يصور القاص المغربي في قصتين محنة العاشق والعلاقة الأزلية بين الرجل و المرأة، حيث يغور في العالم الباطني لمتشرد يعشق فتاة ويحلم عند رؤيتها، لتغيب تماما، في القانية يتابع نفس الشخصية وهو في الثلاثين محنته في العشق والخذلان.

يوسف وأشياء أخرى

خـالد غـميرو

يوسف:

كان حبا من نوع خاص، لا تشبه القصص التي نسمعها و نقرأها عادة عن الحب، هنا لم يكن يوسف يعرف عن حبيبته سوى تلك الدقائق المعدودة، التي تمر فيها من أمامه كل يوم، وتلك الابتسامة التي تعني له اللحظة الجميلة الوحيدة التي من أجلها يستمر في العيش...

ككل يوم بعد أن ينتهي من جولته المعتادة بين مقاهي وسط المدينة، في البحث عن ما يجعله يعيش ليوم إضافي آخر ليرى حبيبته، يعود مسرعا دائما قبل نصف ساعة من الموعد الذي تمر فيه، يحرص دائما على أن لا يتأخر، وحتى إن تعرض له الأولاد الأكبر سنا، و الذين غالبا ما يأخذون منه ما قضى اليوم بطوله في جمعه، يتركه لهم لكي لا يؤخروه عن الموعد.

كان بجسده النحيل الذي لم تغادره الطفولة بعد، والذي يختفي في سترته الكبيرة التي لا تعرف لونها الأصلي، يتكئ على حائط قاعة السينما المغلقة، ثم يقرفص رجليه ويبقى متطلعا بعينه إلى الجهة التي تأتي منها حبيبته. كانت فتاته تمر كل يوم من هذا المكان، بخطوات هادئة واثقة من نفسها، ربما كانت تدرس أو تعمل في مكان قريب من هنا، بالنسبة له لم يكن يهم أن يعرف من هي و ما اسمها، أو إلى أين تذهب ومن أين تأتي، وحتى أنه لم يفكر يوما أن يتبعها، بل فقط كان يحب أن يراها كل يوم، في تلك اللحظة التي تمر فيها و تبتسم له ابتسامة لطيفة وتحييه بهزة خفيفة لرأسها، لقد كان حبه لتلك اللحظة ولتلك الابتسامة، أهم بالنسبة له من الفتاة بنفسها، كانت تعني له تعويضا بسيطا عن الدفء والحنان الذي يفتقده، كان حبا أكثر إنسانية ووضوحا من الحب الذي كتب عنه جميع الأدباء والشعراء عبر التاريخ، حب لا يمكن أن يتوطد إلى في هذه اللحظة وفي هذا المكان ومع هذا الشخص بالذات...

مرت على الموعد المعتاد دقائق كثيرة وحبيبته لم تظهر بعد، كان قلقه وخوفه من أن لا تأتي يزدادان، ويظهر أنها لن تأتي اليوم، لقد بدأ فعلا يفقد الأمل في مرورها، بل بدأ يخيل إليه أنها لن تمر مجددا، وأنه لن يرى تلك الابتسامة بعد الآن، لقد شعر بخيبة أمل كبيرة بعد أن خيم الظلام، وتيقن أن حبيبته لن تأتي اليوم، بل ربما حتى غدا، فهي ليست ملزمة بذلك، وهي لا تعرف أن يوسف ينتظر ابتسامتها كتعويض بسيط عن فقدانه لكل شيء يستدعي أن يعيش الإنسان من أجله. شعر حينها بوهن شديد يحتل جسده الهزيل، أراد فقط أن ينام، نهض من مكانه واتجه إلى حيث ينام كل ليلة مع أصدقائه، في الحديقة العمومية الصغيرة داخل الكيس الأسود الكبير، لم يكن أصدقاؤه هذه المرة هناك، فهم لا يأتون عادة للنوم في مثل هذا الوقت، فلازال الليل في بدايته ، أما هو فلا يريد أن يقوم بشيء سوى أن يتكوم داخل الكيس الأسود، حتى أنه نسي ألم الجوع، والفكرة الوحيدة التي كانت تدور في رأسه، هي أنه فقد حبه وأنه لآخر مرة سيرى فيها تلك الابتسامة، وأن حبيبته لن تمر مجددا.

ادخل جسمه النحيل في الكيس، وتمدد تحت الشجرة القصيرة، فأغمض عينيه ثم استسلم للنوم وقرر ألا يستيقظ في اليوم التالي ولا في الأيام القادمة، فحبيبته لن تمر لتبتسم له مجددا...

يوسف مرة أخرى

هو الآن قريب من ثلاثينيات العمر، نضج إلى مستوى يستطيع به أن يعي كيف يتحرك العالم، و كيف هو واقع مجتمعه و كل الحروب الصغيرة والكبير التي تطحنه، لكنه لازال عاطفيا إلى درجة التطرف كما كان في طفولته، هي من أعادته إلى ذلك العمر، إلى تلك الابتسامة التي قتلته في المرة الأولى، و هاهي تصر على قتله مرة أخرى بعد كل هذه السنين، الآن لم يعد كما كان، ولن يستطيع أن يفعل ما كان يفعله حينها و أن ينتظرها بنفس الطريقة، لقد تغيرت أشياء كثيرة في حياته، أصبحت الأمور أكثر تعقيدا بالنسبة له، الآن حبيبته لم تكن تربطه بها فقط خمسة دقائق و ابتسامة، بل كانت أحلاما كبيرة خططا لها معا، وتفاصيل دقيقة عاشاها كل يوم، كانت بالنسبة له هي محور حياته، هي أيضا كانت تحبه إلى درجة أنها كانت تسميه حلما جميلا و مختلفا قد تحقق..

ماذا حدث الآن؟ كيف لها أن تتركه بهذه السهولة، بعد أن وجدها و عاش معها، هكذا بدون سابق إصرار أو إنذار، أعادته إلى تلك اللحظة التي عاشها عندما تأكد من أن حبيبته لن تمر مجددا لتبتسم له، اليوم يعيش بنفس الخوف و نفس الألم، بأسئلة تعذبه كل يوم منذ أن تركته، منذ أن رمت في وجهه رسالتها و رفضت أن تلتقي به و تشرح له أسبابها، فقط الصمت و الرفض هما حديثها الأول و الأخير، لا يعرف إن كانت أحبته أم لا؟ أو أنها لازالت تحبه، لا يعرف لما ارتبطت به، لما أعطته كل تلك الآمال ثم انسحبت هكذا، تاركتا وراءها البكاء و الشك و الغموض، كأنها تنتقم منه على جرم لم يرتكبه، أو تعاقبه لأنه أحبها؟ هل كانت تخاف منه، و من أحلامه التي ربما تجاوزتهما معا لتتسع إلى حيز يدخل في العالم كله، أ خافت على طموحها في أسرة صغيرة من أن يضيع وسط هذه الطموحات الكبيرة في تغيير العالم؟

هي من قالت، وكتبت له في مذكرته الصغيرة، "كم من الوقت سننتظر لنكون معا إلى الأبد"، و هاهي تأتي الآن لتقول أنها لم تكن تشعر بالارتياح، و أنها تريد أن تبقى لوحدها، لا تريد حتى أن ينتظرها، و تطلب منه أن يبدأ حياة جديدة، لكنها لا تستطيع أن تقول له كيف يبدأ هذه الحياة، هل يبدأها مع هذا الخوف و الإحباط؟ كيف سيحيى مجددا من هذا الموت المحقق، كم من القلوب سيجني عليها و يعذبها هو أيضا، ليجد ابتسامة أخرى كهذه تلخص حنان و أمان الكون كله كما كان يراها، و كيف سيظل هاربا من وحدته التي كانت تعذبه من قبلها و ستعذبه أكثر من بعدها...

هي تريد الهرب إلى الوحدة من عينيه التي تعذبها و تجعلها تحس بتأنيب الضمير، و هو يريد أن يهرب من كل العالم و من وحدته إلى حضنها. لم تعطه ولو أملا ضعيفا يغذي انتظاره لها، هل سيبقى ينتظرها و هو يعرف أنها لن تعود، و لن تفكر حتى أنه سينتظرها كل يوم في نفس المكان و التوقيت، كما كان يفعل و هو طفل، هي تعرف الآن أنها ستتركه يموت ببطء و هو ينتظرها بتلك الطريقة القاسية، لا تعرف أن هذا الموت أصعب و أكثر ألما من الموت الطبيعي، هذا الموت الذي نشعر به حينما نفقد الحب و الشعور بالأمان، موت كل تلك الأشياء الجميلة و النقية و الصادقة، التي تجعلنا كائنات تستطيع أن تعيش و تستحق أن تتطور.

لن تأتي و لن يتقابلا مجددا، رغم ذلك ينتظرها في المكان و التوقيت الذي قال أنه سينتظرها فيه، كما كان يفعل طيلة الأيام الماضية، يتطلع بشغف إلى كل الحافلات التي تقف أمامه على أمل أن تكون في واحدة منها، قلبه يخفق بشدة كلما ظهرت حافلة أخرى قادمة، و يشعر بخيبة الأمل عندما لا تنزل حبيبته منها، تلك هي طقوسه للانتظار، مستمع بموته البطيء و هو يعرف أنها لن تأتي، و ربما لا تفكر حتى أنه ينتظرها...