بعد رحلة طويلة مع التجريب في الكتابة القصصية، بداية من «أيام هند»، ومرورا بـ«فوق الحياة قليلا»، وصولا إلى «الحالة دايت»، يقدم لنا الروائي والناقد سيد الوكيل مجموعته القصصية «لمح البصر»، التي جاءت ممهورة بإهداء مراوغ منه للكاتب العالمي الراحل نجيب محفوظ، إذ يقول: «إلى نجيب محفوظ.. سارد الأحلام العظيم.. الذي جاءني في المنام.. وأعطيته حجرا، فقبله». يوحي إلينا الوكيل عبر هذا المنام كيف جاءته فكرة كتابة مجموعته القصصية التي سردها على صورة أحلام، كما يقول، وكما يقول بعض النقاد، إذ يربط البعض بين «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ و«لمح البصر» لسيد الوكيل، على اعتبار أن كليهما استخدم تقنية الحلم في البناء السردي. لكن هذا الربط، رغم معقوليته، قد يحول بين النص وعملية القراءة، ويدخلنا في مدارات شائكة ومثيرة، وقد تكون ممتعة، لكنها في النهاية لن تقدم قراءة نقدية واعية لمحتوى النص القصصي عند الوكيل، كما أن حصر النظرة النقدية في منجز التحليل النفسي فقط قد يضيق الرؤية حول النص ويحول بينه وبين ما يكتنزه من دلالات قد تضعه في صدارة المشهد القصصي.
يتكوّن كتاب «لمح البصر» من 39 قصة قصيرة، بعضها لا يتجاوز الصفحة الواحدة،، كما أن ترتيب القصص لا يشكّل تراتبا زمنيا؛ يفضي إلى غرض دلالي محدد، من حيث تاريخ الكتاب، مما يتيح لنا تقديم وتأخير بعض القصص دون الإخلال بالمضمون الكلي للنص، الأمر الذي يمنح النصوص حيوية الانفتاح على البدايات والنهايات معا.
فلو حاولنا إعادة ترتيب القصص بشكل آخر ربما نحصل على قراءة قد تكون أقرب إلى الروح التي كتب بها النص، فمجموع النصوص يرصد مراحل النمو الإنساني في حياة الفرد، بما يمتلك من تاريخ نفسي وجسدي يفرض نفسه على حالة الكتابة، والكتابة نفسها تشكّل سلطة باطشة تفرض إرادتها على الوكيل، لذا فإنه دائم التجريب بشكل مستمر، فلا تستنسخ الكتابة ذاتها ولا تتكرر، إنما هي مستمرة في تجددها، ودائما في حالة تعبير عن النفس، تغير ملبسها من آنٍ لآخر في رحلة البحث عن كنهها: متسائلة.. مضطربة.. قلقة.. مقاومة حتى لا تقع فيما هو سائد.
يسرد الوكيل تاريخه الشخصي عبر نصوصه القصيرة، إذ ينهل حدثه القصصي من منطقة اللاوعي، فتبدو الصور والرغبات المكبوتة حقيقة ملموسة في منطقة الوعي محققة ذاتها بقوة الكتابة وقدرة الإبداع، خاصة في ما يتعلق بالجنس، الذي يعد - حسب مجموع النصوص لدى الوكيل - أساسا لكل رغبات الفرد، إذ ترتبط الدوافع والأفعال عنده به، وذلك منذ ولادته وحتى مماته، لتشكّل في النهاية سيرة ذاتية لا تتكئ على الواقع المادي، رغم كونها تمثل اليومي والمعيش من زاوية المتخيل. لكن اللافت هنا أن الروحي والمتخيل يتساوى مع الواقعي والملموس عند الوكيل، ولكي يحقق تلك المعادلة نجده ينتهج بنية سردية تبتعد عن البناء الدرامي الهرمي، ويلجأ إلى عدة تقنيات تتضافر جميعا في إخفاء وغموض التعبير عن الرغبة، خاصة في لحظات البوح عن الرغبة نفسها ومحاولة عبورها من اللاوعي إلى الوعي.
يعتمد الكاتب ضمير المتكلم (الأنا) اعتمادا أساسيا ليؤكد على الشخصي والذاتي، كما يعتمد أيضا على الفعل الماضي ليؤكد على التاريخي، ولأن الشخصي والتاريخي قابعان في اللاوعي، فإنه يخضع لسيطرة سلطة مؤسسية تتمثل في تابو ثلاثي: اجتماعي وسياسي وأخلاقي، يمارس نوعا من القهر على الفعل، فيظل ثمرة نيئة في منطقة اللاوعي، في صورة رغبات ومشاعر، تومض وتتخفّى في نسيج النص، وكأنها حرية مكبوتة تحاول التعبير عن نفسها من آنٍ لآخر دون التصادم مع تلك السلطة، والعبور إلى الوعي متحققة في الكتابة.
وفقا لهذه الرؤية يمكن إدراج النصوص فنيا في ثلاثة مستويات، يعبر الأول منها عن مرحلة من مراحل النمو، إذ تنتمي بعض النصوص لمرحلة الطفولة ويستدعي الكاتب حياته أثناء تلك المرحلة في الآني اللحظي المتحقق في محاولة لإشباع رغباته المكبوتة منذ الطفولة، فنجده يتذكر «كاترينا» زميلة الدراسة، ويتساءل في قصة «حبر على ورق» بروح الطفل قائلا: «أغمضت عيني حتى سمعت صخب زملاء المدرسة من حولي، ورأيت كاترينا بينهم. لا أعرف متى كبرت»، وتتنوع هذه النجوى من مناخ الطفولة بإيقاعات سردية شيّقة في: «أسماء»، و«شجرة الألعاب»، وغيرهما.
ويلعب المستوى الثاني من القصص على وتر مرحلة الشباب، وغالبا ما تتسم أجواؤها بالحيوية والاحتكاك بالواقع وتصطدم بالرقيب الذي يحول دون تحقيق الطموحات ويعوق الفعل، فيلجأ إلى التمرد والثورة، وأحيانا يحاول تكسير الثوابت التي نشأ عليها منذ الطفولة، مثل: «ممر ضيق»، و«برزخ»، و«قلق الأربعين»، و«البدائي الذي هناك»، و«طقوس الدوام».
وفي المستوى الثالث تلعب القصص على إيقاع النضج الإنساني بوجه عام، ويتضح فيها ذكاء النفس ورزانة العقل وتتحلى بالحكمة، وفيها يكثر الحديث عن الموت ومحاولة اكتشاف كنهه، مثل: «اللعبة»، و«غرفة العناية الإلهية»، و«حافة الموت»، و«خالص العزاء».. وغيرها.
ولا تفترق هذه المستويات فيما بينها، بل توحدها المجموعة في إطار رؤية مهمومة بالوجع والحلم الإنساني، في أقصى لحظاتهما نصوعا، وخفوتا، كما تتضافر لتشكيل بنية قصصية تتسم بالعمق والنفاذ، تتموج فيها الأحاسيس على ضفاف النصوص في حركة لا تنتهي من المد والجزر، وهو الأمر الذي ساهم بقدر كبير في وضع نظام شكلي للنص يصعب تفسيره إلا من خلال إدراك هذه البنية النفسية وتحديد العوامل الاجتماعية التي تلعب دورها في تكوين شخصية أسطورية للكاتب، خاصة في مرحلة الطفولة، لذا، فإن التنويعات المختلفة والمتعددة في النص تأتي ضمن صفة عامة، تربط أجزاءه بحيث لا يبدو تناقض بينها، بل تشترك وتتضافر في الإيحاء بهذا النظام الشكلي.
يعزز ذلك أن القاص يتكئ على التاريخ النفسي للفرد في مجموع النصوص، بحيث يتتبع مراحل نموه منذ الطفولة إلى سن الرشد وحتى الكبر، وعلى الرغم من أننا نستطيع الفصل بين تلك المراحل والقيام بعملية التأويل، فإنها، في نهاية الأمر، تخلص إلى عدة مفاهيم حول الجسد والنمو والعقل والعاطفة والتجربة الشخصية. ومن ثم تشتبك مثل هذه المفاهيم الشخصية الفردية بالإطار الثقافي والاجتماعي، أي البيئة التي تولّدت فيها هذه النصوص.
كما يركّز الوكيل على تتبع أفعال النمو ومراحله: كيف ينمو المرء، تحت أقواس من التقدم والانحسار، الخفاء والتجلي، الانعتاق والكبت، خاصة في ما يتعلق بمراحل النمو الجنسي؟ كيف يبني المرء أنساقا نفسية وعاطفية تتداخل مع علاقاته الأبوية (الأسرية) والاجتماعية والثقافية؟ ويربط الوكيل بين الخاص (الشخصي) والعام (الإنساني والمادي والزماني)، ومن ثم فإن التعبير أو النظام الشكلي عنده، سواء أكان سلوكا أو لغة أو خيالا، عبارة عن مجموعة علاقات معقدة تتوسط وتتدخل في كل ما يفعله أو يقوله أو يحلم به، إذ يضرب اللاوعي بجذوره في البنى العاطفية والجسدية للحياة الجنسية التي يفترض إشباعها أو كبتها.
وفي النتيجة، فإن نص الوكيل تعبير عن رغبة ما ومحاولة إشباعها، سواء أكانت ناتجة عن علاقته بذاته أو البيئة أو العالم من حوله. لكن الرقيب المتمثل في الحظر الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضا، دائما ما يمثل عائقا بين الرغبة وإشباعها، لذا فإن تلك الرغبة المكبوتة تجد لها متنفسا من خلال القناع والصيغ المحرفة، فيلجأ الوكيل إلى عدة آليات دفاعية كالتكثيف والإضمار والإغراق في غموض الدلالة، حتى يتجاوز ذلك الرقيب وينتشي بإشباع رغباته، ولو في مجرد «حبر على ورق»، إحدى قصص المجموعة.