيقة بسيطة أنه صاحب معجزات في العشق حيث قال:

أنا فى الحب صاحب المعجزاتِ جئت للعاشقين بالآيات

وقال بعد المطلع:

كان أهل الغرام قبلي أُمُّيّـ يِنَ حتى تلقّفوا كلماتي

فأنا اليومَ صاحبُ الوقتِ والمحبّون شيعتي ودعاتي

ضربتُ فيهم طبولي وسارت خافقاتٍ عليهمُ راياتي)20

واٍلى جانب سعى الشعراء لتحقيق حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كانت هناك محسنات بديعية يلتزم بها الشعراء، لربط أبيات القصيدة ببعضها البعض، وهى الاستطراد وسمّاه ابن المعتز: (حسن الخروج من معنى اٍلى معنى)21 والمحسّن البديعى المختص بأن تكون الأبيات متتالية ومتلاحمة هو حُسن النسق وقال عنه ابن أبى الإصبع: (والمستحسن من ذلك أن يكون كل بيت اٍذا أفرد قام بنفسه واستقل بلفظه، واٍذا ردفه مجاوره، صارا بمنزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما اِذا انفصلا تجزأ حسنهما ونقص كمالهما)22، ويمكن اعتبار مطالع القصائد السابقة والأبيات التى تليها أمثلة على ذلك.

كما اهتم الشعراء بتحسين خواتيم قصائدهم والمحسن البديعى المختص بذلك هو حسن الخاتمة، وقال عنه ابن أبى الإصبع: «يجب على الشاعر أو الناثر أن يختتما كلامهما بأحسن خاتمة فإنها آخر ما يتبقى فى الأسماع، وربما حفظت دون سائر الكلام في غالب الأحوال، فيجب أن يُجتهد فى رشاقتها ونضجها»23، ومن أمثلة ذلك خواتيم القصائد الثلاث السابقة التى استشهدت بها فى حسن الابتداء وبراعة الاستهلال، فجمال الدين بن نباتة الذى جمع فى بين الرثاء والمدح قد اختتم قصيدته بهذا البيت:

أعدت زمن البشر والجود والثنا إلى أن ملأت العين والأنف والفما24

رغم أن القصيدة فى المدح الممزوج بالرثاء إلاّ أن هذه الخاتمة الجيدة لا تنحصر فى الغرض الذى كتبت من أجله القصيدة، فإلى جانب مدح الملك الأشرف يمكن أن يقال هذا البيت فى مدح أى شخص صاحب جميل، ويمكن أن يقال فى الغزل بين المحبين، ويمكن أن يقال للقادم من السفر، أو تقوله الأم لابنها.

والمثال الثاني من قصيدة البهاء زهير سابقة الذكر، فبعد أن قال الشاعر أنه صاحب معجزات وآيات في الحب وأن العاشقين من قبله كانوا أميين، ولما جاء تلقفوا كلماته، ويعرض ذكرياته عبر الصور الشعرية الطريفة حيث قال:

هات زدني من الحديث عن النيـ لِ ودعني من دجلة وفراتِ

وليالي في الجزيرة والجيـزة فيما اشتهيت من لذاتي

بين روض حكى ظهور الطاواويـ س وجو حكى بطون البُزاةِ

حيث مجرى النيل كالحية الرقـ طاء بين الرياض والجنَّاتِ

ونديمٌ كما نحب ظريفٌ وعلى كامل ما نحب مواتي

في هذه اللوحة الشعرية شبّه الشاعر الروض بظهور الطاواويس ذات الريش الأخضر المُخطط ببقع تشبه شكل العين، وشبه الجوّ ولون السماء ليلا بلون بطون البُزاة ـ جمع باز ـ البيضاء التي تتخللها خطوط بنية اللون، وشبّه النيل فى انحناءاته بين الرياض بالحية الرقطاء التى يميل لونها البنى أو الأخضر الداكن، وعلى جسمها نُقط سوداء، وبعد ذلك اختتم البهاء زهير قصيدته بهذا البيت الذى يمكن أن يردده كل من يشعر بالحنين لماضيه الجميل، سواء كان هذا الماضى مرتبطا بالحب أو غيره:

يا زماني الذى مضى يا زماني لكِ منى تواتر الزفرات25

ومثال آخر لحسن الخاتمة في قصيدة مدح نبوي للشهاب المنصوري:

يا رب صلّ على الهادي وعترتهِ وصُحْبِهِ الأتقياء السادة النجبا

ما لاح وجه صباح من لثام دجى "ورنّحت عذابات البان ريح صبا"26

اختتم الشهاب المنصوري قصيدته بخير ختام، وهو الصلاة على النبي وعترته وآل بيته وصحابته كلما لاح وجه الصباح وجاء باستعارة شعرية طريفة في الشطر الأول من البيت الأخير، وفى الشطر الثاني من هذا البيت قام الشهاب المنصوري بتضمين الشطر الأول من البيت الأخير فى قصيدة البردة للبوصيري الذى قال فيه:

ما رنحت عذابات البان ريحُ صَبا وأطرب العيسَ حادي العيسِ بالنغمِ)27

وكأن الشهاب المنصوري بتوظيفه الجيد لهذا الشطر من خاتمة البردة واستحضاره لأجوائها كان يستدعى صوت البوصيري صاحب درة المدائح النبوية فى كل العصور، ليختتم معه قصيدته الخاصة بالصلاة على النبي وآله وصحبه، وفى نفس الوقت نسج من خياله صورة شعرية تتناغم مع هذا الشطر، فالبوصيرى اختتم البردة بالصلاة على النبى كلما حركت ريح الصبا غصون البان، وطربت العير بأنغام الحادى، والشهاب المنصورى يختتم قصيدته بالصلاة على النبى كلما بان وجه الصباح من خلف لثام الدجى.

(2) ألوان بديعية تختص بالتخيّيل
لكل عصر من العصور أخيلته ومجازته الشعرية، التي تنعكس عليها طبيعة ذلك العصر، وتأثيرات البيئة والثقافة السائدة، وتحقّق هويتها الجمالية بسعي الشعراء لابتكار الجديد الذى يعكس طبيعة وثقافة عصرهم، والبعد عن اجترار التشبيهات والصور التى أُنتجت فى عصور وبيئات مغايرة، وقد سعى شعراء العصر المملوكي لإنتاج أخيلة شعرية تخصّ تجاربهم الشعرية، وتخصّ عصرهم وبيئتهم التى عاشوا فيها، وذلك عبر استخدام أدوات التصوير الشعرى وأهمها التشبيه، والاستعارة التى هى تشبيه حذف أحد طرفى، وتنقسم الاستعارة اٍلى نوعين، هما الاستعارة التصريحية: يُحذف منها المشبّه، ويصرح الشاعر بالمشبه به، والاستعارة المكنية يحذف فيها المشبه به، ويأتي الشاعر بإحدى لوازمه، والكناية هى ترك التصريح بالمقصود، واستخدام لازمة من لوازمه، وقد جمع ابن الزملكانى هذه الألوان البلاغية الثلاثة في كتاب "التبيان" تحت مسمّى التخييل: " هو تصوير حقيقة الشيء حتى يُتَوهّم أنه يُشاهد، وأنه ممّا يظهر فى العيان كقوله تعالى: "والأرضُ جميعًا قَبْضَتَهُ والسماءُ مطوياتٌ بيمينه" وقوله تعالى "كأنه رؤوس الشياطين"28.

ومن أمثلة الصور الشعرية القائمة على الوصف والتشبيه قول شمس الدين النواجى عن بركة بها فوّارة/ نافورة بأحد متنزهات مصر آنذاك:

وبركة تُذهلُ العقولُ لها تحارُ فى وصفِ حُسنِها الفِكَرُ

كأنها مقلة محدّقة عبرى من الوجدِ نالها السهرُ

تخالُ أنبوبها لصحتهِ والماءُ يعلو بهِ وينحدرُ

كصولجان من فضةٍ سُبِكتْ فواقعُ الماءِ تحتها أُكُرُ29

داعب منظر البركة والفوّارة خيال شمس الدين النواجى، فرسم لها لوحة شعرية تعجّ بالحركة، شبّه فيها تلك البركة بالمقلة التى تحدّق فيه من الوجد، وقد نالها السهر، وشبّه أنبوبها/ فوّارتها بساق من الفضة عندما يعلو الماء الخارج منه وينحدر اٍلى البركة مرة أخرى فإن الفقاقيع تشبه الكرات التي تدفعها تلك الساق.

ومن أمثلة الصور الشعرية القائمة على التجسيد والتجريد الاستعاري والتشبيه قول ناصر الدين حسن بن النقيب:

لمّا رفعتُ لضيفِ الطيفِ حين سرى نارَ اشتياقى هدتهُ فى دجى الظُلَمِ

وسار نحوى ليلقانى فلم يرنى ولا استبنتُ لهُ من شدةِ الألمِ

فكنت مثل الصدى فيما أجبت بهِ فلا أُرى ويُحسُ الصوتَ من كلمى30

عبر الاستعارة المكنية حوّل الشاعر نار الاشياق من معنى مجرّد إلى حِسّى مرئى، ليضئ الطريق لطيف المحبوب الذى جاء ليزور الشاعر فى دجى الليل، وعندما سار الطيف نحو الشاعر لم يره، لأن شدّة الألم حوّلت الشاعر من كائن حَىّ مجسّد اٍلى شئ مجرد شبيه بصدى الصوت يُسمع ولا يُرى.

ومن أمثلة الصور الشعرية القائمة على التشخيص قول السراج الوراق:

وجرّ خطيبُ الرعدِ ذيلَ سوادهِ وأمسكَ من سيفِ البروقِ بقائمِ

وأسمع من لا كان يسمعُ وعظَهُ وأول ما شُقَّتْ جيوبُ الغمائمِ

وأضحكَ دمعُ الغيثِ من زهرِ الرُّبا ثغور الأقاحي من شفاهِ الكمائمِ

وفوق جَنَى الوردِ طلٌّ كأنهُ دموعُ الأغاني في الخدود النواعمِ

وغَضَتْ عيونُ النرجسِ البرق فانبرت صَبا أيقظَتْ أنفاسُها كلَّ نائمِ

نسيمٌ بأسرارِ الرياضِ فحبذا نسيمٌ مشتْ بيننا بالنمائمِ

ويا حبذا نهرٌ أبان ضميرَهُ لعينيكِ سرَّا لم يبتْ عند كاتمِ

جَلتْ صدا الأقذاءِ عن متنه الصَّبا كما قد أجاد القينُ صفحةَ صارمِ31

مشهد شعرى تمثيلي طريف قائم على السرد التشخيصي الذى يربط بين الصور الجزئية والاستعارات المكنية التى خلع فيها السراج الوراق صفات إنسانية على ظواهر الطبيعة والأشياء والنباتات، فالبرق أصبح خطيبا، يجر ذيل ثوبه الأسود، ويستل من البروق سيفا، ويُسمع من لا كان يسمع وعظه، وأول ما شُقّت فتحات ثياب الغمائم التى أدخلت منها رأسها عند اللبس فانهال الغيث وأضحك دمعه من زهر الربى ثغور الأقاحى وشفاهٍ النوّار، وأغلقت عيون النرجس جفونها استحياءً من البرق، فانبرت ريح الصَّبا، والنسيم أصبح نماما ينقل وينشر الأسرار التى أفشاها نهرٌ لا يكتم سراّ وقد أجاد ريح الصبا فى تخليص صفحة ذلك النهر من الأقذاء/ ما يتجمّع في العين من غَمص وغيره، كما أجاد الحدّاد تسوية السيف وصقله.

ومن أمثلة الصور الشعرية التي تظهر فيها ملامح البيئة الشعبية المصرية آنذاك وحياة الشاعر الخاصة قول الجزّار:

لَبِسْتُ بيتي وقد زَرَّرَتُ أبوابي علىَّ حتّى غَسَلْتُ اليومَ أثيابى

وقد أزال الشتا ما كان من حَمَقى دعني فمستوقدُ الحمَّامِ أولى بي

أنامُ في الزبلِ كي يدَفَى بهِ جسدي ما بين جمر به من بين أصحابي

أو فوق قدرِ هريسٍ بِتُّ أحرسها مع الكلابِ على دكانِ غلاّبِ

ما كنت أعرفُ ما ضَرْبَ المقارعِ أو قاسيتُ وقعَ الندى من فوقِ أجنابي

وما تراقصت الأعضاءُ من جسدي اٍلاّ وقد صفّقتْ بالبرد أنيابي32

بدأ الشاعر هذا المشهد الذى صوّر فيه معاناته من برودة وقسوة الشتاء القارس عبر السخرية السوداء باستعارة مكنية مبتكرة حيث شبه بيته بالثوب وحذف المشبه، وأتى بإحدى لوازمه، فجعل أبواب البيت الذى لبسه أزارا، ومن شدّة وبشاعة البرد تمنى الشاعر أن ينام بين المخلفات التى كانت تُجمع وتُحرق آنذاك فيما سمّى مستوقدات لتسخين مياه الحمَّامات، أو ينام فوق قدر هريس ساخن يحرسه مع الكلاب فى دكان غلاب، ولو حدث ذلك ما كان الشاعر قد عانى من ضرب المقارع كناية وسقوط الندى على أجنابه، وينهى الشاعر هذا المشهد المأسوى بوصف ساخر لا يخلو من طرافة، حيث تتراقص أعضاء جسده وتصفق أنيابه من شدة البرد.

(3) فن التورية
(3 ـ 1) لم يشهد عصر من العصور اهتماما بالتورية مثل العصر المملوكي، فقد تحوّلت آنذاك من مجرّد محسّن بديعى يعمل على تحسين خواص الكلام وجعله طريفا وفقا لما يتطلبه الموقف الشعرى دون تكلّف اٍلى ظاهرة فنيّة ومذهب شعرى، وقد قال صلاح الدين الصفدي: " التورية من أعلى فنون البديع، وأعلاها رتبة، وأعظمها فى الأذواق السليمة موقعا"33، وكان الشعراء والنقّاد آنذاك يعيبون على الشاعر الذى لا يكثر من استخدام التورية فى شعره، فقد قال ابن إياس فى "بدائع الزهور" عن صفىّ الدين الحلّى: "له شعر جيد، غير أنه كان غير ماهر في التورية، وكانت غير مذهبه"34.

والتورية لغةً تعنى الاخفاء، واصطلاحا تعنى أن يذكر الشاعر لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو معنى حقيقي ومعنى مجازي، المعنى الأول قريب مباشر ويسمى المورّى به، والمعنى البعيد وهو المقصود، ويسمى المورى عنه، ومن جماليات التورية أنها إحدى الأدوات الفنية التي تستخدم للتلميح بالمعنى وأنها تُحدِث نوعا من المفارقة المعنوية بين المورّى به والمورّى عنه وتشرك القارئ فى إنتاج هذه المفارقة الخادمة فى التعبير عن الموقف الشعرى، فالمعنى البعيد المورّى عنه دائما ما يكون أقوى من المعنى المورى به، وهذا شرط أساسي من شروط التورية، اٍلى جانب عدم التكلف، والابتعاد عن استعمال الألفاظ الصعبة.

وقد انقسمت التورية في العصر المملوكي عند الصفدي في "فض الختام" وابن حُجة في "كشف اللثام" وابن قرقماس في "زهر الربيع" الى أربعة أنواع رئيسية هي:

ـ التورية المجرّدة، وهى التى لا يأتى فيها صفة أو لازم المورّى به أو المورّرى عنه مثل قول النصير الحمامى:

اٍنى لأكره في الأنام ثلاثةَ ما اٍن لها في عدها من زائدِ

قُربَ البخيل وجاهلا متعاقلا لا يستحى وتوددا من حاسدِ

ومن الرزيةِ والبليةِ أن ترى هذى الثلاثةَ جُمّعَتْ في واحد35

لفظ التورية هو "واحد" والمعنى المورّى به هو العدد واحد والمورّى عنه هو شخصٌ واحد، ولم يأتِ الشاعر بلازمة أو صفة من صفات أحد المعنيين.

وكذلك إذا ذكر الشاعر لازمة أو صفة من صفات المورّى به وفى نفس الوقت ذكر لازمة أو صفة من صفات المورّى عنه؛ فإن التورية تكون مجرّدة مثل قول نصير الدين الحمامى:

ما زال يسقيني زلالِ رضابهِ لمّا خُفِيت ضنا وذُبتُ تَوَقُّدا

ويظنني حيّا رُويتُ بريقِهِ فإذا دعا قلبي يجاوبه الصَّدَى36

لفظ التورية هو "الصدى" والمعنى المباشر المورّى به هو صدى الصوت، والمعنى البعيد المورّى عنه هو "العطش".

ـ التورية المرشحة وهى التي يكون فيها " اللازم للمورّى به لا المورّى عنه "37، ومن أمثلتها قول ناصر الدين حسن بن النقيب:

جودوا لنسجع بالمديـ حِ في علاكم سرمدا

فالطير أحسن ما يغرّ د عندما يقع الندى)38

لفظ التورية "الندى" والمعنى المورى عنه هو الطلّ الذى يقع من السماء صباحا، والمعنى المورّى به هو العطاء والكرم، ولازمة المورّى به هى الفعل "يقع" ودوره فى التورية أنه قوّى معنى المورّى به ويرشحه للتورية.

ـ التورية المبينة " وهى التي يكون فيها اللازم للمورى به لا المورى به، ولهذا سميت بالمبينة "39 ومن أمثلتها قول السراج الوراق مداعبا، عندما حضر مجلسا فيه بدر الدين بن بيلبك وشمس الدين سنقر:

لما رأيت الشمس والبدر معا قد أبْخَلَتْ دونهما الدياجى

حقّرت نفسى ومضيت هاربا وقلت ماذا موضع السراجِ)40

في هذين البيتين توريتان مبينتان لفظي التورية الأولى "شمس" و"بدر"، والمعنى المورى عنه اسما الشمس والقمر، والمعنى المورى عنه اسما الشخصين الذين امتدحهما السراج الوراق، والشطر الثانى من الأول لازمة مقوية ومبينة للمعنى المورى عنه، ولفظ التورية الثانية فى البيت الثانى "السراج"، والمعنى المورى به المصباح والمورى به هو اسم الشاعر وجاء الشطر الأول من هذا البيت مبينا للمورى عنه.

ـ التورية المهيأة وهى التى لا بد لوقوعها أن يأتى لفظ يهيئ لفظ التورية والفرق بينها وبين التورية المرشحة أو المبينة «أن اللفظ الذى تهيأت به التورية لو لم يذكر لم يكن ثم تورية، والمرشح والمبين مقومان للتورية فلو لم يذكرا لكانت التورية مجرّدة»41 ومن أمثلتها قول الجزّار ساخرا من داره:

ودار خراب بها قد نزلت ولكن نزلت إلى السابعةْ

طريقة من الطرق مسلوكة ولكن محجتها واسعةْ

فلا فرق ما بين أنى أكونُ بها أو أكون على القارعةْ

وأخشى بها أن أقيم الصلاة فتسجد حيطانها الراكعةْ

تساورها هفوات النسيم فتصغى بلا أذن سامعةْ

اٍذا ما قرأت إذا زلزلت أخاف أن تقرأ الواقعةْ42

ختم الجزّار هذه الصورة الكاكاتيرية الطريفة المليئة بالتورية فى البيت الأخير، وكان لفظ التورية هو "الواقعة"، والمعنى القريب المورّرى به هو اسم السورة القرآنية "الواقعة"، والمعنى المورى عنه هو اسم فاعل من الوقوع والسقوط، واللفظ المهيئ للتورية هو "تقرأ"، ولو حُذف هذا اللفظ لما حدثت التورية من الأساس، أمّا فى المثال الخاص بالتورية المرشحة لابن النقيب فيمكن حذف لفظ " يقع "، وتصبح التورية مجرّدة فمثلا تصبح هكذا:

والطير أحسن ما يغرد عند الندى

وفى المثال الخاص بالتورية المبينة للسراج الوراق يمكن حذف الألفاظ المبينة للتورية فتصبح تورية مجردة على هذا النحو:

لما رأيت الشمس والبدر معا فقلت ماذا موضع السراجِ

وقد تحدث التورية المهيئة بوجود لفظين "لولا كل منهما لما تهيأت التورية فى الآخر"43

ومن أمثلتها قول البدر الدمامينى:

قلت له والدجى مولٍّ ونحن في الأنس بالتلاقي

عطس الصبح يا حبيبي فلا تشمّتهُ بالفراقِ44

لفظى التورية "عطس" و"تشمته" فالمعنى المورّى به للفظ عطس من العطس وللفظ "تشمته" تشميت العاطس بقول الحمد لله، والمعنى المورى به للفظ عطس هو بان وظهر وللفظ تشمته تجعله شامتا من الشماتة، ولو حُذف لفظ منهما لما وقعت التورية.

وتختلف التورية عن الاستخدام فى أن الشاعر يقصد المعنى البعيد، وتهمل المعنى القريب، أمّا فى الاستخدام فإن الشاعر يستخدم المعنيين، وقد عرف صلاح الدين الصفدي الاستخدام بقوله: «هو أن يكون للكلمة معنيان، فيؤتى بعدها بكلمتين، أو يكتنفانها، فيُستخدم في كل واحدة منها معنى من ذينك المعنيين»45، ومن أمثلة ذلك قول جمال الدين ابن نباتة:

ولقد تمر الحادثات على الفتى وتزول حتى ما تمر بفكرهِ

وهو الزمان اٍذا جنى لم يعتذر ويقوم من خلف الأذانِ بعذرهِ

هوّن عليك فربّ خَطبٍ هائلٍ دُفِعَتْ قواه بدافع لم تدرهِ

ولربما ليل الهموم كدملٍ صابَرُتَهُ حتى ظفرتَ بفجرهِ46

الكلمة التى وقع فيها الاستخدام هى "فجره" والقرينتان "ليل" و"دمل"، وكل قرينة من القرينتين ترتبط بمعنى من معنيين الكلمة التي وقع فيها الاســتخدام، فالنسبة لقرينة "ليل" معنى كلمة "فجره" هو وقت الفجر، وبالنسبة لقرينة "دمل" معنى "فجره" هو انفجاره وخروج الصديد والقيح منه.

(3 ـ 2) وجدت التورية احتفاء بالغا من النقاد ومنظِّري البديع يتناسب مع حضورها في شعر العصر المملوكي، ولأول مرة في تاريخ البلاغة العربية يتم تأليف كتاب خاص في فن التورية، وهو كتاب "فض الختام عن التورية والاستخدام" للناقد والمؤرخ والشاعر صلاح الدين الصفدي الذى ولد في صفد، وتولى ديوان الإنشاء فى القاهرة وحلب، ثم بيت المال في دمشق "توفى 764هجرية"، وقد عرض خطة هذا الكتاب بعد الخطبة التي بدأه بها على النحو التالي: «أحببت أن أضع في نوع التورية والاستخدام موضوعا يكشف عنهما النقاب، ويرفع عن محياهما البدرى حجاب السحاب، فابتدأت ـ بعون الله ـ في هذا التأليف الذى وضعته عجيبا، وأتحفت به من أصبح في الناس غريبا، وأردت أن أرتب هذا الكتاب على مقدمتين ونتيجة:

أما المقدمة: الأولى فمكونة من أربعة فصول وتتمة

الأصل الأول: في اشتقاق التورية وتصرف مادتها.

الأصل الثاني: في اختلاف البلغاء فى اسم التورية.

الأصل الثالث: في حقيقة التورية، ورسمها، وكشف ماهيتها.

الأصل الرابع: في الاستخدام وما يتعلق به

التتمة: فى إيراد نوع من التضمين يجرى مجرى التورية.

وأما المقدمة الثانية فمكونة من أربعة فصول وتتمة.

الأصل الأول: في فائدة الاشتراك

الأصل الثاني: في رسم المشترك وحجة وقوعه.

الأصل الثالث: في تعدد وقوعه.

الأصل الرابع: فيما حصل للشعراء من الوهم فى التورية.

التتمة فيما يتعلق بالغلط في الاشتراك.

النتيجة: في سرد ما اتفق لى وقوعه من النظم فى التورية والاستخدام على حروف المعجم»47، وقد حقّق هذا الكتاب المحمدي عبد العزيز الحنَّاوي، ووضع في مقدمته دراسة عن جهود الصفدي، وتناول جوانب الأصالة والتقليد في هذا الكتاب، وقدرة الصفدي على تتبع جذور فن التورية فى البلاغة العربية، واختلاف البلغاء حول تسميتها بين الإيهام والتخييل، والتوجيه والاٍبهام، ومناقشة هذه المسميات وتوضيح حقيقة التورية وأقسامها الأربعة، وجهده العلمي في تعريف الاستخدام والفرق بينه وبين التورية، وعاب المحمدي عبد العزيز الحنَّاوي على الصفدي افتتاح الكتاب بخطبة مسجوعة متكلفة، والاستطراد في بعض الأحيان.

وبعد الصفدي جاء ابن حُجَّة الحموي "767 ـ 837 هجرية" وألّف كتاب "كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام" بدأه بالهجوم على الصفدي، فقال: «إني رأيت الشيخ صلاح الدين الصفدي رحمه الله قد وضع في هذا الفن كتابا سماهُ فض الختام عن التورية والاستخدام، ولما طالعته رأيت مسك ختام لم يتضوّع منه رائحة، بل أضاعه في غير توريه»48، ولم يضف ابن حُجّة جديدا في حديثه عن التورية وجذورها في الأدب العربي وتقسيماتها، والفرق بينها وبين الاستخدام، واعتمد في ذلك على آراء الصفدي اعتمادا كليّا49، وكرر ابن حُجّة في "كشف اللثام" نفس ما قاله تقريبا في شرح بديعيته المسمّى بـــ" خزانة الأدب وغاية الأرب"، فبعد مقدمة طويلة وعد القارئ بأنه سوف يشرح أنواع التورية، كان ابن حُجّة يأتي باسم الشاعر تلو الشاعر، ويعرض عدة مقاطيع من شعره دون تعليق أو إشارة للفظ التورية عند هذا الشاعر أو ذاك، وابتعد في تعليقاته عن الحديث فيما ألّف فيه الكتاب، وانشغل بالغمز واللمز والتعريض بالشعراء، وبعد مائة وخمسة وخمسين صفحة قدم ابن حُجَّة شرحا مبتسرا لأنواع التورية في عشر صفحات، بشكل لا يتناسب مع كتاب متخصص في التورية.

وكان ابن حجّة دائما يقلل من شأن السابقين ويتعالى على معاصريه، ويتتبع هفوات وأخطاء الأدباء ما يستحق منها وما لا يستحق ويعرّض بهم، ويعلى من شأن نفسه، ومن أشهر الأمثلة على ذلك تعريضه بجمال الدين بن نباتة والصفدي مرتين في حديثة عن التورية فى "خزانة الأدب" وفى "كشف اللثـــــام" حيث قال: «ورغم علو قدر الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو الذى مشت ملوك الأدب قاطبة، بعد الفاضل تحت أعلامه تطفّل على نكت الوداعي ومعانيه»50، وقد أورد ابن حُجّة حوالى ستة وعشرين مقطوعا لا تزيد عن بيتين وبعضها بيت واحد فى "خزانة الأدب" من صفحة 339 اٍلى 346 وفى "كشف اللثام" من صفحة 61 حتى 72، ومنها حوالى ثلاثة عشر مقطوعا فيها التناص ودوران حول المعنى بدرجات متفاوتة، ويدخل ذلك تحت بند المعارضات الشعرية أو المساجلات التى كانت معروفة في الشعر العربي قديما، ومن أمثلة ما أورده ابن حجّة بخصوص ذلك (قال علاء الدين الوداعى:

ما كنتُ أولَ مغرمِ محرومِ من باخلٍ ذى النفارِ كريمِ

أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال:

مبخلا يشبه ريمَ الفلا يا طول شجوي من بخيل كريمِ51

«قال الشيخ علاء الدين الوداعي:

بخلت عليَّ بدُرِّ مبسمِها فغدت مطوّقة بما بَخِلتْ

وقد أخذه الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال:

بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لائمِ فغدت مطوّقة بما بَخِلتْ به)52

وبعد عرضه لهذا المقطوع حلّل ابن حجّة لنفسه ما اتهم به ابن نباتة فقال: " هذا المعنى استحقيته على الشيخ علاء الدين الوداعي وعلى الشيخ جمال الدين بن نباتة فإني زدت الاقتباس من الحديث تورية بقولي:

ناحت مطوّقة الرياض وقد جرى دمعى الملّون بعد فرقة حبّهِ

لكن بتلوين الدموعِ تباخَلَتْ فغدَتْ مطوقةً بما بخلت بهِ53

وهذه المقاطيع الثلاثة عشر التي تدخل تحت بند المجاراة والمعارضة لا تشكل واحدا فى المائة من شعر ابن نباتة، ولم يقدم ابن حُجّة دليلا على أن الوداعي هو الذى كتب تلك المقاطيع ثم تأثّر به ابن نباتة، فالوداعى كان على قيد الحياة عندما ذهب ابن نباتة للشام حيث توفى سنة 716 هجرية، وابن نباتة ذهب للشام سنة 715 هجرية وأقام بها فترة طويلة من عمره، وهذه المقاطيع ليست مؤرخة فلا يستطيع أحد أن يحدد من تأثّر بمن، وقد كان ابن نباتة وقتها شاعرا ذائع الصيت يقدّر الشعراء قيمته، وقد استقبلوه هناك أحسن استقبال، وقد أورد ابن حجة نفسه بيتين للشاعر ابن أبى حجلة يرحب فيه بابن نباتة، حيث قال فى ذلك عن ابن أبى حجلة (وقوله وقد قدم الشيخ جمال الدين بن نباتة إلى الشام:

يا معشر الأدبا غدا تشبيبكم ومديحكم فيما يروق ويعذبُ

وافاكم ابن نباتةٍ فتفقهوا أقواله بسكينة وتأدبوا54

وممّا يؤكد على تليفق ابن حُجّة أنه أورد ثلاثة عشر مقطوعا أخرى، واتهم ابن نباتة بنفس الاتهام السابق، والواقع أن هذه المقاطيع تختلف تماما عن بعضها البعض فى الصياغة والتناول، ولكن ابن حجة كان يتصيّد أىّ كلمة عادية من حق أي شاعر أن يتناولها عند ابن نباتة تشبه كلمة عند الوداعى، ومن أمثلة ما أورده في ذلك:" قال علاء الدين الوداعى:

يا ربوة أطربتني وحسنت لي هتكي

اٍذ لست أبرح فيها من بين دُفِّ وجَنكِ

أخذه جمال الدين ابن نباتة وقال:

بالجنك من مغنى دمشقِ حمائمُ فى دفِّ أشجارٌ تشوق بلطفها

فاِذا أشار لها الشجىُّ بكأسهِ غنّتْ عليه بجنكها وبدفها)55

الجنك والدف كلمات فى اللغة من حقّ أى شاعر أن يستخدمها ويوظفها بطريقته وهذا ما فعله ابن نباتة، والصق ابن حجّة بالصفدى نفس التهمة حيث قال:" وتطفّل الشيخ صلاح الدين الصفدي على الوداعى فى جنكه ودفه وقال:

انهض اٍلى الربوة مستمتعا تجد من اللذات ما يكفى

فالطير غنّى على عودهِ والروضُ غنّى بين الجنك والدف)56

ويواصل ابن حُجة تلفيقه حيث قال:" قال علاء الدين الوداعى:

فديتُ من مبسمه زهرا لغصنِ خدِّهِ

وصدغهُ مطوّقٌ فى روضةٍ عن خدّهِ

والنكت فى المطوّق من اختراعات الوداعى، وتطفّل عليه الشيخ جمال الدين ابن نباتة فى تسمية كتابه، ومن نظمه فيها قوله:

طوّقَ جودُ الوزيرِ جيدي ولستُ عن مدحهِ أُعوَّق

أسجع بالمدح فى علاه لا بأس أن يسجعَ المطوّق57

النكت والتوريات فى الحمام المطوّق وسجعه وغنائه ليست من اختراع الوداعى أو غيره فقد كتب الشعراء قبل الوداعى وبعده فى ذلك، وما علاقة عنوان كتابه ابن نباتة "سجع المطوق" بذلك فهو كتاب تراجم ومنه نسخة مخطوطة محفوظة بمكتبة الملك عبد الله بن عبد العزيز بجامعة أم القرى قسم المخطوطات، والمطوّق من الطيور الموجودة فى البيئة المصرية والشامية، استخدمه الشعراء فى أشعارهم كما استخدموا غيره من الطيور والنباتات والزهور كل شاعر بطريقته، ومن أمثلة ذلك قول الشاعر المصرى ناصر الدين حسن بن النقيب الذى توفى سنة 686هجرية قبل الوداعى بثلاثين عاما:

أنت طوقتني صنيعا وأسمعت ك شكرا كلاهما ما يضيعُ

وإذا ما شجاك سجعي فأنا المطوّق المسموعُ58

وقد أورد ابن حُجّة هذا المقطوع فى معرض حديثه عن التورية عند النصير الحمامى وابن النقيب ثم قال:" ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباته سجع المطوّق ووصل به عدة مقاطيع "59، وقد اعتاد ابن حُجّة من حين لآخر أن يعرض بابن نباتة بشكل سريع قبل أن يفرد لذلك مساحة لذلك فى حديثه عن الوداعى، وهذا يوضّح شهوة الاتهام التي جعلت ابن حجّة يتهم ابن نباتة بأنه أخذ شيئا واحدا من شاعرين ! وكما أشرت سابقا فالحمام المطوّق وسجعه ونواحه تيمة شعرية ليس لها مخترع تشير اٍلى حضور عناصر البيئة في شعر العصر المملوكي، وبعد تعريضه بابن نباتة عرّض ابن حجة بالصفدي في الصفحات من 69 اٍلى 74 فى "كشف اللثام" وأورد حوالى أربعة عشر مقطوعا الذى تأثرّ فيها الصفدي بابن نباتة على سبيل المجاراة أو المساجلات الشعرية، وقد استغل ابن حجّة الخلاف الذى دار بين ابن نباتة والصفدي اللذين كانا صديقين، واستند فى ذلك على كتاب "خبز الشعير" المنسوب لابن نباتة الذى اتهم فيه الصفدي بسرقة أشعاره، ولم يذكر ابن حجّة أية اٍشارة للقصيدة التي كتبها ابن نباتة وضمن فيها أشطر من معلقة امرئ القيس، وقد " أراد فيها ابن نباتة أن يحول العتاب اٍلى رضا وصفح عن الصفدى فجعل شعريتهما أشبه بدور متسلسل بينهما ارضاءً للصفدي ويتجلّى ذلك في قوله:

وكم أسطرٍ منّى ومنك كأنها "عذارى دوارٍ فى ملاءٍ مذيّلِ"60

وبعد التعريض بابن نباتة والصفدي تحدّث ابن حُجّة عن نفسه وعن شعره وعرض مقطوعا من نظمه فى زيادة النيل قال فيه:

زادت أصابع نيلنا وطمت فأكمدت الأعادي

وأتت بكل جميلةٍ ما ذى أصابع بل أيادي61

وهذا المقطوع الذى ادعى ابن حجّة أنه من تأليفه مسروق بالنص من شعر ابن نباتة وقد ورد فى ديوانه حيث قال:

وافت أصابع نيلنا وطمت فأكمدت الأعادي

وأتت بكل جميلةٍ ما ذي أصابع ذي أيادي62

هذا هو ابن حُجّة الحموي يسرق من الشعراء ويعرّض بهم ! ومن تعاليه على معاصريه وتعريضه بالسابقين تتبعه شعراء عصره وأظهروا سرقاته، وكان ذلك سببا فى خروجه من مصر، وعودته اٍلى مسقط رأسه مدينة "حماة "، وأشهر سرقات ابن حجّة هى سرقته لكتاب "العاطل الحالي والمرخّص الغالي"، الذى ألفه صفى الدين الحلّى فى فنون الشعر العامى، وقد سرقه ابن حجة بالكامل، وأضاف اٍليه بعد النماذج لشعراء عصره، وسمّاه "بلوغ الأمل فى فن الزجل"، وقد أشار المرحوم عبد العزيز الأهواني لذلك في تصديره لهذا الكتاب كما تحدث محقق الكتاب عن سرقات ابن حجّة63.

 

الهوامش والاٍحالات
1 ـ عبد الله بن المعتز ـ البديع ـ نشر وتعليق اٍغناطيوس كراتشقو فيسكى ـ دار المسيرة ـ بيروت ط3 1982م ص 53

2 ـ المصدر السابق ص 58

3 ـ البديعيات الخمس فى مدح الرسول والصحابة الكرام ـ مطبعة المعارف بالفجالة ـ القاهرة 1897م ص 33

4ـ صفّى الدين الحلّى ـ شرح البديعية الكافية ـ تحقيق د. نسيب نشادى ـ دار صادر ـ بيروت 1992م ص 54، 55

5ـ ديوان صفى الدين الحلى ـ المطبعة العلمية ـ النجف الأشرف 1956م ص 107

6ـ د. على أبو زيد ـ البديعيات فى الأدب العربى ـ عالم الكتب ـ بيروت ـ 1982م ص 51

7ـ د. نبيل خالد أبو على ـ البوصيرى شاهد على العصر المملوكى ـ دار المقداد ـ غزة 2005م ص17

 8 ـ نفس المصدر السابق ص 18

9ـ د. على أبوزيد ـ البديعيات فى الأدب العربى ـ ص 22

10ـ صفّى الدين الحلّى ـ شرح البديعية الكافية ـ تحقيق د. نسيب نشادى مقدمة التحقيق ص 3

11ـ نفس المصدر السابق ص 55

 12ـ نفس المصدر السابق ص 56

13 ـ البديعيات الخمس فى مدح الرسول والصحابة الكرام ـ ص15

14 ـ جلال الدين السيوطى ـ نظم البديع فى مدح خير شفيع ـ تحقيق الشيخ على محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود ـ دار القلم العربى بحلب ـ 1995م ص 39

15 ـ نفس المصدر السابق ـ ص 51 هامش من وضع المحقّقين

16 ـ د. على أبوزيد ـ البديعيات فى الأدب العربى ـ ص70

17 ـ زكى الدين ابن أبى الاٍصبع ـ تحرير التحبير ـ تحقيق وتقديم د. حفنى محمد شرف ـ المجلس الأعلى للشؤؤن الاٍسلامية ـ لجنة اٍحياء التراث ـ القاهرة 1963م ص 305

18 ـ ديوان ابن نباتة ـ ص 429

19 ـ جلال الدين السيوطى ـ نظم العقبان ـ ص 78

20 ـ ديوان البهاء زهير ص 47

21 ـ البديع ـ عبد الله بن المعتز ـ ص 60

 22 ـ زكى الدين بن أبى الاًٍصبع ـ تحرير التحبير ـ ص 130

23 ـ المصدر السابق ـ ص 610

24 ـ ديوان جمال الدين بن نباتة ـ ص 430

25 ـ ديوان البهاء زهير ـ ص 48

26 ـ جلال الدين السيوطى ـ نظم العقبان ـ ص 80

27 ـ د. نبيل خالد أبو على ـ البوصيرى شاهد على العصر المملوكى ـ ص 112

28 ـ د. عبده عبد العزيز قليقله ـ النقد الأدبى فى العصر المملوكى ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة 1972م ص 426

 29ـ شمس الدين النواجى ـ حلبة الكميت ـ المطبعة الأزهرية ـ القاهرة 1916م ص 294

30 ـ صلاح الدين الصفدى ـ الغيث المسجم ـ ج2 ص 257

31 ـ صورة من مخطوط لمع السراج ـ كتبخانه طهران مِلّى ـ ورقة رقم 64، 65، وفى حلبة الكميت ص 371

32 ـ ابن شاكر الكنبى ـ فوات الوفيات ـ تحقيق د. اٍحسان عباس ـ ج4 ص 292

33ـ صلاح الدين الصفدى ـ فض الختام عن التورية والاستخدام ـ تحقيق د. المحمدى عبد العزيز الحنّاوى ـ المطبعة المحمدية ـ القاهرة 1979م ص 99

34 ـ ابن اٍياس ـ بدائع الزهور ـ ج1 ص 526

35ـ ابن شاكر الكنبى ـ فوات الوفيات ـ تحقيق د. اٍحسان عباس ـ ج4 ص 209

36ـ صلاح الدين الصفدى ـ الوافى بالوفيات ـ تحقيق أحمد الأرناؤط وتركى مصطفى ـ دار اٍحياء التراث ـ بيروت

2000م ج 27 ص 324

37ـ محمد بن قرقماس ـ زهر الربيع فى شواهد البديع ـ تحقيق د. مهدى أسعد عرار ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت 2007 ص 157

38ـ ابن اٍياس ـ بدائع الزهور ـ ج1 ص357

39ـ محمد بن قرقماس ـ زهر الربيع ـ ص 159

40ـ صلاح الدين الصفدى ـ الوافى بالوفيات ـ ج23 ص 37

41ـ محمد بن قرقماس ـ زهر الربيع ـ ص 163

 42ـ شمس الدين النواجى ـ تأهيل الغريب ـ تحقيق د. محمد أحمد عطا ـ مكتبة الآداب ـ القاهرة 2005م ص 631، 632

43ـ محمد بن قرقماس ـ زهر الربيع ـ ص 162

44ـ شمس الدين النواجى ـ حلبة الكميت ـ ص 219

45ـ صلاح الدين الصفدى ـ الغيث المسجم ـ ج2 ص 16

46ـ ديوان ابن نباتة ـ ص 226

47ـ صلاح الدين الصفدى ـ فض الختام فى التورية والاستخدام ـ تحقيق د. المحمدى عبد العزيز الحناوى ـ دار الطباعة المحمدية ـ القاهرة 1979م ص 146

48ـ ابن حجة الحموى ـ كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام ـ المطبعة الأنسية ـ بيروت 1313 هجرية ص3

49 ـ صلاح الدين الصفدى ـ فض الختام عن التورية والاستخدام ـ من ص 96 ـ ص 100 وضّح محقق الكتاب تأثر ابن حجّة بالصفدى ونقله لآرائه

50ـ ابن حجة الحموى ـ خزانة الأدب وغاية الاِرب ـ المطبعة العامرة ـ القاهرة 1291 هجرية ص 338

51ـ خزانة الأدب ص 340 وفى كشف اللثام ص 62

52ـ خزانة االأدب ص 341، كشف اللثام ص 62

53ـ خزانة الأدب ص 341، كشف اللثام ص 62

54ـ خزانة الأدب ص 398، كشف اللثام ص 110، 111

55ـ خزانة الأدب ص 341، كشف اللثام ص 63

56ـ خزانة الأدب ص 342ـ كشف اللثام ص 63

57ـ خزانة الأدب ص 342، 343، وكشف اللثام ص 64، 65

58ـ بدائع الزهور ج1 ص 357

59ـ خزانة الأدب ص 309، كشف اللثام ص 26

60ـ د. عوض الغبّارى ـ فى أدب مصر الاٍٍسلامية ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ كتابات نقدية العدد 214 ـ القاهرة 2013م ص 210

61 ـ خزانة الأدب ص 354،كشف اللثام ـ ص77

62 ـ ديوان ابن نباتة ص 163

63ـ ابن حجة الحموى ـ بلوغ الأمل فى فن الزجل ـ تحقيق د. رضا محسن القريشى ـ تصدير أ.د عبد العزيز الأهوانى ـ منشورات وزارة الثقافة و الاٍرشاد القومى ـ دمشق 1974م التصدير من ص 5 اِلى ص 7 وسرقات ابن حجة من ص 29 اٍلى 33