متعة بالغة هي تلك التي تصاحبك عند قراءة كتاب "الطيب الصديقي: قصة مسرح"، هذا الكتاب الذي جاء في تَشاكُل شيّق يجمع بين العمل الصحفي المتسم بصفة السبق، والتأريخ لسيرة ذاتية لفنانٍ تقاطعت وأواصر مشروعه الجمالي أكثر من حد، تجعل من الانتباه الكامل لتجربته فضيلة أساسية لفهم مسار التجربة المسرحية المغربية، هي نفسها، منذ خطوتها الأولى نحو الوجود والكينونة، إلى وقتنا الحاضر.
وهو الكتاب الذي وَقّعَهُ "حسن حبيبي" بحسن اشتغال كبير، وبغير يتيم من الاحترافية، حيث تَمَثّل عبره اقتناص لحظات أساسية ركيزة، وأخرى حميمة في مشوار/ حياة الطيب الصديقي.
طالما نظر كثيرون، وهذا واقع، للصحافة الثقافية الوطنية (المغربية) بعدم ارتياحٍ بيّنٍ، نظرا للمنابر الإعلامية التي تتضاءل أعدادها يوما عن آخر، وقلة المتخصصين، وهو ما يعكس ضبابية الرؤية لعدد غير يسير من تجارب الحقل الثقافي المغربي، ونذرة السيجالات المؤثرة داخله. فحتى على مستوى الحوار الصحافي تجد أنها تتسم بشكلٍ عائم عموما وغائم، لم يجريها الصحافي إلا ليقول: "هذا نصنا.. وهو كلّ شيء".
كتاب "الطيب الصديقي: قصة مسرح" يأتي في حلّة أنيقة ومُبَوّبٌ بشكلٍ مفصّل ودقيق. حسبك داخله أنك تتجول في ربوع حياة الطيب الصديقي، كما تراه. شخصيات وأمكنة، محطات وتجارب، فهذا الرجل الرحب كان الحوار وإياه جدير بكتاب، لما يُخلّفه شخصه بحضوره الصاخب، وإبداعه إلى جانب مواقفه من صدى ونقاشات تتخذ شكلاً أفقيا في غالبها. حسن حبيبي (الحاصل على الدكتوراه في اللسانيات الاجتماعية بجامعة "سيربون". تحث رئاسة رئيس الشعبة -آن ذاك- المفكر الإسلامي الراحل "محمد أركون"، وتحث أيادِ تدريس ثلة من الباحثين والمفكرين المستشرقين أمثال "برهان غليون" و"جمال الدين بن الشيخ" وآخرين..) هنا يضع جانبا صرامة الجامعي ليمهد لاطمئنان البوح، الذي كان سِيمَة تساءل الطيب الصديقي، وأسئلته التي لم يتخلى عبرها عن دربة الأكاديمي، التي طالما اعتدنا تلمسها في مُجمل ما نشرهُ من كتابات (في عدة ملاحق ثقافية وإعلامية مغربية وعربية، جريدة الاتحاد الاشتراكي على سبيل المثال، أيام دراسته خارج ربوع المغرب). أسئلة دقيقة وحميمية تامة هي ثمرة اللقاء الذي جمع حسن حبيبي بالطيب الصديقي، وهو اللقاء/ الحوار (النديّة إن أردنا المبالغة)، الذي يصير له كبير الإفادة لمُجمل الباحثين في تاريخ المسرح المغربي، الذي وجد الطيب الصديقي نفسه أحد أعمدته. فقد واكب الرجل الحركة المسرحية الحديثة بالمغرب منذ انطلاقها بعد الاستقلال، وعاشها عن قرب عبر كل تحولاتها وازدهارها وانتكاساتها، حيث أنه ساهم بقسط كبير في التعريف بالمسرح المغربي سواءً داخل العالم العربي أو خارجه، ولا يزال يواصل عطاءه بنفس الحماس الذي ابتدأه به (وإن أصابه من وهن العمر، ما أصابه في السنتين الآخرتين)، لم يتخلى يوما عن دفاعه المستميت عن حق الفنانين المغاربة في رد اعتباري يكفل لهم كرامتهم الاجتماعية، وأيضا توقه ليرى مسرح "موغادور" مضاءً كلّ ليلة بالمجازات والأحلام، وهو بذلك يسير فيكبر، ثمّ يستأنف الضوء الهارب ممسكا بالجمر، على حد تعبير "محمد بهجاجي" الذي قدّم الكتاب في ورقة أنيقة استحقت فاتنيته.
كتاب "الطيب الصديقي: قصة مسرح" إلى جانب شقه السيري (سيرة ذاتية) الممتع، والذي عرى لإضاءة كاملة عن الحدائق الخلفية الظليلة لحياة المسرحي الطيب الصديقي، جاء مُهْتَبَلاً بشهادات ومواقف أعمال وانكسارات وتطلعات، هي صميم اهتمام ما تشتغل عليه الحركة النقدية التي تتخذ من الحقل المسرحي مضمارَ اشتغالها.
الصديقي الذي كان يرفض أية مقاربة لتجربته المسرحية، فهو لم يدع (على حسب تعبيره) مسرحا أفضل، وإنما انتصر للمسرح، كان طوال الحوار مبددا لتصورات كثير مسبقة، طالما اِسْتَتَبّت عن مشروعه، هنا يبدو مُخَلْخِلا للقيم المتواضع عليها، شابا وأكثر حيوية متفائل بشكل ثائر، حتى أمام أشد الأوضاع حُلكةً. فوضع المسرح المغربي اليوم هذا الذي تتخبطه سياقات جد مؤسفة، سواء على مستوى المسارح أو منح الدعم وضآلتها للفرق، أو عن الوضع الهامشي ولا المعقول للفنان داخل المجتمع مما يدفع قويا نحو ضآلة فضلا عن رداءة أغلب الأعمال الدرامية المقترح على الجمهور. لقول عن ذلك في (الصفحة 18) من الكتاب: "دعني أقولُ لك [والكلام موجه للمُحاوِر حسن حبيبي] بأن أغلب الأعمال الدرامية في مغرب اليوم، هي أعمال غير مريحة يجب أن نعترف بذلك، في أغلب الحالات هناك اعتماد على نصوص هشة وممثلين غير أكفاء وملابس غير مناسبة وديكور ينقصها الخيال، لكن وبالرغم من ذلك فقد نكاد نقرأ أن المسرح قد أفرز الكثير من المتألمين واليائسين والانتحاريين والحالمين، هؤلاء هم رفقائي في الألم وشركائي في لحظة الحلم، ولعلّ سعادتي الكبرى أني جعلت من الممثلين الذين اشتغلوا إلى جانبي متواطئين معي في هذا الحب، وليسوا أعداءً متربصين، إن موليير والمجذوب وشكسبير وبديع الزمان وبريتش وأبي حيان التوحيدي واليونانيين، يساعدوننا أن نحيا حياة سعيد وفي يومي ما سيساعدوننا أن نرحل ونموت في سلام، لنقرأهم ونمارسهم فحتما سنخرج من هذه التجربة أقوياء، وفي أدمغتنا كثير من رياح الحرية".
فيكون بالتالي هذا الكتاب قد استحقّ بالفعل ما يمكن أن نصطلح عليه، ب"جينالوجيا المسرح المغربي"، من حيث أن الطيب الصديقي الذي وجد نفسه فيه –أي المسرح- مؤسسا فاعلا أساسيا، ضمن جيل الرواد الأوائل. حيث (كما يقول ذ. محمد البهجاجي في كلمته حول الكتاب) لم يكتف الصديقي بأن يستعرض تراكمات الفعل المسرحي المغربي، بل يقرأ هذا الفعل من زاوية النظر الفكري الثاقب، والممارسة الصعبة القاتلة أحيانا. ولذلك نتتبع تاريخ المسرح المغربي، بفعل هذه القراءة المركبة، بتواز مع مسار التحولات السياسية والثقافية للمغرب، في محاولة للإجابة عن علاقة الفن بالبنيات الاجتماعية وبسؤال السياسة والمجتمع بدور الفرد والجماعة في صياغة الأفكار. لأن الصديقي لم يكن يفكر في المسرح بصوت واحد، أو من جهة مفردة. بل إنه يفكر فيه كمهندس للأشكال، كحكاء عريق، كشاعر فنان ومفكر قلق، وكساحر يلعب بالكلمات والحدوس والمعاني مثل السحرة والرواة الأزليين.