اذ كنت تستطيع ان تشتري بقروش قليلة العديد من المجلات الثقافية الشهرية المهمة، مثل (الكاتب) التي كان يترأس تحريرها الاستاذ احمد عباس صالح، و(الفكر المعاصر) لزكي نجيب محمود، و(المجلة) ليحيي حقي، و(السينما) لسعد الدين وهبة و(المسرح) لرشاد رشدي، الي جانب جريدة (المساء) اليومية، التي كانت تصدر وماتزال عن دار التحرير، وكان يشرف علي تحرير صفحاتها الثقافية آنذاك الأستاذ المرحوم عبد الفتاح الجمل، وكان يكتب الرواية (محب) ويعشق السينما (سيدتنا الجميلة)، واليه يعود الفضل في انه فتح لي ولجيل الستينيات الذي انتمي اليه في مصر باب الكتابة والإبداع والنشر، وحتي ذلك الوقت، لم تكن هناك أية أهمية تذكر لصندوق الصور العجيب التلفزيون، الذي كنا نري مع الأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان (صباح الخير أيها الحزن) "انه صنع للعجائز والنسوان وللمتقاعدين، وقبل ان يتحول الي "سرطان" و"وباء"، لتلك الاجيال التي أتت من بعدنا، بسبب "الهراء" العام الذي ينشره ويبثه الآن.
افلام أم روايات، للامساك بالعدم؟
كان نادي القاهرة للسينما يعرض آنذاك في فترة الستينيات اهم الافلام التي خرجت للعالم في تلك الفترة: مثل تحفة "التوت البري" للسويدي انجمار برجمان، و"المومياء" لشادي عبد السلام، و"المغامرة" لانطونيوني من انتاج 1960 و"اربعمائة ضربة" لتروفو و"علي آخر نفس" لجان لوك جودار، و"الحياة الحلوة" لفديريكو فيلليني و"انجيل متي" لبازوليني وغيرها. وكنا ونحن نلتهم الكتب والروايات والقصص القصيرة والمسرحيات، ونتناقش علي مقاهي "ريش" و" ايزائيفتش" في مباديء الفلسفة الوجودية والماركسية والفوضوية ونشرب الشاي ونحن نتقاسم شطائر الفول والطعمية، نتفرج في ذات الوقت من خلال المركز الثقافي التشيكي الذي كان يديره الفنان التشكيلي احمد فؤاد سليم علي افلام الموجة التشيكية الجديدة، لماركيتا لازاروفا وميلوش فورمان، ونري فيها محاولات فنية سينمائية فذة، كما في فيلم "عن الحفل والضيوف" تبهرنا. وكنا نأخذ من تلك الافلام التي وضعت بصمتها علي، وتأثر بها جيل كامل، طرق واساليب جديدة في الكتابة الإبداعية، وننهل منها.فقد كانت هذه الأفلام "الفنية" التي كانت تعرض في نادي القاهرة للسينما، بالاضافة الي تلك الافلام التجارية التي كانت تعرض آنذاك في السوق، مثل فيلم "روميو وجولييت" المأخوذ عن مسرحية ويليام شكسبير ومن اخراج الايطالي زيفاريللي، كانت جزءا من ذلك المناخ الثقافي الروحاني المصري المتوهج آنذاك في الخارج، وفي الجامعة ايضا، وبخاصة بعد تأسيس اول ناد للسينما في كلية الآداب جامعة القاهرة، وكنا نعرض فيه علي طلبة الكلية من جميع الأقسام أفلام "الموجة الجديدة" في فرنسا، مثل"جول وجيم" لفرانسوا تروفو، وأفلام "الواقعية الايطالية الجديدة" مثل "روما مدينة مفتوحة" لروسوليني ثم الافلام التي خرجت في مابعد من معطف تلك الواقعية، لكي تؤسس في ما بعد ل "حداثة " السينما الملهمة، كما في افلام انطونيوني، وبخاصة في رائعته "المغامرة ".1960 التي جددت في المنحي السينمائي وطورت من الواقعية الايطالية الجديدة كما جددت قصيدة "الارض الخراب" للشاعر الانجليزي ت. اس. اليوت الشعر الانجليزي الحديث.
تلك الافلام لانطونيوني، التي تقرب الاعمال السينمائية اكثر من اعمال الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر "الوجود والعدم"، كما في رائعته "سجناء الطونا"، كما تقربها كثير ايضا من اعمال الرواية الجديدة في فرنسا،عند الآن روب جرييه وصاموئيل بيكيت وناتالي ساروت وغيرهم. وفي تلك أجواء، تعرفت علي وشاهدت أعمال انطونيوني السينمائية المبدعة الملهمة، وبخاصة رباعيته "المغامرة" 1960 و"الليل" 1961 و"الخسوف" 1962 ثم "الصحراء الحمراء" 1964 ثم من بعدها فيلم "تكبير" 1967، (فيلم "المهنة محق " 1974 بطولة جاك نيكلسون شاهدته خارج مصر) فقد كانت هذه الاعمال بمثابة "روايات" لايخطها انطونيوني ويدبجها بقلمه، بل يصنعها بسحر وتوهج الضوء والاكسسوارات والديكورات والحيطان والجدران والمنظر الطبيعي والالوان من (اللاشييء) أي افلام من الفراغ، لمحاولتها الجسورة وفي صمت، وبأقل قدر من الكلام، الإمساك بالعدم،، وتصوير وتكثيف وتجسيد ضياع النفوس المحطمة، وقلقها وعذاباتها، في اطار عالم مادي صناعي أناني عدمي، فقد في إطار "المعجزة الصناعية الايطالية" روحانيته العميقة، وانقطعت جذوره بكل ماهو مرتبط بالريف والقيم الانسانية النبيلة الأصيلة والارتباط بالارض، وتعاطف والفة الناس ومحبتهم، ونفذ الي عالم بنايات المدن الاسمنتية المسلحة التي تقتل الروح.. ومن هنا كان اهتمام نقاد كبار وفلاسفة من امثال الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز والناقد الفرنسي رولان بارت بأعمال انطونيوني الذي قال عنه المخرج الياباني العظيم اكيرا كورساو انه امسك بـ"العواطف" وصورها كما لم يفعل أي مخرج آخر في السينما". تلك المدن الكئيبة الكالحة الصامتة الصحراء التي يصورها انطونيوني في افلامه: فوقها دخان اصفر مثل السموم، تبخه مصانعها كما في فيلم "الصحراء الحمراء" بلون الدم، وتحتها مجاري وبالوعات، واحد لايتمني فيها ان يصبح سحابة!
وكان انطونيوني وقبل ان يدلف الي عالم الفيلم الروائي الطويل، قد حقق مجموعة من الأفلام التسجيلية الواقعية القصيرة المتميزة، جعلته يدلف في مابعد باطمئنان الي عالم السينما الروائية، فقد عرف كما يقول ـ بتواضع فنان ـ ان الافلام الروائية التي سوف يخرجها بعد ذلك لن تكون أسوأ من الافلام التي صنعها في مجال السينما التسجيلية او الافلام الروائية التي كان يشاهدها آنذاك. وحضرت افلام انطونيوني في مناخ تلك الفترة، لتحكي عن "حضور" PRESENCE واجواء، قبل ان تحكي عن عقدة وشخصيات واحداث نتابعها بقلق وترقب وتتطور، ولكي تعكس ايضا حيرتنا وقلقنا وضياعنا في اجواء "النكسة" والهزيمة، وانهيار المشروع القومي في مصر في فترة الستينيات، وعالم فقد معاني ودلالات وجوده. ومن عند هذه النقطة، من هنا ينبع سحر افلام انطونيوني الخفي الذي كان يبهرنا، فقد كانت افلامه تلك الأثيرة، تتلاقي وقتها مع همومنا، وهموم جيل كامل من المثقفين والكتاب في مصر، وكانت حتي وهي تحكي عن عالم بعيد جدا في ايطاليا، واناس بعيدين جدا عنا، فكأنها تتكلم عجبا عنا، وتتكلم ايضا معنا.
افلام انطونيوني: شواهد علي حضور
ولذلك كنا نتعاطف مع ابطال افلامه ونقبل عليهم ونحبهم، مونيكا فيتي وليا ماساري ومارشيلو ماستروياني وكان يجذبنا اداء بعض الممثلين لشخصيات افلام انطونيوني مثل مارشيلو ماستروياني في "الليل"، وكان اداء الشخصيات النسائية بالذات يسحرنا، كما في اداء مونيكا فيتي، واداء ليا مساري في "المغامرة" واداء الممثلة الفرنسية القديرة "جان مورو" وبخاصة في فيلم "اللي "، الذي اعتبره انضج افلام الرباعية، علي الرغم من انه حقق اقل عائدات ضمن افلامها، وكذلك اداء دافيد هيمنجز وفانيسا ردجريف وجين بيركين في فيلم "تكبير" وجاك نيكلسون في فيلم "المهنة محقق" في مابعد .وكنت بعد وفاة انطونيوني (في 30 يوليو 2007)، عدت وقبل كتابة هذه "الشهادة" لمشاهدة مجموعة من افلامه القديمة من جديد علي الفيديو، مثل افلام الرباعية، وفيلم "تكبير" وفيلم "نقطة زابرسكي" فبهرتني وآسرتني من جديد، فقد وجدتها مازالت متحفا لخرابات وحطام بشر من عصرنا، وتعجبت لحداثية هذه الافلام، بل انها تؤسس في رأيي لكل فنون مابعد الحداثة، من رسم وديكور وموضة وازياء وموسيقي وصور جديدة "نوفو ايماج" كما في كليبات الفيديو، فقد جرب انطونيوني "التقني البارع" كل هذه التقنيات الجديدة في افلامه، وكذلك تكنولوجيا التصوير بكاميرات التلفزيون وطور فيها، وليس في السينما فقط) أجل اندهشت لجدة افلامه وأروبيتها وعالميتها (ان انطونيوني كما يقول عنه الناقد الايطالي الدو تيسون اكثر المخرجين الايطاليين اوروبية وعالمية بلامنازع، فقد صنع العديد من افلامه خارج ايطاليا، كما في فيلم تكبير الذي تدور احداثه في لندن وفيلم نقطة زابرسكي الذي صنعه في امريكا" وفيلمه التسجيلي الذي حققه في الصين) ولاحظت انها لم تفقد ولو حتي شعرة او ذرة من تأثيراتها، وهي اشبه ماتكون بكوي النار التي تلسعنا، لكنها تعلمنا في نفس الوقت وبنفس القدر معاني القيم الانسانية الجميلة النبيلة، كما الرأفة والتعاطف والرحمة والغفران، مثل اليد الحانية التي تمسح دمعة، وتروح كما في فيلم "المغامرة" في آخر لقطة في الفيلم، تمتد عبر يد مونيكا فيتي، لكي تحنو وتطبطب علي ظهر حبيبها، وتغفر له انه قضي الليل في حضن امرأة اخري. السنا نغفر اكثر لهؤلاء الذين يشبهوننا اكثر ويحملون ذات الخطايا؟
نظرة الي السماء
وقد ينسي المرء كل شييء في فيلم "الليل" 1961 لكنه لن ينسي ابدا في الفيلم المشهد الذي تتطلع فيه جان مورو الي السماء مع مجموعة من الناس وقفت تتفرج علي اطلاق صواريخ في الفضاء من داخل ساحة اشبه ماتكون خرابة في العراء في ضاحية من ضواحي ميلانو الجديدة مع المجموعة. وكذلك المشهد الذي تقرأ فيه جان مورو بطلة الفيلم رسالة حب وعندما يسألها زوجها من كتب لها تلك الرسالة العميقة الرائعة التي تذوب رقة وعذوبة اذا به يفاجييء بأنه هو الذي كتبها لها ايام حبهما الاولي، لكنه نسي بمض الوقت بعدما مات حبه لها في قلبه، نضب معينه وتصحر، وجعل حبها له في قلبها ينفق ويذبل ويموت خسارة. كل افلام انطونيوني تتحدث عن فقدان وخسارة وألم، وجميعها تحكي عن اناس يهيمون علي وجوههم، ويبحثون عن ملاذ و"هوية" وخلاص ينتشلهم من حيرتهم ووحدتهم وغربتهم حتي داخل جلودهم. لا احد كما يقول كيروساوا استطاع أن يصور العواطف والمشاعر الانسانية بمثل هذه الرهافة والحساسية والشاعرية والشفافية التي تتسلل تحت الجلد لتحرك فينا عواطفنا وتؤثر في أعتي القلوب غلظة، وتجعل شعر رأسك يقف ويشيب من هول وبشاعة تلك "الهوة" التي تكاد تبتلعنا في عالمنا المعاصر بعبثيته وحروبه وأزماته وتلوثه وبشاعته، وقد كان فيلم "الصحراء الحمراء" اول فيلم بيئي بالمعني الحديث في اطار افلام البيئة التي صارت الآن نوعا من افلام النوع (مثل الوسترن وافلام الخيال العلمي الخ) وكان انطونيوني اول من نبه الي تلك الاخطار المحدقة بنا بسبب تلوث البيئة في العصر الصناعي الجديد بكل تنافضاته وتشوهاته وسمومه وسوءاته.
أحلام وألغاز
لاتحكي افلام أنطونيوني عن شخصيات بالمعني المتعارف عليه للشخصية، بل تحكي عن اجواء، وعن كائنات او "حطام شخصيات" او اطياف واشباح تبحث عن معني لحياتها وقيمة لوجودها، وهي تحاول ان تكسر ذلك القفص الذهبي الذي تعيش داخله مثل كل الناس بمسلماته وقناعاته، وهي تتساءل ان كانت حياتنا في عالم فقد فيه البشر قدرتهم علي التواصل جديرة حقا بأن تعاش. في افلامه التسجيلية القصيرة سبق انطونيوني افلام الواقعية الايطالية الجديدة في تصوير الواقع الحقيقي الذي تعيشه الطبقات الايطالية الفقيرة المسحوقة, وفي حين اهتمت الواقعية الايطالية الجديدة "نيو ريالزم" لعلاقة الفرد بحركة التاريخ والمجتمع, طالب انطونيوني بواقعية "باطنية" و"جوانية" جديدة تركز اكثر علي الفرد في علاقته بعواطفه ومشاعره و"التحديق" الباطني، كما في قصائد الزن اليابانية والمتصوفة العرب، وعلاقة الفرد بكل العناصر في الكون والافلاك والموجودات.
افلام انطونيوني هي اقرب ماتكون الي تساؤلات فلسفية ووجودية معلقة و"الغاز" عسيرة علي الحل، واقرب ماتكون الي الاحلام، حيث تظهر الشخصيات فيها وتختفي بلا سبب ومن دون احم ولا دستور. تأتي ثم تذهب هكذا وتتلاشي. تطلع هكذا علينا من اللامكان، لكي ترحل في متاهات المدن العملاقة الجبارة لتبحث عن شييء اصيل ومفقود، ثم تعود من رحلة بحثها الطويل الذي يستغرق وقت الفيلم كله احيانا بلاشييء، ولكي تشرع من جديد في استكشاف المكان الذي انطلقت منه.
خداع الصور
في فيلم "تكبير" يلتقط احد المصورين صورة في حديقة من الواقع، وحين يقوم بتكبيرها في معمله يكتشف داخل الصورة صورة جديدة مرعبة. يكتشف جريمة قتل وجثة قتيل وتحضر السيدة التي كانت في الحديقة مع القتيل وتعرض عليه نفسها في سبيل اقتناء الفيلم فيمنحها احد الافلام، ويعود الي الحديقة فيكتشف ان الجثة اختفت، ويتوجه الي معمله فاذا به يكتشف ان الفيلم الاصلي قد سرق، وينتهي الفيلم بمشهد رائع فحين يعود الي الحديقة يجد مجموعة من الممثلين المهرجين يلعبون بكرة تنس خفية وغير موجودة وظاهرة، وبعد تردد يروح ينخرط ويشاركهم في اللعب. وربما كان "تكبير" احد اهم الافلام التي ناقشت علاقتنا بالواقع والحقيقة والوهم وكذلك صورة الواقع في السينما ولحد الآن، كما ان اهمية ذلك الطرح السينمائي لانطونيوني تتعاظم لاشك مع دخول الصورة في حياتنا بشكل اكبر واوسع من خلال شاشات التلفزيون التي تقصفنا يوميا بما لاحصر له من صور الحرب والجريمة والقتل والدمار، ولانعلم ان كان يجب علينا ان نصدقها او انه يتم التلاعب بنا علي يد اصحابها لنكتشف في نهاية الامر اننا كنا ضحايا لمثل تلك صور، ضحايا اغبياء للخديعة مثل عرائس ماريونيت من قش.
في فيلم "المغامرة" تختفي امرأة داخل جزيرة صخرية ولانعرف أين ذهبت ومن خلال التفتيش والبحث عنها تقع صديقتها في غرام خطيبها، وتنشأ بينهما قصة حب جديدة، ولانعرف في نهاية الفيلم ونهاية رحلة البحث ان كانت قصة الحب الجديدة ستنتهي هي ايضا بالفشل والموت ام ستقود الي سعادة جديدة ويبقي السؤال معلقا الي ان يجييء ذلك اليوم ربما الذي تكتشف فيه بطلة الفيلم بدورها انها ايضا ماتت واختفت وتلاشت في قلب الرجل الذي تحبه، وانها ايضا لم تعد تحبه بذلك القدر من الوفاء، وذلك الاخلاص الذي كانت تتمناه.
في "الليل" يبدأ الفيلم بزيارة كاتب وزوجته لصديق لهما في احدي المستشفيات ويخبرهما الطبييب المعالج بانه صديقهما المريض محكوم عليه بالموت، فتغادر الزوجة المستشفي وتروح تهيم في طرقات ميلانو وتتوجه الي ضواحي البؤس والعزلة المنسية علي اطراف المدينة علها تغتسل من حزنها بعد ان تأكدت من ان زوجها الكاتب لم يعد يحبها وانها ايضا لم تعد تحبه، وعندما تكشف له عن ذلك في مشهد النهاية في الفيلم يحاول زوجها ان يقنعها بانه مازال يحبها وتبتعد عنهما الكاميرا ويبقي السؤال معلقا تري هل سينجح الزوج في مسعاه.
وعلي مستوي الحبكة وعقدة الفيلم تأخذ افلام انطونيوني حبكة الرواية البوليسية كما في قصص الامريكي ادجار الآن بو ورويات الانجليزية اجاثا كريستي: جريمة في "تكبير" او اختفاء في "المغامرة" او لغز الموت وتصحر العواطف كما في فيلم "الليل". وتبدا في كل فيلم حملة تفتيش، لكي تنتهي في النهاية الي الفراغ، او تقف عند لغز محير جديد. فافلام انطونيوني هي افلام مفتوحة وبلانهايات، ولاتنتهي كما في جل افلامنا وافلام هوليوود التجارية بنهاية سعيدة وتصبح اقرب ماتكون الي البضائع المعلبة للاستهلاك الفوري وتمنحك كل شييء. ولاحاجة بك الي ان تتأمل وتفكر، بل هي تأخذ من حيث الشكل شكل الدوائر، وتأخذنا من عند اول نقطة في الفيلم الي متاهة ثم تعود بنا الي نقطة البداية، وتطالبنا من خلال سؤال جديد وبحث جديد ان نعيد اكتشاف المكان الذي انطلقنا منه والتأمل فيه من جديد. ولذلك فانت حين تشاهد فيلما لانطونيوني فكأنك تتفرج علي فيلم لالفريد هيتشكوك ملك الرعب، بما فيه من قلق وترقب وتوتر ومصنوع بحرفية عالية ـ لاحظ اناقة الكادرات في الفيلم وكل كادر كأنه لوحة، واستخدام انطونيوني للقطات المشهدية الطويلة.
وهذه التقنية العالية في الصنعة عند انطونيوني تعني انه احد كبار المخرجين المجددين في السينما العالمية ـ اطلق عليه اسم اورسون ويلز السينما الايطالية ـ وتعني انه يفكر في الفن الذي ينتجه، وهو يتأمل فيه طويلا، ولذلك لا تتعجب حين تعلم انه قد اضطر بعد طول تفكير في دهن وصبغ حديقة باكملها في فيلم "تكبير" باللون الاخضر، ولذلك فان مايمنح افلام انطونيوني قيمتها هي انها افلام تدعو الي التفكير والتحليل والدراسة والتشريح، للنفاذ في ماوراء سطوحها الملساء وكادراتها الأنيقة التي تشبه اللوحات الفنية، الي "الجوهر" والسؤال الفلسفي الوجودي الذي تطرحه.
أفلام انطونيوني مولدات الغاز، ومكبرات أجواء وظواهر وعواطف ومشاعر واحاسيس، وهي في كل مرة تدعونا عند نهاية الفيلم الي مشاهدة الفيلم من جديد، والتفتيش عن سره والاستمتاع به في كل لحظة، وفي كل حركة وكل ايماءة واشارة في الفيلم لها دلالاتها ومعانيها. ويعترف انطونيوني في حوار معه: "...ان الفيلم الذي ظللت احلم به طوال حياتي، هو فيلم ببداية، لكن ربما من دون نهاية، فلقد كنت اسأل نفسي: تري هل من الضروري ان تكون هناك دائما نهاية للحكايات التي نحكيها سواء كانت ادبية او مسرحية او سينمائية؟ ان الحكاية المغلقة علي ذاتها تواجه يقينا خطر الموت، اذا لم نسارع نحن الي منحها بعدا آخر، واذا لم نسمح ايضا لزمنها الخاص، بان يتسع ويمتد الي الخارج. اجل هناك في الخارج حيث نتواجد نحن ابطال كل هذه القصص، وحيث لاتوجد نهاية ابدا لاي شييء.". وداعا انطونيوني..
انطونيوني: فيلموغرافيا مختصرة
مايكل انجاو انطونيوني من مواليد 29 سبتمبر 1912 في مدينة فيرار. شمال ايطاليا. تربي في وسط برجوازي. تعلم العزف في صغره علي الكمان وكان يهوي الرسم وظل يرسم طوال حياته. قرأ لبيرانديللو واكتشف المسرح والسينما في سن العشرين وبدأ يكتب النقد السينمائي في الجريدة المحلية. في سن السابعة والعشرين قرر ان يكرس نفسه للفن السينمائي فغادر فيرار الي روما وشارك مع مجموعة من المثقفين في محاربة الفاشية، والاعداد لانطلاقة حركة الواقعية الجديدة في السينما الايطالية وبدأ ينشر مقالاته في مجلة "سينما" التي كانت تصدر آنذاك منذ بداية عام 1940. اشتغل بالترجمة لفترة وترجم روايات لالبير كامو ولأندريه جيد عن الفرنسية. اشتغل لفترة مساعدا في الاخراج للمخرج الفرنسي مارسيل كارنيه في فيلم "زوار المساء" وتعاون مع روسوليني في كتابة بعض سيناريوهات افلامه
بدأ يخرج منذ عام 1943 بعض الافلام التسجيلية مثل فيلم "اهل بو" ـ لا جنتي ديل بو ـ ويكشف في فيلمه هذا عن الافكار التي كانت ترواده بشأن الاتجاه السينمائي الجديد "الواقعية الجديدة" ومايجب ان يكون عليه، وهي ذات الافكار التي كانت تدور في ذهن فيسكونتي الذي كان يصور وقتها فيلمه الروائي الطويل الاول "تملك" اوسيسيوني في عام 1950 اخرج اول افلامه الروائية الطويلة لكنه لم يشتهر الا عندما اخرج فيلم "المغامرة" عام 1960 الذي فاز بجائزة في مهرجان "كان" السينمائي العالمي في فرنسا.
في عام 1964 فاز بجائزة "الاسد الذهبي" في مهرجان فينيسيا السينمائي العالمي بفيلمه "الصحراء الحمراء" ثم حصد بفيلم "تكبي " الذي صوره في لندن عام 1966 علي سعفة مهرجان "كان" الذهبية عام 1967 وفتح له الفيلم ابواب العمل والاخراج في هوليوود، فأخرج هناك فيلم "نقطة زابرسك " عام 1970 ثم "المهنة محقق" عام 1975 وعاد بعدها الي ايطاليا ليخرج " لغز اوبر فالد " بطولة مونيكا فيتي عام 1980 ومن بعده فيلم "هوية امرأة " عام 1982 الذي حصل علي جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان "كان"
في عام 1985 اصيب بجلطة في المخ ادت الي شلل جزئي وفقد القدرة علي النطق ومع ذلك لم يتوقف عن العمل والنشاط وبمساعدة المخرج الالماني فيم فندرز استطاع انطونيوني ان يخرج فيلم "في ما وراء الغمام" عام 1995
في عام 1995 حصل في هوليوود علي "أوسكار" أمريكي عن مجمل اعماله. وفي عام 2004 اخرج بمساعدة المخرجين الامريكي ستيفن سودربيرغ وونج كار وي آخر افلامه بعنوان " ايروس " عام 2004..
وفي 30 يوليو 2007 توفي مايكلانجلو انطونيوني المخرج الايطالي العبقري الذي يعد مخرج الحداثة في السينما عن جدارة والذي كان يعتبره المخرجون: ستانلي كوبريك وآرثر بن وفيم فندرز وثيو انجلوبولوس والان روب جرييه أحد أعظم الفنانين السينمائيين في القرن العشرين.
مراجع
كتب بالفرنسية:
كتاب "انطونيوني" ANTONIONI تأليف الدو تاسون. فلاماريون
كتاب "السينما الايطالية تتحدث" LE CINEMA ITALIEN PARLE تأليف الدو تاسون. سيرف كورليه
كتاب مايكل انجلو انطونيوني. MICHELANGLO ANTONIONI تألف خوسيه موور. لارماتان
كتاب "جماليات الاخراج" ESTHETIQUE DE LA MISE EN SCENE تأليف رينيه بريدال
يؤكد لنا الناقد السينمائي المصري في هذه الدراسة / الشهادة لأعمال العملاق الراحل أن أفلام انطونيوني مولدات الغاز ومشاعر، ويتقصى معنا هذه الألغار ويدخلنا في عوالم مشاعرها الداخلية.
انطونيوني: مغامرة الحداثة