تشيد القاصة المصرية نصها المكثف بتأني، حيث يتدرج من تفاصيل يومية عن رجل وحيد في بيته يرتب طوابع العائلة المتوارثة، بما تحمله من رموز، إلى جو كابوسي يقاوم فيه القتلة وينجح في الحفاظ على الطابع الأهم أرث العائلة والوطن.

طوابع وقوارض

وفاء الحكيم

يتجاوز الوقت منتصف الليل بقليل، أجدني خائفة تلفني العتمة، ووحيدة فما من احد بجانبي، وصامتة يحتويني الصمت الذي يلف الردهة الواسعة التي اجلس فيها.

أكان من اللائق أن  يتركوني لمجرد أنني أوعزت لهم  بان يتركوا لي البيت عدة ساعات أستطيع خلالها ترتيب طوابع البريد المبعثرة، والمتناثرة في كل مكان!!

أعددت لنفسي كوبا من الشاي، ورحت ارتشفه على مهل،  وأنا انظر للستائر خلف النوافذ المواربة،  وهى تقف متسمرة، والهواء عبرها يأتي جافا، وفاترا، ثم عدت إلى الطاولة أعيد ترتيب الطوابع،  ثم أقوض الترتيب لأعيده من جديد.

***

تتجاوز دقات الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وبجانبي ثلاثة أكواب من الشاي، ودفتر الطوابع في يدي عصي على الترتيب،  أعيد الترتيب مرات متتالية وفق ما أراه، وما يصله عقلي من بديهيات، واستنتاجات!!

أتأمل الطوابع على مهل ّذكرى إلغاء معاهدة 36 – المؤتمر العالمي للقطن – بلوغ الملك فاروق تسع سنوات – ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية – دخول مصر حرب فلسطين15 مايو لعام 1948- ذكرى الجلاء- بدء دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط الأولى انظر للطوابع المتناثرة، وتلك الموجودة في أكياس بلاستيكية، وهذه الموجودة في العلبة القطيفة الحمراء. أعيد الترتيب، وأنا أتذكر وصية أبي الذي أوصاها لي كما أوصاها له جدي من قبل:

احذر أن يضيع احد من أولادك طابع واحد من طوابع البريد التي ورثتها العائلة، سينالك غضبي وأنا في قبري!.

***

دقات الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل. 

اسمع دقات متتابعة تشبه خربشة الحيوان على باب شقتي. كانت الدقات حازمة، سريعة، وهادئة ولم تعطني فرصة للتباطؤ فتركت الطوابع مبعثرة، وقمت لأفتح الباب فوجدته أمامي.

كان يقف أمامي جسدا، منتصبا، لزجا، ممتلئ بالفراء ماعدا ذيله الذي بدا عاريا من لزوجة الفراء، ولمعة السوائل عليه. كان بنيا كئيبا، مائل للسواد ينظر لي بعينين متجهمتين، ويمد لي فمه الطويل باستهزاء!.

وبين لحظة وأخرى انزلق إلى الداخل من بين أقدامي ووسط رعبي،  واندهاشي.

ولم أفق إلا وقد قفز داخل كل الحجرات، وبحث داخل كل الأثاث، وتفحص بعينيه المطبخ، والأطباق، ودورة المياه، والمكتبة، والسجاجيد الملقاة، ثم وقف أمامي على المنضدة يدوس بقدميه على أحد الطوابع.  تلفت فوجدت الطابع مكتوبا عليه: شرارة التحرير 6 أكتوبر 1973.  أمرته أن يبتعد بقدميه المتسختين عن التاريخ، والصورة لكنه إمعانا في كيدي راح يبول على المنضدة، ويبلل عن عمد الطوابع.

كان كلما نظر إلى يكبر، ويبدو -أمام نفسه- متضخما وتزداد لزوجته كثيرا. وكان يمضغ شيئا ما في فمه ورغم علمي انه نباتي إلا انه لا مباليا  اعتبرني إحدى الحيوانات.. ربما اعتبرني "كلبه" أو" لبؤة" لذا بدأ يعضني في أماكن كثيرة من جسدي، ثم بدأ يقضمني.

***

دقائق وتعلن الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، وهو جالس أمامي يبكي، ويتوسل، يرتجف دون مبرر، يهدد، ويتوعد، ثم يبتسم كابتسامة الكومبارس، وهو يمثل دور الضحية الذي يحتال للحصول على التعاطف الإنساني، ثم راح يسألني عن شيء ما يريده، وكنت اعلم - يقينا ومنذ أيام بعيدة - انه سيبحث عنه لذا فقد خبأته بين أغلفة كتاب الطوابع القديم، وادعيت أنني لا اعرف  شيئا عما يبحث عنه. 

وطالت لحظات الترقب بيننا.. كان كلما توسل لي تقزم أمامي،  وكلما هددني تزداد شجاعتي، وكلما قضم مني تناثر كغبار داكن يزكم الأنوف برائحته العفنة!!

أوشكت على فقد الوعي، وبدأت الأشياء تفقد حدودها أمامي،  وتستحيل مرئيات هلامية

كنت أتلاشى، وكان يتضخم، كنت انسحب، وكان يتعملق. كنت اختصر في نقطة، وكان ينفجر كفقاعة.  حتى أصبح منفرا، ومقززا،  مثل كل القوارض التي نبصق عليها أقدارنا البائسة، والمأزومة، والمتسخة بواقع مرير تعربد فيه كائنات كثيرة ذات أظافر، ومخالب وذيول.

***

الساعة الخامسة تماما، وجثتي تتناثر أشلاء على بلاط الأرضية، ودمائي تنتشر بقع دماء متخثرة على الطاولة، والمنضدة، والمساند.

كانت حدة غضبه قد وصلت مداها، فقام بتكسير كل ما يصل إليه. الزجاجات، والكريستالات، والنجفة النحاسية، والفازة الممتلئة بالورود. راح يهشم زجاج النوافذ، ثم مزق كتاب الطوابع دون أن يدرك ولو للحظة واحدة أن ما يبحث عنه موجود بين يديه طوال الوقت لكنه- أبدا- لن يفلح في الوصول إليه!.

***

تدق الساعة السادسة تماما .. ويعلوا قرآن الصباح، ويتحرك البشر ليكسروا حاجز الصمت بتدفقهم، وباصات المدارس في طريقها لنقل الأولاد، والبنات إلى مدارسهم،  ويذهب الفلاحون إلى حقولهم، والصيادون صوب الشطوط ليرموا شباكهم،  ووكالات الأنباء  تتناقل خبر اقتحام شقتي وقتلي من قبل مجهولين، وأولادي يقفون يتلقون العزاء،  بعدما أبعدتهم عني في هذه الليلة التي كنت أتوقع فيها قدومهم، والطابع في مكانه بين أغلفة كتاب الطوابع. يا لهذا الطابع كم هو جميل وأنيق، ومدسوسا بدقة  بين طيات الغلاف، مكتوب عليه - تأميم قناة السويس تاريخ 26 -7 -  1956. ورغم موتي إلا أن القوارض لم تفلح في الوصول إليه كما أوصاني أبي، وأوصيت أنا أولادي ليحافظوا عليه من بعدي،  وإلا سينالهم غضبي، وأنا عظام في قبري.