لطالما كان تغيير شكل الحكم في سوريا، من الديكتاتورية إلى الديموقراطية والمواطنة ودولة القانون، أمراً مطلوباً وضرورياً قبل الثورة بعقود ولا يزال. ذلك أنَّ نظام الاستبداد والعسف والاعتقال والفساد الفاجر لا يليق بالبشر ولا بالعصر. وقد تطلّع السوريون مرّاتٍ إلى أن يجري ذلك التغيير بانتقال متدرّج وآمن. ولم يُمانعوا أن يباشر النظام نفسه تلك المسيرة، بل إنَّ أحزاباً معارضة نالها من العسف ما لا يوصف لم تتردّد غير مرّة في الموازنة بين الأخطار التي قد تصيب البلد والأخطار التي تصيبها هي نفسها، لتفضّل الذود عن البلد على حساب آلامها وسِني اعتقالها.
حتى حين انتفض السوريون في 2011، لم تتعدَّ المطالب في البداية التصويب السلمي على الفاسدين وطلب الحرية والكرامة والعدل. وظلّ هذا الصوت هو الغالب لأشهر في ظروفِ قمعٍ وحشي غير متناسب على الإطلاق. وكلّما كان هذا القمع يزداد، متنقّلاً من العصا إلى الصاروخ، كانت المطالب تزداد حدّة ويتنحّى الصوت السلمي ليحلّ محلّه صوت العنف المنفلت، الجاهز لأن يتلاعب به نصّابون سياسيون وكلّ من يقدّم السلاح.
مع سيادة العنف، أُزيحت جانباً غالبية السكّان والأصوات المعارضة الوطنية السلمية، وبلغ من تدخّل مَن يقدّم السلاح وسواه أن غدت الأطراف السورية المتحاربة مجرد محاربين بالوكالة، يتقدّم هذا الطرف حيناً وذاك تارةً، ولا يحصد البلد من تقدمهما سوى الدمار في حرب لا نهاية لها، حرب هي ثورة مضادة باتت أداة النظام العربي والدولي في تأديب كلّ شعب يفكّر في طلب العدالة والحرية، خصوصاً بعدما فاق عدد الضحايا كلّ تصور وزاد الخراب عن المعقول، وراح يترافق مع ضربات إسرائيلية متكررة.
كان السائد لدى النظام إلى الآن رفض الدخول في أيّ عملية سياسية جديّة، متوهّماً أنّ مشكلته ليست مع شعبه بل مع معارضين يمكن أن تجمعه بهم المفاوضات. وحتّى حين مالت الكفّة لمصلحته عسكرياً، وأبدى كثيرٌ من السوريين، بمن فيهم مهجّرون، ميولاً انتخابية باتجاهه، وكانت تلك هي اللحظة المناسبة للتفاوض الجدّي على سيرورة انتقال إلى دولة القانون والمواطنة، لم يُبدِ النظام سوى التعنّت وانعدام الفهم لما يجري، ليتواصل القتل وطوفان الدم السوري ويبلغ تهتّك حدود البلد ونسيجه الداخلي كلّ مبلغ.
بالمقابل، لا شكّ أنّه كان بين المنتفضين جميع صنوف السوريين الذين أنتجتهم عقودُ الاستبداد والفساد: من الذين نقّتهم تلك العقود وزادت من صفاء معدنهم المدنيّ السلمي إلى الذين زادتهم تشوّهاً واستعداداً لبيع أنفسهم لأول مشترٍ، وبينهم ملايين السوريين العاديين، خصوصاً الشباب الذين بدا لهم أن سياسات النظام تلقي بهم إلى المجهول. وكلّما كان القمع الوحشي يزداد، كانت الأمور تميل إلى العنف والطائفية وتعلو الرداءة في صفوف الثورة وتسود، وكانت تزيد إمكانية تدخّل القوى الإقليمية والدولية التي أرعبها صعود شعوب هذه المنطقة منصّة التاريخ والحضور والفاعليّة، ولطالما كان همّها تحطيم كيانات المنطقة وجيوشها مهما تكن مثالب تلك الكيانات والجيوش.
هكذا رأينا تشكّل الكتائب والجيوش، لا بسبب قمع النظام فحسب، بل أيضاً بسبب إرادات قوى خارجية وخططها. ذلك أنّ القمع الوحشي يخلق الألم والمرارة والاستعداد لمجابهته بالعنف والانضواء في جيش، لكنّ الجيش يحتاج، علاوةً على هذا الاستعداد، إمداداً متواصلاً بالأسلحة والذخائر والرواتب والطعام والملاذ، وكلّ هذا قدّمه الخارج وفقاً لمصالحه وترتيباته. وانتقلنا باكراً من حجّة حماية التظاهرات إلى عمليات هجومية تقتل عناصر الجيش السوري لغير الدفاع المشروع عن النفس وتهاجم قطعاته من دون أن تكون منخرطة في القمع بالضرورة. وكانت بداية ذلك في مجزرة جسر الشغور في 5/6/2011 التي راح ضحيتها مئات عناصر الأمن والعساكر بعد أقل من 3 أشهر على اندلاع الثورة.
هكذا بتنا أمام حربٍ مدمّرة، زاد ارتباط طرفيها بالخارج وخضوعهما له، وطُحن بين رحاها الشعب السوري والجيش السوري، وخلقت من التعفّن ورائحة الدم ما كان كافياً لاجتذاب ضواري قاعدة «النصرة» و«داعش» من أرجاء العالم لتقيم دول خلافتها المتعددة التي لم تكد البشرية تعرف عاراً يضاهيها في فاشيتها وذبحها كلّ مختلفٍ على أيّ صعيد، لا مخالفيها السياسيين فحسب. ولم تعد الثورة ثورةً، لا من حيث الطبيعة الاجتماعية والسياسية لفئاتها القائدة، ولا من حيث الأهداف التي تتوخّاها، وهما الأمران اللذان عادةً ما تتعرّف الثورة بهما. وبات صعباً أن نتوقع وجود ذرّة من العقل، عداك عن الشرف، لدى من لا يزال يعدّ هذا العار الأسود ثورةً.
من جهةٍ ثالثة، كانت الانتفاضة السلمية، إضافة إلى نجاحها في إطلاق أزمة النظام السياسية، قد صعّدت ممثلين من التيارات الليبرالية والديموقراطية ذات الماضي اليساري. وتجلّى الوزن السياسي والمعنوي لهؤلاء في حضورهم القيادي البارز، لا في صفوف القوى الوطنية والديموقراطية والشبابية فحسب، بل حتى في «المجلس الوطني» و«الائتلاف» اللذين اصطنعهما الخارج كلياً وهيمن فيهما «الإخوان المسلمون». لكن هؤلاء الممثلون لم يلبثوا أن جرفت أكثرهم ردّة الفعل القاتلة حيال عنف النظام كما جرفتهم أجندات الممولين وزاعمي صداقة الشعب السوري (وهم، كما سبق القول، أشدّ الضواري الإقليمية والدولية عداءً للثورات). وباتوا مجرد أدوات تافهة بأيدي التيارات الإسلامية، ومجرّد أبواق تبرر القتل والطائفية وتمدح «القاعدة»، بل وإسرائيل إذا لزم الأمر.
مع تغيّر طبيعة قيادة الثورة وأهدافها وتحوّل أدواتها من المقاومة المدنية السلمية المتصاعدة إلى العنف والطائفية، بدأ ينسلخ عنها كثيرون في عملية «تلميس على الرأس» لا تزال متواصلةً إلى الآن وستشتد لدى كثير ممن كانوا عتاةً في عدم التفاتهم إلى أيّ خطأ قد تخطئه الثورة. وانتقلنا من مقاومة مدنية أبطالها الشباب العصريون المدنيون الذين يُنشدون مستقبلاً كريماً ودولةً حديثة، أولئك الشباب الذين وجدوا أنفسهم يُحرجون النظام ويعمقون أزمته السياسية وعجزه عن الحكم بالوسائل القديمة (وهذا ما يُقاس به التقدّم الذي تحرزه أي مقاومة مدنية أو انتفاضة) إلى مشاركة النظام تحطيم البلد وقتل أهله وعساكر جيشه، أبطالها إرهابيون تكفيريون من ذلك النوع الذي ينمو على الدّم والخرائب ويكون جاهزاً لاستخداماتٍ رديئة متعدّدة من قوى رديئة متعدّدة، مروراً بمتسلّقي ومتسلقّات الثورات الذين لم يرضوا منذ البداية بأقلّ من إسقاط النظام بتظاهرات شعب كان قد خرج للتوّ من صمت خمسة عقود وبقوى سياسية محطّمة وعجوز، رافضين أي تفاوض ما لم يكن لتسلميهم السلطة، مع أنّ ميزان القوى في سوريا آنذاك ما كان ليُفضي في أيّ حساب إلى أكثر من ابتداء مرحلة أولى من سيرورة التغيير الشاقّة الطويلة.
ها نحن اليوم في وضع رهيب قلّما عرفه بلد من البلدان. لم نتقدّم قيد أنملة على طريق التحول الديموقراطي برغم مئات آلاف الضحايا. بل لعلّنا تقدّمنا على طريق الفاشية السوداء المدعوّة باسم دولة الخلافة أو على طريق الخراب العميم. وبالطبع، فإنّ الحلّ اليوم، برغم تراجعه الفادح وتراجع أدواته، لا يزال إجبار النظام على سيرورة تحوّل من الاستبداد والفساد إلى الديموقراطية والمواطنة ودولة القانون، غير أنّ ذلك بات مترافقاً مع ضرورة هزيمة الإرهاب التكفيري الفاشي. وهذا لا يقتضي الوقوف ضد الجيش ولا تجريم عناصره وقتلهم. لا يجرّم جيشاً كاملاً أحدٌ يريد ثورةً أو خيراً. ثورات العالم كلّها لم تتجاوز في اتهامها الجيش المراتب الآمرة العليا. لا بل إنّ الجيش السوري، وبسبب ما طرأ على الثورة من التحولات التي ذكرنا، يكاد أن يكون، بعجره وبجره وبكل حاجته إلى إعادة البناء، ضمانة أخيرة لوحدة البلد وبقاء كيانه ودولته. ولعلّ كثيرين من الذين نتبيّن اليوم نفاقهم نسوا ما كتبوه من كلام كثير محقّ عن جريمة حلّ الجيش العراقي التي ارتكبها المحتل الأميركي، ذلك الجيش الذي طبعه الاستبداد الصدّامي المتوحش بطابعه ودفعه إلى الممارسات التي نعرفها وصولاً إلى قصف العراقيين بالطائرات واستخدام الكيماوي في حلبجة. هؤلاء المنافقون أنفسهم يباركون اليوم قتل عساكر الجيش السوري وكأنهم النظام، لا الاكتفاء بالدفاع المشروع عن النفس وطلب القصاص العادل لكل مرتكب. لقد بات هؤلاء أدوات خراب وهزيمة وجريمة سياسية موصوفة، لا أدوات ثورة.
كي نغيّر شكل الحكم ونواجه الإرهاب التكفيري ونعيد هيكلة الجيش، يجب أن تبقى هناك دولة ويبقى هنالك جيش. وهذا يحتاج مناضلين وطنيين وديموقراطيين يعيدون حساباتهم ويعيدون تجميع القوى المناسبة، مناضلين صبورين يعترفون بالفشل ويُعاودون الكرّة مرة بعد مرة حتى النجاح، مناضلين وطنيين لا تمسّ لهم الطائفية العنصرية طرفاً ولا يجرّمون مذاهب برمّتها ولا يجبرون البشر على الثورة في الوقت الذي يريدون والشكل الذي يرتأون من مخابئهم في الخارج، مناضلين لا يلجؤون إلى أعتى الرجعيات وضواري الإمبريالية طلباً للثورة، مناضلين لا يشبهون النظام في ما يجريه من مطابقة بينه وبين الدولة والجيش مهما زيّن لهم الوهم مثل هذا التطابق الذي هو رواية النظام ذاته.
أمام الغزو التركي السعودي الهمجي الذي أداته قاعدة «النصرة» و«داعش» وأشباههما، وإزاء إطاحة هؤلاء جميعاً -مع النظام- بالثورة الحقّة وأدواتها، وبرغم الاعتراف الكامل بكلّ ما قامت به عناصر عسكرية من أفعال تحتاج محاكمةً وقصاصاً واجبين، وحيال انهيار سوريا في حرب عفنة لا تُبقي ولا تذر: كيان البلد في خطر، لا الثورة فحسب. ولا بدّ من بلد وجيش كي تبقى ثورة تعمل على تغيير نظام البلد المستبد وإعادة هيكلة جيشه.
(عن السفير)