يرى الناقد أن مقاربة نصوص الطبال تتكئ على عتاد نقديّ واعٍ بالعمق الفلسفي والشعري لنصوص الهايكو، وأن أيقونة "الماء" و"المرآة" تحضران كظاهرتين شعريتين في منجزه النّصي "الجدار الأزرق"، كما في دواوينه الشعرية بجمالية متفردة وملفتة بحساسيتها الشفيفة.

الجدار الأزرق .. المرآة وسيرة الماء

في «هايكو» عبد الكريم الطبّال

عبد الرحيم أبوالصفاء

سيرة البدء:
تؤكدّ نصوص الشاعر المغربي عبد الكريم الطبّال والمنشورة على جداره الأزرق على شكل شذرات شعرية بشكل متتابع على طول ثلاثة سنوات منذ 2010، أنها نصوص تُخلص دائما ـ كما الكتابة الشعرية عنده منذ الزمن الأول ـ لعنصر التكثيف والإمعان في تقصير الجملة الشعرية أمام انسياب المعنى وظهور صفة الفيض فيه حتى بمعناها الصوفي، يكتب عبد الكريم الطبّال شعر "الهايكو" بتقنيته المتفردة التّي لا تشبه أحدا كأنه طفل دائمٌ يحلم فيأتي شعره شفيفا بسيطا في العبارة معقّدا في التركيب وعميقا في الدلالة يحيلُ على عين حاذقة تقتنص اللحظات الشعرية الخاصة التي لا يمكن أن يراها إلاّ الشاعر لأنها تتصاعد نحو الرؤيا كلّما حاصرتها الرؤية العينية للعالم، فالنّص عند عبد الكريم الطبّال مشاهدة يومية لعالم شعري خاص جدا مكثف ينعكس من عالمنا عبر مرآة شفيفة مركبة من زجاج الماء.

"نَسِيتَ

كَمْ نَسِـــــــــــــيتَ

نَدْبَةً فِي الْوَجْهِ

كُنْتَ تَخْتَفِي

إذَا رَأيْتَهَا

تُشِيرُ فِي الْمِــــــــــرآةِ

لَكْ

...

الآنَ

أنْتَ فِي الْمِــــــــــــــرآةْ"

وقد أصرّ عبد الكريم الطبال في تجربته الشعرية -وأزعم أن ذلك بشكل واعٍ تماما- أنْ يجعل له مرآةً شعرية خاصة تؤسس لأصل الإبداع على سبيل المحاكاة بمعناها الأفلاطوني، يطّل الشّعر عبرها على العوالم البعيدة والقصية التي لا يبلغها إلا الإدراك الشعري من جهة أولى ووتنفذ القراءة من جهة ثانية إلى خبايا النص وأبعاده الجمالية، وإذن فمن بين أيقونات عبدالكريم الطّبال نجد" المرآة " بدلالتها البعيدة عن التشييء، والنصوص التي تحضر فيها فردا وجمعا كثيرة حتى يمكن اعتبارها ظاهرة شعرية عنده بل وإنّ وسمه لديوانه الصادر سنة 2007 بـ"مرآة تحكي" يؤكد هذا التصور ويدعمه.

المرايا

التي لا أراها

رأتني

وكنتُ

أهُشُّ على النهرِ

وقت المساءْ

* *

وإلى أبدٍ

كنتُ أعشقُ

اسمكِ

ثمُّ نسِـــــــــــــــــيتْ

....

وجه المرآة سيرةُ الماء

يحضر الماء إلى جانب المرآة عنصرا أساسا ومكونا مفرطا لشعرية عبد الكريم الطّبال وبأشكال متنوعة ومختلفة فيكون مبعث الأشياء وأصلها ويكون الماء ذاتا شعرية تتماهى مع العالم عبره فتعطيه لونا وطعما شعريا خاصا لا تجده إلا في التتبع العميق للمنجز الشعري عند هذا الشّاعر الذي أصرّ منذ ديوانه "الطريق إلى الإنسان" أن يكون صديقا شعريا للطبيعة يمتح منها كائناته الشعرية التي تصبح مختلفة يكتفنها تكوينٌ جديد وهي تعيش وترتع في نصوصه ممزوجة ببياض الزجاج وسيرة الماء.

"مِنْ أجْلِ الصَّمْتِ

الذِي يَسْكُنُ

فِي صَدَفَاتٍ زَرْقـــــــــــــــاءْ

أسْبَحُ

أتَمَوَّجُ

أغْرَقُ

أتَرَذَّذُ

أنْفُذُ

بَيْنَ خَلاَيَا الصَّدَفَاتِ

خَفِيفَاً

عَلِّي أسْمَعُ

بَعْضَ الكَلِمَــــــــــــــــاتِ

مِنَ الصَّمْتِ

الذِي لاَ يَصْمُتْ"

يتوحّد الشاعر مع أفعال الماء الخاصة، يتقمصّ صفاته الكاملة حتى يستطيع تحقيق اكتمال التصور الرؤيوي لشعريته التي ينشدها فينفلت منه حجم المعنى الذي يعيش بداخله ولا تسعه العبارة ولا تتسع له فتأتي على حالها قاصرة قصيرة تتكئ على التركيب الشعري الذكي وعلى التكثيف العميق حتى تصل إلى جماليتها المنشودة، إذن فالشّاعر يتعمّد أن يصبح ماء شعريا كي ينفذ إلى أقاصي المعنى في أعلى درجات التّلقي ومستوياته المتصاعدة.

"أصْمُدُ

إنْ هَبَّ الوَقْــــــــــتُ

فَلاَ أتَمَلْمَلُ

أحْسِبُنِي الأقْوَى

فَأهُبُّ أنَــــــــــــــــــا

وَنَكُونُ مَعَاً

كَالسَّيْـــــــــــــــــــــلْ"

وعبد الكريم الطّبال أيضا الصديق الشّعري للنهر، يتقمصّه ويحاوره ويتوحّد معه حتى قدْ يصبح ظاهرة دلالية في شذراته ترّسخُ لوعي جمالي بضرورة بناء أسلوب للنص يتوحدّ مع الناص حتى يصير الأسلوب هو الرجل نفسه كما قال "بيفون" أي بمعنى آخر حتى يصبح النص هو النّاص تحديدا وتماما، وعبد الكريم الطبال عبر تتبع منجزه الشعري كاملا إلى حدود شذرات الجدار الأزرق، نجد له أيقونات كثيرة تشكل ظواهره الشعرية ومنها أيقونة النهر الذي يمكن أن تشكل القصائد المتكونة من حقله الدلالي ديوانا قائم الذات.

سلاماً

أيها النهرُ

هناكَ

قبلَ أنْ تشُقَّ الشَّرنقةْ

هناكَ

عندك السمـــــــــــــــــاءْ

تضمُّها إليكَ

عندك الأقمار كلها

...

ياأيها النهر

هناكْ

قبل أن تشق الشرنقة

هناكَ

لا غُبارُ الريحِ

لا عويلُ البحرْ

...

سلاما

أيها النهرُ

هناكَ

قبل أن تشق الشرنقة

هناكَ

بيتكَ الفِردوسْ

...

يقول أيضا:

أتَشَوَّقُ

للأشجَــــــــــــــــارِ

التِي انْغَرَسَتْ

دونَ رَفْشٍ

دونَ نِيَّاتٍ عَمْيَــــــــــــــــــاءْ

فِي دَغْلٍ مَحْجُوبٍ

بيْنَ نَهْرَيْنْ

فبَيْنَ الماء والماء يوجد الشّاعر أو على الأقل يوجد موطنه الشعري الآمن الذي يستطيع أن يطمئن إليه هو كذات شاعرة وتطمئن إليه الجهة القارئة مهما اختلفت مشاربها، فالماء طقس جمالي خاص ووِردٌ نصيّ في الكتابة لا محيد عنه في التصور الشعري لعبد الكريم الطّبال إذ يعتبره أصل الكتابة ومبلغُ جماليتها المشتهاة:

قبل الوقت

...

لِمَ انْكَتَبَ الْوِرْدُ

فِي وَرَقِ الْمَــــــــــــــــــــاءِ

قَبْلَ حُضُورِ الرِّيَاحِ

التِي سَتُصَلِّي

عَلَى ضَفَّةِ النَّهْرِ

بَعْدَ تِلاَوَةِ مَا يَتَيَسَّرُ

مِنْ سُورَةِ الفَجْرِ

ثُمَّ تَعُــــــــــــــــــــــودُ

إلى بَيْتِهَا

فِي السَّحَـــــــــــــــابْ؟

...

رُبَّمَا

لِتَرَى

كَيْفَ كَانَتْ على وَرَقِ المَــــــــــــــــــاءِ

كيْفَ هِيَ الآنَ وقْتَ الصّـــــــــلاةْ.

* * * *

على سبيل الختم:

لا يمكن مقاربة نصوص عبد الكريم الطبال إلا بعد الاتكاء على عتاد نقديّ واعٍ بالعمق الفلسفي والشعري لنصوص الهايكو الحكيمة، وتبقى هذه الورقة إشارة فقط إلى أيقونة الماء والمرآة كظاهرتين شعريتين في منجزه النّصي ظلا يحضران في دواوينه الشعرية بشكل ملفت ومتفرد واستمرا في شذراته على جداره الأزرق المُحَيّن يوميا بأشكال جمالية ماتعة أخاذة لا ينضب معين شعريتها الباذخة، لكني أزعم أنّ الشاعر يبحث دائما عن نصّه الكامل في لذة أبديةٍ لا يضيعها على نفسه بل تؤرخها حرقة الكتابة ومتعتها في الآن ذاته. وأختم بهذا النص الجميل والعميق والمحيل على قمة وقيمة الرؤيا الانسانية الفلسفية التي يتمتع بها عبد الكريم الطبال شاعرا وقارئا حكيما للعالم قلّ نظيره.

سأختفي عني

قليلا

لأبحث عنـــــــــي

قليلا

هي شهوةُ من وَجَدْ

فأحرى

من لم يجــــــــــــــــدْ.

* * * *

(المملكة المغربية)

 

تنويه: (النصوص المعتمدة في هذه الورقة مأخوذة من صفحة الشاعر على الفيسبوك بعد إذن منه بإمكانية النشر https://www.facebook.com/tabalabd)