بمناسبة رحيل الشاعر الكبير محمد الفيتوري يعود باب علامات للعدد 54 (أبريل 2008) من مجلة (نزوى) العمانية، ويقتبس دراسة لكاتب مغربي حوله. يسرد فيها الباحث محطات مكانية وعوامل أدبية ونفسية وسياسية مؤثرة في حياة الشاعر السوداني وشعريته، ثم يتناول مفهوم "الزنوجة" وكيفية تجلياتها في شعره.

الزنوجة في شعر محمد الفيتوري

محمد السرغيني

ولد الشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري سنة 1930 في بلدة (الجنينة) الواقعة على حدود السودان الغربية. كان أبوه صوفيا كبيرا وأحد رجالات الطريقة «الشاذلية». في طفولته استقرت أسرته بمدينة الإسكندرية حيث تابع دراسته الابتدائية والثانوية وعاش في مناخ ذي نفحة دينية إسلامية.

بعد ذلك التحق بكلية دار العلوم (وهي مؤسسة أنشئت بموازاة للأزهر قصد تجديد الدراسات العربية الإسلامية، مع التأكيد على المحافظة على الروح الدينية للأزهر، وكانت كذلك مهدا للإخوان المسلمين) حيث تابع دراسته في علوم العربية والفلسفة وعلوم أخرى مرتبطة بالثقافة الإسلامية، كما أن البرامج الأدبية التي كانت مقررة بهذه الكلية حققت له غذاء ثريا من آداب اللغة العربية وخاصة في مجال الشعر.

ومنذ شبابه الباكر، كان الفيتوري واعيا بوضعه كإفريقي وشاعرا بدمامته، ذلك أن سواد بشرته خلق لديه عقدة نقص، وكان رد الفعل الذي ولده ها الشعور بالمهانة هو إحساسه بالكبرياء ما دفعه إلى التميز وفرض الذات، ولم يكن أمامه سوى الفن ليجسد من خلاله هذه الرغبة.

وهكذا زاول الرسم، والعزف والموسيقى، ونظم قصائد على منوال القصيدة العربية الكلاسيكية، حيث كانت مكتبة والده تحفل بالعديد من دواوين الشعر العربي القديم.

ومن ثم كان رأي الشاعر: أن الكائن المبدع ليس شقيا بدمامته بل بحساسيته، لأنه ولد بشكل مغاير، والحساسية كمنبع للقلق يقبل بها الفنان، في الأخير، كما لو كانت قدره الخاص ونصيبه. إن الفنان بكل ما يملك من قوة روحية بالغة الحزن يدعو الله ألا يشقي البشر بهذه الحساسية الشبيهة بالنار:

يا خالق الإنسان من طينة

وخالف الفنان من طينة

عذبتني بالفن..

عذبتني بهذه النار السماوية

لسوف ألقاك غدا صارخا بكل ما في من اللوعة

لم تشقني دمامتي في الورى

لم تشقني.. إلا حساسيتي

أدعوك لا تشقي بها كائنا بعدي

فهذه النار من قسمتي..

رضيت أن أفنى على وهجها

لكي يعيش الفن في مهجتي!(1).

بهذه الصيحة المتمردة بدأ الشاعر في سنة 1974، رحلته الشعرية، لكن تجب الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بصيحة مألوفة. إن التجديد الذي سيمس شعره لم يتحقق إلا مع الدعوة التي أطلقها الشاعر العراقي السياب (1926-1964) من أجل الخروج بالقصيدة العربية من الطريق المسدود الذي وجدت فيه منذ عصر النهضة. (هذه الدعوة شكلت في أساسها العلاقة الجدلية الموجودة بين الشكل والمضمون، وتخلت عن الإطار الشكلي للشعر القديم).

من هنا، فإن شعر الفيتوري أكد في نفس الوقت على البعدين الخاص والعام، وحتى عندما يحمل مضمونا سياسيا صريحا فإن هذه الثنائية تكون حاضرة، وحتى في هذا المضمون كلك فإن رؤية الشاعر تمتد إلى أن تبلغ درجة الشمولية مع الحفاظ، طبعا، على الأفق القومي الذي يمثل أخص خصوصيته: «حبيبتي التي أهدي إليها كتاباتي هي الأرض، والناس والأشياء، وحين أعانقها لا أجد بين أحضاني غير الحزن، إن الفنان الحق هو الذي لا يعتزل قضايا الوطن»(2).

لقد كانت سنوات ما بعد الحرب غنية بالأحداث وبروز الوعي (فهناك سلسلة من الاستقلالات السياسية لعدد من الدول العربية، وظهور حركة الحداثة في القصيدة العربية المعاصرة التي تم الاعتراف بها، كعامل تغيير من لدن الجماعات الأدبية العربية). لقد صرح الفيتوري: «لقد كنت دائما أميز بين شاعر يزيف الحلم الثوري بقبوله الترسيم بحيث له مكان في كلا الموقعين.. عن شاعر آخر يعيش هذا الحلم»(3).

في نفس الفترة كتب عنه الناقد الماركسي المصري محمود أمين العالم: «لقد أخذ الشاعر يلونها (إفريقيا) بلون مشاعره، ويوحد تاريخه بتاريخها، ويخلع عليها مأساته الخاصة، ويبصر من خلالها خلاصه المنشود.. ويتخلص من أزماته الباطنية ويخلع عليها صراعه النفسي المرير»(4).

وفي سنة 1955، نشر الشاعر مجموعته الشعرية الأولى «أغاني إفريقيا» حيث اضطلع مجموعة من رجالات النقد والفكر السياسي العربي بتناولها وعرضها، ومن أبرزهم أحمد رشدي صالح وكامل الشناوي وزكريا الحجاوي وأنيس منصور ورجاء النقاش الذين اعتبروه من الشعراء العرب المعاصرين يعيش حالة انكسار من جراء موضوعاته «الإفريقية»، غير أنه لقى تشجيعا من سلامة موسى وفتحي غانم.

أما فيما يخص انتماءه العربي أو الزنجي، فقد أعلن الشاعر «أن المسألة معقدة، حيث يقول: فأبي سوداني أسود وأمي ليبية ابنة واحد من أكبر تجار الرقيق في ليبيا في بداية القرن، وكانت جدتي من أمي جارية جميلة سوداء تزوجها جدي وأعتقها. وفي حضن هذه الجدة تربيت مدة من حياتي متشبعا بتاريخ النخاسة»(5).

إن المشهد الذي يتذوق الأبيض من خلاله هذه «النخاسة»، يسعى الشاعر لإبرازه في قصيدته، ويتعلق الأمر بمشهد مزود بالتوابل لضمان مذاق هذه الوليمة الإفريقية حيث تصبح النتيجة: سهولة الهضم:

وتعويذة من صلاة قديمه

وليس كثير المرايا

ورقصة سود عرايا

يغنون في فرح أسود

وغيبوبة من خطايا

تؤرقها شهوة السيد

وسفن معبأة بالجواري الحسان

وبالمسك، والعاج، والزعفران

هدايا بلا مهرجان

تسيرها الريح في كل آن

لأبيض هذا الزمان

لسيد كل زمان.(6).

«بالنسبة لي، لا أحس أنني أنتمي لأحد العالمين أكثر من الآخر، فهما يتكاملان وتحالفهما ضروري، كما أنهما ينظران إلى نفس العوائق التي تحول دون حريتيهما»(7).

منذ سنة 1958 لم يتوقف الفيتوري عن الرحيل والتنقل بين العواصم العربية المجاورة للسودان. وهو الآن يقيم بليبيا حيث من المؤكد أنه حصل على الجنسية الليبية. وفي استجواب جرى مع المجلة العراقية «ألف باء» صرح الفيتوري بأنه، ومنذ سنوات، يقيم بروما حيث ترجمت بعض مختاراته الشعرية إلى الإيطالية على يد المستشرق الإيطالي جبريالي(8).

وعلى الرغم من الدور السياسي الملتزم جدا، فإن المسيرة الشعرية للفيتوري عرفت ثلاث مراحل على التوالي: الزنجية ثم الصوفية ثم النضالية (العروبية)، ويمكن القول بأن المرحلتين الأوليين متداخلتان.

ويندرج ضمن المرحلة الأولى الدواوين التالية:

"أغاني إفريقيا" (1955)، "عاشق من إفريقيا" (1964)، "اذكريني يا إفريقيا" (1965)، "أحزان إفريقيا (سولارا)" (1969).

بينما المرحلة الثانية لا تشمل سوى مجموعتين:

"سقوط دبشليم" (1986)، "معزوفة لدرويش متجول" (1969).

وحسب التسلسل التاريخي يمكن تأهيل المرحلة الثالثة لتكون محطة لأنها تبتدئ من سنة 1970 وتستمر في نفس التسلسل الإيديولوجي. وهي تضم المجموعات التالية: «البطل والثورة والمشنقة» (1970)، و«ثورة عمر المختار» (مسرحية شعرية) (1971)، و«أقوال شاهد إثبات» (1971).

فالمرحلة الأولى، بدون شك، تمثل ظاهرة غريبة في الأدب العربي المعاصر، ذلك لأنها تعرضت لموضوع لم يسبق لهذا الأدب أن عالجه، ويتعلق الأمر بموضوع الزنوجة الرومانسية التي اتخذت لها، قبل كل شيء، رؤية ميتافيزيقية، حيث أدمجت العنصر الديني التوحيدي مع الوجه الصوفي النقي في إفريقيا. كل هذا مع الاحتفاظ بمكان لكل هذه العناصر: الله والحب والطمأنينة والعدل والنور والإيمان، وقد قدمتها هذه في توحد قداسي:

فلا بارك هذي اليد، لا باركها الرحمن

إذا لم تسق بالحب طمأنينة الحيران

إذا لم تك فأسا في جدار البطش والطغيان

إذا لم تك ميزانا لروحانية الإنسان

إذا عاشت لغير النور والرحمة والإيمان(9).

يضاف إلى هذا دعوته السليمة العاطفية التي قدمها للأبيض بشكل تبشيري:

إياك.. لا تبذر بذور عداوتي

فتعود تحصد شوكها حصدا

إياك لا تزرع حقولك عوسجا

إني زرعت حقولي.. الوردا(10).

من خلال دواوين المرحلة الأولى عالج الفيتوري موضوع الإفريقية، كما سعى إلى كشف الحقيقة السوداء ليلتحم ذلك بثقافته الخاصة، هذه الثقافة عندما تتعمق تأخذ بعدا انسجاميا على المستوى الاجتماعي، وزهوا على المستوى العنصري، ومماثلة على المستوى العرقي، ومنبعا للحرية لا ينضب على المستوى النضالي:

قلها لا تجبن.. لا تجبن !

قلها في وجه البشريه..

أنا زنجي..

وأبي زنجي الجد

وأمي زنجية..

أنا أسود..

أسود لكني حر أمتلك الحرية

أرضي إفريقيه(11).

ومن وجهة نظر أخرى، فإن الثقافة ترميز للتاريخ المتخفي تحت جناح واحد، وعملية انتقائية جد مخصبة للحلم والحقد والثأر والبعث. وهي كذلك ترميز للتاريخ الذي يدون السيادة البيضاء. فالتاريخ هو إسهام واللاتاريخ هو حالة أو، في غالب الأحيان، رد فعل. فمن وضع الزنجي مع الأبيض، إلى رد الفعل الذي يمكن أن يحدث للأول ضد الثاني، يتكون نسيج الحضارة الإفريقية التي تجعل من التحرير، علامة على الانتصار وزيادة. ومن فصل لآخر، وبطريقة قياسية، فالتاريخ بديل ملتحم ومنطقي ومتفائل:

لتنتفض جثة تاريخنا

ولينصب تمثال أحقادنا

آن لهذا الأسود.. المنزوي

المتواري عن عيون السنا

آن له أن يتحدى الورى

آن له أن يتحدى الفنا فلتنحن الشمس لهاماتنا

ولتخشع الأرض لأصواتنا

إنا سنكسوها بأفراحنا

كما كسوناها بأحزاننا

أجل.. فإنا قد أتى دورنا

إفريقيا

إنا أتى دورنا(12).

فالقضية الإفريقية إذن هي قضيته، حيث الدفاع المشروع عن الجنس الأسود ضد الأبيض المحتل. والكل يبتدئ وينتهي عند عتبة العنف، الذي يعتبر أساس رد الفعل تجاه الحقيقة المخيفة التي يوجد عليها الإفريقي، وهو كذلك النهاية عندما يجد التبرير الوحيد في الثورة:

كانت جموع السحب..

كان الدجى يرخي جناحيه على القرية!

وكانت الأوجه ذات الأسى

ذات العيون الاستوائية

قد انزوت خلف سراديبها

تحلم بالنار، وبالثورة

تحلم بالثأر لتاريخها

من العدو الأبيض الجثه(13).

هناك ما يدعو إلى الافتراض بأن هذه المقاومة ستفضي إلى ثورة تتحقق صوريا، فصورة هذه الثورة قد تكونت، على مستوى التصور، من رؤى ماضوية لا تنقصها الشهوانية الإفريقية. وحتى في هذه الحالة، فالمعادلة التي ألمحنا إليها من قبل، تبقى دوما مقبولة. (العنف كمكون؛ ممارسة واقعية؛ رد فعل/ العنف كنهاية؛ وعي جماعي؛ ثورة). فالاختلاف الذي يحدث بين المعادلتين السالفتين هو الذي يوجد بين الثورة كحدث معنوي وبين آخر يتسم بالحسم:

الفجر يدك جدار الظلمة

فاسمع ألحان النصر

ها هي ذي الظلمة تداعى

تساقط.. تهوي في ذعر

ها هو ذا شعبي ينهض من إغماءته

عاري الصدر(14).

كذلك، فإن أعماله الشعرية ليست سوى رحلة غنائية تبدأ من إفريقيا وتنتهي بها. هذه الغنائية تأخذ، علاوة على ذلك، من المشهد الإفريقي المميزات التالية:

1- الذاتية حيث «الأنا» تحتل مكانا متميزا، بمعنى أن استخدام المناجاة غالبا ما يكون على شكل حكائي.

2- حضور شبه دائم لـ«الغناء» الذي يعتبر –كخاصية متأصلة ومكتسبة– عنصرا تعبيريا أساسيا في هذا المسار الشعري.

3- صور مستمدة من الاتجاه الرومانسي العربي، مثل «جماعة أبولو» ممثلة بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي (1906-1934) و«جماعة المهجر» وكذلك الشاعر الرومانسي اللبناني بشارة الخوري (1885-1968) الملقب بـ«الأخطل الصغير». وقد خص الفيتوري الشاعرين السالفين بمرثيتين(15).

4- من الثابت أن هناك رؤية ذات مسحة إسلامية ملونة بطبيعة صهباء، وبإجلال للروح (بالمفهوم الصوفي) وبعواطف وثابة.

هذه الغنائية، من جهة أخرى، مؤثثة بالأعشاب اليابسة:

ولم أزل أسمع أصواتهم..

والعرق الدامي يغطي الجباه

والشمس من فوقهم

موقد أحرق حتى العشب

حتى المياه(16).

وبأرجل موشومة بالطمي:

الليل..

هذي العيون المصعوقة المصدومه

هذي الشفاه الغلاظ

المصبوغة .. المحمومه

هذي الحكايا القديمة

هذي الجراح الأليمه

هذي السواقي

التي تطحن العظام الرميمه(17).

وبصدور عارية تنهشها الرطوبة النهرية:

وسكت الشيخ

وشق الدجى صوت فتاة جثمت عن كثب

قالت، وأبدت جسدا عاريا

تلفه عاصفة من غضب

هنا، هنا وراء هذا الجدار اللامع

المطلي بأحزاننا

يضطجع السيد.. في جنة

مسقوفه بعظم أجدادنا(18).

وبالخوف:

ولأن الضعف سجن ولأن الخوف سجن

ولأن الماضي المظلم سجن

بقيت أفريقيا مستعبده

تنقب السجن إلى سجن جديد!(19).

وبالضغينة:

وتركت لي الحقدا

ولبست ما نسجت خيوط مغازلي

وكسوتني التنهيد والكد

وسكنت جنات الفراديس

التي بيدي نحت صخورها الصلدا(20).

وبحركة سرية تبحث عن الضياء في يوم نصر:

صناعتي الكلام

لا وسام.. لا وشاح.. لا ذهب

لا راية تظلني.. ولا لقب

فلتغفري لي أنني أجيء في نهار عيدك الكبير

أجيء والشمس على صدرك ماسة زرقاء تأتلق

صدرك يا رائعة الجراح قبة الأفق

وعرشك الرياح، والجبال، والسحب

أجيء لاهث الأنفاس، مصلوب العنق(21).

هذه إذن –كما نزعم– أهم العناصر الأساسية للزنوجة الفيتورية. إن العربي والأسود لهما باعث واحد على مواجهة المجابهة اللامتساوية مع المستعمر، فهما يوجدان في حالة اضطهاد من لدن نفس المضطهد.

إن الفيتوري كشاعر ذي لسان عربي، مقتنع بأن صيحاته لن تصل أبدا إلى الجماهير الإفريقية، ذلك أن هذه ما زالت في حالة بحث عن صوت ذي طابع محلي. فالتواصل إذن مغيب، ورغم هذه القطيعة اللغوية، فإن الشاعر لا يرى أي مانع في أن يضم مجهوداته لأخرى سابقة تمت على يد سنغور وسيزير وديوب، فهناك مستقبل واحد لأن القضية واحدة، والوسائل وحدها التي تختلف.

وإذا كان أحد النقاد قارنه بريتشارد رايت لأن شعره يجسد نفس طموح شخصيات رواية «الغلام الأسود»، فإن ناقدا آخر ألح على التمييز بين القضيتين. فالمحاربة على جبهتين من طبيعة مختلفة، كفيلة بخسران المعركتين. وهذا، من جهة أخرى، ما رفض الشعراء السودانيون التخلص منه طيلة سنوات الثلاثينات(22).

في ديوان «أغاني إفريقيا» –ومن خلال نبرة غنائية– لم يقم الشاعر إلا بوصف الحقيقة المقلقة للشعوب الإفريقية. وصياغة هذه الأوصاف، على مستوى التعبير، اتخذت عدة أشكال. فمن جهة هي محايدة وساكنة، إلى الحد الذي تعطي فيه لبراهينها مظهرا باردا، وهي من جهة أخرى، رافضة متآمرة، ولكن عندما يرفع التحدي، فهي ليست سوى شعار هجائي. ولكي ننهي هذه الصورة المتناقضة لنفس الأوصاف، فإن الفيتوري يدعو إلى لغة إنجيلية حيث تأخذ العاطفة مكان المنطقي، لغة، عوضا أن تكون ملائمة لموضوعها، لا تعدو أن تكون شرحا له.

كل هذا جعل من هذا الديوان محاولة، رغم وحدة موضوعه التي هي (إفريقيا)، لا وجه لها ولا قناع. فإفريقيا في الأدب الزنجي، خاصة الناطق بالفرنسية، إضافة إلى ارتباطها العضوي بالفعل الشعري، تبقى على وجه التقريب، ذات حضور دائم في الشاعر. فهي، في نفس الآن، تشعرن الزمن والفضاء وعنصر للشعري نفسه.

إن ديوان «أغاني إفريقيا» سعى –دون جدوى– إلى تحقيق هذه الدرجة من التعبير، ذلك لأن تنوع الأشكال التعبيرية التي استخدمها قوضت كل العمارة الشعرية سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.

كل هذه الأوصاف التي هي حصيلة ملاحظات مأخوذة من الاستشهادات السالفة، يمكن تلخيصها هكذا:

أ) إن الأبيض المسحور بالوجه الغرائبي للأرض الإفريقية، يعثر على عذريته عبر «الوحشية» الطبيعية للقارة، وكذلك عبر بدائيتها الطاهرة.

ب) إن الأسود، كمنبع للسذاجة، هو موضع استغلال، على جميع المستويات من لدن الأبيض وبالضبط من جراء سذاجته نفسها.

ت) يحكي الفيتوري عن وقائع قضية الأبيض قبل صياغة نص الاتهام للوصول إلى نهاية المعادلة التالية: الدفاع عن الأسود، هذا الدفاع مع أنه صادر عن رؤية واحدة، فهو بعيد عن أن يكون مبهما رغم المظهر المزدوج للقضية، لأن الأمر يتعلق بقضية بيضاء منظور إليها بسواد، وبأخرى سوداء منظور إليها ببياض. إن المدافع هو نفسه في كلتا الحالتين، إنه الشاعر.

ث) إن الفيتوري يكون إفريقيته معتمدا على قيمها العرقية (نظام قبلي أبوي أو أمومي دون أي إقطاعية ممكنة) والفلكلورية (غناء، رقص، نحت تيمي) والحربية (مقاومة السود للمستعمر، خاصة تلك التي أبداها السودانيون ضد الإنجليز).

ج) إن الأبيض يستغل الثروة الطبيعية لإفريقيا لحسابه الخاص ويجعل من جانبه الروحي (الموروث الثقافي والديني) «غداءه الدنيوي» الخاص. (التأثير الذي تخضع له الفنون التشكيلية المعاصرة من لدن الفنون الإفريقية والاختلاس الفني الذي تمتلئ به متاحف أوروبا).

ح) ارتباط الإفريقي بمسقط الرأس يفسر حبه للوطن ووفاءه كفلاح كبير مبدع في التربة.

خ) الحضارة السوداء، هي الأخرى لها طعمها الخاص. وإذا كانت غريبة في عيون الأبيض، فإنها بالنسبة للأسود تعتبر امتدادا لتاريخ عريق تأسس بالعرق والتفاهم.

د) يشير الفيتوري إلى الأحكام المسبقة للأبيض التي ما يفتأ يعزوها للأسود. (كالكسل وغياب مفهوم الزمن، وفقدان الحس أمام التقدم، والرغبة في الوجود الأجنبي كضرورة حتمية، والقبول، بدون أي شرط للاستعباد).

ذ) يصف الفيتوري تعبئة الأهالي السود قصد شن الحرب ضد الأبيض بأنها الحرب التي ستأخذ شكل ثورة، وغضب شديد، وكراهية وانتقام. فهي تلقائية وليست معقلنة.

* * * *

في ديوان «عاشق من إفريقيا» يأخذ صوت الفيتوري نبرة شديدة الخطورة للمطالب، مع كل ما تحمله من عنف ومرارة. نفس السمات المميزة للأوصاف السالفة، تختفي هنا وراء صوت المطالب. الفرق الوحيد هو أن الشاعر هنا قد غادر موقع الحياد ليلتحق بالجانب الفعال. إذن هل استطاع الشاعر في «عاشق من إفريقيا» أن يحرز بعض النجاح؟ من البديهي في هذا الديوان، أن النفس الشعري حاضر بكل تأكيد، لكن يبقى أن تسد الفجوة التي سببها غياب الشاعر الذي كان حاضرا، في نفس الآن، داخل موضوعة إفريقيا.

لكي نفسر هذا الغياب، يمكن القول إن أي مطالبة لا تكون مبررة إلا بدءا من منطق إيديولوجي أو ثوري واقعي أو محتمل. يتفق أن هذه المطالب الفيتورية قد تمت من خلال رؤية رومانسية (حضور كامل للطبيعة كذكرى وواقع) ودينية (تأليه لصوت إفريقيا: أحبه لأنه صوتي أنا.. صوتك يا إفريقيا.. صوت الإله)(23).

على أي حال، فإن المطالب الفيتورية يمكن تلخيصها كالآتي:

أ) العودة إلى الحياة الصحية حيث «عرق الجبال» لا يبقي روائح الأرض الإفريقية. إنه يذهب إلى أن هذه الرائحة التي هي خصبة وثورة، (خصبة لأنها ممثلة بالماء علامة على كل حياة، وثورة لأنها ممثلة بالكونغو أثناء حربه التحريرية) هي المنفذ الوحيد الذي من خلال تتسرب أنفاس مستقبل إفريقي أفضل:

صوتك هذا؟

إنني أكاد أن ألمسه

أكاد أن أنشق في غصونه

رائحة الأرض، وعرق الجبال

أكاد أسمع في خفوقه

تدفق «الكنغو» العظيم بالمياه(24).

ب) دوي صدى الصوت الزنجي في أرجاء العالم عبر أغاني الصيادين التي تعبر عن أحزانهم. هذه الأغاني مماثلة للأغاني الرعوية في الأدب الرعوي. كلاهما يجري عبر فضاء الطبيعة في حشمة قروسطية ومثالية ساذجة، وكلاهما كذلك يغني الحب الخائب المطعون والحزين، لكن إذا كان الحب الرعوي يقف عند حدود لا تلمس، فإن ما يخص الصيادين يذهب إلى حدود الإثارة الجنسية التي هي واحدة من صميم التقاليد الإفريقية. فالشمس هي الأخرى –في معنى جنسي– تتمرغ فوق سرير الصيادين:

لما انغرس الخنجر

كانت سيدتي الشمس تموج عينيها فوق الغابات

وتغني لحقول الكاكاو الممتدة.. والشلالات

وقوارب صيادين مساكين حزانى الضحكات

ونساء علقهن إله الجوع على طول الطرقات.

لم يا سيدتي ذات نهار

مرغت جلالك، فوق وسائد صياد مثلي

قاربه مكسور.. وموانئه للريح ممر(25).

ت) تنقية الدم من أجل الوصول إلى روحانية شاملة. طبيعي، ان الشاعر مع التمييز بين أسود وأبيض، لكنه لا يتسامح أبدا مع التمييز العنصري. إنه يفهم من خلال «التنقية» تلك التصفية الدقيقة للدم حتى لا يبقى في الكائن إلا الإنساني. هذه التصفية لا يمكنها –في كل الأحوال– عزل مميزات هذا الكائن، ذلك بأن الفيتوري –إذا صح القول– يرى أنه على كل طائر أن يغرد انطلاقا من شجرة نسبه:

قدر لفظته شفة الله

طين… ودم

عبد، حر، لا يستويان

كذب… زيف

وهم… بهتان

ليس على الأرض سوى الإنسان(26).

ث) ندوب الجراح التي سببتها هذه الصدمة بين سود وبيض من أجل تأبيد التاريخ المخيف في حاضر مفتوح على المستقبل. هذه الجراح ذات الطابع المعنوي تصلح كسلاح وقائي ضد عدو الكفاح المشروع من أجل انعتاق كل السود. يمكن الإشارة إلى أن هذه الجراح تتلخص في اغتصاب إفريقيا. ويتجلى هذا في اغتصاب عرضها وحرمتها وتاريخها. فهناك عنصران، الواحد منهما يعارض الآخر، هما اللذان تسببا في هذا الاغتصاب. فالعنصر الأول يتمثل في الأهالي الإفريقيين، والثاني في سلطات المستعمر. بالنسبة للأول فهو في وضع واضح وشرعي، بمعنى أنه واجب للدفاع. على العكس من ذلك، فإن الثاني ليس له وضع ما ولكنه حالة مرضية، حيث إن الأبيض يتخذ سلوكا لا إنسانيا مثل سادي بدائي.

فرد فعله إذن هو حالة سقوط، خاصة عندما تبلغ هذه ذروتها. ذلك معناه أنها تصير «عارا» حيث يزهو الأبيض وهو يحملها كوردة في تجويف سترته:

وتطلعت إلى عينيك، والشعر سلاحي

عاري الجبهة، كالفجر مغطى بجراحي

أتلقى عنك أعداءك، أعداء كفاحي

الذين اغتصبوا عرضك مره

حملوا عارك زهره

عبثت أقدامهم في حرماتك

رقصوا فوق رفاتك

شوهوا تاريخك العالي، المهيب الكبرياء(27).

ج) استرداد اللون المحلي الذي، باسم «حضارة حربائية» (حضارة غربية)، قد اغتصب في حين أنه يمثل تراث الثقافة الزنجية. هذه الثقافة التي –هي الأخرى– كانت موضوع اغتصاب أبيض، قد تأسست على ثلاثة عناصر: التاج الذي يجسد السيادة، والسيف الذي يؤكد كمون القوة إضافة إلى الوسائل المادية للوجود الزنجي، والمجد الذي هو بالتقريب التاريخ بالمعنى العام للكلمة (اجتماعي–ثقافي).

يمكننا القول إن الأبيض من أجل سلب هذا التراث، نهج ثلاثة أساليب مختلفة. على مستوى الاكتشاف استعمل طغيانه، وبالنسبة للتملك فقد مارس الاغتصاب، وأخيرا وعلى مستوى النفسي، فقد تصرف بأسلوب احتقاري، ورغم هذا التشابك المنهجي، فإن هذا التراث قد وجد وسيوجد:

سرقوا أثمن ما يحمله صدرك يا أم بلادي

سرقوا تاجك، ثم اضطهدوك

سرقوا سيفك، ثم اغتصبوك

سرقوا مجدك، ثم احتقروك

إنما لم يقتلوك(28).

ح) البعث (بعثه الخاص) في مسوح لومومبا الذي أعدمته «يد قذرة» حليفة للإمبريالية الغربية، وقوامي نكروما الذي أطيح بنظامه من لدن الجناح اليميني لبلده، وابن بلة الذي وضع تحت الإقامة الإجبارية من لدن خصومه الوطنيين. هؤلاء هم أنبياء إفريقيا الحقيقيون.

يحتوي «عاشق من إفريقيا» على ثلاث مرات، كتبها الشاعر في رثاء هؤلاء الزعماء الثلاثة. فحضور ابن بلة في ضمير الشاعر يؤكد أن العروبة والزنوجة تسيران معا لإضاءة الطريق نحو الحرية. فهما معا ينهضان بقضية واحدة مع أنها قد تكون في الظاهر مختلفة، فالثنائية ليست إلا ظاهرية.

إن لومومبا رمز البطولة والثبات فهو كبطل قد رزح تحت نير أعدائه دون استسلام. وكرمز للثبات فقد كان ضمانة للاستمرارية وتخليدا للإيديولوجيات الثورية.

في قلبي أنت

البطل الأسود ذو القدمين العاريتين

الراكضين على نهر الكونغو

كانت تركض خلفهما أشجار الغابات

كان تتهدج لهما أنفاس الظلمات

كانت أمواج الكنغو..

توغل في الركض(29).

وبالنسبة لنكروما فقد كان ذاكرة للنصيحة والإرشاد. ذاكرة تستحضر الماضي الإفريقي المجيد وطبعا للسودان المنغمر في ظل دامع ومضرج:

نكروما، يا صورة غانا

والكنغو الحر الموجات

وجهك يوقظ في الماضي

يوقظ في الإحساسات.

يحمل لي رائحة بلادي

عبر ملايين الغابات

فأراها من خلف دموعي

وأنا مشبوب الصبوات(30).

أما ابن بلة فهو بعث للمجد التاريخي الخاص للشعوب الإفريقية، وللمقاومة التي كانت حصيلتها النهائية قد وصلت إلى مليون شهيد، ولقيم الأسلاف من عرب وزنوج:

تنقش في الصخر حكاية جيل من أمجاد

جيل يصحو، وصباح البعث على ميعاد

جيل يحمل في جنبيه عبق الأجداد

جيل لم يرهبه عصر التقتيل والاستشهاد(31).

خ) تدمير كل «القلاع» البيضاء التي بنيت من أجل تأمين تطواف الروح الإفريقية عبر العبودية والمسخ. وتقويض السجون التي سيتم تلقائيا عند تحقيق الثورة التي ستكون هي الأخرى عفوية. لكن الماضي في مرحلته الميتة، التي اتسمت بالدموع والأسى، سيصبح فرحة ولا شيء آخر:

أصبح الصبح فلا السجن، ولا السجان باق

وإذا الفجر جناحان يرقان عليك

وإذا الماضي الذي كحل هاتيك المآقي

والذي شد على الدرب وثاقا لوثاق

والذي ذوب ألحان الأسى في شفتيك

والذي غطى على تاريخنا في كل وادي

فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي(32).

د) الإيديولوجيا التي تبجل البشرة السوداء والتي تبرز مظهرها النبوي. في ديوان «أغاني إفريقيا» نجد «الفارس الأسود» تفوح من إبطيه رائحة الأنبياء.. وفي خطاه جلال النبوغ والكبرياء»(33). مثل هذا كان تعريف النبوة الإفريقية، أما هنا فالأمر مختلف. فالنبوة تأخذ معنى آخر، فهي وثنية، لكن على ركيزة من آلات فولكلورية:

أجراس وطبول

وكأصوات الغابة

يتعرى من أجلك حزني

يتشقق أجراسا، وطبولا وثنيه

ومرايا تعكس روح الأرض الزنجية(34).

ذ) تحرير السودان من التبعية «العبودية»، هذه التبعية التي بعثت من جديد روح الاسترقاق. لأن إبراهيم عبود، كحاكم رجعي، ارتمى بين أحضان الإمبريالية الأمريكية. يتعلق الأمر إذن باسترقاق سياسي. وكان على السودان أن يدعى للاحتفال بانتصاره، أن يدعى لتعميمه:

ومثلما يسحق المارد السجين قيوده

ومثلما تنفض أغلالها الرياح الشديده

تحركت ذات يوم

افريقيا الموعوده

وقام في قلبها السودان يعلن عيده

باسم جميع الشعوب

المسجونة المصفودة(35).

ر) بعث لهارلم مضاءة بالكرامة الإنسانية. ومن جهة أخرى، فإن الشاعر لم يعط لهارلم نفس المعنى الذي أعطاه إياها سنغور أولوركا، ذلك لأنه شاهدها من الخارج. إن نيويورك هي التي تتحمل المسؤولية عن أية فاجعة وعن كل ما هو مؤلم أيا كان، وكل ما هو فظ كيفما كان، ونيويورك ليست بلدا للشاعر، وليست موطنا للشعر. وأمام نيويورك يؤكد الفيتوري إفريقيته، أليس الزنوج هم الذين أقاموا من هياكلهم جسرا تمر عليه الحضارة إلى هذه الحاضرة المرعبة؟

بالنسبة للشاعر فنيويورك متعددة: فهناك الواقعية والحالمة والطوباوية. فالواقعية تأخذ حجم هارلم، وهي استهلاك وخوف واضطهاد وأرقام سيئة التغذية، وكاتدرائيات دون روح، وشوارع جد متخمة. وقمة المأساة توجد دائما في هذه الهارلم الواقعة تحت انتداب أبيض. إنها تؤبد الذكريات المرة بتحويلها إلى مرض مزمن. وفي ذكرياتها، الاحتضار والموت والاستعداد الغريزي للعيش كيفما اتفق، كل هذه تصطدم فيما بينها. وبخاصة، فإن الزنوج لدى كل ضربة معول بقعر المناجم، وفي كل رعشة منجل في الحقول العاقة يتأججون، أما أهواؤهم فقد خفضت إلى صمت اعتيادي، صمت ذلك الذي يجد نفسه في أسفل السلم بالرغم منه.

أما الحالمة فتتميز بعدم اكتراثها، وهي صانعة هذا اللغو لأنها ماجنة ومجردة من كل احتشام. فعلى المستوى السياسي والفكري وحتى المعنوي، فإنها تأخذ على عاتقها تحويل البغاء إلى شيء مستساغ. وهكذا فإن الإهاب الأسود والأبيض يواكبان حلمها، هذه الحمى الجهنمية. إن «النخاسة» تأخذ هنا معناها العام. فنيويورك الحالمة هي حاضرة لا تطاق.

والطوباوية هي الحاضرة الخيالية الحبلى بغد ميتافيزيقي. والشاعر، رغم اقتناعه بأن التغيير الذي هو خطوة تاريخية حتمية وحاسمة، يبقى جد متشائم بخصوص هذه الحاضرة. فنيويورك سواء المومس أو القديسة يجب أن تتعرض للعنة. فهي هنا من أجل تحقيق التعايش بين تناقضاتها، وضمان التوازن بين الله وبين قيصر وذلك بلعب الورقة ذات الوجهين. يمكن القول إن الفيتوري لا يرى في نيويورك سوى سلالة عاقة. إنها أم تقتل أنبياءها وإن أيديها لملطخة لأنها مؤذية «لا تلطخ إلا جبينها»:

ولكنهم يا نيويورك مهما نسوك

ومهما تناءوا، وراحوا يشيحون عنك

ستركض أرواحهم من بعيد إليك

لتدفن أوجهها في يديك

وتحنو عليك

وتجهش مخنوقة بالبكاء

لأنك أم، وإن كنت قاتلة الأنبياء.

نيويورك يا غابة الموت.. ملعونة كيف كنت

فهذا الذي لطخته يداك، جبينك أنت(36).

* * * *

بالنسبة لديوان «اذكريني يا إفريقيا» يجب ملاحظة أنه ليس مكرسا بشكل خاص لإفريقيا كما يشير إلى ذلك عنوانه. فعند تصفحنا له، نكتشف بسهولة أن المواضيع التي عرض لها هي كالآتي:

أ) تقريظ للناصرية الذي هو في نفس الآن نوع من البيان:

فالجانب التقريظي يفيد شعارات اليسار. لكنه خال من أي معنى شمولي لصالح معنى عروبي. أما الجانب البياني فيقوم على المبادئ التالية:

1- الناصرية هي قبل كل شيء ظاهرة إفريقية–عربية مثلما هي عربية–آسيوية وكان مهدها هو الشرق وبالضبط القاهرة. (انظر الأعمال الكاملة: اذكريني يا إفريقيا، ص295-298، «أغنية حول الشمس»).

2- اتهام النظام الملكي بكونه جد مرتبط بالإمبريالية الغربية ولرجعيته المتزمتة. («الناقوس»، ص299-302).

3- التشهير بالبرجوازية الكبيرة بصفتها دعامة لهذا النظام. وهنا، يتعلق الأمر بتحالف تجاوز التبادل المشترك للمصالح، من أجل الالتحام الأخوي. («ثرثرة بورجوازية»، ص343-348).

4- إدانة الحرفيين والشارحين والمقارنين والاستعاريين المسلمين الذين رجعيتهم عنيفة. («.. ذو السيف المكسور»، ص311-313).

ب) بعض الملاحظات الساذجة حول الإبداع الشعري:

الشاعر معروف بأنه مشاغب للنظم اللاإنسانية، إن قدره اليوم ينحصر في هذا الدور وأنه ليس ذلك المغني الممالق. («قارع الطبول»، ص307-310). وانطلاقا من هذه الفكرة، فإن الشاعر لا يمكنه أن يكون إلا زنجيا، لأنه مدعو أكثر من غيره، إلى سد الفراغ الموجود في حياة القارة السوداء. («عن الشعر والكلمات الميتة»، ص320-329).

ب) آثار وجودية:

١) النوستالجيا كعاطفة خبرها الشاعر إزاء «الآخر» أو الوطن. («البحار العجوز»، ص314-319).

٢) الحرية كاختيار يزاولها «الكائن» وهي منبثقة عن وعي ذاتي، وهي بهذا تعود إلى المعنى الذي أعطي للوجودية في سنوات الخمسينات، أي إلى تعريفات لدى دعاتها في أقباء باريسية، وفي مقهى «فلور» وعبر مناقشات مطلقة ضد الماركسية كان يقيمها سارتر بنفسه. («عن الشعر والكلمات الميتة»، ص 32-329).

٣) النوستالجيا على المستوى الإبستمولوجي التي من خلالها يفسر «الكائن» العالم. («الغريب»، ص339-342). والفقد كعاطفة متحققة أمام اختلال المعايير في هذا العالم المدجن المتعهر. («الخطاة في المدينة»، ص 349-356).

ث) آثار من إديولوجية اليسار:

1- الحلم الثوري هو ما يوجد من إيجابي عند الإنسان، وعلى العكس من ذلك، فإن اللاحلم هو إخفاق لكل إمكانياته الخلاقة. («الحلم والعجز»، ص357-360).

2- الدون كيشوتية باعتبارها انحرافا، تولد الثوري المزيف الذي يعيش على هامش كل الأنشطة الحزبية أو النضالية، لأنه يميز بين النظرية والتطبيق. إن صيرورة أفكاره تدور حول «تأمل» مجازي. («دون كيشوت الثاني»، ص365-367).

ج) غزل تارة عفيف وطورا شهواني. فالشاعر على الطريقة التروبادورية، يعيد خلق تذكار مكاني يستحضر من خلاله حبا حسيا متحولات إلى صراخ جنسي. هذا الصراخ وضع تحت الضوء حالة كبت. إن التذكر المكاني ليس سوى نافذة حبيبته. («النافذة»، ص361-364).

ح) القصائد الخمس الباقية كرست لإفريقيا:

1- قبل كل شيء، فإن عصيان السودان ضد السطوة الاستبدادية للجنرال عبود أعاد الممكن حقيقة. فالثورة صورت بأسلوب يتسم بالكثير من التنبؤات، في الزمن الحاضر والمستقبل، ومرة أخرى تؤكد هذه الخاصية الخيالية التي من خلالها، يحقق الشاعر –بلا كلل– حلمه الثوري. («رسالة إلى الخرطوم»، ص330-334).

2- جميلة بوحريد التي ترمز للثورة الجزائرية، قد فتحت النار ضد الاستعمار، والملكية والقرصنة و«النخاسة». كل هذا الركام من الشعارات قدم على شكل هجاء إيديولوجي. («رسالة إلى جميلة»، ص368-376).

3- بالمقابل من هذا، فإن المقاومة التي قادها السلطان تاج الدين ضد القوات الفرنسية للسودان سنة 1910، أخذت بعدا إسلاميا يتجلى في «الجهاد»، وحتى المشهد الذي كان مسرحا لهذه المقاومة، مستوحى من الغزوات الإسلامية التي تمت في زمن النبي: السيف والجواد والمجابهة جسما لجسم إضافة إلى الاستراتيجية القديمة في الحروب. لقد نسي الشاعر تماما كل قناعاته الإيديولوجية اليسارية لإعطاء هذه المقاومة طابعا إفريقيا أو حتى قوميا. («مقتل السلطان تاج الدين»، ص377-392).

خ) القصيدة الرابعة عبارة عن مرثاة كرست لستانلي فيل بالكونغو:

يتعلق الأمر هنا بـ«سيمفونية رعوية»، هي سيمفونية لأن عناصرها تذكر بحركات موسيقية حيث التناغم موجود هنا عن طريق تكرار القافية المتوالية أو المتداخلة. وهي رعوية لأنها قبل كل شيء أغنية عاطفية ببصماتها «الجيدية» التي تدل على نوع من نكهة سردية عرف بها الكاتب الفرنسي أندري جيد، إن، فالطبيعة كإطار خلفية لهذه المرثاة.

إذن فاستانلي فيل شوهدت من خلال أربع حركات: الدم والنبي والظل والزمن. فأوروبا تستمد من دم استانلي فيل مادة خام لصنع العطر الذي تضعه بغاياها على أجسامهن بسخاء. ولومومبا نبي استانلي فيل، الذي أعدم باسم أناجيل تأويلها مختلف. وظل استانلي فيل الثقيل بتناقضاته وبانعدام المعنى، يذكر بانطباعية ساذجة، فهذا الظل ينسج من العرق الإفريقي ومن تجار العبيد والجلادين والجاريات الحبشيات الجميلات ومن السلاطين والخصيان والصلبان. أما زمن استانلي فيل فهو زمن «تشومبي» وبما أن عميل الغرب هذا وقف ضد صيرورة الحتمية التاريخية فقد حل الحلم محله والذي بدوره اتخذ ثلاث حالات: يتعلق الأمر بخيبة الصياد وبالمرأة المطاردة والمطعونة في التديين وبالعامل الزنجي غليظ الكفين. إن الغضب قد سيج بلا ريب هذا الزمن المعتم.

إن هذه الحركات مرتبطة مع بعضها بطريقة جدلية: فدم استانلي فيل هو نفسه دم نبيها لومومبا. وبما أن هذا الدم قد أهرق بقساوة، فإن ظل المدينة صار ثقيلا. إذن، فإن هذا الدم عينه هو الذي كشف زمن «تشومبي» الزمن الذي فتح الباب على بهجة الحلم الثوري. («ستانلي فيل» ص335-338).

د) القصيدة الأخيرة في هذا الديوان هي كذلك مرثاة موجهة للمغني الأمريكي الزنجي «بول روبنسون»:

وإذا كانت المرثاة المهداة إلى «ستانلي فيل» قد قسمت إلى حركات، فإن التي أهديت لهذا المغني جاءت عبارة عن تجمع أفكار حيث يتم الانتقال من فكرة لأخرى بشكل مفاجئ. وبناء على هذا، فإن نهاية الفقرة أو المقطع الشعري تأتي تلقائيا وتكون المؤشر الذي ينبه إلى المرور من عالم إلى آخر. هذا النمط المقطعي في القصيدة عكس، مستوى الشكل، نوعا من الانسجام ووسم استقلالية السابق عن اللاحق، بمعنى أن القافية المتوالية أو المتعانقة تتغير من مقطع لآخر.

في هذه القصيدة يجب ملاحظة وجود أربع خطوات غير ممنهجة:

1- التبادل المشترك للوجدان بين المغني الزنجي والمتلقي الأبيض. هنا يتعلق الأمر بازدواجية في الوجدان، فالوجدان الأبيض المثار من لدن السوداء هو حقيقي عندما يتوقف عند حاجز الانشغالات البيضاء، وهو خادع حين يتعدى هذا الحد لينفتح على العالم الأسود. أمام هذه الحالة اللاإنسانية يبقى المغني الزنجي وفيا لطموحاته الإنسانية تجاه نفسه وتجاه الآخر الأبيض.

2- بعد هذا التوازي حيث تنعدم المساواة بين هذين العالمين، سنمر إلى نيويورك هذا الفضاء الثلجي الذي يشبه ديرا حيث الإله يعدد رعاياه السوداء وهو يتظاهر بعدم منح وجودهم أدنى اعتبار، هذه الرعية ليست إلا واحدا، إنه الزنجي. فهذا الزنجي الذي يمثل، حسب الظرف، أمام هذه الحاضرة الجهنمية كشاهد، ومغن، وشاعر وضائع تحت خرائب ناطحات السحاب، وبحار سفينة غرقت في الميناء قبل إقلاعها، ودجال متسكع عبر المقاهي، ذي وجه قاتم يطبع لوحات الرسامين وأحجار المناجم ودخان المواسم ولحم الإنسان الذي لا يزال ساخنا والسكين.

وبديهي أن يشيأ هذا الكائن الزنجي كأنه قد وجد عمدا للإقرار إلى أي حد تصل الإهانة البيضاء. وإذا كان المغني الزنجي «أنطون ماشان» في أغنيته يشجع الرسامين الزنوج على رسم زنجية عذراء يرافقها ملائكة سود كذلك، فإن الإله النيويوركي لا يتعرف إلا على عذراء بيضاء، وعلى ملائكة بيض.

3- لنمر مباشرة إلى إحدى العلاقات النسبية المستوحاة من إحدى أغاني روبنسون «ماذا تعني بالنسبة لي؟» نسبية ليس لها أي علاقة بالمدلول العلمي، لكن لها مغزاها عندما نضع في الاعتبار هذا السؤال: «ماذا تعني أمريكا بالنسبة لزنجي؟ إن الجواب متضمن هنا. بالنسبة للمغني فإن حياته بالنسبة لأمريكا تتأسس على هذه الحدود: لا يفتأ المغني يغني لقتلته، ويرفع كأس سقوطه مزهوا في صحة جلاديه، ويبتر ثدي أمه، ويلهو بعظام أبيه ويحيا في ماضيه. نحن أمام نسبة تأخذ شكل مقارنة وتؤكد على هذه المأساة النيويوركية.

4- حاول المقطع الأخير من القصيدة أن يظهر القاسم المشترك بين جيلين من الزنوج في الماضي والمستقبل. ذلك أن على الإنسان منهم ألا يخلع جلده وأن يبقى أسود أبدا حتى لا يسقط في المعادلة المبتذلة التي أسفر عنها فانون بكبرياء: «جلد أسود قناع أبيض». («إلى بول روبنسون المغني» ص393-396).

* * * *

أما فيما يخص «أحزان إفريقيا، سولارا» التي هي مسرحية شعرية، فيجدر القول بأنه من الضروري إعطاء لمحة عن مضمونها، ولتسهيل هذه المهمة، يجب قبل كل شيء التعرف على شخوصها:

– الشخصيات الإفريقية:

– نازاكي: المغني غير المرئي (يرمز لروح المأساة).

– سولارا: (اسم سد بجنوب السودان) الجارية العاشقة لإدجار.

– بوكمان: قائد ثورة العبيد في جزيرة هاييتي وخادم توربان.

– دينج: شقيق سولارا.

– سافو: عبد في قافلة الخدم.

– العرافة: عجوز إفريقية تقرأ الغيب.

– الشخصيات الأوروبية:

– شارلي

– إدجار: تجار رقيق

– ستانلي

– مارك: قائد سفينة.

– توماس: حاكم القلعة.

– الجنرال: حاكم جزيرة هاييتي.

– توربان: أحد الملاك بهاييتي.

٭ أحداث المسرحية تجري بغرب إفريقيا، في عرض البحر، بجزيرة هاييتي، طيلة أواخر القرن الثامن عشر.

٭ حشد من عبيد ينتمون إلى غرب إفريقيا يساقون من لدن ثلاثة من تجار الرقيق الأوروبيين ويتعلق الأمر بشارلي وإدجار وستانلي. العبيد مغلولون في المقدمة يبكون وطنهم وكلهم رافض لهذه الهجرة القسرية، حيث انتفض بعضهم ليوقف الاندفاع الجشع لهؤلاء النخاسين، لكن تمردهم حكم عليه بالخيبة. إن روح «القرصنة والعتو والسادية» التي تميز بها هؤلاء الأوروبيون كانت قادرة على إخماد أي نوع من المعارضة قبل انطلاقها. فدينج نكل به لكونه قام بتحريض الآخرين على التمرد مستغلا الغليان الذي كان سائدا فترة الرحيل عن إفريقيا. أحد العبيد ممن كان في مقدمة المتمردين أعدم هو الآخر برصاص أحد القراصنة ليعطي به المثال للآخرين.

وأثناء احتضاره –والدم ينزف منه– كان يردد في تحد: «لا يا هذا القرصان الأبيض.. لن أمضي.. لن تخرجني منها، فاقتلني.. اقتلني في أرضي».

٭ في قمرية السفينة التي تنقل العبيد تم اغتصاب سولارا من قبل إدجار الذي أصبحت حاملة منه. وبسبب هذا العار الذي أصاب أخاها وقومها فقد نبذت منهم جميعا.

٭ عند وصول إلى القلعة، تتدخل العرافة لدى جماعة السود لتكفر عن خطيئة سولارا. وقد نزع السود إلى مسامحتها عندما أدركوا أن الاغتصاب هو أحد نتائج الاستعمار. فهذا الحمل اللاشرعي الذي أثار غضب جموع القافلة السوداء يرمز إلى تبني البيض لإفريقيا، هذا التبني الذي سيصير بعد ذلك استلابا.

٭ في هاييتي، كشف المهربون البيض، حكاما أو تجارا، أقنعتهم عندما أوصلوا استغلالهم للسود إلى أقصى حد ممكن، وذلك بإذلالهم كما لو أن هذه الكائنات كانت بهائم. غير أن السود لم يستطيعوا أبدا احتمال مثل هذه الوضعية، فرفعوا التحدي، أولا بامتناعهم عن العمل ثم التمهيد للعصيان. وعند الوصول إلى هذه المرحلة فقد اكتفى السود بالتذمر والصياح والصخب، وقد حسبوا أنفسهم حققوا الانتصار. وبهذا الصنيع، فإن عصيانهم أخذ طابع التمرد ولم يكن ثورة.

بعد قراءة هذه المسرحية، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

1- نظرا لطابعها الأدبي الصرف، تبقى هذه المسرحية صالحة للقراءة فقط دون أن تعرض على المسرح.

2- في المسرحية كذلك، تغيب كليا الحركة المسرحية سواء الداخلية منها أو الخارجية، ويستعيض عنها الشاعر بنفس شعري وبلاغي وخطابي يتسم بنوع من المبالغة. هذا النفس أثر على الحوار مما يجعل عمل المخرج مستحيلا.

3- إن المسرحية لا تختلف قط –من وجهة النظر هذه– عن تلك المسرحيات التي كتبها شوقي أو أباظة، إن الفرق الوحيد هو أن هذه، على مستوى النظم، قد صيغت على الطريقة العروضية العربية المعاصرة وذلك باعتمادها وحدة التفعيلة، لكن رغم تنويعاتها للأوزان، فإن التعبير المسرحي فيها قد انعدم.

4- لقد استخدمت المسرحية الجوقة لكن ليس بمدلولها الإغريقي، لأن هذه الأخيرة تكون مع بقية العناصر المسرحية كيانا متكاملا. من أجل هذا، نستشهد هنا بالمسرحية الشهيرة لكاتب ياسين «العود والحقيبة».

5- إن المسرحية، وعلى عدة مستويات، قد استلهمت مسرح العبث، وعلى الخصوص مسرح يونيسكو. (حيث يشارك الموتى في الحركة المأساوية من خلال حوارهم مع بقية الشخصيات. ولعبة الضوء كميتا لغة، والانتقال المبهم للجوقة على المسرح، ثم التدخل المؤقت والمباغت للمغني غير المرئي).

6- هذه المسرحية كلاسيكية في نطاق مراعاتها للتناسب والمعايير القديمة للمسرح، بمعنى اتخاذ نظام الفصول المقسمة إلى مشاهد. (فالمسرحية من ثلاثة فصول وكل فصل منها يتكون من مشهدين). وهي كلاسيكية كذلك لأن ديكورها ثابت.

7- إن المسرح الشعري (أقصد من خلال هذا، المسرح الذي يضحي بالإيقاع الداخلي من أجل الإيقاع العروضي. إذن فمسرح جورج شحاده مستبعد) يقتضي استخدام نظام اللوحات لتسهيل جميع المهام التقنية. وغياب هذه اللوحات من المسرحية أثقل حركة شخصياتها.

8- أما بالنسبة للشخصيات فهناك، طبعا، السود والبيض. فبالنسبة للأسماء التي منحت للسود فقد اختيرت بطريقة تجريدية لكونها تنتمي إلى أصول شتى: فمن الإغريق نجد سافو، ومن الانجليز بوكمان ومن اليابان نازاكي، مع أن النظام الصوتي في اللغات الإفريقية لا يسمح بمثل هذه التسميات. على العكس من ذلك كانت الأسماء التي أعطيت للشخصيات الأوروبية مدروسة بشكل جيد. بالنسبة للانجليز كانت الأسماء مثل شارلي وإدجار وستانلي. أما للفرنسيين فقد كانت هذه الأسماء مارك وتوماس وتوربان.

9- إن موضوع المسرحية إجمالا هو «النخاسة». لكن يجب أن نسجل أن التعذيب الذي مورس ضد السود من قبل البيض والذي غمر كل المسرحية، فهو يذكرنا بالمسرحية الرائعة لـ «إيمي سيزير» والمعنونة بـ(مأساة الملك كريستوف) وبرواية الكاتب الأمريكي الزنجي «ألكس هالي» بعنوان « (جذور). أما بالنسبة لسيادة النظام القبلي، فإن المسرحية تذكر بالرواية الشهيرة للكاتب المالي «يامبو أولوغيم» (واجب الغضب). وعن ترحيل السود من القارة الإفريقية إلى أمريكا، فهذا يستدعي تأثير أفلام هزلية عالجت نفس الموضوع.

10- إن الكفاح الذي واجه بين السود والبيض، بدا عبر العنصرية المتبادلة بين هذين الطرفين، على حين أن أي تصور للتقدمية كان يجب ألا يسير في هذا المسار. وبما أن الزنجي على وعي بشرطه كزنجي فإنه كان مرغما على أن يتصرف بشكل ناجع، أي أن يلجأ إلى العنف، الشيء الذي لا يوجد في المسرحية. فكل الشخوص الزنجية رغم اختلاف رؤاها، فهي ليست إلا مثالية، إذ أنهم يقنعون بمصيرهم الدفاعي ويرجئون الهجوم إلى اليوم الذي تحتمه الصدفة كما لو كان حقيقة ثابتة.

11- إن المسرحية تفيد أنها مأسوية بينما مشاهدها الموسومة بالتعذيب وبالاغتصاب وبالهجران الذي تعرضت له «سولارا» – هجران تسبب فيه أخوها «دينج» نظرا للحمل اللاشرعي – لم تساهم مشاهدها في تطوير معنى المأسوية لأن هذه المشاهد كانت حاضرة على صورة لغة شعرية وليست على لغة مسرحية.

12- إن مواقف البيض تجاه بعضهم كانت جد معقدة إلى حد أنها بدت على فعلي الغيرة والمنافسة. الغيرة استطاع البيض إخفاءها وراء اللطف المصطنع الذي هو من خصائص الأوروبي. أما المنافسة فتجلت فيهم ببرودة لا بشراهة. بينما كانت مواقف السود من البيض غير واضحة إلى حد أنها لم تعكس الواقع. البيض يسمحون بالكلام عن إنسانيتهم التي لا تستثني إنسانية السود، ولكن حتى في اللحظة التي يقبل فيها البيض الإنسانية المناقضة فإنهم لا يعترفون لهؤلاء السود بالتفوق، ذلك لأن تفوقهم هو الوحيد الجدير بكل فضيلة.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن هؤلاء البيض الممثلين في هذه المسرحية هم من الطيبوبة بحيث يمكن أن يكونوا من المهربين أو المستمرين. وحتى السود يبدون خاضعين لحالات التعذيب كما لو أنها كانت حتمية، فالمسرحية تقدمهم غائصين حتى العنق في مثاليتهم، وهذا هو السبب الذي من أجله كانت ثورتهم في هاييتي عبارة عن فعل مجاني ومزيف.

في بقية أعمال الفيتوري الشعرية نجد بعض أصداء لمشاكل إفريقية ولكن بشكل متقطع، أحيانا تتخذ هذه المشاكل صبغة سودانية، وأحيانا أخرى تأخذ صبغة صوفية تروبادورية. فهل يدل هذا على تصالح أو على هجران ؟ على كل حال فالقصائد التي تلت «أحزان إفريقيا – سولارا» لا تعرب إلا عن ظاهر ناصري حينا وحينا آخر طوباوي اشتراكي. ولكي نوجز، نقول إن الزنوجة بالنسبة إلى الفيتوري ليست إلا انتماء إثنيا لا إيديولوجيا.

* * * *

الهوامش

1- محمد الفيتوري: المجموعة الكاملة، المجلد الأول، أغاني إفريقيا، ص561، دار العودة، بيروت (د-ت).

2- محمد الفيتوري: الملحق الثقافي لجريدة «العلم»، 7 يناير1977.

3- محمد الفيتوري: مجلة «ألف باء» (بغداد) 32، يناير 1977، س 10، رقم 479، ص 48.

4- محمود أمين العالم: مقدمة ديوان «أغاني إفريقيا: ص3 المجموعة الكاملة، دار العودة، بيروت (د-ت).

5- Revue tunisienne: ALIF nº 3, novembre 1973, p. 113:Yves Thoraval.

وانظر كذلك: د. منيف موسى، مقدمة الأعمال الكاملة، المجلد الثاني ص 8-9.

6- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 22 من قصيدة: «أحزان المدينة السوداء».

7- Yves Thoraval: ص113.

8- مجلة «ألف باء» ص 48.

9- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 120-121 من قصيدة «العائدون من الحرب»

10- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 52 من قصيدة «إلى وجه أبيض».

11- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 44 من قصيدة «أنا زنجي».

12- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 29-30 من قصيدة «البعث الإفريقي»؟

13- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 31 من قصيدة «ثورة قارة».

14- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 46 من قصيدة «أنا زنجي».

15- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 130-146 من قصيدة «عودة النبي» (كتبت في ذكرى الشابي)، 16لقصيدة الثانية «إلى الأخطل الصغير» ص 648-654.

16- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 33 من قصيدة «ثورة قارة».

17- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 79 من قصيدة «الليل والحديقة المهجوره».

18- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 34-35 من قصيدة «ثورة قارة».

19- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 76 من قصيدة «حدث في أرضي».

20- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 49 من قصيدة «إلى وجه أبيض».

21- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 403 من قصيدة «عاشق من إفريقيا».

22- انظر: محمود أمين العالم، مجلة «الآداب» ع 3، آذار، ص 71-72، س 1955، وكتاب «الثقافة والثورة» ص270-271، ط1، دار الآداب 1970.

23- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 406 من قصيدة «صوت إفريقيا».

24- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 405 من قصيدة «صوت إفريقيا».

25- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 492-493 من قصيدة «العار».

26- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 429 من قصيدة «من أجل عيون الحرية».

27- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 410 من قصيدة «عصر الميلاد».

28- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 411 من قصيدة «عصر الميلاد».

29- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص ٤١٤ من قصيدة «لومومبا والشمس والقتلة».

30- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 420-421 من قصيدة «نكروما».

31- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 422 من قصيدة «إلى بن بلة ورفاقه».

32- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 489 من قصيدة «الحصاد الإفريقي».

33- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 98 من قصيدة «الأفعى».

34- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 495 من قصيدة «ريح تمر».

35- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 418 من قصيدة «أغنية إلى السودان».

36- الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 497-498 من قصيدة «غابة الموت».

* * * *

 

(عن مجلة "نزوى" العمانيّة)

(هذه ترجمة للبحث الذي كتبه د. محمد السرغيني بالفرنسية، ونشره بمجلة «كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس» تحت عنوان: Une Poésie Negro-A fricaine d expression Arabe, Lexemple de Mohamed Miftah Al-FituriL. العدد الثاني والثالث لسنتي 1979-1980. وقد راجع –مشكوراً– هذه الترجمة ووافق على العنوان الذي اقترحناه: محمد السرغيني: شاعر وأكاديمي من المغرب/ حسن الغرفــي: باحث و أكاديمي من المغرب)