يتناول هنا الباحث المصري سيرة مثقف إشكالي، تكشف كما يقول عنوانها الفرعي عن الوجوه المتعددة للتنوير الزائف. لأن موقف المثقف فيها لا ينسجم بأي حال مع ادعاءات خطابه وإنما مع شبق يقع فيها كثير من المثقفين للسلطة التي تستخدمهم لأغراضها، بينما يهدهدون أوهامهم بأنه يستخدمونها لتحقيق مشاريعهم الثقافية.

الخُوجَة والمُثّقَفُ والوَزير

جابر عصفور: الوجوه المتعدِّدة للتنوير الزائف

ممدوح فراج النابي

أنا رجلٌ من غمار الموالي
فقيرُ الأرُومةِ والمنبت
فلا حَسَبي ينتميِ للسَّمَاء
ولا رَفَعَتْنِي لها ثروتي
وُلِدتُ كآلافِ من يُولدون
بهذه الأبيات المُقْتَطَفَة من مسرحية الحلّاج للشّاعر صلاح عبد الصبور يصدِّر الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة المصري سيرته التي صدرتْ قبل فترة من الزمن بعنوان رومانسي "زمن جميل مضى"، راصدًا فيها رحلة نجاحه الطويلة بين السّياسيّ والفكريّ والنقديّ، وذكرياته عن النشأة والتلمذة والأساتذة، وفتنة القاهرة، وما خاضه من معارك نادرة وقصص حبٍّ مُلتهبة، وقد صدّر سيرته التي نُشرت أوّل مرّة في سلسلة كتاب الهلال. ويأخذك بعذوبة سرده، وفيض حكاياته، وعلاقاته المُتشعِبة بأصدقائه خاصّة شلة المحلة، ويفرد جزءًا مهمًّا لسيرته الأكاديمية، منذ التحاقه معيدًا بكلية الآداب بعد استجابة الرئيس عبد الناصر للشكوى التي كتبها بعد معاناته في إحدى قرى الفيوم حيث كان يعمل مُدرسًا، وسخرية أحد المُفتشين منه وإشعاره بأنه مُعلِّم ضعيف. وما أن تمّ تكليفه بمعيد رسمي في قسم اللغة العربية في 19 مارس 1966، حتى عُهد إليه بتدريس مادّة اللغة العربية لقسم اللغة الإسبانية، ويحكي الدكتور جابر عن المفارقات التي حدثت له في أوّل درّسه مع الطالبات، وكيف أنه كان يشعر بالخجل وهو الشّاب الذي لم يمر بتجربة من قبل، وهو ما استغلته الطالبات جيدًا بالاتكاء على خجله، وإصدارهن أصوات بإكسسوارتهن، وهو ما جعل الدكتور يتصبب عرقًا، ويذهب بعد انتهاء المحاضرة إلى الدكتورة سهير القلماوي ويطلب منها إعفاءه من هذه المهمة،

وزير الانتقام
مَرَّ زمنٌ، ويبدو أنَّه زَمنٌ طَويلٌ، وليس جميلاً كما وصف الدكتور الزمن الماضي، حيث حُرّاس الدين يتربصون بمن يُخطيء، بل يمكن أن نقول إنه نَسِي، حيث الخجل الذي ظهر عليه في درسه الأول، راحَ وتلاشى مع الزمن، وبعد أن صار وزيرًا في زمنيْن مختلفيْن، إحدى المرات أطاحت الثورة الأولى 25 يناير 2011، بحلمه فلم يدم في الوزارة الأولى إلا وقتًا قصيرًا، ثم حالفه الحظ مرّة ثانيّة بالوزارة في حكومة المهندس إبراهيم محلب الثانية بعد ثورة 30 يونيه، وقد وصف عودته بأنه جاء في «مهمة وطنية»، هذه المهمة جعلته عنيفًا في تصريحاته ومواقفه كنوع من إثبات الولاء، فما أن جلس على الكرسي خرج علينا الوزير بعد استضافته في إحدى القنوات، بتصريحات نارية، وإن كانت جاءت في سياق إجابات عن تساؤلات شائكة إزاء قضايا مازالت مثار جدل، إلا أن الوزير خاضَ فيها دون مراعاة لتداعياتها فجاءت تصريحاته صادمة هكذا "إن الكتب لها قدسية حتى ولو كان فيها ما يخالف الثوابت الإسلاميّة" كما وصف عدم التزام النساء فى الجامعات المصرية بفرضية الحجاب فى فترة الستينيات بالأمر الجيد، بل والإشارة إلى ارتباط الحجاب بالتخلّف، وأفاض الوزير في تصريحاته بأن "الصور العارية جمال إنسانى ولا ضَرَرَ من رؤية الطفل صورًا عارية" بل تطوّر الأمر إلى تأكيد عدم اعتراضه على إلغاء برنامج "الراقصة". التساؤل: ما الذي تغيّر بين الدكتور جابر عصفور الخوجة كما يحب أن يطلق عليه فذات يوم صَدَحَ قائلاً «"أنا خوجة" وهي أفضل صفة وأجمل صفة أعتز بها، وبالمناسبة لايمكن أن يسلبني إياها أحد»، وبين الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الحالي؟، خاصة تصريحاته النارية والتي تفتح النار على الجميع بلا هوادة، حتى وصفه الناقد طارق الشناوي في مقالة الأزمة «وزير الانتقام»، وهو العنوان الذي استقاه الناقد من فيلم أمير الانتقام بطولة أنور وجدي، وهو المأخوذ عن رواية الكونت دي مونت كريستو للكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس.
ولد جابر أحمد عصفور في مدينة المحلة الكبرى في 25 مارس 1944، وينتمي في أحد جذوره إلى أصل تركي، هو أخ لتوأم، حمل الأول «سيد» نصف اسم صاحب مقام سيدي جابر في الإسكندرية الذي دعا فيه والده بأن يرزقه بابن فرزقه الله بتوأم، وحمل هو النصف الثاني من الاسم، لم تكن هذه هي الدعوة الوحيدة التي تحقّقت للأب فقد دعا الله بأن «يمدَّ في عمره حتى يراه مثل طه حسين» الذي التقاه الابن بعد تخرجه مع أستاذته الدكتورة سهير القلماوي بعدما رأت افتتانه بالعميد وحفظه لكتبه، وهو ما ترجمه الدكتور عصفور في كتاب «المرايا المتجاورة» محللاً وناقداً لـ«حديث الأربعاء» لطه حسين، ثم كتابة مشاهداته عندما كان أستاذًا زائرًا في جامعة هارفارد بعنوان «من هناك» على غرار كتاب أستاذه عن باريس وقد تنبأ له العميد بأنه سيكون له إنجاز في النقد الأدبي، خاصّة بعد أن حاوره، وسمع بعض آرائه التي خرجت بصوت مرتعش على حدّ تعبيره. ترقى الدكتور جابر عصفور في دولاب المناصب الأكاديمية والعامة، مِن مُدرِّس إلى أستاذ إلى رئيس لقسم اللغة العربية، وأستاذ مساعد زائر للأدب العربي في جامعة ويسكونسن- ماديسون الأميركية بين عامي1977 و1978. وعمل أستاذًا زائراً للنقد العربي في جامعة ستكهولم في السويد بين عامي 1981 و1982، وأستاذًا زائرًا للنقد العربي في جامعة هارفارد الأمريكية في 1995، وعمل أستاذًا معارًا، ثم عميدًا مساعداً في كلية الآداب - جامعة الكويت. وكما رأس المجلس القومي للترجمة وشغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة لمدة 17 عامًا، ثم وزيرًا للثقافة مرتيْن.

معارك خاسرة
تعددّت معارك الدكتور عصفور في الفترة الأخيرة وتوزّعت على الجميع، ومع الأسف لم يكن مثل حسن الهلالي في الفيلم بطلاً مغوارًا استطاع دحر خصومه واحدًا تلو الآخر، بل جميع نصاله تكسرت منذ اصطدامه بالأزهر مباشرة بعد نشره مقالة في الأهرام بتاريخ 24 يونيو 2014 على صفحة كاملة بعنوان "صراعات الخطابات الدينية في مصر"، وقد ذكر فيه عددًا من خيرة أئمة الأزهر الشريف وشيوخه، وحشرهم في زمرة مَن يسميهم التنويريين الذين دعوا إلى فصل الدين عن الدولة في مصر منذ القرن التاسع عشر حتى الآن. كأمثال رفاعة الطهطاوى، ومحمد عبده، وشلتوت حتى شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب، وهو ما ردّ عليه الأزهر بمقالة بتوقيع الدكتور محمد شومان أنكر فيها حشر هؤلاء العلماء مفندًا كافة مزاعمه، بل خاطب الدكتور عصفور بلهجة حادّة هكذا: «إن الدكتور عصفور هو واحد مِن الذين يبشرون بالتنوير الغربي القائم على الفلسفة الوضعية التي أثمرت العلمانية - التي فصلت الدين عن الدولة - وأحيانًا فصلته عن الحياة، وهو دائم الدعوة إلى "مدنية الدولة" التي تعنى - عنده - علمانيتها، وكثيرًا ما كتب - في الأهرام - أن "المدنيّة" عنده هي العلمانية، ولكن لأن مصطلح العلمانية قد أصبح سيئ السمعة فإنه يستخدم مصطلح المدنيّة بمعنى العلمانية، ثم تأتي خسارته الأهم لجموع المثقفين الذين مازالوا يعتبرونه تلميذًا وفيًّا في مدرسة فاروق حسني، فما أن تولّى مسئولية وزارة الثقافة حتى صرّح أنه ينتوي إلغاء السلاسل الأدبية التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، لكون الهيئة جهة غير منوط بها إصدار الكتب وتولِّي عملية النشر.

وما أن خرج تصريحه الشفوي الذي جاء في حوار مع جريدة الأهرام حتى قوبل بالرفض من قبل المثقفين، فتعالت أصواتهم بالاحتجاج وهو ما دفعه إلى عدم تحويل التصريح الشفاهي إلي قرار قابل للتفعيل. ومنها إلى معركته مع حزب النور السلفي التي تبدو معركة تكسير العظام، فبعد تصريحاته عبر حديث تليفزيوني، وتناوله لقضايا الحجاب، وبرنامج الراقصة، وثوابت الدين. خرج رئيس حزب النور مشمرًا عن ساعديه ومنتهزًا الفرصة ليثأر مِن الدولة التي هزمته وهزمت رجاله (الدكتور ياسر برهامي) في قضية الخطابة، بمنعهم من اعتلاء المنابر. فترك عصفور وتوجّه إلى المسئولين أو القائمين على أمر البلاد (بتعبيره) بخطاب حادّ وفق ما نشرت الأهرام جاء في صيغة سؤالين، قائلا: "مَنْ رشح "عصفور" لمنصبه، وتساءل: هل هذا توجهُّكم؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فهل مِن حقّ أي وزيرٍ أن يشطحَ ويقول ما يشاء خارج المنظومة؟ وطالب مؤسسة الأزهر الشريف- بما خوّله لها الدستور - وكذلك دار الإفتاء بتوضيح حكم الإسلام فيما تم نسبته إلى وزير الثقافة من تصريحات.

 تجددت أزمته مع الأزهر بعد موافقة الرقابة بعرض فيلم نوح واعتراض الأزهر فاعترض عصفور على قرار الأزهر وقال: "نحن لسنا في دولة دينية، والأزهر لا يحكمنا، ولكن يحكمنا الدستور"، ووجّه خطابه لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، قائلا: ليس هناك في الشريعة ما يمنع عرض فيلم "نوح" لكن في اليوم التالي، وقبل أن يذهب محلب رئيس الوزراء إلى مكتبه، اتّجه مباشرة إلى شيخ الأزهر ليثني على الأزهر بعد اتهام عصفور أثناء افتتاح المسرح القومي لعلماء الأزهر بأنهم متعصبون بسبب عدم إجازتهم لتجسيد الأنبياء والرسل وآل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومنع عرض مسرحية “الحسين ثائرًا”. وانسحاب مستشار شيخ الأزهر الدكتور محمد مهنا. الأدهى أن مهاجمته للأزهر جعلته يقع صيدًا مرّة أخرى لحزب النور السلفي الذي راح يفنِّد كلام عصفور على لسان رئيسه الدكتور عبد العزيز مخيون، مستندًا إلى المادتين 7 و 27 من الدستور الذي أشار إليه عصفور بأنه «يحكمنا وليس الأزهر». الآن منشغل بمعركته مع سيد خطاب الذي انتدبه إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة، ثمّ أنهى انتدابه بحجة أن الهيئة مليئة بالفساد وكان يطمح في أن يقوم خطاب بإنهاء وكشف هذا الفساد إلا أنه تستر عليه وحال دون الكشف عنه، نفس الشيء فعله مع كاميليا صبحي الذي أنهى انتدابها قائلاً: «إنها لا تحقق ما أطمح إليه من أحلام». اللافت أن الأمور تصاعدت حتى أن موظفي الهيئة وقفوا أمام مبني الوزارة رافعين شعارات إقالة عصفور، وهو ما لم يتكرّر منذ الاحتجاج ضدّ تعيين الدكتور علاء عبد العزيز وزيرًا للثقافة في عهد مرسي. آخر تراجعات الوزير تصريحه في اليوم الختامي لمعرض الكتاب «بأن جريدة القاهرة لم تعد منافسة لأخبار الأدب بل تخطتها»، وهو ما لاقى استنكارًا من صحفي أخبار الأدب، فيعدل عن تصريحه ويرسل الوزير بيان اعتذار لأخبار الأدب عنوانه "كل التقدير لجريدة أخبار الأدب".

تلاشت صورة جابر عصفور صاحب الفكر التنويري، منذ حصوله جائزة القذافي العالمية للآداب (2009)، بعد أن رفضها الكاتب الإسبانى «خوان غويتسولو»، ثم بمعاركه الكثيرة. قريبًا سيذهب الكرسي الذي كشف صورة التنويري المزيف التي هي نقيض لمثقف طالما نادى بالفكر التنويري، ودعا إلى حرية الإبداع، وندّد بالقمع وأشاد بالمقموع. ألا يجد الوقت الدكتور عصفور ليراجع ما كتبه في التنوير يواجه الإظلام (1993)، ومحنة التنوير 1993، ودفاعاً عن التنوير (1993)، هوامش على دفاتر التنوير (1994) وإضاءات (1994)، وأنوار العقل (1996). ليس لدى أكثر من أن أحيله إلى مقدمته التي كتبها لسيرته علّه يتأمل الماضي ويتذكّر ويراجع «أعترف أن تذكري لمشاهـد هذا الزمن الجميل الذي مضى لا يخلو من معنى الإدانة للحاضر، والرفض للأسباب التي انقلبت بالجمال إلى قبح، وبالمعرفة إلى جهل، وبالاستنارة إلى الإظلام. ولكن المقصود بالتأسي، في هذا السياق، ليس الهروب، أو رغبة العودة إلى الرحم، أو تصور أن الماضي أجمل مطلقًا من الحاضر، وإنما تذكر الأوجه الإيجابية لزيادتها بالإضافة إليه، والأوجه السلبية برفض العودة إليها»، وهو المعنى الذي يدعمه بقول شوقي
وإذا فاتك التفات إلى الماضى .....  فقد غاب عنك وجه التأسىّ
في نهاية فيلم أمير الانتقام تكالب بدران على حسن الهلالي وحاصره أثناء لعب الدبران، مع الوالي. ودار هذا الحوار بينهم (بدران، الوالي، حسن الهلالي) فيخاطب بدران الوالي: سيدي، الأمير يكسب أم يخسر؟ فيجب الوالي: يكسب ... يكسب لقد أكل الفيل. فيقول بدران: أنا لا أعتبر الرابح رابحًا إلا في نهاية اللعبة. فيدعو حسن بدران للجلوس ليشاهدَ نهاية اللعبة قائلاً: ألا يجالسنا السِّيد بدران ليعرفَ نهاية اللعبة فيجيب بدران: إن النتيجة يعرفها مُقدَّمًا لأن خصمك قوي (موجِّهًا خطابه لحسن) ثم يهمس بدران للوالي بأمر، فيعلن الوالي أن بدران يزعم بأن مجرمًا تسلّل إلى القصر، عندها ينقل بدران أخر نقلة ويقول لحسن لقد كشفت نفسك فيضحك الوالي ويقول لحسن إن لعبة الدبران (الشطرنج) قد أوجدتك في مأزق حرج؟ فيرد حسن الهلالي: فعلاً ويقر حسن بانتصار الوالي، وما أن يستأذّن حسن لإعطاء أوامره حتى يقول له بدران إن حسن الهلالي هو الأمير عز الدين الذي هرب من معتقل المغول، ثم يعترف حسن أن الظالم هو بدران الذي فرض الضرائب، وسجن الناس وقتل أخيه عبد الجليل. ينتهي الفيلم بعفو الوالي عن حسن الهلالي أو الأمير عز الدين بعدما عرف الحقيقة وتعين عبد الجليل بدلاً من أخيه بدران. ثم يقول حسن الهلالي الذي صار الأمير عز الدين: أحسنت «فمن ذاق الظلم يعرف معنى العدل». تحقّق حُلم حسن الهلالي وَرُدّ إليه اسمه وحبيبته
ومنصبه أيضًا. هذا عن الفيلم، أما على مستوى الخوجة فقد نال الكثير وصولاً إلى الوزير، لكن هل بعد أن يجلس استراحة المحارب التي كان ينشدها وهو يكتب سيرته، وقد جرت في النهر مياه؛ أن يسعى ليستردَّ ما فَقَدَ؟! وما أكثره. ألا يكفي أنَه فَقَدَ جابر عصفور المثقف؟!