توطئة:
يعد فعل الإبداع عنصرا اساسيا وأصيلا في مواجهة التحديات التي تواجه الذات، فالعمل الابداعي قوة سحرية تستطيع من خلاله الذات التخفيف من العزلة التي تنتابها، كما تستطيع من خلاله الذات الوقوف ازاء التحديات المحدقة بها ومواجهتها وصدها بما تمتلك من مقومات التأثير.
ان الشعر منذ ان ادرك الانسان او ادركه قد عمل وبفعالية سحرية وجبارة، على تفعيل مواجهة الانسان للحياة واستئناف حواره الندي معها، ودفع المعادلة المؤلِفة لإشكاليتهما باتجاه التعادل التقريبي دائما، انها موازنة كبرى من الموازنات التي اقترحتها الطبيعة لإرضاء الأطراف جميعا، وتسوية اكثر المشكلات تعقيدا وتداخلا، نحو تعميق اداء الفعل الخلاق للشعر، الذي يمنحه ذلك قدرا من الاطمئنان والسلام، ويقلل لديه حدة التوتر والقلق والإحساس بالعزلة، فمن وظائف الشعر الخطيرة منع الذات الإنسانية من التآكل والتلاشي والانسحاب الى ما دون الخط الفاصل بين المتن والهامش، أملاً في دفعها نحو استغلال المنجز الحضاري واستثماره ممولا من مصادر التمويل الابداعي المهمة التي ترفد التجربة الشـعريـة بكل ما هو اجـدّ واحدث. (
[1])
واذا كانت الذات الشاعرة قد انتبهت الى هذه الحقيقة منذ الأزمان البعيدة، فان الواقع الراهن يتطلب رؤية أعمق، ونظرة ابعد، فالذات في اللحظة الراهنة تواجه تحديات حضارية بآليات جديدة، ولهذا فان المواجهة القديمة القائمة على المباشرة والتقريرية لم تعد تنفع في هذه المرحلة، اذ يتوجب على فعل الابداع - في وسط التغيرات والتبدلات الاستراتيجية المعاصرة - أن يرتقي الى مستوى المواجهة، فالواقع الذي يعيشه المبدع واقع صدامات حادة تستهدف الأمم حدَّ تصفية مقوماتها وركائز هويتها، ولذلك فالأمر يتطلب منه مواجهة حضارية نوعية تكون بمستوى التحديات التي تواجهها الذات المعاصرة؛ لأن الآخر (الغازي.. المستعمر) لم تعد تنفع معه المواجهة التقليدية التي غالبا ما تكون خطاباتها مباشرة وتقريرية، فالمبدع الذي يحرص على ان يصل الى المستوى الأمثل لا يصعب عليه قراءة الواقع بكل سياقاته وأنساقه الحضارية والثقافية، فضلا عن الأبعاد المستقبلية التي لابد من التنبؤ بها، او قراءة الواقع من خلالها بدقة، ليس قراءة السياسي، وانما قراءة المفكر المبدع الذي يكون واعيا «بوجوده الحضاري المتكون بضياء ماضيه، وسؤال مستقبله وحقيقة حاضره ايضا، واذا كانت المؤامرة الاستعمارية التي يقودها الغرب قد وصلت اليوم الى حد تقسيم الاوطان، وهدر الاستقلال، وتصفية الحقوق التاريخية المستقرة للعرب على ارضهم، فان فعل الإبداع لايتراجع منحسرا او منكفئا، لان لديه القدرة على تصعيد وتائر هذا الإبداع وتقوية تجلياته ومظاهره ليوازي قوة الهجمة وخطورة المؤامرة، وهذا لا يعني سحب المبدع الى مواجهة سطحية، يتبسط فيها الخطاب حتى تتسطح عناصره، وتتراجع اساليبه، وتتأخر دينامياته الفاعلة، وانما يتم فعل المواجهة الابداعي بالاشتغال على الجوهر الحي للكتابة العربية، وتقوية جسور الفعل بين المبدع ومتلقيه عبر استيعاب تفاصيل الحالة ودقائقها، والتعبير عنها فنيا بأساليب متقدمة، تستثمر فضاء الحرية، وتنتزع حقوق البوح، وجرأة التسمية، وتعثر على أكثر نقاط الأحداث دراماتيكية ومأساوية واستثارة، لتؤسس وعيا حادا بما يجري على هذه الأرض». (
[2])
ان المبدع العربي لم يعد بعيدا عن هذا المشكل الحضاري، الذي مثّل مسارا حادا في خارطة الثقافة العربية، والذي توجب فيه على المبدعين «النظر في توجهاتهم الإبداعية، وفي انجاز رؤيات ومشروعات مجددة للحفاظ على بقاء المجتمع والأمة والإنسانية بقاء ناجعا وتقدميا، وهو يتطلب منهم ان يتخلوا عن الاستعجال والغرق في (الذاتوية) المفرطة، وتجديد الصلات بين وعيهم وابداعاتهم من جهة، وبين مستجدات حركة الحضارة الآن من جهة اخرى، على اسس رؤيوية وقيمية مناسبة تتخلق منها المشروعات الثقافية الكبرى المناسبة لتحدي البقاء المطروح علينا كأمة». (
[3])
وكما يقول هيدجر إن تاريخ الكلمات هو نفسه تاريخ الوجود، فشعرنا إذن هو تاريخ وجودنا، هذا الوجود العصي الإشكالي المشتبك بالوجع والوجد والعنف والتحدي، فالأدب – والفنون عامة – هو نتاج مخاضات نعيشها ونكتوي بعذاباتها، ذلك ان الحضارة المعاصرة كذبت على الانسان كذبتها التاريخية يوم وعدته بالسعادة وفرح المصالحة مع الذات والآخر، ومع الزمن والعالم لكنها أعطته في الواقع ما لا يصدّق من العذاب والخوف والكوارث، وجعلته يعيش ألوانا من الإحباط والمكابدة فجاءت آدابه وفنونه نتيجة ذلك طافحة بالرفض والمرارة، وراحت نصوصه تستسلم أمام طوفان الهمجية القادم من ادعاءات التحرر والسعادة مرة، وتواصل المجابهة مرات وهي تحلم بحياة أكثر رأفة بالإنسان، فكأن على هذه النصوص التي ترفض الموت ان تتسم بالحيوية والحركة والتفاؤل بطاقة الإنسان المحاصرة، وهي في أكثر الأحيان تنطلق عبر ضمير المتكلم (انا) الذي يضمر في داخله كل عذاب المجموع وينبض بمكابداتهم لانه برحابة الشعر والرؤيا قادر على احتوائهم وعيش المهم والبوح بمعاناتهم في تجربة موحدة، فالمرض والجوع الانساني واحد، وجرح الانسان وذل تشرده واحد، والذعر من الصورايخ والموت واحد بكل ما ينجم عن تلك الكوارث من محن ولوعات، والمعادلة بين القاتل والمقتول مختلة، فكيف لتجربة الشاعر الداخلية ان تتشكل نصا بعيدا عن هذه النكبات ؟!. (
[4])
وفقا لذلك فان تجربة الشاعر بأشكالها ومراحلها المختلفة قد حظيت بأهمية كبيرة في توجيه النص وشحنه بامكانات معينة ليصبح اكثر كفاءة في خلق وضع جمالي وحضاري ضروري، يؤسس مشهده الخاص ويضخه بطاقة خصب خلاقة، تعينه على اداء وظائفه النوعية في الارتقاء بالروح وجعلها اكثر تحضرا وقابلية لادراك الآخر والتواصل معه، فالشاعر في اساس عمله الشعري انما يطمح لان يرتفع بلغته ذات الطاقة التعبيرية المكثفة الى مرحلة تحريض الآخر على الاستجابة الحضارية لفضاءاتها النصية، بما يؤمّن لها صفة العالمية ([5])، وهذه الصفة العالمية «ميزة ابداعية رفيعة تنبع من المحلية، اي من ارتباط الكاتب بالمكان والثقافة التي ينبع منها، والعالمية بهذا المفهوم قيمة جوهرية يرتفع الادب بتحققها وينتشر في العالم اجمع»([6])، مما يحقق شكلا متقدما ومتطورا لتلاقح الحضارات واستراتيجية جديدة في التقائهما على أساس الإنسانية والقيم المشتركة.
ذلك ان الشاعر المعاصر إنما ينظر إلى شعره والى نفسه بوصفه صوتا من أصوات هذا الوجود، تلك الأصوات التي تتجاوب أصداؤها عبر التاريخ، في الماضي والحاضر والمستقبل، والتي تصنع بمجموعها سيمفونية الحياة، وهو من هذه الناحية يمثل حلقة من سلسلة التاريخ، لكن التاريخ الفكري والروحي للانسان لا يمكن تمثله في سلسلة من الحلقات، تسلم الواحدة منها إلى الأخرى، فالواقع ان كل حلقات الماضي تعيش وتؤثر في الحاضر، ثم ان الحاضر يؤثر في المستقبل بل يتأثر به كذلك، ان التاريخ الفكري والروحي للإنسان إنما يتمثل في شكل دوائر تتسع كل دائرة منها عن سابقتها حتى ليمكن تمثل الدوائر السابقة كلها في إطار الدائرة الأخيرة، فالشاعر المعاصر اذن ليس حلقة في سلسلة ممتدة، وانما هو يمثل الدائرة التي تضم في إطارها دوائر التراث الروحي والفكري للإنسان في الماضي. فالحياة ليست الا درامة ممتدة عبر التاريخ، طرفاها الإنسان والزمان، كما أدركوا – من خلال ذلك – انهم ورثة المأثور الإنساني كله، ورثة الحضارات بلا تفريق ولا تمييز، ما دامت هذه الحضارات هي ثمار التجربة الإنسانية الممتدة عبر التاريخ، ومن ثم عبر الشعر عن هذا المفهوم التاريخي للتجربة الإنسانية.(
[7])
وإذا كانت الكلمات – وفقا لما تقدم – تظل تحمل تاريخ وجودنا الى الغد ليرى الآتون ما حدث للإنسان في ظل حضارة الخطر، فان نظريات النقد الغربي التي حاولت عزل المبدع والإبداع عن معاناة الإنسان وإشكاليات حياته لم تمكث طويلا فقد داهمتها اكثر من نظرية دعت الى ضرورة قراءة النص في منظوره التاريخي والثقافي وضمن سياقات انتاجه، ذلك ان النصوص تولد عبر مخاض تحتدم فيه وقائع الحياة وأحداثها ([8])، اذ يتطلب من الناقد عدم دراستها معزولة عن كل المؤثرات والسياقات التي مهدت لكتابة العمل الابداعي، فـ«الاديب عندما يعبر عن أفكاره ومشاعره، فانه لا يعبر عن تلك الأفكار والمشاعر في عزلة عن الواقع الاجتماعي المحيط به»([9])، فالنص الأدبي هو نص مرتبط ارتباطا وثيقا باللحظة وُلد فيها وفي المكان الذي اُنتج فيه.
والقصيدة التي نحن بصددها (أندلسيات لجروح العراق) للشاعرة بشرى البستاني([10])، تمثل أنموذجا للشعر الذي يرتبط باللحظة الراهنة التي تعيشها الذات وهي تواجه عدوانا همجيا على بلدها العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، فإن هذه اللحظة مشتبكة بالتاريخ وأحداثه ووقائعه وصراعاته، إذ لا يمكن لأية لحظة حاضرة أن تنهض فارغة من مضامينها الزمنية، فهذا العدوان انتهى باحتلال العراق واستباحة ارضه وحرمته وكل ما يتصل به من ارث حضاري وثقافي ممتد لالاف السنين، ان هذه اللحظة المأساوية شكلت منعطفا خطيرا في مسار الإنسان العربي والعراقي على وجه الخصوص، ومهما ادعى الغازي من اهداف سامية ومبادئ نبيلة جاء لكي يحققها، فان العدوان يبقى في صفحة الاحتلال الغاشم الذي جاء ليُكملَ سلسلة نزع صرح الحرية من ابناء هذا البلد الذي قُدر له ان يبقى بعيدا عن الأمن وعن كل ما يشعره بالإنسانية والحرية وان يبقى أسير العبوديات التي اكتملت دائرتها بالغزو والاحتلال، واذا كانت الشعارات التي رفعها المحتل من ان الدكتاتورية والظلم الذي حلّ بهذا البلد هو ما دفعه لإعلان الحرب على العراق، فان الواقع على الأرض اظهر خلاف ذلك تماما.
واذا كان «استلهام الروح واستبطان الحوادث من خلال موقف او حدث معيش هو ما يصبو اليه الشاعر ويشغله»([11])، فان قصيدة الشاعرة بشرى البستاني جاءت فاضحة للمشروع الامريكي ومعرّية لكل الاهداف التي رفعها هذا المشروع، محاولة معالجة هذه القضايا عبر رؤية شعرية حضارية، ومن خلال استجلاء الإرث الحضاري الذي تمتلكه الذات وهي تواجه هذا العدوان الهمجي، ساعية الى إعلاء القيم والمبادئ الحضارية التي تشكل المرتكز الأعلى التي تتكئ عليه الذات في محنتها المعاصرة وهي تسعى لان تصنع قدرها الحضاري المعاصر.
تتكون القصيدة من ثلاثين مقطعا موزعا على ثلاثين صفحة من القطع الصغير، وبناء القصيدة المقطعي أعطى الشاعرة فرصة لتصوير التجربة التي تعيشها الذات لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق أي في عام 2003م، فعملية التقطيع الشعري - المتمثلة في تقطيع الشاعر لقصيدته الى مجموعة من المقاطع والفقرات – إنما يأتي وفقا لدلالات يلجأ اليها الشاعر، بحيث يجعل كل مقطع صورة معبرة عن دلالة معينة توحيها لبنيات النص ووحداته، فالتقطيع وفقا لذلك لا يأتي اعتباطا وإنما يأتي بشكل تفرضه سياقات القصيدة لدلالات متعددة يجمعها موضوع القصيدة ذاتها.
وقد نشرت الشاعرة قصيدتها هذه مع مجموعة من القصائد التي كتبت في سنوات متفاوتة قبل الاحتلال وبعده، إلا أن المجموعة أخذت اسمها من اسم القصيدة التي نحن بصدد تحليلها (أندلسيات لجروح العراق)، جاءت دراستنا لهذه القصيدة على محاور عدة، أولها: محور العتبة النصية (عنوان القصيدة)، اما ثانيها وثالثها فقد كان دراسة للمتن الشعري من خلال جانبين، الأول - وهو ما مثل المحور الثاني-: الآخر في مواجهة الانا الحضارية، اما المحور الثالث فقد كان موضوعه حول: الانا الحضارية ومواجهة الآخر.
اولاَ / العتبة النصية (العنوان):
يشكل العنوان عنصرا بارزا من عناصر القصيدة المعاصرة كما يُعد مرتكزا دلاليا ينبئ المتلقيَ بما ستؤول اليه مجريات القصيدة، وبالقدر نفسه فان العنوان عتبة أولى لقراءة اي نص إبداعي، الا انه في العمل الشعري يأخذ بعدا أعمق ودلالة اوسع ونظرة ابعد مما يجعل الناقد ينظر الى العنوان على انه مجال تأويلي بدرجة عالية، يتيح لمن يحلل النص الشعري ان يغوص في دلالات بنية العنوان لكي يتمكن من الكشف عن مجريات القصيدة.
ان العنوان بفاعليته الدلالية ليس عملا معزولا عن نصه، انما هو دلالة منتزعة من صميمه ([12]) يستطيع «ان يوحي بتفكيك النص من اجل تركيبه عبر استكناه بنياته الدلالية والرمزية، وان يضيء لنا في بداية الأمر ما أشكل من النص وغمض، هو مفتاح تقني يجس به السيميولوجي نبض النص وتجاعيده وترسانته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين: الدلالي والرمزي»([13]).
يقول الدكتور جميل حمداوي «ان العنوان بنية رحمية تولد معظم دلالات النص، فإذا كان النص هو المولود، فان العنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص بأبعاده الفكرية والايدلوجية.»([14]) ولهذا فقد عُدّ العنوان منطقة تأويلية يمثل موجها يقف بين الدخول الى عالم النص وبين المتلقي، ولا يمكن تصور نص شعري بمعزل عن العنوان، ولهذا رأى امبرتو ايكو ان احدا لن يستطيع الافلات من ايحاءات العنوان التي يولدها([15])، ذلك ان العنوان هو الذي يشرف على النص لا ليضيء ما يعتم منه فحسب، بل ليوجه القراءة كلها، فالعنوان في اعتلائه صهوة النص يسمح بنشر النور اللازم لتتبع الدلالات الحافة للنص ([16])، فهو بانتاجيته الدلالية يؤسس سياقا دلاليا يهيئ المستقبِل لتلقي العمل([17])، إنه «شبكة دلالية يفتتح بها النص ويؤسس لنقطة الانطلاق الطبيعية فيه»([18])، ليكتسب النص الشعري بعد ذلك فاعليته بالعنوان، وليمارس ضغوطه على المتلقي، وبه ومن خلاله تتأسس فاعلية المتلقي. ([19])
ولأهمية العنوان ودوره في توجيه النص فقد صار لزاما على الشاعر المعاصر ان يدرك هذه الاهمية، وان يعي هذا الدور الاستثنائي في لعبة العنونة وتجلياتها الضاغطة على جسد المتن ويدرك خطورة وضعها على رأس النص، فيتفكر ويتأمل ويجتهد ويجرّب وينصت مليا للإيقاع الخفي المنبعث من أعماق تجربة النص والغمر لفضاء التجربة كلها، حتى يصل الى مرحلة اكتشاف عنوانه بحيث يرتكن إليه نهائيا ويطمئن الى قوته وكفاءته وسلامته اللسانية والتعبيرية والدلالية، ليستحيل العنوان على هذا الأساس اختزالا نصيا مقننا ومبرمجا على وفق آلية معينة يلتئم على أعلى الهرم النصي وينهض بوظائف شكلية وجمالية ودلالية.([20])
اذن نحن ازاء العنوان نكون امام بنية لها اثرها الخطير والدقيق في تحليل القصيدة، لاسيما ونحن نقرأ قصيدة لشاعرة ناقدة تعرف آليات حبك النص واهمية عنونته، كما تعرف تقنيات العنونة واستراتيجياتها، فنجاح الشاعر «اي اكتمال بنائه الفني لقصيدته، اثر من آثار سيطرته على الخلق الشعري السليم، وهو اختفاء الشاعر وراء قصيدته بما فيها من عوامل فنية، هي التي تثيرنا وتبعث فينا الأحاسيس التي ينشدها»([21])، لذا فاننا ازاء نص اتقنت شاعرته بناءه بشكل واضح، والكشف والتحليل لهذا النص لابد له من قراءة دقيقة وتأملات واسعة للتعرف على تداخلاته النصية وستراتيجيات الغياب التي تخللت مجريات القصيدة والكشف عن انساقها الحضارية التي نحن بصدد دراستها والوقوف عليها.
قبل ان نلج في تحليل عنوان القصيدة (اندلسيات لجروح العراق)، علينا ان نعلم ان هذا العنوان هو نفسه عنوان لمجموعة الشاعرة التي تحوي قصائد عدة، وهذه طريقة من طرائق اختيار العنوان التي لا تجري اعتباطا، بل هي تتم عبر اشتراطات يتضمنها عنوان النص المختار ليكون ثُريا للمجموعة، ومن أولى هذه الاشتراطات علاقته بفضاء نصوص المجموعة الكلي، وهذه العلاقة تمتد ما بين التيارات الدلالية الموازية مؤتلفة أو مشاكسة أو مُغرية أو مغوية استفزازية وحتى تضليلية من أجل إثراء عملية القراءة وتعددها، واذا ما علمنا ان القصيدة في أساسها تدور في أطر الحديث عن مأساة العراق لحظة احتلاله من قبل الجيش الامريكي، اي في عام 2003م، فان ذلك لا يعني ان بقية القصائد قد كتبت في السنة نفسها، اذ ان بعض القصائد قد أُرخت قبل هذا التاريخ بسنة او سنتين، واذا ما حاولنا ان نتفحص عناوين قصائد المجموعة فاننا سنجد ان المضمون تقريبا كان يحوم حول جروح الشاعرة، جروح العراق، الوطن العربي وفي البؤرة فلسطين والقدس، وأحزان بلقيس الضارية في اليمن والممتد صداها نحو سواحل الابيض المتوسط، ولاسيما أن جروح العراق لم تبدأ بتاريخ الاحتلال بقدر ما كان الاحتلال هو لحظة الذروة في هذه الجروح التي بلغتها الشاعرة وهي تكتب قصائدها، اذ جاءت عناوين القصائد الاخرى على هذا النحو (بغداد، ما روته دجلة للبحر، صواريخ آخر الليل، مائدة الخمر تدور، احزان بلقيس، غرق لؤلؤة التاج، جروح الارض، النخيل، البيت، الزمن، الريح، الصحراء، رقصة، غناء، صمت، الحديقة، دوار، الليل، وتبقى تفر الظلال)، واذا كانت بعض القصائد تبدو رومانسية للوهلة الاولى الا انها كانت تحاكي آلام الشاعرة وجروحها التي تماهت مع جروح العراق، لتصنع الشاعرة من هذا التماهي معادلة شاعرية يكون المتكلم فيها الذات، والمضمون هو العراق، ولهذا جاءت قصيدة (اندلسيات لجروح العراق) في اعلى هرم القصائد، لتؤكد مقصودية الشاعرة ولتعطي الاولوية لهذه القصيدة لكونها القصيدة التي تتحدث عن لحظة الذروة التي بلغتها ذات الشاعرة وهي تواجه المحنة المعاصرة المتمثلة بالاحتلال لتؤكد بشكل او بآخر لحظة الانكسار التي تمر بها الذات، «ان عملية انتخاب عنوان احدى القصائد عنوانا للمجموعة يعكس تصورا لقيمة هذا العنوان وخصبه ومرونته التشكيلية والتعبيرية، وقدرته على تمثيل العنوانات الاخرى واستيعاب معطياتها السيميائية على نحو ما»([22])، ذلك «أن القصيدة داخل الديوان عبارة عن بنية دلالية مكتملة، لكن هذا الاكتمال لا يمنع أنها مهيأة للدخول في بنية دلالية اكبر تخص الديوان، هنا يمثل عنوان القصيدة علامة على اكتمالها دلاليا، اما عنوان الديوان فعلامة على تلك البنية الاكبر التي تنتظم فيها البنيات الدلالية للقصائد كافة، ومن ثم لابد ان يخترق عنوان الديوان القصائد كافة ليتمكن من رد اختلاف عناوينها إليه بتعبير آخر ان عنوان الديوان يتردد بهذا الشكل او ذاك، داخل جميع القصائد، الأمر الذي يخلق نواة أولية للبنية الدلالية الأكبر»([23])، فالشاعر حين يختار عنوان إحدى القصائد لتكون اسما لديوانه فان في ذلك دلالة على ان هذا العنوان قادر على احتواء تلك المهيمنات([24])، لاسيما اذا علمنا ان قصيدة شاعرتنا هي الأولى من حيث ترتيب المجموعة.
يتكون عنوان القصيدة تركيبيا من حرف وثلاث كلمات (اندلسيات. اللام. جروح. العراق)، واذا ما حاولنا تحليل العنوان على مستوى البنية التركيبية فاننا نلاحظ ان الشاعرة قد ابتدأت عنوان قصيدتها بخبر مبتدؤه محذوف تقديره (هذه) وحذف المبتدأ له دلالات لغوية تتسق مع الإيجاز اللغوي الذي تسعى اللغة اليه دائما، فـ«غالبا ما تنزع اللغة في استعمالاتها الى الاقتصاد، لتضيف قوة تدليلية الى العلامة المائزة بالحضور، وبذلك فحذف "المبتدأ" (هي او هذه) من تركيب العنوان يمنح المسند ... قوة ليس على صعيد الدلالة فحسب، وإنما أيضا على مستوى التلاعب بالبنى النحوية للغة، واستثمار ما يتيحه النظام النحوي من إمكانيات البنية، تضفي خصوصية على البناء الشعري»([25])، يضاف الى ذلك ان هذا الخبر (أندلسيات) قد جاء نكرة، والاسم النكرة يتيح لنا قراءته بأوجه متعددة بقدر ما يجعلنا أمام تخمينات متعددة وتأويلات كثيرة يتيحها انفتاح أفق النكرة على الشمول دون التحديد، وهذا بدوره يساعدنا في النظر الى القصيدة بانفتاح أكثر، أما مفردة جروح فقد جاءت مجرورة بحرف اللام، وهذا الحرف ينفتح على دلالات عدة منها التملك او شبه التملك بمعنى ان مجرورها يملك مجازا لا حقيقة، وتسمى اللام هنا لام الاستحقاق او لام الاختصاص كما يقرر النحويـون([26])، وكأن الشاعرة أرادت ان تقول ان هذه اندلسيات مختصة للعراق وهو في حالته مجروحا فحسب لاسيما وان مفردة جروح (النكرة) قد أضيفت إلى مفردة العراق (المعرفة) فاستحالت مفردتا العراق والجروح مضافا ومضافا إليه في حالة واحدة معا لا ينفصلان وكأنهما في كتلة واحدة، «فإذا أضفت اسما إلى اسم مثله مفرد او مضاف، صار الثاني من تمام الأول وصار جميعا اسما واحدا وانجر الآخر بإضافة الأول إليه»([27])، ومن ثم تكتسب مفردة (جروح) المعرفة من مفردة (العراق) وكأن العراق أصبح لا يعرف الا ومفردة الجروح ملتصقة به.
وهذا الشيء ينقلنا الى معالجة العنوان على المستوى الدلالي، اذ اننا ازاء مشهد منفتح زمانيا على المستوى الحضاري/التاريخي الممتد لآلاف السنين(العراق)، او مئات السنين (الأندلس)، او مكانيا على المستوى الجغرافي (العراق/الأندلس)، وتتوسط بينهما مفردة (جروح) المضافة الى العراق:
الاندلس ______ جروح ______ العراق
ومثلما مر سابقا فان القصيدة ابتدأت بنكرة وهذا يتيح لنا مجالا ارحب للتأويل، ولكن ما دلالة هذه المفردة اذ جاءت نكرة اولا، وما دلالتها اذ وردت بصيغة جمع المؤنث السالم ثانيا؟
ان مفردة الأندلس وما حوت من حمولات حضارية مثقلة تجعلنا ننظر اليها على انها اندلسيات وليست أندلسا واحدة، فهنالك اندلس الطوائف التي استحالت الى دويلات متعددة وممزقة، وهنالك أندلس الانكسارات المؤلمة التي فُجعت الأمة الإسلامية آنذاك بكثرة المآسي التي نزلت عليها لحظة سقوطها، وهنالك اندلس الحضارة والثقافة التي أعادت للأمة العربية الإسلامية أمجاد الحضارات التي نشأت في البقاع العربية، ليس هذا فحسب بل هي الأندلس التي نقلت للغرب المظلم سبل التنور والتطور لتصبح الأندلس صانعة (حضارات)، وهنالك ايضا اندلس الفجيعة والحزن والبكاء والمرثيات التي ما فتئ العرب والمسلمون يرثون ماضيهم بالاندلس، واذا كانت مفردة الاندلس قد جاءت بصيغة الجمع وان العراق جاء بصيغة المفرد، وان العنوان ما هو الا معادلة متوازنة بين الاندلس والعراق، فان المعادلة تكتمل حين نعلم ان الاندلسيات ستتكثف جميعها في مفردة العراق ليستحيل العراق وجها آخر للأندلس بصورها المتعددة آنفة الذكر، اذن سنكون مع مفردة العراق ازاء أندلسيات كثيرة وليست أندلسا واحدة، وكأننا ازاء شاعرة تتنبأ بما ستؤول اليه مجريات الامور بعد الحرب، من قضية الطوائف (الطائفية) والدويلات الاندلسية(الاقاليم)، الى الانكسارات التي ستتعرض لها الدول العربية، ومن مراثي الاندلسيات الى مراثي العراق، واذا كانت الاندلس هي الجسر الثقافي الذي نقل للغرب الثقافة والحضارة العربية والإسلامية، فان العراق لم يكن ذلك الجسر فحسب بل كان صانع الحضارة ومهدها الذي علم العالم ماهية التحضر وعنفوان المعارف والابتكار، اذن نحن ازاء معادلة دقيقة تجريها الشاعرة بين اندلس الامس واندلس اليوم (العراق). ولا يفوتنا أن نذكر هنا ما للموشحات الأندلسية التي تغنت بحضارة العرب في الأندلس زهوا وافتتانا، بمجالس الأنس والحب والفتنة، وما تخللها من شعر وغناء وموسيقى وفنون شتى تتحول اليوم إلى فقدان ومراثٍ وانكسارات، وكأن النص «يهدهد جروح العراق النازفة بتلك المشاهد الرائقة وهي تتخفى حلما وأطياف جمال وبهجة تعِدُ تلميحاً بعودِ المستحيل الممكن، إنها المفارقة التاريخية التي تحول الفرح لنقيضه وعنفوان الحضارة لجروح وانكسار، وليالي الأمن والأنس لظلام من الذعر والموت، وهو التناقض التاريخي المشتبك بين حاضر وماضٍ يجتمعان ويفترقان في تشكيل نصي واحد يطرح مشاهد الجروح القاتمة بالوجع والمكابدة ومعها ألغام دلالية عارمة بإمكانية الخلاص وهو يتبدى من خلال إشارات الديمومة وومضات الأمل الخاطفة».(
[28])
وهذا يجعلنا نقف عند بنية الزمان والمكان في عنوان المتن الشعري وكيف تمددت الى متن القصيدة فيما بعد، اذ يتميز نص الشاعرة البستاني في ان الزمان والمكان انما يردان في تماهٍ مزدوج في ثنايا قصيدتها، بمعنى ان الازمنة المتعددة ترد متماهية مع بعضها بعضا وترد ايضا متماهية مع المكان، فالزمن الماضي والحاضر والمستقبل نجده في القصيدة متماهياً بعضه مع بعض، يتكسر الزمن ويلتف على بعضه، بالاسترجاع والتناص مرة، والوقوف عند الحاضر مرات، وهذا ما يظهر لنا في بنية العنوان فالاندلس تتلاقى مع العراق وحضارات العراق بازمانها المتعددة متمثلة بـ(العراق)، هي في تلاقٍ مع الحضارة العربية والاسلامية متمثلة بـ(الاندلس)، وهذا ما يتضح جليا في متن القصيدة أيضا، فنبوخذنصّرُ الملك العراقي القديم جنبا إلى جنب مع خلفاء بني العباس، والمتنبي وابو تمام والسياب في سياق واحد، وهولاكو الذي احتل بغداد قديما وسعى الى تدمير القيم الحضارية ها هو يعود ثانية ليحتل بغداد على ظهر البارجة الامريكية (ثانية يقطع هولاكو شريان الحبر الاسود)([29])، فاللحظة الشعرية لا يحدها زمن معين لأنها لحظة امتزجت بالذات الشاعرة التي تحاول أن تواجه الاجتياح العدواني بالهيمنة على الزمن فتلعب به، تقرب بعيده وتدمج ماضيه بحاضره، لتستحيل هذه الذات الى ملتقى لاوجه ازمنة متعددة تجمعها بؤرة الذات التي تحاول استدعاء سياقات هذه الازمنة من خلال لحظة واحدة هي اللحظة الشعرية التي تتوحد عبر قدرتها الازمنة، ذلك ان اللحظة الشعرية عند الشاعر هي «لحظة مركبة، تحرك، تدل، تدعو، تؤاسي – فهي مدهشة وأليفة … هي جوهريا، علاقة تناغمية بين متضادين، فهناك دائما شيء في العقل في لحظة الشاعر المبثوثة بالانفعال وهناك دائما شيء من الانفعال المشبوب في رفضه العقلاني»([30]) ان الشاعرة وهي في استدعائها تمظهرات متعددة ومختلفة زمانا ومكانا إنما تعبر عن حالة من المعاناة التي تجتاح الذات لحظة الحدث الكبير الذي تمر فيه، وبالقدر نفسه هي تسعى الى ان تخفف من وطأة الفاجعة ولذا فهي تمد يداً الى اعماق حضارة هذا البلد من خلال الاسترجاع لتستقوي نفسيا وحضاريا بكل ما يمدها بالثقة والامل والتفاؤل خلاصا من بؤس اللحظة الحاضرة التي ترهقها، ولهذا فالرجوع الى الزمن عبر التذكر او الاستقواء او الاعتبار له من القوة ما يجعل الذات تتجاوز أزماتها النفسية، ولهذا فالشاعرة بشرى البستاني سعت الى إعطاء الزمن قوة حضارية مليئة بالثقة والعزة، ما يجعل زمنها يتجمع في بؤرة الذات معلنا توحده عبر تمظهرات الحضارة العراقية باوجهها المتعددة، متجاوزة هذه الذات الزمنَ الرياضي ومستعيضة عنه بزمن آخر نستطيع تسميته بالزمن الحضاري.
أما المكان فيرد متماهيا مع بعضه من الامكنة المتعددة والمتباعدة المسافات، وهذا يظهر منذ العنوان، اذ نرى الشاعرة قد جمعت العراق مع الاندلس، وهو ما نراه في متن القصيدة ايضا، فبغداد بجنب آشور، وسمرقند وغرناطة تجمعهما بغداد، وفلسطين مع الأندلس، وغرناطة في سياق واحد مع البصرة وذي قار وسومر وبابل، والقدس مع الموصل([31])، وصخر القدس يتدحرج فوق مآذن بغداد([32])، ونهران يدوران على جيد البستان يصلان بغداد بعكا([33])، فأهمية البنية المكانية تبدو واضحة في اغلب مقاطع القصيدة مشكلة انساقا بنائية للمتن الشعري ككل، ومشيرة لازدهارات وانتكاسات معا، واذا علمنا ان تجمع هذه الأمكنة المتعددة والمتباعدة ما هو الا رؤية داخلية خاصة للذات الشعرية، فان الذات في حقيقة الأمر تسعى الى ان تتجه من الخارج الى الداخل «فتصبح أعماق الذات، بكل ما تنطوي عليه من رؤى وأشواق وعذابات أيضا، فردوسا داخليا موازيا لجحيم الخارج، جحيم القهر والخوف ورعب الاقتلاع من الجذور»([34])، مع ملاحظة أن اتجاه هذه الذات الشاعرة هو ليس اتجاها سلبيا او اتجاها يوتيوبيا، وانما هو محاولة لتشكيل بُعد مكاني تجمعه لحظة حضارية واحدة، بمعنى ان الشاعرة وهي في قمة معاناتها ازاء لحظة انهيار الواقع المكاني الآني الخارجي، فاننا نراها مشدودة في الداخل لتشكيل بُعد (نفسي) حضاري متماسك وقادر على مجابهة القهر الغازي وليس بُعدا نفسيا مقهورا بما يجري الآن فحسب، وتلك وظيفة الفن القادر على تجاوز المحن بالاسترجاع والحلم معا، إذ يعمل على بناء ما هشمته الأزمة من خلال التحويل والاستبدال.
وهذا البعد الحضاري للبنية المكانية في المتن البستاني انما يقوم على استدعاء جدلي يستحيل المكان من خلاله الى «هوية تاريخية ووطنية، وان يحمل طموحات الأديب الثقافية؛ بان يجعله أمام امتحان ثـقافي مع العصر، وان يتحول – لدى الأديب – الفعل في المكان فعلاً في البحث عن الشخصية المستقبلية والمتطلعة إلى الواقع»([35]) ذلك ان المكان أكثر من سواه يثير إحساسا ما بالمواطنة([36])، لأنه الحيز الذي يضم الفعل الإنساني وما يؤازره من عناء ومكابدات وفرح، وهذا ما نراه في منحى الشاعرة بشرى البستاني وهي تجري عملية استرجاع للمكان الحضاري في امتداداته التاريخية ودمجه مع بعضه بعضا لتستخرج لنا لوحة حضارية تشتبك فيها الأمكنة المختلفة والأزمنة المتعددة في نقطة التقاء الذات، وهذا ما يجعلنا نقول ان البنية الزمكانية منذ العنوان قد انصهرت في الذات لتستحيل هذه الذات الى مصهر كبير تتوحد داخلها «عناصر المكان وأبعاد الزمان مشكلة وحدة الداخل والخارج»([37])، الداخل الذاتوي بكل ما حمل من آلام وعذابات، والخارج بكل ما يحدث من مآسٍ وجراحات.
نستطيع ان نقول – بعد ذلك – تتميما لتحليلنا بنية العنوان ان المتأمل للعنوان يقرأه في شكل اولي على ان الشاعرة تسعى الى تقديم بلسم من نوع خاص لتضميد جروح العراق، الا ان القراءة الدقيقة ترى ان هناك مفارقة في القصيدة جاءت بقصد او من دون قصد، حاولت الشاعرة من خلالها استحضار تجربة الاندلس بحمولاتها الثقيلة وجراحاتها العميقة ووضعها ازاء ما حدث في فاجعة العراق وهو يواجه غزوا حضاريا وعسكريا شرسا، وكأنما ارادت ان تستدعي كل ما اثقل الاندلس من حمولات لتضعها في معادلة حرجة مع العراق وهو يواجه جراحاته، بل وهو يواجه صفحة جديدة من صفحات الاندلس السوداء... العنصرية.. الاقليمية.. الخلاف على السلطة والطمع في الحكم.. الغرق في الفساد.. زمن الدويلات الاندلسية، فالشاعرة تضعنا منذ عنوانها امام تحذير حضاري خطير ومحاولة في التنبؤ بما ستؤول اليه الامور والتأكيد على ان قابليات السقوط الحضاري والسياسي والعسكري ومقدمات كل ذلك مما عاشته الاندلس قد بدأت بوادره في العراق الذي يشكل العمق الحضاري والتاريخي للامة العربية والاسلامية، لاسيما اذا علمنا ان قراءة دقيقة للتاريخ الأندلسي تجعلنا على بصيرة من قراءة الحاضر وإدانته بما يحقق الوعي الحضاري المرتجى ونحن نواجه التحديات الراهنة والمواجهة الفعلية مع الآخر، وهذا ما أفصح عنه متن القصيدة الذي سنتناوله بالتحليل فيما يأتي.
ثانياً / الآخر في مواجهة الأنا الحضارية:
يشكل الآخر مرتكزا دلاليا في قصيدة الشاعرة بشرى البستاني، اذ ان المواجهة أيا كان نوع المواجهة لابد لها من وجود قطبين احدهما (الآخر) يكون في مواجهة مع (الانا)، فالأنا مرتبطة ارتباطا ثنائيا مع الآخر، فـ«الشرط الرئيس الذي لابد منه لكي يوجد آخر حتى ولو لم يكن الشرط الوحيد هو وجود أنا»([38])، فالآخر في ابسط صوره هو مثيل او نقيض (الذات) او (الانا)([39])، ولهذا فان (الآخر) جاءت أهميته في الفلسفات الغربية من جوهريته الأساسية في تكوين الذات وتحديد الهوية، وكذلك من اسهامه في تأسيس وتوجيه المنطلق الذاتي الشخصي والقومي والثقافي، فالآخر بالنسبة الى سارتر – مثلا – عامل فاعل في تكوين الذات، اذ يرى سارتر ان وعي الذات الوجودي يتأسس تحت تحديق الآخر، لكن الآخر ليس آخرا خيرا، بل ينطوي على عداء يدمر إنسانيتنا، لأنه يعلق الكينونة او الوجود بطريقة جبرية وغير مستقلة بين لحظتي (ما كان) و (ما سيأتي)، ولهذا نظر فوكو إلى الآخر على انه جوهري لكينونة الخطاب، فنحن لا نعرف الحاضر دون الماضي، ولا نعرف الذات دون الآخر. (
[40])
وقد سعت الشاعرة بشرى البستاني الى قراءة هذا الآخر من خلال مواجهته مع الذات (الأنا)، اذ حاولت تعرية الآخر ماديا وقراءته حضاريا عبر رؤية الأنا الحضارية التي تشكل ندا لهذا الآخر.
تفتتح الشاعرة قصيدتها بالحديث عن الآخر (دبابات الغزو تدور) هذه الجملة التي تتكرر لتأخذ شكل لازمة قبلية، وكما ترى الشاعرة نفسها فان تكرار هذه اللازمة هنا انما «يعني استمرارية الآخر بفعله الهمجي، ودوره الحاسم في تدوير العدوان وإدامته ليكون السبب في تجريح الذات / العراق، وكون اللازمة قبلية تأشير لسبق الآخر وإصراره على فعل الاعتداء الشرس والمسلح»([41])، وهذه البداية إنما هي تسجيل لبعد اشكالي للعلاقة مع الآخر، مثلما هي تعبير عن موقف جدلي متمخض عنه صراع حضاري بين حضارتين، الاولى معتدية والاخرى مسالمة، وقبل ان ندخل في تحليل هذه القضية في المتن الشعري لا بد لنا من الوقوف عند ابرز آلية اعتمدتها الشاعرة في رسم صورة الآخر الغربي الا وهي (اللازمة الشعرية).
يتكون متن القصيدة من ثلاثين مقطعا ابتدأ كل مقطع منها بتلك اللازمة التي امتدت الى نهاية القصيدة، بمعنى آخر ان القصيدة حوت على ثلاثين لازمة تكونت من ثلاث كلمات (دبابات/ او ما اشبهها)، (الغزو/ او ما اشبهها)، (تدور)، فقد ثبت كما هو ملاحظ في اللازمة المبتدأ (دبابات، والفعل المضارع تدور) الذي شكل خبر المبتدأ، بينما تغير المضاف اليه وقبل الوقوف عند دلالات هذه الكلمات واشباهها، لابد من السؤال عن سر الرقم (30) او (3)؟.
من المعروف ان التآمر على بلد عربي مثل العراق او احتلاله من قبل دول غربية كأمريكا او حلفائها ليس أمرا جديدا وبخاصة بعد ان تحررت الدول العربية من الاستعمار الغربي وأعلنت استقلالها، ولهذا فان الرقم (3)، والرقم (30) في تاريخ المواجهات العسكرية بعد الاستقلال يذكرنا بمواجهتين الأولى سميت بـ(العدوان الثلاثي) الذي حدث على مصر أيام عبد الناصر، أما المواجهة الثانية فيذكرنا بما سمي بـ(العدوان الثلاثيني) الذي حدث على العراق أيام النظام السابق، ذلك العدوان الذي لم يكن موجها ضد شخص معين بقدر ما كان موجها ضد الشعب العراقي وحضارته العريقة وطاقة أبنائه، وهذا التخريج لعدد مقاطع القصيدة يجعلنا ننظر الى ان الشاعرة ارادت ان تعلن في قصيدتها (اندلسيات لجروح العراق) ان غزو العراق في 2003 واحتلاله لم يكن الا تتميما لمسلسل العدوان على الامة العربية وتراثها، الامر الذي يجعلنا ننظر الى ان هذه المواجهات التي سبقت المواجهة الاخيرة ما هي الا مواجهات حضارية بالدرجة الاولى ولم يكن غايتها الا تدمير القيم الحضارية للأمة وقطع امتدادها التاريخي العريق، والدليل على ذلك هو ما ستؤول اليه مجريات القصيدة التي نحن بصدد تحليلها.
وكما سبق فان القصيدة تتكون من ثلاثين لازمة تكرارية توزعت على ثلاثين مقطعا تتكون كل لازمة من ثلاث كلمات، وتكرار اللازمة في القصيدة له دلالات مرتبطة بمضمون القصيدة وسياقها النصي، إذ «ان إعادة ألفاظ معينة في بناء القصيدة يوحي بأهمية ما تكتسبه تلك الألفاظ من دلالات، مما يجعل ذلك التكرار مفتاحاً في بعض الأحيان لفهم القصيدة»([42])، فالتكرار بذلك «أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيئها بحيث نطلع عليها … انه جزء من الهندسة العاطفية للعبارة يحاول الشاعر فيه ان ينظم كلماته بحيث يقيم أساسا عاطفيا من نوع ما». (
[43])
وتكرار اللازمة التي تلح عليها الشاعرة «تعد ظاهرة موسيقية ومعنوية في آن واحد»([44])، مما يجعلنا ننظر اليها على ان من خلالها تتشكل بؤرة القصيدة وجعل الدلالة صادرة عنها، «فالعبارة المكررة تؤدي الى رفع مستوى الشعور في القصيدة الى درجة غير عادية وباستناد الشاعر الى هذا التكرار يستغني عن عناء الافصاح المباشر وإخبار القارئ بالألفاظ عن مدى كثافة الذروة العاطفية»([45])، وهذا ما سنسعى الى تجليته والكشف عن دلالاته لنصل من ثم الى مضمون النص الشعري.
فاللازمة الشعرية التي اعتمدتها الشاعرة تتكون من ثلاث مفردات – كما سبق - تكررت هي او مثيلاتها على ثلاثين مقطعا، وهذه المفردات هي: (دبابات/ عربات، الغزو/ القتل/ السلب/ الحقد/ الموت، تدور)، ونرى من الضروري الكشف عن دلالات استخدام هذه المفردات وتكرارها بوصفها لازمة شعرية. فمفردة (الدَّبَّابَةُ)، وردت في المعاجم العربية على انها آلة تُتَّخذ للحرب وهَدْم الحُصون، وفي حديث عمر، عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: كيف تصنعون بالحُصون؟ قال: نتَّخِذ دبّاباتٍ يدخُل فيها الرجال، وتطلق في الحرب الحديثة: على سيارة غليظة مصفْحة، تهجم على صفوف العدُوّ، وتُرمى منها القذائفُ([46])، وورد في معجم آخر: الدبابة الة تتخذ في الحصار يدخل المقاتلون في جوفها ويتقدمون من الحصن مجتمعين بها فينقبونه أو يهدمونه، او هي آلةٌ كانت تُتَّخذ قديمًا للحَرْب وهَدْم الحُصُون، يختبئ الجنودُ في جوفها ثمَّ تُدفَعُ بشدَّة تجاه الحِصْن فتنقُبه وتهدِمُه. ([47])
إذ نرى ومن خلال ما ورد في المعجم العربي ان من اوصاف الدبابة هي «آلة - او سيارة غليظة - تُتخذ للحرب وحصار الخصم، تُرمى منها القذائف، يختبىء الجنود في جوفها، وظيفتها هدم الحصون المنيعة والتقدم بشدة نحو الخصم مجتمعين بها فينقبونه أو يهدمونه»([48])، فضلا عن المعنى الحرفي لكلمة (الدبابة) الذي يعني المشي الهين والخفي من الدبيب، ورد في لسان العرب: أَدِبُّ دِبَّةً خَفِيَّةً... وإِنه لخَفِيُّ الدِّبَّة أَي الضَّرْبِ الذي هو عليه من الدَّبِيبِ ودَبَّ القومُ إِلى العَدُوِّ دَبيباً إِذا مَشَوْا على هيِنَتِهِم لم يُسْرِعُوا.([49]) تبعا لما تقدم من معنى (الدبابة) نرى ان الشاعرة استطاعت ان تعطي معنى دقيقا لهجوم الآخر واجتياحه من خلال هذه الآلة الحربية؛ فاذا اردنا ان ننظر الى الدبابة من خلال رؤية اخرى لقلنا ان الآخر اتخذ آلة عسكرية (غليظة) لمواجهته الحضارية معنا بالعنف والظلم بعيدا عن أي حوار حضاري، مدركا قوة هذه المواجهة، ولذلك سعى الى الاختفاء والاختباء في جوف ترسانته العسكرية محاولا التوغل الى الحصن (العمق الحضاري للامة) عن بعد من خلال الحصار الذي طال على العراق والذي لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا لبشاعته تارة، وتارة اخرى من خلال التقدم بشدة نحو الحصن ومحاولة هدمه ورميه بالقذائف، لاسيما وان الشاعرة استخدمت لفظ (دبابات) بصيغة الجمع إمعانا في الشدة والقوة.
ان توظيف الشاعرة لمفردة (الدبابة) جاء معبرا عن صورة الاجتياح البشعة التي شهدتها المواجهة مع الآخر، ليس من خلال تصوير القوة التي يمتلكها الآخر مع مواجهته معنا فحسب، بل من خلال القوة التي يتميز بها الحصن الحضاري الذي نمتلكه نحن، ففضلا عن استخدام دبابات بصيغة الجمع – كما مر – فانه من المعروف ان (الدبابة) لا تستخدم في الحروب الا اذا كانت المعركة متكافئة بين خصمين او اذا كان الخصم منيعا بحيث لا يستطيع المهاجم الانتصار عليه او مواجهته الا من خلال مواجهة مباشرة يكون سلاح الدبابة هو المتقدم ويكون الجنود مختبئين فيه او من ورائه، هذا اذا اردنا المعنى الحديث والمعاصر لمفردة الدبابة، اما المعنى القديم فهو لا يبتعد كثيرا عن المعنى السابق، فالعربة القديمة كانت وظيفتها هدم الحصون المنيعة، وكان الاقدمون لا يستخدمون هذه الآلة الا اذا كان الخصم متحصنا بحصن قوي ومنيع بحيث يصعب مواجهته او هزيمته، فضلا عن ذلك كله فان المعنى الحرفي لكلمة(الدبابة) وهو المشي البطيء قد اكد ان المواجهة تسير ببطئ وان آلة المواجهة الحضارية تسعى للوصول الى هدفها في خفية وحذر لادراك الخصم الذي يتحصن هنا بعمق تاريخي يجعله رمزا لقوة معنوية تمتلك اشتراطات التواصل مع الغد، وهي اشتراطات يدرك العدو أبعادها، فهو في مواجهة غير يسيرة لأنه امام حصن منيع ليس من السهل مواجهته واقتحامه، وبذلك يتحقق المعنى الوظيفي لاستخدام مفردة (الدبابة) في سياق القصيدة وجعله المرتكز الذي تعتمد عليه دلالة القصيدة، لاسيما وان اللازمة الشعرية (دبابات الغزو/...... تدور) قد اتكأت على هذه المفردة(الدبابة)، فاذا كانت اللازمة قد تكررت (30) مرة، فان مفردة (الدبابة) جاءت متصدرة لهذه اللازمة (29) مرة مقابل مفردة (العربة) التي هي الأخرى لم تخرج عن الدلالة المقصودة لمعنى (الدبابة) في دلالتها القديمة الا ان المفردة الاولى كانت اكثر ايحاء ودلالة في السياق العام للقصيدة، لا سيما ونحن امام مواجهة حضارية معاصرة.
واذا كانت مفردة (الدبابة) قد اتكأت على حمولات دلالية – كما رأينا – وانها استطاعت ان تعطينا صورة جزئية عن المواجهة التي حدثت، فان الشاعرة سعت الى رسم صورة متكاملة للمواجهة الحضارية، محاولة الدخول في عمق هذا الصراع، وذلك من خلال فضح المشروع الحضاري الاستعماري للآخر عبر شبكة من الصفات التي تكشف عن وجهه الحقيقي، وتظهر في الوقت نفسه هدفاً مقصودا وتوجها واضحا من قبل الآخر على تهميش الانا وقمعها، وهذا ما نجده في الثلاثين لازمة التي تكررت في متن القصيدة، فحضارة الآخر قائمة على (الغزو/القتل/السلب/الحقد/الموت)، وهو ما تحمله دبابات الآخر من معانٍ تعكس صورة الحضارة المتسلطة المتمركزة حول ذاتها، والساعية الى الهيمنة على العالم عبر فرض انموذجها القائم على إلغاء الآخر وتهميشه في ابشع صورة:
الآخر
السلب القتل الغزو الحقد الموت
ان هذه الشبكة من النعوت السلبية التي عبرت عنها الشاعرة وهي تسعى لرسم مشهد حضاري بشع، انما تحاول جاهدة أن تكشف عن درجة الاكراهات والضغوط التاريخية والحضارية والنفسية والاجتماعية التي يتحرك من خلالها الآخر الحضاري، فهو لم يأتِ فاتحا – كما ادعى – ولا محررا ولا – ايضا – ناقلا لحضارة، بقدر ما جاء محركا ومسيّرا بارث تاريخي حاقد ونية مسبقة في الجرم والقتل والسلب، ليس السلب المادي فحسب، وإنما السلب الثقافي والحضاري أيضا.
إن الشاعرة آثرت استخدام مفردة الغزو (20) مرة، في اللازمة الشعرية مقابل القتل (1) مرة واحدة، والسلب (3) مرات، والحقد (4) مرات، والموت (2) مرتين، إذ أن من المعروف ان الغزو في حقيقته يحمل الموت والقتل والسلب والحقد والدمار، إلا أنها وإمعانا في فضح الآخر وإبراز حقيقته أصرت على استخدام المفردات الاخرى التي حاولت من خلالها تصوير آلة (القتل/ السلب/ الموت/ الحقد)، التي يتحرك الآخر في ظلال معطياتها المدمرة، وقد سعت الشاعرة الى رسم لوحات تشكيلية لابراز تلك المشاهد التي عكست تصويرها للآخر المضاد لأي فعل حضاري.
فمن هذه المشاهد صورة الحضارة التي لم ترحم حتى الطفل انها حضارة القتل:
( كتب الاطفال
/دفاترهم../
تتلفت حيرى
الجندي الأمريكي
يطلق نارا فوق جبين صبي
منتفخ الصدر
[50])،
بل يصل جرم الآخر إلى أن يجعل من براءة الطفولة وقودا:
( يا ويلي...
قمر الحلم
صار وسادة...
[51])،
وحضارة السلب التي سرقت كل شيء، فهي مغتصبة أموال الشعوب، وكانت كنوز الأرض العربية التي رمزت لها بالصحراء مرمى نهبهم، وهم لا يكتفون بسلب ما هو ظاهر، بل يسعون لانتزاع ما هو مخبوء في الجيوب كذلك، وذلك تعبير دقيق عن انحطاط القيم الغربية التي مثلتها الحضارة المادية بهيمنة أمريكا ومن حالفها:
(دبابات السلب تدور
تفتش كفُّ الامريكي جيوب الصحراء
تجثو فوق عرين الزيت الاسود)([52])
وقد وصل انحطاطها الى اغتيال إنسانية الإنسان فهي لم تترك شيئا:
(دبابات السلب تدور...
في حجرات المشفى
يقتنص الأمريكي غطاء الموتى
يعدو في الردهات وعبر النار المرضى
تنهض في مفترق الطرق الليلية
أشباح القتلى..
نهبت في غبش الفجر مقابرهم ... )([53])،
فغطاء الموتى رمز لاحترام كرامة الجسد حامل سر الروح، وفوق ذلك كله فهي فضلا عن سرقة حياة الانسان وثروات وطنه وإهانة جسده بعد اغتصابه وقتله تمتد لماضيه سارقةً حضارته وعنفوان ماضيه الذي يرعبها:
(الواح متاحف بغدادَ بكف الريح ْ...
والثور الآشوري الباسم مرتعب
غادر مرتبكا وبكى.....
في اركان المتحف والمنعطفات
كانت قيثاراتْ
[54])،
إن النص هنا «يعتمد تكثيفا بالغ الترميز وهو يشير لانكسار بعدين حضاريين يختصران بؤر التراث المشع ماديا ومعنويا، الثور المجنح بموحيات القوة والعظمة والهيمنة الأسطورية، ثور برأس بشري متوج وأجنحة نسر علامة للشموخ والأنفة معاً، وقيثارات سومر تعزف لحن الحزن باغتصاب أرضها بعد أن عزفت لحن الفن والمعارف طويلا»(
[55])، إن حضارة السلب لم تنهب فحسب وانما زرعت ثقافة السلب والنهب:
(دبابات السلب تدور
بغداد تنام على عطب الورد
واسلاب الياقوت
مرجان مآذنها في ايدي السلابة ). (
[56])
إن حضارة تدعي الحرية هذا شأنها سيكون – بلا شك – غايتها نشر الموت والخراب والحزن في كل شيء:
(هدير الدبابات
يزرع في قلب الأرض
[57])،
إن دموعا أخرى تخفي مسكوتا عنه بالغ الخطورة:
(شواطئ دجلة غبراء
انفض السمارْ
عنها..
السمك الميّتُ يعلو ضفتها
الطحلب كدَّر صفو الماء...
تبكي دجلة في قلب الليلِ
زفير الثعبان يريق النارَ
[58])،
(يتكئ الزيتون على ورد الشيحِ
[59])،
(ومعابر بغدادْ..
تبكي الأنهار
الأسماك
الشرفاتْ
[60])،
(ورذاذ الموتْ...
ينثالُ على قمم الصخرِ
وفي الوديانْ..
شمعٌ يذبل خلف ستائر بغدادْ
نسمات الحزن على أشجار الليمون )(
[61])،
(وتدلى من ثقب الشمس حصانٌ ميّتْ)(
[62])
(تبكي الأرض من الحمى).([63])
إننا ازاء صور فنية انتقتها الشاعرة وألقت فيها روحا شعرية اضفت عليها طابعا من الخيال، اذ انها سعت الى انسنة الجمادات والاشياء واستخدام التشخيص والتجسيم، وهذا الامر من شأنه ان يعلي من قيمة النص الشعري مثلما يعطي للقضية التي تسعى الشاعرة الى اثباتها اهمية وتأكيدا، فالشاعرة بشرى البستاني سعت الى اغناء تجربتها الشعرية عبر اضفاء طابع رؤيوي خاص يعكس تجربتها التي تعيشها، ويعبر عن احساسها الداخلي الذي يمور في تموج طافح بالحيوية الممزوجة بالألم والأمل، بالماضي المثقل بحمولاته الحضارية، والحاضر المنكسر الكئيب، والمستقبل القادم.
إن الشاعرة بشرى البستاني - وهي تسعى لفضح المشروع الاستعماري الأمريكي – حاولت ان تتكئ في قصيدتها (اندلسيات لجروح العراق) - من ضمن ما اتكأت عليه – على مرتكز دلالي ثري أعطى القصيدة قيمتها الشعرية مثلما أعطى لقيمتها المضمونية رصيدا ثرا من الإبداع والحيوية والحركة، إذ انها حاولت ان تبني لغتها الشعرية على مساحة واسعة من الخروقات اللغوية والانحرافات الدلالية مما اعطاها تميزا متفردا في التعبير عن اللحظة التي تعيشها، والتي هي بالضرورة لحظة الانكسار التي تقابل لحظات القوة التي تميزت بها الذات والتي تمثلت في اللحظات الحضارية المتألقة، فقد دفعت تلك اللحظاتُ الشاعرةَ الى رسمها عبر لوحات شعرية مكثفة أعطت لتجربتها التي تعانيها قوة معنوية، واذا كانت شعرية النص لا تتولد من الموضوع او القصيدة التي فيها القول بل تكمن في شكل القول وطريقته، فان الشاعرة بشرى البستاني حاولت ان تُعلي من شأن تجربتها ومضمون قصيدتها من خلال شبكة العلاقات المجازية والرمزية المعقدة والانزياحات التي جعلت من القصيدة تؤدي وظائفها الجمالية في التعبير عن تلك التجربة عبر الانحرافات والخروقات اللغوية التي تمتعت بها القصيدة، والتي تجلت في صورها التجريدية، والصور التي سعت من خلالها الى أنسنة الجمادات وإضفاء الروح عليها.
ولعل اهم سمة لغوية في الشعر العربي المعاصر تلك القدرة على انسنة الاشياء والجمادات ومظاهر الطبيعة والحلول منها من خلال الاقنعة والتقمص والتناسخ، ومنحها الحياة حتى غدت الأشياء كلها ترفل بحوارية انسانية فاعلية، وكأن الشعر يرد رده الحاسم على عمليات ابادة الحياة في المنطقة العربية كلها من المحيط حتى الخليج باضفاء الحياة على كل شيء حد الاعجاز الخارق او الاسطرة، وهكذا يستبدل الشعر رموز الرواد واساطيرهم ومعادلهم الموضوعي واحلامهم اليوتيوبية بلغة جديدة، لغة تكتفي بذاتها ليس لكونها نظاما إشاريا فحسب، وانما بوصفها مجموعة من الانساق المعرفية المترابطة داخليا بقوانينها الجديدة القادرة على الانسنة والتلوين وبعث حياة جديدة في زمن جديد هي حياة الشعر وزمنه. (
[64])
ان المشاهد الصورية والنعوت التي صورت من خلالها الآخر، انما هي اضافة من قبل الشاعرة الى آلة الخصم(الدبابات)، وما عبرت عنه في متن الفقرات الشعرية، والشاعرة في كل ذلك انما سعت الى فضح المشروع الاستعماري المهين، وحاولت تفكيك الانموذج الواهم الذي يتزعمه الآخر وتعرية وجهه المتسلط، في صورة ابرزت انتفاء المرتكزات الاساسية للحوار الحضاري، فـ«فكرة الصراع الحضاري، او التحدي الحضاري، او ما يسمى صراع البقاء للاقوى، او الصراع الطبقي، هي الاساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية، بمذاهبها المتعددة، وطبقاتها المتنوعة، والصراع يعني – فيما يعني – محاولة الغاء الآخر بشتى الاساليب والوسائل، لذلك فان اية حضارة، او ثقافة، تفتقد النزوع الإنساني الحر، وتقوم على العرق، او الجنس، او اللون، او الطبقة، هي حضارة تمييز وتعال بطبيعتها، الامر الذي يقودها الى الاعتقاد بان البقاء مرهون بالغاء الآخر، لذلك تصبح الطبيعة العدوانية من اخص خصائصها، وان لم نقل: انها في الاصل تقوم على الفكرة العدوانية، لانها تنظر الى الآخر نظرة دونية، وتحاول ان تصرعه، وتتغلب عليه، وهذا يستدعي استعماره، واسترقاقه، واستنفاد طاقاته، ليبقى صريعا»([65]) فالحرب في أساسها قائمة على الإكراه، إكراه الآخر على قبول ارادة العدو بالقوة، وتبعا لما سبق فان الآخر غير مستعد لاي حوار حضاري، حيث ان طرفاً ادواته (الغزو/ القتل/ السلب/ الحقد/ الموت) لا يمكن ان يدخل في حوار متكافئ مع غيره، فحضارة هذا شأنها لا يمكن ان يكون عندها ادنى احترام لقيمة اي انسان يكون خارج منظومتها المركزية.
إن الشاعرة وهي تحاول ان ترسم لنا صورة لبشاعة هذه الحضارة فإنها تسعى الى ابراز كل ما يعزز هذا المشهد المأساوي، عبر حركة الفعل الشعري (تدور)، اذ تشكل الشاعرة من الفعل المضارع منظومة من المعاني المتعددة التي تضفي نشاطا حركيا مكثفا لصورة اللازمة الشعرية، فالشاعرة وهي تصور لحظة تاريخية حاضرة، فإنها تستحضر ماضيا أليما عبر سلسلة من الانتكاسات التي تعرضت لها الامة في تاريخها الطويل، فالفعل (تدور) يضعنا امام صفحة من احتلال بغداد على يد التتار، وبدوران عجلة التاريخ التي لا تهدأ عادت هذه الحروب مرة أخرى:
(ثانية يوغل هولاكو في قمصان المدن التعبى
ثانية يقطع هولاكو
شريان الحبر الأسود...
هولاكو يترصدني...
يقطع رأسي،
يودعه في صندوق مقفل....
يرميه في البحرِ
يدور البحرُ
اللعبةُ ترتدُّ على نحر البارجة الأمريكية ... ). (
[66])
إن هولاكو من خلال الأفعال التي نسبت اليه يصير يد الامريكي الشرير، بينما تتكثف إرادة شعب كامل وملايين أمة غفيرة لتصير ذاتا تمثل المجموع هي الذات الشاعرة، ان همجية التتار التي قتلت وعبثت ودمرت وحاولت قطع شريان الحضارة الانسانية في بغداد (شريان الحبر الاسود)، لم تنته بانتهاء احتلال التتار لبغداد، ذلك ان عجلة التاريخ بقيت تدور لقرون كثيرة على الامة، تحمل حقدا متوارثا، فمرة ترفع راية الحروب الصليبية، ومرة الاستعمار/ الاستخراب، ومرة تأتي لتعلن راية التحرير ونشر التقدم والاستقرار، اللعبة نفسها ولكنها باسلوب جديد وبنوايا متعددة، واهداف اكثر دمارا، وبخاصة حينما يرتبط هذا الغزو الجديد بالخيانة العربية:
(بغدادُ...
اللوعاتُ...
العبراتُ...
الطعناتْ...
ظهرك ينزفُ...
مفتاحكِ ثانية في جيب الأمريكيِّ
يخضِّبه الدمْ... ). ([67])
اننا ازاء هجوم استعماري مبني على اسس تاريخية وليس وليد اللحظة الحاضرة او وليد مصالح آنية، ولذلك فان استخدام الشاعرة مفردة(الحقد) يعزز هذا المعنى (دبابات الحقد تدور)، فالمقاصد التي حركت المعتدين قديما هي نفسها المقاصد التي حركت الاستعمار الامريكي على احتلال العراق.
ان الفعل المضارع (تدور) مثلما يؤكد تاريخية الصراع الذي تمر به الحضارة العربية، فانه وفي الوقت نفسه يضعنا أمام معنى الاستمرارية الذي يتصف به هذا الفعل، مثلما يضعنا ايضا ازاء معنى المستقبل، بمعنى ان الحدث بدأ ولا يزال وسيستمر ايضا، وان احتلال العراق ليس الا المرحلة الاولى من مسلسل الاستعمار الجديد، وستدور الدوائر على الآخرين، فالعراق ليس الا جزءا من كيان كبير اسمه الوطن العربي، وهذا ما أكدته الأحداث الجارية في المنطقة العربية.
وتحاول الشاعرة ان تقدم لنا مشهدا رائعا وصورة متميزة، تعبر من خلالها عن رؤية فريدة للحظة التاريخية التي يمر بها العراق/ الحضارة، وهو يواجه العدوان الحضاري(حضارة الآخر)، اذ تسعى
الشاعرة الى رسم لوحة من خلال استعارتها وتوظيفها للوحة بيكاسو المسماة بـ(جرنيكا)*:
بيكاسو يرسم جرنيكا أخرى...
يرسم بغداد طريحة أقدام الغوغاءْ
والحريةَ عود
يعزفه القزم الموؤد..
ألواحُ متاحف بغداد بكف الريح...
والثور الآشوري الباسم مرتعبٌ
غادر مرتبكا
وبكى.....
في أركان المتحف والمنعطفاتْ
كانت قيثاراتْ
سومرَ تعزف لحن الحزنْ.. ([68])
إن الشاعرة بقدر ما تنجح في توظيف لوحة (الجرنيكا) في قصيدتها وهي تصور مشاهد الدمار الذي حل بالعراق وعاصمته بغداد، فهي في الوقت نفسه تبتكر جرنيكا جديدة، تكون صاحبتها الذات الشاعرة نفسها، فبين لوحة بيكاسو ولوحة بشرى البستاني علاقة تقابل وتشابه لعل أبرزها ان بيكاسو الاسباني رسم لوحته تعبيرا عن الدمار الذي حل بوطنه اسبانيا التي هي بلاد الاندلس، أما الجرنيكا الجديدة التي رسمتها الشاعرة العراقية فهي للعراق، وفي ذلك التفاتة متميزة من الشاعرة جعلت الأندلس متآصرة ومشتبكة في آلامها ومعاناتها مع العراق، من خلال عنوان قصيدتها (أندلسيات لجروح العراق)، فضلا عن ذلك فقد استطاعت الشاعرة ان تجعل من آلام اسبانيا والعراق من خلال الجرنيكا متقاربة شكلا ومفترقة في بعض مضمونها، فاذا كانت مدينة جرنيكا الاسبانية قد دُمرت بفعل الهمجية النازية، وذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء، فان جرنيكا بغداد كانت الابشع والاكثر همجية والاعتى من نازية ألمانيا، فالهجمة الجديدة لم تكن ضد الإنسانية فحسب بل كانت هجمة حضارية، لم يسلم منها شيء، فالواح متاحف بغداد بكف الريح / والثور الآشوري الباسم يغادر وهو مرتبك يبكي / اما قيثارات سومر فهي تعزف لحن الحزن، اننا امام حضارة تنهد وتحتضر بفعل همجية العدوان الذي توجه الى عمق هذه الحضارة ليجتث جذورها ويقطع اوردتها ويحولها من ثم الى غوغائية تتحول فيها معاني الحرية الى اوتار مزيفة يعزفها من حارب الحرية وكان عدوا لها، فالمفارقة التي صنعتها الشاعرة في قولها (والحرية عود يعزفه القزم الموؤد)، هي اشارة الى المحتل الذي جاء ينادي بالحرية وهو عنها بعيد كل البعد، فالحرية والديمقراطية لم تعرف في امريكا بقدر ما عرفت في موطن الحضارات الراسخة الجذور عبر العصور وفي طليعة هذه الحضارات الشرقية العراق، فالعود وهو آلة موسيقية عربية تقصدتها الشاعرة لأنها الحرية المتحضرة بالفن، والتي لا يعرف العدو العزف عليها.
ان توظيف الشاعرة للوحة الجرنيكا بمرجعيتها التاريخية واللحظة التي كتبت فيها انما هو تنبؤ من الشاعرة الى ما ستؤول اليه الأمور بعد الحرب في العراق، فبيكاسو الذي رسم لوحته انما رسمها وبلاده اسبانيا كانت غارقة في الحروب الأهلية التي راح ضحيتها الكثير من الابرياء، وربما لفظة (الغوغاء) هي اشارة واضحة للمسار الذي ستؤول اليه احوال البلاد بعد الاحتلال.
وتسعى الشاعرة الى إعطاء تصورها لهذه اللحظة من الزمن وما يحدث من احتلال لبلدها وما سيحدث بعده، اذ تحاول ان تحلل هذه الأحداث من وجهة نظر سياسية عبر التحليل والتأويل والتنبؤ وكأنها تقرأ الآخر قراءة فكرية سياسية:
دبابات الغزو تدور
في مائدة قربي الامريكيةُ كانت
تفتح تحت الشمس ضفائرها
وتشكِّل من خُصَلِ الشعرْ
اروقةً
دولاً
وخرائط اخرى
ومجندةٌ عاشرةٌ
كانت تتأمل في وهج الشمس مغازلها
والأفقْ
ثعبانٌ يتلوى في ظهر معتمْ...
والشمسُ العربيةُ سوداءْ
كانت عبر نوافذ بيتي
[69])
ان نص الشاعرة السابق يظهر وعيا ناضجا في قراءة الواقع الفكري والسياسي في هذه اللحظة الراهنة من تاريخنا وما يليها، إنه الفن المستشرف الحادس الكاشف، اذ يسعى الى ان تصور حضارة الآخر من خلال رمز المرأة الذي يومئ الى حضارة أمريكا (الامريكية كانت تفتح تحت الشمس ضفائرها وتشكل من خُصَلِ الشعر أروقة دولاً وخرائط اخرى)، اذ ان ما تسعى امريكا اليه عبر توجهاتها المتعددة من احتلال عسكري وغزو ثقافي فكري انما تحاول جاهدة للسيطرة على العالم وإخضاعه لمبدأ" الاحادية" التي تتفرد بالهيمنة على العالم كله ولا تقبل حوارا على اساس "الندية"، بل تسعى الى اعادة تشكيل العالم بالصراع على وفق الانموذج الاميركي الذي يعكس ممارسات القطب الاوحد بهويته ومرجعيته، محاولة فرض إستراتيجية تقوم على محو الآخر وإلغائه ومحاربة مقوماته الحضارية وطمس هويته ليستحيل العالم الى دائرة مغلقة يتم من خلالها احتواء عقل الإنسان ومصادرة ارادته وتفكيك بنيته الثقافية وأنظمته الفكرية لصالح حضارة واحدة هي حضارة الاقوى بتجلياتها المتعددة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واعلاميا ولغويا، وكأن امريكا بحضارتها وطروحاتها تلك قد آمنت بمقولة لـ"اينشتاين" ((العالم اما كل واحد واما لا شيء))([70]).
وفي مقابل حضارة الآخر (امريكا) نجد الشاعرة ترسم لنا صورتين الاولى (والافقْ / ثعبان يتلوى في ظهر معتم) اشارة من الشاعرة الى الصهيونية التي يُرمز لها بالثعبان ودورها في الصراع الحضاري، علامة على تحكم الصهيونية مع امريكا بمصائر البشرية، اما الصورة الثانية فهي موقف الامة العربية ازاء كل ما يحصل، اذ ان الشاعرة تنظر الى ذلك الموقف من منظور سلبي بفعل ما قدمه العرب عبر كل التحديات التي واجهتهم من مواقف محزنة يهيمن عليها الوهن والسلبية وتسلط الحكام وغياب الارادة الحرة ولاسيما من خلال مواقفهم من مواجع العراق وحصاره وتكالب الاعداء عليه (والشمسُ العربيةُ سوداءْ / كانت عبر نوافذ بيتي/ تبكي في عز الصيف)، فعلى الرغم من ان الشمس العربية التي اشرقت على الغرب في لحظات تاريخية مجيدة وهي بيضاء ناصعة حاملة معها النور الذي اضاء في يوم ما سماء الغرب المعتم، نرى الشمس العربية اليوم وهي في حالة كئيبة سوداء تبكي، وهذه الحالة من تصوير الذات العربية من قبل الشاعرة تجعلنا ننتقل الى المحور الثاني من بحثنا وهو (الانا الحضارية ومواجهة الآخر).
* * *
ثالثاً / الأنا الحضارية ومواجهة الآخر:
تتحرك الذات الشعرية في القصيدة في صورة تجعلها تعبيرا عن الانا الحضارية ليس بوصفها (انا) المغلوب على امرها، بل نراها (انا) تقف على مسافة من الآخر، بوصف هذا الآخر نداً تستطيع مطاولته، وهذا الموقف الحضاري للذات الشعرية تجعلنا ننظر اليها على انها ذات غير مستسلمة للواقع الذي تتحدث هي عن مأساته، فعلى الرغم من اللحظة المنكسرة التي تمر بها الذات وهي تواجه حربا شرسة غير متكافئة من الناحية المادية، الا ان الروح المعنوية التي تتحلى بها تجعلها ذاتاً صامدة متحدية ومتسلحة بكل ما تمتلك من ارث حضاري ساعية الى ان تتخطى كل المعوقات التي تواجهها.
وكما قلنا في مقدمة بحثنا: ان الشاعرة في مجموعتها (اندلسيات لجروح العراق) تبدو رومانسية للوهلة الاولى، الا انها كانت تحاكي آلامها وجراحها التي تماهت مع جروح العراق، لتصنع الشاعرة من هذا التماهي معادلة شعرية المتكلم فيها الذات والمضمون هو العراق، فذات الشاعرة ليست ذاتا منفصلة عن محور القصيدة ولا هي ذات رومانسية تتحدث عن واقعها الخاص، بل هي ذات متداخلة ومتغلغلة في الـ(انا) الحضارية لشعبها وأمتها وماضيها الذي تعبر عنه من خلال تمظهرات عدة.
وقد اتكأت الشاعرة في التعبير عن (الانا) على الفعل المضارع بصورة مكثفة، وهذا ما يظهر منذ بداية قصيدتها:
تسائلني الاسلحة العزلاء عن السرِّ
وأسألها عن نبض الفجر
واجثو عند خزائن بغداد وآشور
امسك قلبي من وجع التفاح
عناقيد النخل على الاعواد
الكابوس يعاودني
اشهق في قاع الجب
وابحث عن سيارة اهلي
اسأل غصنين ينامان
على صدري..
عن سر الجبل الصامت في قلب الصحراء
ارقى درجات الوجد
مغمضة العينين
[71])
يهيمن الفعل المضارع على هذا المقطع هيمنة الواقع المُدان، إذ تبدأ الذات الشاعرة قصيدتها من خلال منظومة فعلية متجلية في الحاضر المستمر المتتابع عبر سلسلة من الصور الشعرية المكثفة التي تعبر عن قدرة متميزة في رسم المشهد المكثف الذي تريد أن تصل إليه الشاعرة وهي تصور واقعها بوصفها ذاتا غير منفصلة عن واقع العراق/الحضارة، اذ تعتمد على حركة الفعل المضارع في بناء حدثها الشعري (تسائلني/أسأله/اجثو/امسك/يعاودني/امسك/ابحث/اسأل/ينامان/اشهق)، لاسيما وان الفعل المضارع ((يعد مركز الزمن اللغوي فهذا الزمن له مركز مولد محوري معا في حاضر استعمال الكلام وكل مرة يستعمل فيها المتكلم الشكل النحوي للحاضر أو الذي يقارنه بموضوع الحدث كمعاصر لاستعمال الحديث الذي يبنيه وهذا الحاضر يجدد ابتكاره كلما تكلم الإنسان لأنه حرفيا لحظة جديدة غير معيشة بعد وهذا ما يجعل النص يختزن طاقته وتجربته القابلة للتجدد مع كل قراءة، وبنية الزمان في النص وهي المحصورة في الحاضر تعطينا إمكانية مهمة لإدراك العالم المقدم لنا من طرف الشاعر)). ([72]) فاقتصار المقطع هنا على المضارع التام حصرا دون الاستعانة بالماضي ولا الأمر ولا الفعل الناقص يؤكد ((الانهماك التام بلحظة الحدث لافتا لأهمية الوقائع السوداء التي تجري فيه))([73])، كما ترى الشاعرة.
إذ من خلال هذه الأفعال المضارعة تسعى الذات الشاعرة الى رسم مشهد من الواقع المؤلم الذي تمر به هذه الذات، فهي تستحضر قدرات الانا الحضارية التي تمتلكها الأمة الا انها غير مفعلة في رد غزو الآخر، ولهذا نراها تستنطق (الاسلحة العزلاء) عن السر، تلك الأسلحة التي بقيت صامتة لا تنطق ساكنة لا تتحرك، وهي تسأل تلك الاسلحة عن (نبض الفجر) الامل البارق الذي يكشف عن طريق الخلاص من حدة الازمة التي تمر بها الذات، فالامة تمتلك من القدرات ما تستطيع ان تصد به اعداءها عن النيل منها الا ان الواقع المرير المشتبك بسلبياته والذي تعيش خذلانه جعلها بعيدة كل البعد عن تلك القدرات بل هي بعلم او بدون علم منها تمنح تلك القدرات للعدو أسلحة مضافة لأسلحة عدوانه عليها ناسية هذه الحقيقة ومستهينة بها، ولذلك نرى الشاعرة تحاول ان تستعرض بعضا من هذه القدرات:
(خزائن بغداد وآشورَ
عناقيد النخلْ
اسأل غصنين ينامان على صدري
عن سر الجبل الصامت في قلب الصحراءِ
وامسك برقَ البلور).
ان الذات الشاعرة تسعى الى ان تستحضر قدرات العراق المعنوية والمادية، فهو موطن الحضارات الاولى في العالم(خزائن بغداد وآشور) وهو كذلك موطن الخيرات(النخيل / دجلة والفرات / الصحراء وما فيها من كنوز النفط والمعادن )، الا انها تختم مقطعها بافضل ما تمتلك هذه الامة وهذا البلد (وامسك برق البلور)، والبلور في احد معانيه (الرجل الضخم الشجاع) كناية عن صلابة إنسان هذا الوطن المستباح، الا ان السر هو في الخيانة العظمى لهذه الامة وليس فيما تملك تلك الامة التي تركت بلدا عظيما للاعداء وباعته بابخس الاثمان، (اشهق في قاع الجب / وابحث عن سيارة اهلي)، فالشاعرة توظف قصة النبي يوسف (عليه السلام) تلك القصة التي تعبر عن خيانة الإخوة لأخيهم النبي صاحب الرسالة في إشارة خفية لشمولية المؤامرة من جهة وكونها مكشوفة من جهة أخرى، فضلا عن يقين خفي بانتصار الرسول حامل الرسالة ولو بعد حين.
والشاعرة في متن قصيدتها تسعى الى اغناء هذا المشهد الحزين من الخيانة والخنوع والضعف الروحي من خلال مشاهد عدة، فمرة تستعير صورة من الحديث النبوي الشريف الذي وصف فيه الامة في حال ضعفها الذي سيكون فيما بعد بانه (غثاء كغثاء السيل):
دبابات الغزو تدور...
فوق الدبابة قبر رسول الله يصيح:
غثاء السيل،
[74])
ومرة من خلال صورة (الطلقات الخلب) إشارة الى خواء المقاومة الحضارية المطلوبة من الأمة وهي حاوية كل الماديات القادرة على المجابهة:
غبار الطلقات الخلب يوجع قلب الأرض
يتكئ الزيتون على ورد الشيح
[75])
وتسعى الشاعرة الى رسم صورة أكثر بشاعة من (الطلقات الخلب) فاستباحة شرف النبلاء بفتياتهم دفعهم لاغتيالهن حرصا عليهن من الاغتصاب، فهل كانت الشاعرة تستشرف ما سيجري في سجون العراق من ظلم وانتهاكات:
الآباء
يخفون الطلقات بصدر العذراواتِ
ضفائرهن على الرملِ
يخضبها الدمْ
[76])
..................................
دبابات الغزو تدور
فوق الدبابة زنار مقطوع
عطر صحراويٌّ يتدحرج في المنعطفات
[77])
...............................
منكفئ مثل حصان مهجور..
جرحي...
تلفحه الشمس العربيةُ
[78])
وقد اتخذ ضمير المتكلمة (انا) الشاعرة هنا صورا عدة للتعبير عن ذاته التي هي بالضرورة ذات العراق/ الأمة / الحضارة / الإنسانية المجروحة، ومن هذه الصور صورة (الانا) الحضارية المحاوِرة، صورة (الأنا) الدالة على الحب والسلام، وصورة (انا) الأمل..الحلم، المستقبل والتفاؤل، وصورة الحضارة القوية بجذورها.. والمنكسرة اليوم:
الانا
الحب السلام الحوار حضارة (الانا) الامل
أما صورة الأنا (المحاورة) فقد اعتمدت الشاعرة في التعبير عنها أفعالا مضارعة دالة على المحاورة: (تسائلني/اسألها.. يستدرجني/استدرجه.. تعطيني/ أعطيها)، وفي هذا دلالة على معان عدة لعل اهمها ان الذات المتكلمة داخلة في صراع مع الآخر في مواجهة محتدمة ومتكافئة، فهي تقاوم المحتل مقاومة الند للند، اما المعنى الثاني فمما لا يخفى على احد ان الأفعال السابقة فيها دلالة على المفاعلة التي تدل على المشاركة والمحاورة، وهو إشارة إلى ان الذات لا تواجه الآخر الا من خلال الحوار الحضاري بدلا من الصراع العسكري والثقافي، فحضارة (الأنا) حضارة إنسانية.. حضارة رحمة، وحب، وهداية، واحتساب، واعتراف بالآخر، وليست حضارة حقد وصراع.. هي حضارة الإنسان، التي تدعو الى الحوار على كلمة سواء، وتعتمد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتتنكر للإكراه في الدين، وتبتغي إلحاق الرحمة بالعالمين، لان الناس، كل الناس، هم محل الخطاب السماوي.. والقوة في الإسلام إنما تشرع حتى تُحمى حرية الاختيار وتحقيق إنسانية الإنسان. (
[79])
ومن الصور الأخرى التي اعتمدتها الشاعرة في إبراز حضارتها صورة (الانا) الدالة على الحب والسلام، اذ حاولت ان ترسم لنا مشهدا رائعا تظهر من خلاله الحب الذي يكتنف حضارتنا بينما الآخر يطوق هذا الحب ويخنقه، بل يصلبه ويعدمه:
قميص حبيبي في أعلى الدبابة
أعدو خلف عبير العَرَق المتصبّب من كتفيهِ
وراء عناقيد الرطب المصلوب على عينيه
حبيبي يركض خلف رواق اخضرَ
خلف شتاء صهوته الحبُّ
وصبوته الطير الواكن في العشِّ
حبيبي يحمل وسط عويل الريح
أوراد الأرض
وحكمة ربان مجروح... ([80])
..........................
فوق الدبابة منديلٌ لحبيبين التقيا
وسط عباب القصفِ
وتحت النيرانْ
ضمّيني قال لها..
فانهمر البجع الأبيضُ من عينيها
وتوارى الغيمْ
في اعلى الدبابة زهرة فلٍّ
من بستاني
من قطع الزهرةَ
من أعطاها الجنديَّ الأمريكيْ؟
قالت عن بعد وهي تفوحْ
من باب الشمس سأطلع ثانية لاعودْ
نحو ترابٍ ينهض من أرديةِ الحمى
ويلمُّ شظايا الروح... ([81])
إن الشاعرة من خلال تعبيرها عن الحب إنما تسعى لإعطاء الحب معنى الاستقرار والخصب والطمأنينة والتصميم على التواصل مع الحلم والحياة من أجل الديمومة العراقية / الإنسانية التي جاء العدو لمحقها، مما يعزز القدرة على إحباط مشروع الآخر في القهر وكسب الجولة النهائي؛ ففضلا عن ان الشاعرة حاولت ان تعبر عن ذاتها/عراقها/حضارتها بالحب فانها وبالقدر نفسه انما سعت الى ان تضفي على الحب قوة روحية عالية تستطيع بها أن تعيد التوازن والاستقرار والانسجام الى العالم الغارق في انانيته وحقده وكراهيته وهذا ما حاول الآخر نشره وزراعته في أصقاع الأرض، أما حضارة الذات فإنها تسعى الى اعطاء الحب مفهومه الحضاري وبعده الثقافي والإنساني الشامل لعل هذا المفهوم يرسخ عند الناس روح التسامح والسلام ويبعدهم عن روح الحقد والكراهية والحروب، وهل بين (الحب) و(الحرب) غير تلك الراء التي تقف بينهما ؟!
فـ«الفرق واضح بين موقف العدوان الذي تمثله الدبابة وفلسفة الحب التي تعتنقها الذات الشاعرة وحبيبها الساعي نحو رواق (أخضر) بكل ما في الخضرة من رموز التوازن والخصب، وشتاء دافئ بالمحبة يعمه السلام والأمن، وأعشاش طيور لا تبعثرها الصواريخ والمتفجرات، إن الحبيب وسواء كان العراق أم الفارس فهو يرسم مشهد الصراع مكثفا في صورة واحدة: هم عويل الريح، ونحن تسابيح الأرض المتواصلة مع السماء بقيمها العليا وسمو مراميها، نحن الحكمة التي تدرك وتصبر ثم تصنع قراراتها، لكنها اليوم مجروحة بنارهم وعدوان حديدهم»([82]):
حبيبي يحمل وسط عويل الريح
أوراد الأرض
وحكمة ربان مجروح
والشاعرة في نصيها السابقين توظف لونين دالين على ما تصوره وهما اللون الأبيض واللون الأخضر، وهذان اللونان وردا في أكثر من موضع في قصيدتها، فاللون الأخضر ورد خمس مرات: (التاريخ الأخضر)، (الطل الأخضر)، (أجنحة خضر)، (بريق اخضر)، (رواق اخضر)، أما اللون الأبيض فقد ورد في موضعين: (عباءات بيضاء)، (البجع الأبيض)، ومعروف ما لهذين اللونين من دلالات، فاللون الأبيض دال على النقاء والاطمئنان والسلام والراحة فهو «لون الضياء الدنيوي والنور الالهي وهو لون الأرواح الطيبة»([83])، كما ارتبط هذا اللون منذ الأزمنة القديمة بالنهار ومن ثم بالقوة السحرية التي تبدد الأسود أي الليل([84])، ولاسيما ان معنى الصفاء والنقاوة هو المقصود في اختيار اللون الابيض عند المسلمين لباسا اثناء الحج والعمرة وكفنا للميت، فضلا عن دلالته على الطهارة([85])، كما ان اللون الاخضر دال على الخصب والحياة الجميلة والحب، اذ ارتبط اللون الاخضر بالتجدد والانبات كما دل على البعث والنهضة والتجديد([86])، ورمز الى النمو والخلود والامل والنبل، «ان العودة الى مدلولات اللون الأخضر في المعارف الانسانية تؤكد كونه لونا ذا ابعاد كونية، فهو لون الماء والسماء والنار، وهو رمز الحماية المقترنة بالامومة، انه رمز الاطمئنان الربيعي الذي يخرج العالم من صقيع الشتاء الى دفء الربيع، ولذلك فهو لون مبارك في الاديان كافة ولاسيما في الاسلام والمسيحية، فضلا عن كونه يحمل سرا عجيبا لانه يأتي مزيجا من الازرق والاصفر، فهو صورة للحياة والموت والقدر والمصير، كما يحمل في طياته سرا لما يرمز اليه من معرفة عميقة خفية ترتبط بسر الإنبات والامل والعفة والانسجام»([87])، وتعبير الشاعرة بهذين اللونين(الابيض والاخضر) هو اشارة لما تحمل الذات/العراق/الحضارة من هذه المعاني العالية والقيم النبيلة، فضلا عما يخفيه توظيفها لهذين اللونين من اشارة الى المستقبل القريب بانزياح الاحتلال وتبدل الحال نحو غد لا بدَّ أن يكون أفضل حالا، وزمن أكثر حنوا على الإنسان.
في حين ان الشاعرة اعتمدت اللون الاسود للدلالة على كل ما يحيل على اليأس والحزن والالم وانعدام الأمل، وهذا ما يظهر في صورة أخرى من صور تعبيرها عن (الأنا) الحضارية ولكن بصورة منكسرة، فالشاعرة استخدمت اللون الاسود اكثر من استخدامها الالوان الاخرى، واللون الاسود في دلالته يشير الى فقدان اللون ([88])، كما يدل اللون الاسود على ما يستكره ويتشاءم، فالشعراء يعبرون من خلاله على المعاناة والآلام، اذ اقترن هذا اللون بالحزن والحداد ودل منذ زمن طويل على الموت او الشر، ووصف العرب به الاشياء التي كرهوا رؤيتها فالاكباد سود والجبان الخائف وجهه اسود والغربان سود([89])، ولهذا فاللون الاسود ولّد في الشعر نظرة سوداوية سلبية دلت على اليأس والقنوط، ولذلك نجد عند الشاعرة بشرى البستاني كثيرا من الالفاظ التي توشحت بالسواد كمثل (بين الينبوع وبين المشهد قمر اسود)([90]).
(القفص الاسود يعلو في الافق
القفص الاسود يقتنص الشرق)([91])،
(الموجْ / يقتحم القافلة السوداء)(
[92])،
(والسيركُ تحركه الزوبعة السوداء)(
[93])
وهذا التوظيف للون الأسود من قبل الشاعرة يعطي لمشهدها الشعري جوا من الالم والمعاناة والعذاب الذي تكابده في واقعها المتأزم.
وهذا ما تجلى في صورة (الانا المنكسرة) عبر تمظهرات عدة لعل ابرزها تلك الصور التي سعت الشاعرة الى تجسيدها من خلال عرض الرموز الحضارية وهي في حالة انكسار: فــــــ
(جنائنُ بابل ظمأى
يرتعش الصمت على شفتيها
وعلى كتفيها يذوي الورد)([94])،
اما قبور بني العباس فقد
(اتعبها زحف العربات على قلب الأرض)([95])،
في حين بات:
(نبوخذنصّرُ والخلفاء
بجلال يبكون بصمت الليل)([96])،
وغدت
(ألواحُ متاحفِ بغدادَ بكف الريح
والثور الآشوري الباسم مرتعبٌ
غادر مرتبكاً
وبكى)([97])،
أما قيثارات سومر فقد كانت في:
(أركان المتحف والمنعطفاتْ
....................
.. تعزف لحن الحزن.. ). ([98])
إن الشاعرة تعتمد حشدا من الصور التي تستلهم في تشكيلها مرجعيات تاريخية حضارية تتوزع هذه الصور بين تراث خالد من المظاهر الحضارية التاريخية... جنائن بابل.. الواح بغداد.. الثور الآشوري.. قيثارات سومر.. قبور بني العباس.. فضلا عن الشخصيات الحضارية التي تجسدت في نبوخذنصّرُ والخلفاء، وهذه الصور التي تعرضها لنا انما تجسد وحدة الحضارة المتماهية في الزمان والمكان، مثلما تجسد التحام المعطيات الحضارية العراقية القديمة بالمعطيات الحضارية الاسلامية في صورة واحدة لا تنفصل بحيث نرى نبوخذنصّرُ الملك العراقي القديم جنبا الى جنب مع خلفاء بني العباس يبكون، دلالة على ان لحظة الانكسار هي لحظة واحدة جمعت في سياقها حضارات متباعدة الازمان لكنها ملتحمة ببعضها ومتواشجة لأن مبدعها واحد هو الإنسان العراقي، في هذه القصيدة (( تشتبك اعراس التاريخ ومذابحه اشتباكا حميما وعنيفا، فانت لا تجد بغداد معزولة عن غرناطة، كما ان بابل لا تغرق في ركام الازمنة والامكنة البعيدة، بل تأخذ مكانها في مذابح هذا الزمان الموغل في تحولاته،... لا تقف البستاني على مبعدة من حركة التاريخ، ولا تتأمله عبر ذاكرة مسترخية مترفة، بل تجعل من ذاتها نقطة التحام حارة لكوارث الحاضر والماضي، ولامجادهما ايضا... يتم كل ذلك في مزيج دلالي عصي على الفصم )). ([99])
ان الشاعرة تعلن في وضوح ان المعطيات الحضارية واحدة وان تباعدت الازمان واختلفت الاماكن، لان الحضارات كلها انما غايتها هي خدمة الانسان والسير به نحو التطور والتقدم، وبالقدر نفسه فان (حالة الانكسار والبكاء والحزن) التي تجلت أمام المظاهر الحضارية التي ساقتها الشاعرة انما تعزز رفض هذه الحضارة الممتدة لآلاف السنين لحالة الاحتلال التي انتهجتها حضارة الآخر الحديدية الدموية لانها بعيدة عن روح الحضارة الحقة التي يجب ان تقود البشرية الى بر الامان مثلما تهيئ اسباب السعادة لهذه البشرية التي شقيت بهذه الحروب ومظاهر الدمار التي توجتها حضارة الآخر عبر احتلالها العراق، وبذلك فان الآخر يكون مسلوب الأمن النفسي والسلام بهذا الفعل غير الإنساني.
ومثلما وجدنا الشاعرة سعت الى استدعاء المرجعيات التاريخية والحضارية لهذه الامة، فانها وبالقدر نفسه وجدت في المرجعيات الادبية ما يكرس رفضها لهذا النهج البربري في العدوان والاحتلال، ولهذا فان الشاعرة حاولت تشكيل ثلاث صور متميزة اخذت كل صورة مقطعا مستقلا، تمثلت هذه الصور في شخصيات ثلاثة: المتنبي وابي تمام والسياب، واذا كانت شخصيتا المتنبي وابي تمام قد وظفتهما الشاعرة في بداية المقطعين في استدعاءين افتتاحيين، فان توظيفها لشخصية السياب قد اخذ انتشاره في المقطع كله،
فصورة المتنبي تبدأ بـ:
دبابات الغزو تدورُ
المتنبي يشعل اشجار الكوفةِ
والاقمارْ
تتساقطُ في قاع الجبْ ([100])
....................
فالمتنبي الذي مجد انتصارات سيف الدولة على الروم، يعلن رفضه لكل حالات الغزو والدمار من خلال اشتعال الاشجار الذي هو دلالة على احتراق كل ما هو جميل في هذه الحياة، اما تساقط الاقمار، فان للاقمار دلالة خاصة في الوعي الجمعي العربي، فالقمر رمز للخصب والخير، ولهذا فتساقط الاقمار انما يشير الى حالة الانكسار التي تعاني منها الذات، علما أن الشاعرة استخدمت القمر رمزا في اكثر من مكان في قصيدتها، فمرة تستخدم القمر بلون السواد (قمر اسود)([101]) دليلا على تعطيل الخصب وعملية التحول والتطور، لأن القمر لا يستقر على حال، ومرة تستخدم رمز القمر وهو في حالة انكسار (اقمار عشرون انكسرت في شجر الدمع)([102])، ومرة ثالثة تستخدمه متحولا الى وسادة (ياويلي قمر الحلمْ / صار وسادة)([103])، دليلا على مغادرة فاعلية الحركة، واجتماع هذه المعاني كلها في القمر انما يشير الى دلالة الانكسار .. الحزن .. الالم.
اما صورة ابي تمام فتبدأ بـ:
دبابات الغزو تدور
ابو تمام ينشر بائيته فوق ضفافِ
الكرخ، الدباباتْ
صدقت في كتب العرافاتِ
فابو تمام الشاعر – الذي هو وجه من وجوه الحضارة العربية – يرفض الصفحة المخزية لحضارة الآخر المتمثلة في لحظة الاحتلال والدمار، ولهذا فانه اذا كان في بائيته الحماسية الموجهة إلى الخليفة العباسي المعتصم الذي انتفض لنصرة المرأة التي استصرخت به حين نطقت (وامعتصماه) قد كذّب تنبؤ العرافين حين قال:
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب(
فان الحالة الآن تغيرت، وان العرافين والعرافات قد صدقوا في تنبؤهم، والعذراوات قد استبيحت اعراضهن وانكسرت مقلهنّ وليس لهن من معتصم.
اما الشاعر السياب وهو كالمتنبي ابن العراق/الحضارة فقد اعلن رفضه لهذه اللحظة، إذ وظفت الشاعرة رمزه ليغطي مقطعا باكمله على العكس من مقطعي المتنبي وابي تمام السابقين اللذين اخذا جزءاً صغيرا من مقطعيهما، والسبب في ذلك – حسبما نرى – في ان توظيف رمز السياب في مقطع باكمله هو دلالة على حدثية الموقف لحظة الاحتلال اولا، وعلى ان العراق/المحتل هو بلد الشاعر السياب ثانيا، فضلا عن ذلك كله فان ساعة الاحتلال قد بدأت جنوبا حيث البصرة موطن شاعرنا السياب.
تقول الشاعرة:
دبابات الغزو تدورُ
السياب يشكِّل رأساً ينزف منه الحلمْ
ويخطط حورياتٍ تعدو بين النخلِ
وتشعل في اذيال النهر النار
........................
السياب
يعزف أغنية الأمطار وآبْ
مندهشٌ من رمل يتأمل أحذية الجند الأمريكيةَ
باسم الحرية تهوي الأبراجُ
التمثالُ يغادر شط العربِ
البصرةُ تجرح معصمها
كي لا تغفو في زاوية الخندقِ
والسيابْ
يرفع فوق شناشيل الحزنِ
جراح وفيقةََ
ففي هذا النص نجد ان الشاعرة تحشد مجموعة من تمظهرات المتن السيابي (النخل .. النهر .. قصائد الأمطار .. أغنية آب التي تعالج إشكالية علاقة طبقية.. البصرة .. الشناشيل .. وفيقة .. تمثال السياب في شط العرب ...)، وهذه التمظهرات بما فيها رمز السياب نراها تعلن حزنها وحالة الانكسار التي تمر بها الذات الشاعرة التي تدرك بسالة مقاومة البصرة للمحتل بالرغم من آلته المدمرة ونيرانه الجوية، ولهذا فالشاعرة استخدمت المفردات التي تعبر عن تلك الحالة، (ينزف، يشعل، جراح، مندهش، يغادر، تجرح، الحزن، تهوي)، ان رفض الشاعرة الحضاري انما ينطلق من المغالطة التي جاءت مع الاحتلال، فالغزو يسعى الى ان يضفي الشرعية على كل شيء يفعله حتى وان كان منافيا للانسانية، فكل شيء مباح باسم الحرية، ولهذا فالسياب بما تبقى لهذا الرمز من مظهر متمثل في التمثال المعدني الموجود على ضفاف شط العرب يغادر رافضا تلك المبادئ التي تقوم على قتل كل شيء باسم الحرية!
«إن نص الأندلسيات يلوذ برموز القوة في التراث العربي والعراقي، فالسياب بالرغم من معاناته ومن مرضه إلا أنه واحد من رواد الثورة والتغيير والتطوير في الشعر العربي الحديث، وأحد أهم المبدعين الذين نهضوا بهذا الشعر نحو مغادرة سكونيته والركود الذي رافقه قرونا باتجاه حركة فنية عارمة رافضا مهادنة التقليد، متطلعا لتحرر ثوري تقدمي حقيقي يحفز الفن نحو الأجمل؛ ولهذا كان دوره في هذا النص عارما بالرفض واستنكار تزييف الشعارات». (
وعلى الرغم من اللحظة المؤلمة التي تمر بها الذات، وعلى الرغم – ايضا - من الانا المنكسرة التي عبرت من خلالها الشاعرة، إلا أن روح الأمل والتفاؤل والغد المشرق تبقى نابضة حية متوقدة في انساق قصيدة شاعرتنا الدكتورة بشرى البستاني وهذا ما يظهر في صورتها المشرقة عن (انا) الأمل.. المستقبل، وهذه الروح الحرة التي تنظر الى الأفق في توهجه المنتصر تطلع علينا منذ الصفحة الأول في مجموعتها
الشعرية (أندلسيات لجروح العراق)، اذ ان الشاعرة تهدي مجموعتها هذه (الى قمر عراقي سيطلع )، وهذا الإهداء يعزز روح الشاعرة في تجاوز أزمتها الحالية وعبورها الى الضفة الأخرى حيث الحلم بالانتصار، لاسيما وان الشاعرة عبرت عن هذه اللحظة بالفعل المضارع المرتبط بحرف السين الدال على الاستقبال، حيث ان هذا الحرف – بحسب رأي النحاة – يفيد الوعد بحصول الفعل([108])، وهذا الاستفتاح بهذا التعبير هو اشارة من الشاعرة في البدء إلى ان الألم والحزن والمعاناة التي تتخلل قصائدها انما يكمن وراءه امل في الخلاص وهذا الأمل هو ليس حلما مستحيلا وإنما هو حلم بحقيقة ستتبدى في الواقع والوقت وحده هو الفاصل بيننا وبينه، وما أسرع ما يمضي الزمن ليلوح الحلم، وهذا ما نلمسه في تعبيرها (الى قمر عراقي سيطلع) اذ ان طلوعه حقيقة واردة والقضية متعلقة بانتظاره، لاسيما وأن الشاعرة مولعة بالانتظار، والقمر - كما سبق - رمز للتبدل الزمني والخصب والخير والنماء وتبدل الحال من حال الى حال، ولذا فان الشاعرة تعتمده رمزا تحمله حمولات مكثفة من التفاؤل وتعقد عليه الأمل في الخلاص، مما جعل القمر لديها وكأنه المنتظر او المخلص، وهو ما تبدى أيضا في ثنايا قصيدة الشاعرة:
حقل الزيتون الغارق في قطرة دمع
يتحداهم في القمر الطالع
إن المفارقة الحادة الكامنة في غرق حقل الزيتون بقطرة دمع تعبر عن فداحة الظلم الواقع على امن الحياة وسلامها من جهة، وعن حجم الدمعة/ الحزن القادرة على إغراق حقل الزيتون. إن تشكيل مثل هذه الصورة داخل إطار سوريالي – كما ترى الشاعرة - لا يعني الخروج نحو اللا معقول ما دام اللامعقول صار هو القاعدة التي تشكل الواقع المرير، ولا عجب في غرق حقل الزيتون بقطرة دمع حينما تكون الدمعة بحجم وجع العراق وآلام شعبه وجروح إنسانه، لكن المفاجأة تكمن في أن حقل الزيتون وهو غارق بالدم لا يستسلم للوهن ولا العذاب، بل يتحدى، إنه بشجره الكثيف الباذخ والدائم الخضرة يبصر القمر طالعا خلف كوارث الدار، وهذا ما يجعل لتحديه معنى أبعد من المغامرة الخالصة، معنى قائما على الارادة الحرة التي يؤازرها وعي عميق بصراع الحضارات وأهمية الصمود والصبر في حلبة هذا الصراع حتى يتحول بالجهد الانساني المخلص والواعي لحوار حضارات. ([110])
إن انتظار المخلص او المنتظر المتمثل بـ (القمر) الذي يحمل في التراث العربي قدسية الالهة قبل الاسلام، لا يقف عند الشاعرة في حالة سلبية ساكنة جامدة، بل تستحيل حالة الانتظار الى حقيقة واضحة لا لبس فيها، اذ ان حالة الانتظار توحي في اكثر الاحيان باليأس او انقطاع الرجاء او التململ، اما في نص البستاني فان انتظار القمر يتحول الى حقيقة يتمخض عنها الانتصار وانزياح المحتل وخروجه:
تهوي الألواح على مائدة ظمأى
يشتعل الوردُ برمل الحزنِ
واردانِ النخلْ
ان مغادرة المحتل هو إيذان بالانتصار، بل هو الانتصار عينه، ليس الانتصار المادي فحسب والمتمثل في انزياح المحتل عن ارض الحضارة، بل الانتصار المعنوي أيضا والمتمثل في انتصار المبادئ ومنظومة القيم التي تؤمن بها الذات الشاعرة حيث مبدأ الحق والحرية والعدل والاستقلال ومواجهة العدوان والسعي الى التحرير، فضلا عن الإرث التاريخي والحضاري والثقافي الذي تمتلكه الذات وهي في مواجهة مع الآخر، ان هذه القيم وتلك المبادئ هما ما جعل الذات الشاعرة تقف على ارض صلدة قوية من خلال تشكيلات فنية رصينة نهضت بها القصيدة فكانت المعادل الموضوعي لعذاب الداخل، ذلك المعادل الذي تمكن من تحويل بؤس الواقع وقبحه إلى جمال فني عبر النص وهي تواجه أزمتها الحاضرة المتمثلة في الاحتلال الأمريكي للعراق، وعلى الرغم من ان الشاعرة ختمت قصيدتها خاتمة مأساوية بقولها:
مرهقة بغداد
ومجروح معصمها
سرُّ الرمان على وجنتها
يذبل في الأصفاد ([112])
أقول على الرغم من هذه الخاتمة المأساوية فان ومضات الانتصار قد انتثرت في سياقات القصيدة في أكثر من مكان – كما سبق، فالإرهاق يزول بقليل من الراحة والجرح يشفى بالدواء والعناية، والدواء هنا عزيمة وإرادة واستعانة بوسائل المقاومة، وسر الرمان معروف في ديمومته، إذ أن ذبوله موسمي ما يلبث أن يُطلع زهرا يتألق بالأحمر حامل سر الحياة وتوهجها ومضمر فاعلية حركتها، ولعل المطلع على أسرار زهرة الرمان وشجرتها يدرك أي رمز للأمن والسلام والدواء والأسطرة هي، أما الأصفاد فلن تدوم لأن التاريخ علمنا أنها ستؤول إلى تكسر وانحلال عبر الزمن أمام تصميم الشعوب وانطلاقتها؛ وفي هذا دلالة على ان الشاعرة مؤمنة بالانتصار في كل كلمة تقولها وفي كل سطر تكتبه وفي كل تفعيلة تشكلها، وان روح الانتصار تسري في نبضات اسطر قصيدتها التي تستمد فاعليتها من وعي بجذور ماضيها وبؤره التراثية المتألقة ومن فهم لأسباب ما يجري من عدوانات على وطنها وشعبها وأمتها، ومن تجاوب مع الطاقات الكامنة في ضمير إنسان هذا الوطن والامة، ولذلك كان الأمل يطلع من صميم الألم مع كل خفقة من خفقات قلبها، وان روح التفاؤل مبثوثة في ثنايا القصيدة، وما الخاتمة المأساوية الا دلالة على انفتاح حزن بغداد واستمراره في لحظة كتابة الشاعرة لقصيدتها، وان دبابات الغزو ما زالت تدور على معصمها المكبل بالآهات والوجع والمآسي، لاسيما وان لحظة انتهاء الشاعرة من كتابة قصيدتها هي لحظة الاحتلال التي تعيش عذاباتها الذات في الأشهر الأولى من دخول المحتل الغازي.
المصادر والمراجع
أولا / القرأن الكريم.
ثانيا / الكتب:
- الآخر بما هو اختراع تاريخي، جان فارّو، ضمن كتاب صورة الآخر العربي ناظرا ومنظورا اليه، تحرير: الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999
- الإسلام وحوار الحضارات، د. احمد القديدي، سلسلة كتاب الامة الصادر عن وزارة الاوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط: 1، 1995
- إشكالية المكان في النص الأدبي، ياسين النصير. دار الشؤون الثقافية – بغداد 1986
- إضاءة النص، اعتدال عثمان، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط: 1، 1988
- أوراق مشاكسة، مقالات في الفكر والأدب، احمد يوسف داود، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط:1،2001
- أندلسيات لجروح العراق، بشرى البستاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، ط: 1، 2010
- ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي، محمود عبد الوهاب، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة، العراق - بغداد، 1995.
- الثقافة العربية وعصر المعلومات،رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، د. نبيل علي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت ط:1، 2001.
- جدلية الغياب والحضور في شعر بشرى البستاني، اخلاص محمود عبدالله، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط: 1، 2011
- جماليات الفن العربي، عفيف بهنسي، سلسلة عالم المعرفة (14)، الكويت، 1979.
- الحب وإشكالية الغياب في الشعر العربي الحديث، أ.د. بشرى البستاني، دار التنوير، الجزائر، 2013.
- الدلالي في الايقاعي، د. بشرى البستاني، كتاب ضمن سلسلة تصدرها المديرية العامة لتربية نينوى مديرية النشاط المدرسي، شعبة الشؤون الادبية، 2010
- دليل الناقد الادبي، د. ميجان الرويلي، د. سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط: 5، 2007
- دلالات الالوان في الفن العربي الاسلامي، د. عياض عبد الرحمن الدوري، دار الشؤون الثقافية العامة "آفاق عربية"،, 2002
- ديوان ابي تمام، تقديم وشرح د. محي الدين صبحي، دار صادر، بيروت،ط: 1، 1997
- الرائد، معجم لغوي عصري، جبران مسعود، دار العلم للملايين، بيروت، ط: 4، 1981
- الرسم كيف نتذوقه، فردريك مالنز، ت: هادي الطائي، دار الشؤون الثقافية العامة، 1993 بغداد.
- الرموز في الفن / الاديان الحياة، فليب سيرنج، ترجمة: عبدالهادي عباس، دار دمشق، سوريا، 1999، ط:1
- سيكولوجية الابداع في الفن والادب، يوسف ميخائيل اسعد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986
- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د. عزالدين اسماعيل، دار العودة – دار الثقافة، بيروت، ط:2، 1972
- صوت الشاعر الحديث، د. محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، الاردن، ط: 1، 2011
- الصورة في التشكيل الشعري، د. سمير علي الدليمي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط: 1.
- علاقات الحضور والغياب في شعرية النص الادبي، مقاربات نقدية، د. سمير الخليل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط: 1، 2008
- العنوان وسميوطيقا الاتصال الادبي، د. محمد فكري الجزار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
- قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة،، دار العلم للملايين، بيروت، ط: 4
- في نظرية العنوان، مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، خالد حسين حسين، دار التكوين، دمشق، د.ت.
- العلامة الشعرية، قراءات في تقانات القصيدة الجديدة، د. محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، الاردن، ط:1، 2010
- لسان العرب، ابن منظور، دار احياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، ط: 3، د.ت
- مقدمة وستة شعراء، طلال سالم الحديثي، مطبعة دار البصري، بغداد، 1970
- مغني اللبيب عن كتب الاعاريب، جمال الدين بن هشام الانصاري، ت: مازن المبارك، محمد علي حمد الله، دار الفكر، بيروت، ط: 5، 1979
- المقتضب، محمد بن يزيد المبرد، ت: عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت
- موسوعة النحو والصرف والاعراب، د. اميل بديع يعقوب، دار العلم للملايين، بيروت، 1988
- هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، شعيب حليفي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المغرب، ط: 1، 2005
- النقد التحليلي، محمد محمد عناني، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، د.ت.
ثالثا / البحوث المنشورة في المجلات:
- الالوان وكيفية احساس الشاعر الجاهلي بها، د. نوري حمودي القيسي، مجلة الاقلام، ع: 11، 1969
- اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية، غاستون باشلار، ترجمة اودنيس: 95، مجلة مواقف، ع 4، سنة 1982.
- شعرية العنونة، اسميك بحرا.. اسمي يدي الرمل انموذجا، أ.د بشرى البستاني، مجلة الاقلام ع: 2، آذار- نيسان، 2002
- الفعل الابداعي في المواجهة، حاتم الصكر، مجلة الاقلام ع: 3-4، آذار – نيسان، 1993
- ظاهرة التكرار في الشعر الحر، د. صالح ابو اصبع، مجلة الثقافة العربية،ع: 3، اذار1978
- السيميوطيقا والعنونة، د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، ع: 3، الكويت.
رابعا / البحوث المنشورة في شبكة الانترنت:
- بين الأدب والفن والنفس.. الفن ينبع من الألم والحزن: المرحلة الزرقاء عند بيكاسو الدكتور حسان المالح، مقال منشور على شبكة الانترنت، موقع: حياتنا النفسية: www.hayatnafs.com//http
- لوحة الجرنيكا لبيكاسو، مقال منشور على شبكة الانترنت: www.islamonline.net //http:
خامسا / المقابلات الشخصية:
- مقابلة مع الشاعرة الأستاذة الدكتورة بشرى البستاني بتاريخ: 28/6/2012، في مكتبة كلية الآداب / جامعة الموصل.
([3]) اوراق مشاكسة، مقالات في الفكر والادب، احمد يوسف داود، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط:1، 2001: 186
([4]) الدلالي في الايقاعي، د. بشرى البستاني، كتاب ضمن سلسلة تصدرها المديرية العامة لتربية نينوى مديرية النشاط المدرسي، شعبة الشؤون الادبية، 2010: 5-6.
([6]) دليل الناقد الادبي، د. ميجان الرويلي، د. سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط: 5، 2007: 188-189.
([7]) الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د. عزالدين اسماعيل، دار العودة – دار الثقافة، بيروت، ط:2، 1972:306-307.
([10]) منشورة ضمن مجموعة (اندلسيات لجروح العراق)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، ط: 1، 2010. ينظر الملحق رقم (1) و (2) للاطلاع على سيرة الشاعرة بشرى البستاني ونص قصيدتها.
([12]) ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي، محمود عبد الوهاب، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة، العراق - بغداد، 1995: 74.
([13]) السيميوطيقا والعنونة، د. جميل حمداوي، مجلة عالم الفكر، ع: 3، الكويت: 96، وينظر: شعرية العنونة، اسميك بحرا.. اسمي يدي الرمل انموذجا، أ.د بشرى البستاني، مجلة الاقلام ع: 2، آذار- نيسان، 2002: 26.
([15]) علاقات الحضور والغياب في شعرية النص الادبي، مقاربات نقدية، د. سمير الخليل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط: 1، 2008: 66-67.
([17]) العنوان وسميوطيقا الاتصال الادبي، د. محمد فكري الجزار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998: 45
([18]) هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، شعيب حليفي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المغرب، ط: 1، 2005: 11
([19]) في نظرية العنوان، مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، خالد حسين حسين، دار التكوين، دمشق: 181.
([20]) العلامة الشعرية، قراءات في تقانات القصيدة الجديدة، د. محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، الاردن، ط:1، 2010: 43-44.
([30]) اللحظة الشعرية واللحظة الميتافيزيقية، غاستون باشلار، ترجمة اودنيس: 95، مجلة مواقف، ع 4، سنة 1982.
([38]) الآخر بما هو اختراع تاريخي، جان فارّو، ضمن كتاب صورة الآخر العربي ناظرا ومنظورا اليه، تحرير: الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999: 45.
([46]) ينظر: لسان العرب، ابن منظور، دار احياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان، ط: 3، د.ت: مادة: دبب.
([55]) ينظر: الحب وإشكالية الغياب في الشعر العربي الحديث، د. بشرى البستاني، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2013، 144 – 145 ومصادرها.
([65]) الاسلام وحوار الحضارات، د. احمد القديدي، سلسلة كتاب الامة الصادر عن وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، قطر، ط: 1، 1995: 31-32.
* لوحة (الجرنيكا Guernica ) من اشهر اعمال بيكاسو، وقصة هذه اللوحة هي ان في اليوم السادس والعشرين من شهر إبريل (نيسان) عام 1937 قامت طائرات هتلر الحربية التي كانت في خدمة الجنرال فرانكو وحزب الكتائب أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، بقصف المدينة الوادعة (جورنيكا) الصغيرة التي تقع في إقليم الباسك الأسباني والتي خلت من الرجال لأنهم كانوا جميعا في الجبهة، ولم يبق فيها إلا النساء والأطفال والشيوخ وبعض المدافعين عن المدينة. وقد استمر هذا القصف الوحشي لمدة ثلاث ساعات ونصف بحيث سويت المدينة بالأرض، وقد كان الغرض الأساسي من هذا القصف هو اختبار الآثار التدميرية الناتجة عن نوع جديد من القنابل الحارقة شديدة الانفجار على السكان المدنيين، على اثر ذلك قام بيكاسو برسم لوحته (الجرنيكا) وهي لوحة جدارية كبيرة 3،5 / 7،8 متر، وقد جعل بيكاسو من هذه اللوحة العظيمة شاهدًا متوقدًا ينضح بالألم ضد القوة العدوانية البربرية في أي مكان؛ ولذا فإن هذه اللوحة تحمل تحذيرًا للجنس البشري كله ضد الاندفاعات المجنونة التي أطلقت قوى الظلام لتعيث في الأرض فسادًا، وقد عَـدّهـا النقاد أهم وثيقة تدين العدوان على مر التاريخ، وقد ألزم فيها بيكاسو نفسَـهُ باللونين الأبيض والأسود مع درجات متفاوتة من اللون الرمادي، إشارة إلى سوداوية الحرب وبشاعتها، و لكن في مقابل ذلك أصر بيكاسو على أن تكون أي لمسة في اللوحة رمزا على المأساة التي يعانيها أناس باغَـتَهم شبح القتل، كما نلاحظ أنه لا أثر للمعتدين بحيث تم الاكتفاء بتصوير الضحايا والأبرياء والأطفال ضحايا أي عدوان يمارس مهما كانت جنسية المعتدي ومهما كانت دوافعه.
وقد استعمل بيكاسو فيها بعض الرموز التي تدل على الحرب كالسكين والحصان والثور، وربما الثور جاء هنا رمزاً للهمجية والعنف الممارس في الحروب، اما الحصان فيرمز لأسبانيا الجريحة التي تتألم وتصرخ من آثار هجوم النازي، والرأس التي تصيح و الذراع التي تحمل المصباح يشيران إلى الضمير البشري الذي يلقي ضوءا على هذه المأساة و يلومها، وفيها نرى مشهد ذعر وألم وبلبلة يحيط ببعض البشر أثناء حدوث اعتداء عليهم.. منهم من يصرخ ومنهم من يبكي ومنهم من يستغيث أو من يحاول الهرب، ومنهم من ألقي أرضاً صريع هذا الحدث الدموي، فضلا عن إمرأة تصرخ وهي تحمل طفلاً.
وقد أصبحت اليوم لوحة "جرنيكا" رمزاً عالمياً مضاداً للحرب وهمجيتها ومآسيها، ورمزاً احتجاجياً على حقوق الإنسان الضائعة في كل الحروب، ومن الجدير بالذكر ان هذه اللوحة قد تم توظيفها من قبل المناهضين لحرب أمريكا على العراق عام 2003م. ينظر: الابداع في الفن، قاسم حسين صالح، دار الرشيد للنشر، منشورات وزارة الثقافة والاعلام العراقية، بغداد، 1981: 85، وينظر ايضا: لوحة الجرنيكا لبيكاسو، مقال منشور على شبكة الانترنت: www.islamonline.net //http:، وينظر: بين الأدب والفن والنفس.. الفن ينبع من الألم والحزن: المرحلة الزرقاء عند بيكاسو الدكتور حسان المالح، مقال منشور على شبكة الانترنت، موقع: حياتنا النفسية: www.hayatnafs.com//http:
([70]) الثقافة العربية وعصر المعلومات،رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، د. نبيل علي، سلسلة عالم المعرفة،الكويت ط:1، 2001: 411
([87]) مقابلة مع الشاعرة بشرى البستاني، نقلا عن: جدلية الغياب والحضور في شعر بشرى البستاني، اخلاص محمود عبدالله، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط: 1، 2011
([88]) ينظر الى: الرموز في الفن / الاديان الحياة، فليب سيرنج، ترجمة: عبدالهادي عباس، دار دمشق، سوريا، 1999، ط: 1: 420
([89]) الالوان وكيفية احساس الشاعر الجاهلي بها، د. نوري حمودي القيسي، مجلة الاقلام، ع: 11، 1969: 33.