التلقي أو (التواصل)، حسب علم النفس، عملية معقدة يصعب تحديد بدايتها فليس هناك رسالة اتصالية ناتجة عن فراغ الرسالة الحاضرة هي نتيجة لرسائل ماضية تعود لمراحل ضارية في القدم، كما يصعب إنهاء الرسالة الاتصالية لأنها نتيجة للعملية التفكيرية، فالبقدر نفسه الذي لا نستطيع معه أن نبدأ عملية التفكير كما نبدأ في تشغيل الماكينة لا نستطيع إنهاءها"(1).
ولكل عملية تواصلية ثلاث مكونات أساسية لا يمكن ضبط حدودها ضبطا نهائيا:
أ- الأصول: كل بداية في التواصل تعود إلى مراحل سابقة في تاريخ الفرد (طفولته، صباه، مراهقته..) وتاريخ محيطه (الأسرة، الأصدقاء، الأعراف، الاجتماعية..).
ب- الرسالة، تستدعي كل رسالة، في سياق تلقيها، عناصر الرسائل السابقة المشابهة لها(2)، وتنشئ معانيها وأسلوبها على أساسها ذلك.
ج-الامتدادات، تمتد آثار الرسالة في نفسية المتلقي، الواعية وغير الواعية، حتى بعد انتهاء عملية الاتصال، فهي تغير او تصحح أو ترسخ الأفكار والسلوكات والمعارف المكتسبة سابقا(3).
وهذه المكونات الثلاثة هي التي تجعل من العامل النفسي أهم العوامل المؤثرة في أوضاع الاتصال الإنساني، بل أهم "العناصر التي تميز نظام الاتصال البشري عن بقية أنظمة الاتصال عند الكائنات الأخرى"(4). وهي التي استدعت كذلك خلق توجه جديد في نظرية التلقي هو "الاتجاه التحليل نفسي للاستجابة"(5) الذي اهتم بتفسير الآثار التي يحدثها الفعل الفني في المتلقي على المستوى العميق من نفسيته، وباستعداداته التي تسبق عملية الاتصال بالموضوع، وآليات وطرق حدوث هذا الاتصال ونتائجه وآثاره.
ويصعب الإلمام بكل المناحي والجوانب المتعلقة بهذا الجانب في مجال الفرجة الشعبية، وتبقى كل مقاربة له محاولة للإجابة على بعض الأسئلة الهامة التي من خلالها يمكن التعرف إلى ما تقدمه الفرجة الشعبية للمتفرج المغربي على المستوى النفسي، ولماذا وكيف يتفاعل معها وجدانيا؟ وكيف تشتغل هذه الفرجة لخلق الديناميات السيكولوجية المحفزة لدى المتلقي، وعلى ما تعتمده في ذلك؟
وأول جانب يشد المتلقي المغربي إلى فرجته الشعبية ويشكل الدعامة الأساس في انجذابه إليها، هو ذلك الارتباط الوجداني المبني على الإحساس القوي بالهوية والذي يعتبره علماء النفس نوعا من الدعم النرجسي ومسألة كونية بسبب من كونه دافعا أساسيا/ يشكل الإطار لأفعال الناس(6) ويتخذ الإطار عند المتلقي المغربي أكثر من وجه، أهمها التعاطف مع الفنان أو العارض، والإدراك المشترك، والإشباع العاطفي.
ينجذب المتفرج المغربي إلى الفرجات الشعبية بمختلف أنماطها، لأنه يعرف العارض أو الفنان الذي يكون غالبا من أبناء منطقته أو قبيلته (في المهرجانات والاحتفالات) في "الحلقة"، إذ لهما التطلعات والآمال نفسها وأنساق التفكير والرؤية للعالم ذاتها، وربما تجمعهما علاقات اجتماعية متنوعة خارج، إطار الفرجة، كعلاقة الزمالة (في سيدي الكتفي واعبيدات الرما والبساط)، بتعبير حسن البحراوي، وعلاقة الصداقة ( في بويلمان وتاغنجا وإمعشار..) وعلاقة القرابة (في أقلوز والأعراس وحفلات الختان والعقيقة..) وعلاقة الانتماء (في الاحتفالات الصوفية..) ومثل هذه العلاقات تتخذ شكل الارتباط النفسي والتعاطف القوي أثناء عرض الفرجة(7).
ويتشكل في الفرجة الشعبية إدراك مشترك بين الفنان، والمتلقي بالقضايا والمواقف الاجتماعية والتاريخية والأوضاع الحياتية العامة، فيتواطئان على استخدام الفرجة كآلية نفسية "دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات، وتقوم هذه الآلية الدفاعية على أساس تحويل الضيق (أو عدم الشعور بالمتعة) إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة أو اللذة"(8) بواسطة النقد والسخرية واللعب والاحتفال المفتوح الهوامش للتعبير عن المكبوتات والمحرمات، فيحدث ما يشبه خروج البخار المكتوم في "تدفق واضح في الطاقة العصبية التي كانت محبوسة أو مقيدة"(9)، خلال فترات العمل أو مواجهة الخطر الخارجي، ومثل هذا ما كان يحدث في مهرجان (باشيخ) من انزياح عن كل الأعراف والأخلاق والضوابط الاجتماعية والدينية، حيث يصبح كل فعل (تمثيلي) أو قول مباح ومقبول لدن الجميع.
ويسعى المتلقي في أغلب الأحيان، من خلال إقباله على الفرجة الشعبية، إلى تحقيق إشباع عاطفي وفكري، وتحقيق الإحساس بالانتماء إلى الجماعة للتخفيف من توتراته ومخاوفه، والفنان الشعبي يدرك ذلك، فيحاول ما أمكن أن يعدل طيلة عرضه ولعبه من تقنياته ومضامينه من خلال ملاحظته للتعبيرات الوجهية للمستقبل وإيماءاته ومدى انتباهه الذي يعبر عنه اتجاه نظراته"(10)، ومن خلال تقديره لدرجة حماسه ومشاركته في أطور الفرجة حتى يصل إلى الصيغة والمعنى اللذين يحققان الارتياح والإشباع المطلوبين.
وفي الاحتفالات الصوفية العنيفة واحتفالات "تاغنجا" وغيرهما مما يعرض فيها المؤدون أنفسهم لتعنيفات جسمانية خطيرة، كالمشي حفاة، والضرب بالقوة على الأطراف، وشرب الماء الساخن، وأكل الأشواك والزجاج.. فإنها تنتهي بتجديد الثقة بالحياة والذات(11)، لأنها عملية تطهير جماعي، ويرى دوركايهم أن مثل هذه الممارسات والطقوس هي قبل كل شيء لحظات جيشان جماعية وتمثيلات جماعية تعبر عن حقائق جماعية، ولحظات تحرك الجماعة لتحتفل، "فيتم الانتقال من اليومي الذي لا نهتم فيه إلا بذواتنا والمصالح المادية إلى الزمن الجماعي الذي (تتجدد في الروح)، وينقل دوركهايم التحليل الذي ينصب على الشأن الديني البدائي إلى الشأن الديني المعاصر، أو بالأحرى الشأن الدنيوي، فالنشاطات ذات الطابع الاستثنائي المنحرفة أحيانا، وذات الكثافة العظيمة التي يتم من خلالها اختراق القواعد (العادية) طقوس من آثار قوية مشاعر الانتماء للجماعة والتعلق بنظام أخلاقي أعلى(غيبي) يحمي الأفراد من العماء والفوضى"(12) والضياع، حتى أنه لا زواج في غياب التبرك والقوى الغيبية، ولا تصريف للمواقف والمكبوتات بدون تحفظ أو قيد(13)، ولا شعور بالسعادة والقوة الداخلية دون قيام هذه الاحتفالات ومشاهدتها، بل والمشاركة فيها أيضا.
واستخدام عناصر الماء والنار والقناع والبخور في احتفالات (بويلمان) و(إمعشارن) و(بوغانم) و(العنصرة) يقوي الإحساس لدى المتلقين بأنها (العناصر) تقيهم من الأخطار والأمراض، وتهب لهم الطهارة والنقاء والقوة، ويرى باشلار أن النار مثلا، في احتفالات (نيران المباهج) تمد الجميع بتصورات نفسية عميقة حول الخصب والقوة والجنس، فيقول "يضحي المبدأ السيكولوجي باديا للعيان بالإضافة إلى دور الرماد في تغذية الماشية أو تسميد الأرض، يوجد دائما فيها وراء المنفعة الواضحة حلم أكثر صميمية، مرحلة الإخصاب في أكثر أشكاله امتلاء بالجنس، إن رماد نيران الفرح يخصب الماشية والمزارع لأنه يخصب النساء، وإنها الخبرة، نار الحب، التي هي أساس الاستقراء الموضوعي. وإذا كان الإنسان البدائي يعتقد بأن نار الحب الأصلية، تتمتع بجميع أنواع الفضائل وأنها تهب القدرة والصحة، فإنه كان يستشعر السعادة والقوة الداخلية التي لا تكاد تقهر وهو يعيش هذه اللحظة الحاسمة إذ النار تتألق والرغبات تتحقق"(14). وعلى هذا الأساس، يمكن مثلا، تفسير ظاهرة تسابق الشبان في طقوس (العنصرة) إلى القفز فوق النار والرقص حولها أملا في تحقيق محصول وفير وزواج موفق.
ويشدد الاتجاه "التحليل النفسي" في نظرية التلقي على بنية المتعة التي يرى فرويد أن مصادرها تكمن في اللاشعور، أو العمل الفني يقدم للمتلقي حوافز من أجل إثارها وتحريها(15)، وتتم هذه الإثارة أو التحريك في إطار آليات الدفاع النفسي كالإشباع الرمزي والإنكار والهروب التخيلي.
وهذه الآليات هي جوهر الخبرة الجمالية لدى المتلقي، وهي التي تصل إلى "حل وسط بين المتعة الخيالية والواقع الموضوعي. وهذه التسوية هي التي تضع الأسس القوية لعمليات التواصل"(16)، وهكذا تتشكل في جل الفرجات الشعبية المغربية عوالم تخييلية رحبة تغرق المتلقي وتغمره، لاسيما في الاحتفالات التي يكون مشاركا فيها، ويشعر في خضمها بلذة غامرة مزدوجة، العيش في هذا العالم، والعمل على بنائه وفق رغباته ونزوعاته(17).
ولا تقدم الفرجة الشعبية المغربية لمتلقيها المتعة فقط، وإنما تقدم له المعرفة والخبرة أيضا، عن طريق التأثير على بنية ذاته، وتدخل إلى "خارطته الإدراكية إضافات تفصيلية وجديدة وتكشف عن ملامح مهمة جرى تجاهلها أو كبتها سابقا"(18). فتحمل إليه بذلك وعيا متزايدا بنفسه وبالعالم وبالعلاقات الإنسانية، كما يحدث في المهرجانات التي يكتشف فيها المتفرج والمشارك غرائزه وأعماق ذاته، وفي (الحلقة) التي يتصرف فيها عن عوالم وتجارب إنسانية مختلفة، وفي الاحتفالات الاستعراضية (العنيفة) التي تترك داخله أثرا يماثل تخفيف المشاعر وتمده، بتجارب تمنحه القدرة على التحمل والصبر عن طريق دمجها مع بقية تجاربه الحياتية(19).
والمتعة والخبرة اللتان تقدمهما الفرجة الشعبية لمتلقيها تحدثان تغيرات هامة في سلم ترتيبه للأفكار، وفي إعادة تشكيل ذاته، وتحققان له التحرر والتخلص من التوترات والصراعات، وتتحقق هذه التأثيرات وفق عملية أساسية أثبت علم النفس التجريبي أنها تمر عبر ثلاث إنجازات:
- التأكيد على العناصر المرغوبة والملائمة.
- حذف العناصر المؤلمة والمرفوضة وإهمالها.
- الربط بين مختلف العناصر"(20).
وعلى أساس إنجاز هذه العمليات الثلاثة يتفاعل المتفرج المغربي مع فرجاته حتى يحقق غاياته النفسية والمعرفية وإشباع رغباته أو تحقيقها. وإن كان من المستحيل استجلاء جميع مظاهر العامل النفسي داخل الفرجة الشعبية المغربية، فإنه لابد من الإشارة غلى أن البحث في صلابة هذا العامل وسريانه لا يتحدد بإظهار تجلياته وقيمه الجارية فحسب، وإنما البحث المكثف في امتداداته فيما هو أعمق وفي تجلياته وقيمه التي رسخها في اللاشعور الفردي والجماعي، وحولها إلى مبادئ قوية تنطلق منها الاستجابات المختلفة إزاء جل مظاهر الحياة الروحية والمادية(21).
وفي الأخير يمكن أن نخلص إلى كون الفرجة الشعبية المغربية كنظيراتها لدى الأمم، ظاهرة إنسانية لها خصوصياتها وأعرافها ولها فرادتها التي تجعل منها ظاهرة متشعبة ومنغمسة بالمعاني والرموز والعلامات والدلالات التي تجعل كل واحدة منها متميزة عن الأخرى كما تعد فنا يعكس تجليات وعلامات فوقية مختلفة لما تمر به الحياة الاجتماعية للإنسان، المغربي من غايات ونزاعات و صراعات وتحديات، لذلك لا يمكن مقاربتها أو دراستها من جانب واحد أو تفسير عناصرها وأسسها انطلاقا من رؤية محصورة وضيقة فالفرجة الشعبية كنز قيمي، إن صح التعبير يتجدر في الواقع التاريخي والاجتماعي والاقتصادي المتعالي على الطبيعة الذاتية للجمهور من جهة، وقيمة نفسية من جهة أخرى، والحقيقة أن المبادئ والأسس والقيم التي ترتكز عليها الفرجة في صيغ التلقي وصيغ العمل، التأويلي غير معروفة بشكل جيد، ولا يمكن معرفتها نهائية وتامة، فهي أسس تتقاطع فيها رغبات وتطلعات، الحكواتي/ المؤدي/ الفنان، ومعرفة برغبات الجمهور/ المتفرج، وثقافته وتربيته ومعرفيته، ورغبات الفنان والمتفرج معا برغبات المجتمع وتوجهاته التي تتأسس على الأحوال التاريخية الثقافية والاقتصادية العامة، أسس عديدة ومتباينة تشيدها رغبات متضاربة ومتداخلة، وتنتجها عوامل متشابكة ومتقاطعة. وتحتاج إلى جهود كبيرة ومتواترة من أجل التعرف عليها وعلى مقوماتها الأصلية والفاعلة باعتبارها مظهرا من مظاهر حضارتنا وثقافتنا الحقيقيتين. فالتراث والموروث الثقافي الذي يشكل هوية المجتمعات ويرسخ مبدأ التواصل بين الأجيال السالفة والقادمة والحفاظ على مكتسبات الماضي والمضي قدما إلى تطويرها وإضافة لمسة تجعلها أرقى وأنقى وأبقى في الواقع المعيشي قصد الحفاظ على هذا الرابط التراثي الذي بالفعل يشكل حضارة وهوية متجدرة في المخيال الشعبي الثقافي.
(باحث في الأدب، تخصص: الإثنوغرافيا والموروث الثقافي، جامعة محمد الخامس، الرباط)
* * * *
الهوامش
1- محمد الأمين موسى (1994)، العامل النفسي والاتصال، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، ط1، ص3.
2- هانز روبرت ياوس (2003)، جمالية التلقي: من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة رشيد بنحدو، الدار البيضاء، ط1، ص66.
3- هانز روبرت ياوس (2003)، جمالية التلقي: من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، مرجع سابق، ص66.
4- محمد الأمين موسى (1994)، العامل النفسي والاتصال، مرجع سابق، ص3.
5- مارشال والكورن ومارك بريش (2001)، اتجاه جديد في نظرية استجابة القارئ، مجلة نوافذ السعودية، ترجمة صبار وسعدون سلطان، عدد 18، ص57.
6- مارشال والكورن ومارك بريش (2001)، اتجاه جديد في نظرية استجابة القارئ، ص92.
7- أزروال فؤاد، مقال التلقي في الفرجة الشعبية المغربية نموذجا، مرجع سابق، ص10، بتصرف.
8- شاكر عبد الحميد (2003)، الفكاهة والضحك: رؤية جديدة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 289، ص128.
9- شاكر عبد الحميد (2003)، الفكاهة والضحك، ص122.
10- محمد الأمين موسى (1994)، العامل النفسي والاتصال، مرجع سابق، ص86.
11- مارتن سيغال (2002)، الطقوس والطقوسيات المعاصرة، من ذاكرة الانتروبولوجيا إلى الممارسة، مجلة "كتابات معاصرة"، لبنان، ترجمة ميلود حكيم، عدد 46، ص53.
12- مارتن سيغال (2002)، "الطقوس والطقوسيات المعاصرة، من ذاكرة الانتروبولوجيا إلى الممارسة"، مجلة "كتابات معاصرة"، لبنان، ترجمة ميلود حكيم، عدد 46، ص53.
13- لحسن آيت الفقيه (2001)، إملشيل جدلية الانفتاح والانغلاق، منشورات مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، الرباط، مطبعة امبريال، ط1، ص19.
14- غاستون باشلار، (1984)، النار في التحليل النفسي، ترجمة نهاد خياط، لبنان، دار الأطلس، ط1، ص75.
15- شاكر عبد الحميد (2003). التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 267 ص267 و128.
16- شاكر عبد الحميد (2003). التفضيل الجمالي: دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، ص131-132.
17- أزروال فؤاد، مقال التلقي في الفرجة الشعبية المغربية نموذجا، مرجع سابق، ص12، بتصرف.
18- مارشال والكورن، اتجاه جديد في نظرية استجابة القارئ، مرجع سابق، ص70.
19- مارشال والكورن، اتجاه جديد في نظرية استجابة القارئ، ص72.
20- حميد لحميداني (1991)، "النقد النفسي المعاصر: تطبيقاته في مجال السرد"، الدار البيضاء، منشورات سال، مطبعة النجاح الجديدة، ط1، ص30.
21- أزروال فؤاد، مقال "التلقي في الفرجة الشعبية المغربية نموذجا"، مرجع سابق، ص13، بتصرف.