وقفة استهلاليّة مع مصطلح التّجريب:
التّجريب: حركة مستمرّة تدلّنا على التّحوليّة، على اللّاثباث، وعلى لاسكونيّة الكون، سنن كونيّة تنفتح على التّمرّد واللاّخضوع ؛ ولمّا كنّا بصدّد رصد هذه الظّاهرة في رواية "الكلمات الجميلة" لـنبيل دادوة من منطلق أنّه المبدأ ((le principe المنظّم للتّجربة الرّوائية؛ فقد رأيت أنّه من الضّروري أن نقف وقيفة مع مفهوم هذا المصطلح لغة واصطلاحا؛ ذلك أن المخبري يجمع مواده الكيميائيّة قبل شروعه في تجربته.
"إنّ لفظ التّجريب الذّي يقابل في اللّغة الفرنسيّة لفظة (expérimentation) مشتق من التّجربة expérience )) والتّجريب (expérimental) منسوب إليه والتجربة بمعناها اللّغوي العام هي التّغيرات النّافعة التي تحصل لملكاتنا، والمكاسب التّي تحصل لنفوسنا بتأثير التّعريف، والتّجربة هي الاختبار الذّي يوسّع الفكر ويغنيه والمجرّبات كما يقول ابن سينا: أمور أوقع التّصديق بها الحسّ بشركة من القياس"[1]. هذا من النّاحية اللّغويّة، أما المفهوم الاصطلاحي لمصطلح التّجريب فهو:" اختبار منظمّ لظاهرة أو أكثر وملاحظتها ملاحظة دقيقة للتّوصّل إلى نتيجة معيّنة كالكشف عن فرض وتحقيقه"[2]، والتّجريب في الأدب هو تمرد على التّقليدي شكلا ومضمونا، ولا يتمّ هذا إلاّ من خلال نسف المفهوم التّقليدي للقواعد التّقليديّة في الإنتاج الأدبي، وفرض تقنيّات تشكيليّة جديدة يتم معاينتها بعد إتمام المنجز قصد تحقيق المغايرة والجدّة، "وينهض هذا التّكنيك على تنظيم واتصال بين اليد من حيث أنّها أولى أدوات العمل والعين الباصرة، إذ لم يخل التّجريب في أكثر العصور بدائيّة من تنظيم واتّصال بين اليد والمخ، كما لم يخل من عنصر التّفكير والإعمال الذّهني، لذلك فإنّ التّجريب كتقنيّة فاعلة في الأدب عادة ما تعكس حواريتها مع الأوضاع الحياتية المختلفة"[3]، وبالرّغم من أنّ هذه الأخيرة قد وسمت اللّحظة الرّوائيّة العربيّة عامّة والجزائريّة خاصّة منذ بدايتها، فكانت الكتابات الأولى للرّوائيّين الرّواد نهاية القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين تجريبا في كتابات تختلف أو تقطّع مع موروثها في السّرد واللّغة بفعل فواعل شتّى ثقافيّة وغير ثقافية، إلاّ أنّ العقود القليلة اللاّحقة شرّعت السّبيل للتّباين بين رواية تقليديّة ورواية حداثيّة وشرع التّجريب يغدو علامة فارقة للحداثة الرّوائيّة[4].
وقد ارتبطت هذه الرّؤية بالتّغيّرات التّي مسّت نواحي الحياة، فمن الواضح الآن أنّ العالم الذّي نعيشه يتغيّر بسرعة كبيرة، وتقنيات السّرد الرّوائي التّقليديّة أصبحت عاجزة عن استيعاب كل العلاقات الجديدة النّاشئة من هذا التّغيّر لذلك كان من الضّروري البحث عن أشكال روائيّة جديدة ذات قوة استيعابيّة أكبر[5]. ومن هذا المنطلق فإنّ التّجريب قد بدأ في "تلمّس الحقائق التّي تدور حولها الأفكار والأساليب والمنظومات، فيصبح التّجريب نموذجا متقدّما لديمقراطيّة التّفكير والحياة وليكون نهجا للكتابة، مما يسمح بالمغامرة والتّقدّم نحو اكتشاف أكبر للمجاهيل والكشف عن جماليات البشر وما يحيط بهم من طبيعة بيئيّة أو كونيّة"[6]، ولكن كيف يتّخذ التّجريب. طابعه في الرّواية؟
إنّ التّجربة الرّوائية لا تتّصف بالجدّة الحقّة وكذلك القراءة، إنّنا ونحن نحملها معا بعد الإنتاج نميّزها عن إعادات الإنتاج السّائد، وفي مختلف المجالات ولعلّ دلالة الإنتاجيّة بطابعها المتميّز التي نضيفها عليها هي التّي حدت بالكثيرين إلى نعت التّجربة الرّوائيّة الجديدة على سبيل المثال بـ "التّجريب"، وهذا النّعت وإن لم يكن يخلو أحيانا من القدح فإنّ أهم ما يومئ إليه هو تمييز هذه التّجربة عن غيرها من الرّوايات ومحاولتها تجاوزها، وإذا كان هذا يومئ إلى هذه الخاصيّة فهو عاجز عن استيعابها وحصر محدّداتها وضبط مكوّناتها فهذه التّجربة تجرّب أدوات جديدة، وتدخل عناصر جديدة وغير معتادة، هذا ما يلمسه مستعملوا هذا النّعت[7]، وحسب توضيح كريزسكي فالتّطور الرّوائي يمكن أن يكون مدركا بمثابة تحسين لثلاثة قوانين هي: قانون التّكرّر، قانون التّشبّع، وقانون التّحول، فالنّص الرّوائي يكون تكراريا عندما يكون مقيّدا في بنائه، وحركته بعودة نفس التّشكلات التّيمية والشّكلية المتداولة قبل إنتاجه، ويكون متشبّعا من كونه أصبح ملزما بالتّكرار، ولم يعد قادرا على إبراز السّمات الأسلوبيّة المكرّرة باعتبارها علامات خلافيّة، ويصبح تحوليّا عندما يفرز تشكّلات تيميّة وشكليّة جديدة تقف بعيدا عن تلك التّي يعيد الخطاب الرّوائي إنتاجها في فضاءي التّكرار والتّشبع[8]
وممّا تقدّم نستطيع أن نقول إنّ هذا المبدأ قد يتّخذ بعدا إيجابيا في هذه الدّراسة من حيث كونه تجاوزا للتّقليدي ومحاولة صناعة من حيث كونه رغبة في تقديم جنس روائي بعينه له مميّزات وخصائص تجعل منه ملامسا أو مقاربا لأدب الخيال العلمي بعامّة.
1- الالتباس الدّلالي وآليّات التّجريب في "الكلمات الجميلة"
من المعروف أن رواية الخيال العلمي تتميّز بخصائص فنيّة في بنيتها الشّكليّة تميّزها عن نظيرتها في الرّواية العاديّة المتمثّلة أساسا في عناصر الخيال العلمي؛ التّي تضم الإطار المكاني، الإطار الزّماني، الشّخصيّات، النّسيج اللّغوي، الحبكة، السّرد وغيرها، حيث ينصرف المتخيّل الرّوائي إلى المنابع العلميّة المختلفة قصد تأثيث المبنى الحكائي بمقولات علميّة، أو فلسفيّة مختلفة. إنّ هاته المقولات هي التّي تسمو بالعمل الفنّي إلى أفق الرّواية العلميّة؛ ليس من قبيل ثقل المواد المعرفيّة ومفاعلاتها فقط، ذلك أنّ المراهنة على إحداث هذه المفاعلة بمركّبات عالية التركيز قد تؤدّي في كثير من الأحيان إلى الأكسدة، وبناء عليه يجب إحداث الموازنة المعادلاتيّة بينها، وبين الصّناعة الأدبيّة المشحونة بقيم دلاليّة تسمو بالمحتوى السّردي إلى إعادة نمدجة الواقع وفق رؤى علميّة أدبيّة تتماشى مع روح العصر.
وبالعودة إلى رواية "الكلمات الجميلة" فإنّنا نلاحظ افتقار الخطاب الرّوائي للعديد من هذه الخصائص كما نلحظ تشظّي المتخيل بين العلمي الأدبي وبين الأدبي العلمي، ممّا نتج عنه خطابا سرديّا، هو في أبسط حالاته يطرح إشكاليّة محاولة الفصل بين هذا التّشكيل وبين نظيره الأدبي الصّرف، وهي إشكاليّة قد تقودنا لولا بعض الأطر المنهجيّة إلى فكرة التّجنيس التّي أصبحت في هذه المرحلة تمثّل أهم مآزق التّشكيل الأدبي عامة والرّوائي خاصّة. بل إنّ القارئ يقف مشدوها أمام مطلب افتراضي يتضمّن تحديد هويّة العمل المقروء، في ظل تهويماته المتموّجة التّي قد يبدو فيها المتخيّل نفسه شريدا ضائعا، وهذا لا يتمثّل زعما بنمطيّة الرّواية العلميّة ممّا يجعلها قالبا أدبيا قارّا، بل بالإقرار بمطاطيّة الطّبيعة الأدبيّة بصفة عامّة ورواية الخيال العلمي بصفة خاصّة.
وبالرّغم من هذا الرّأي النّقدي النّاحي نحو المباشرة، إلاّ أنّ هناك تسليم بوجود مسوح تجريبيّة تسم الرّواية بنوع من التّميز عن نظيراتها، وإن كنّا نرى أن الحضور التّجريبي قد استقرّ بشكل خاصّ في أحضان النّسيج اللّغوي، ولكنّ هذه الرّؤية لا تلغي المعاينة اللاّمجهريّة للعناصر السّرديّة الأخرى، ولتكن البداية مع الإطار الزّمني باعتباره المادّة المفاعلة الأساسية لكل البنى الأخرى، والتّي غالبا ما تمتصّ خصوصيتها وتتفاعل معها، ضمن مبدأ تكاملي يعكس حقيقة كون هذا الإطار حاملا للتّجربة الرّوائية، وخاصّة في رواية علميّة.
- إنّ التّحديد الزّمني الخارجي وإن كان لا يتجلّى مباشرة في الخطاب الرّوائي كوننا لا نعثر على إشارات زمنيّة تؤطّره تأطيرا كرونولوجيّا دقيقا ومباشرا؛ إلاّ أنّ ما أفصح عنه الخطاب المقدّماتي في الرّواية، فضلا عن بعض التّواريخ المتناثرة في المتن السّردي- والذّي ينزع نزوعا توثيقيّا -تشير أنّه زمن واقعي سابق لزمن الكتابة، في حين يحضرنا زمن النّص الذّي نستدلّ عليه بتاريخ النّشر لاحق لزمن القصّة، وهذا يخرج الرّواية من حقل الرّواية المستقبليّة المشتغلة أساسا على التّصوّر والتّنبؤ بطريقة مباشرة.
وبالرّغم من ذلك فنحن لا نستطيع أن نعدم وجود هذه الغاية في خبايا السّرد المتكشّفة عبر الآليّات التّأويليّة، وفضلا عن هذا التّصور فنحن نلاحظ توحّد الذّات السّاردة بالمادّة الزّمنيّة، وتوحّدها ينبثق من تلك العلاقة الرّابطة بينها وبين الفضاء الزّمني للرّواية. وقد اشتغل التّشكيل الزّمني على الانفتاحيّة، فالزّمن اللامحدود ينفي المبدأ الرّقّي في التّعامل مع الصّياغة الزّمنيّة وهو ما سمح بتجاوز طابوهاتيّة الزّمن شأنه في هذا شأن الكتابة الجديدة التّي احترفت كسر خطيّة السّرد، الأمر الذّي شحن الخطاب السّردي بقيم تأويليّه تغازل الزّمن الاستقبالي وتتحرش به، وتراود الماضي وتتكشّف فيه، ومن هذا المنطلق يمكن القول أنّ الذات السّاردة قد تبنّت سردا شهرزاديّا يخاتل بمضامين قضويّة من شأنها سبر أسرار الزّمن ضمن منطقيّة الحكي.
فالاستباقيّة والارتداديّة تفتح أفاقا أمام الذّاكرة لتنطلق في الفضاء الحياتي، فضلا عن حضور الحلم في المتن الرّوائي، وهو حضور يراهن على اختيار هذه المضامين طبقا لغائيّة السّرد أو حالة الشّخصية الرّوائية المندغمة في هذا الفضاء عبر الحلم "أه يا عمي الحسين لو لم أحلم يوما لما صرت هكذا أترقّب الصّعود وسط هذا العالم"[9].
لقد حاول التّشكيل السّردي الشّهرزادي أن يقدّم كوكتيلا تشكيلّيا ينفتح على ثلاثة أنماط سرديّة أساسيّة: سرد استشرافي، سرد ارتدادي وسرد إضماري؛ حيث يفاجئنا السّرد الاستشرافي بذروة حدثيّة تفصح عن توالد الحبكة فور إقرار الحدث الرّئيس، ثمّ تتكوّر الأحداث الأخرى حول هذه الذّروة حتّى تعود إليه، موفّرا بذلك النّمط الدّائري في تقديمه للأحداث: "الكلمات الجميلة الرّائعة المذاق والحلوة الشّكل تتموقع في كهف من كهوف الزّهرة، والمشكل هو الرّحلة وتكاليفها، ثمّ إتمام برنامج العمل الذّي ينصّ على قتل زعيم الجدران، هذا الذّي يجتمع كل ليلة بأعضاء حزبه النّشطين، والذّي أعرف أنّ واحدا منهم على علاقة ربما حب مع قطتّي الجميلة المصنوعة من العاج المهرّب على ظهور سوداء من إفريقيا إلى هنا، كل ما في هذه المركبة يوحي بالزّمن، كل شيئ هنا يصرخ في جنون كوني تك، تك"[10]
إنّ هذا الاستهلال يؤطّر ويوجّه أحداث الرّواية التّي تدور حول الرّحلة وتحضيراتها وغايتها وفق آليّة الاستباق الاستشرافي، كما نجد هذه الآليّة في وصف الحالة التّي آل إليها المسافرون بعد الرّحلة "و وصلنا إلى حيث يمتد الطيش لم يتغيّر شيئ الا القماش بالنّيلون الحذاء والتّحزيمة"[11]..، إلاّ أنّ السّرد سرعان ما يرتدّ برشاقة ليعاود الحديث عن ملابسات التّحضير للرّحلة من جديد. إنّ شهرزاديّة الحكي تراوغ في تقديم طبقات الحكاية، وكأنّها تتجنّب الإفصاح عن الفاجعة عاملة على تمطيط الزّمن من خلال الارتداديّة التّي تغلّف المضمون السّردي بقدر ما تتكشّف فيه، ويتقدم لنا ذلك من خلال خطاب استفهامي أحيانا؛ كما نلحظ ذلك في المقتطف التالي: "من صنع مأساتي؟ سؤال طرح عليك سنة 1992 ولكنّ الإجابة كانت 07/مارس/1958 حيث تخليت عن الذّكرى تركتها فارغة [mas 49] العبقة برائحة علجية الرّائعة"[12]
أمّا السّرد الإضماري فهو يتوغّل في عمق التّجريد السّردي ليلخّص لنا معطيات الحوصلة الحياتيّة للسّارد الإيكسي الذّي يكاد يكشف عن هويته من خلال المراهنة على ضمير المتكلّم "أنا"، جاعلا منه حبلا سريّا بين النّص والقارئ الذّي يتساءل عن ماهيّة الملفوظ وحقيقة المتلفّظ، وإذا كان هذا الملفوظ يمتلك سمات وملامح ما يجعلنا نتيه داخل عوالم تأويليّة شاسعة، فإنّ المتلفّظ يتحاور مع هذه السّمات والملامح مكرّسا للسّؤال: من هو شهرزاد الحكاية؟ على اعتبار أنّ لفظ شهرزاد يحيلنا إلى قوّة رادعة تمارس طقوسها وسلطتها في عملية المكتابة بالرّغم من تخفّيها خلف الضّمير [أنا].
هذا بالنّسبة للإطار الزّمني، أما الإطار المكاني فإنّ الأحداث كلّها تدور على سطح الأرض، وكل الأماكن الحاضرة في الرّواية سواء بوصفها أمكنة رئيسيّة أو ثانويّة هي أماكن واقعيّة، وقد ذيّل الكاتب روايته بملحق ختامي قدم فيه تحديدا جغرافيّا للأمكنة الواردة في النّص، وعلى رأسها المكان الأساسي والذي هو "أولاد بوفاهة"، وهي دشرة بجبال ولاية جيجل. ونقصد بالواقعيّة أنّها ليست أمكنة متخيّلة كما سنرى لاحقا في رواية "معادلات الحلم" وثانيّا أنّها أمكنة على سطح الأرض أي إنّ الرّواية لا تنقلنا إلى أيّ فضاء خارجي، وبالرّغم من هذا فإنّ التّشكيل الفضائي المكاني في هذه الرّواية قد اتّصف بخاصيتيّن:
الخاصيّة الأولى: هو خضوعها للمخبرة فقد حاول الكاتب أن يمخبر المكان محوّلا إيّاه فضاءً لإجراء أبحاث فضائية، ودراسات فلكيّة وهي محاولة وضعت الفضاء المكاني في عزلة ظاهريا، أمّا الخاصيّة الثانية فهي تجنّب الوصف الهندسي حيث لا نكاد نعرف عن المكان إلا إسمه حتى أنّه في الملحق الختامي حاول أن يكسر هذه الغربة عن طريق التّعريف بها.ولكن ماذا عن الزّهرة؟.
- إنّ كوكب الزّهرة حاضر في المتن السّردي كرمز لغوي أكثر منه كبعد فضائي، ولعلّ ما يعزّز هذا القول أمران:
الأوّل: كون هذه الوحدة اللّغوية تتعدّد دلالاتها حسب سياقاتها النّصيّة وهذا ما سنتناوله في حديثنا عن النّسج اللّغوي.
و الثّاني: هو أن:" المكان الذّي ينجدب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسيّة وحسب، [ أو] مكانا قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط [بل يجب أن يحضر] بكل ما في الخيال من تحيّز"[13]
وهكذا فإنّ الخطاب السّردي لم يحاول التّكريس لفضاء زهري بقدر ما أسّس لفضاء قروي من خلال قرية "أولاد بوفاهة"، أو الفضاء المدني من خلال حضوره المكثّف حيث نجد :عنابة، ميلة، الماركان، وغيرها، ومن ثمّة فإنّ محاولة المخبرة ما هي إلا لعبة تضليليّة تساوم سذاجة القارئ، وهذا ما نلمسه في المقتطف التّالي :"حزمت أمتعتي ونزلت إلى الدّمنة أين وجدت بن رابح، وبن سعد الله يحضران الآلة الزّمنيّة رغم إجراءات الأمن المشدّدة " [14]، أو في قول السّارد :"صرخ في وجهي عمّي الحسين يوما وقد سبقني إلى العشّ كما يسميه هو أو إلى مركز الدّراسات والأبحاث الفضائية كما أسمّيها أنا وجدته أمام التّلفزيون"[15]. وهكذا فإنّ الإطار المكاني في الرّواية قد راهن على الأساس التّجريبي الذّي ارتقى به إلى التّميّز، حيث استطاع استثمار واحدة من أهم موضوعات الرّواية العلميّة وهي غزو الكواكب الأخرى، من خلال توظيف كوكب الزّهرة حتى ولو كان هذا التّوظيف توظيفا رمزيّا لغويّا .
وعلى غرار هذين الإثنين، -التّشكيل الفضائي: الزّماني والمكاني- فإنّ بنية الشّخصية تقف هي الأخرى على هامش الخيال العلمي حيث يؤكّد الخطاب الاستهلالي على واقعيتها "تقريبا كل الأشخاص أبطال هذه الرّواية حقيقيون بكل ما للحقيقة من سطوع، وتقريبا الرّواية موجودة فعلا"[16]، وهذا التّصريح المباشر يدل على سيطرة التّوجه الواقعي على فكر الكاتب؛ بحيث لم يستطع التّخلص منها؛ فوثب في ظلّها إلى ما يعرف بالواقعيّة العلميّة، وبالرّغم من ذلك فقد كان حضور الشّخصية حضورا سطحيّا، وخاصّة فيما يخصّ الجانبين النّفسي والفكري، وهذا ما منح هذه الشّخصيات طابعها الغرائبي في المتن الرّوائي، فالأسماء هي البطاقة التّعريفية الوحيدة للشّخصيّة ــ وهذه الهويّة إمّا أن تحيلنا إلى المرجعيّة الثّقافيّة مثل شخصيّة الخضر الجبايلي، الدّراويش، أم تحيلنا إلى المرجعيّة التّاريخيّة مثل حامد الثّغري أم أنّها لا تحيل إلّا إلى المرجعيّة السّرديّة بحيث ينظر في وظيفة الشّخصيّة في المتن السّردي كشخصيّة "عمّار"مثلا، والتّي تعد نموذجا مثاليا لغرائبيّة الشّخصيّة وذلك كونها شخصيّة معمّرة ممّا منحها بعدا تأويليّا داخل هذا المتن .
بقي لنا أن نتعرّض للتّشكيل اللّغوي والذّي أشرنا سابقا أنّه قد استحوذ على اهتمام الكاتب، ولكن قبل ذلك أودّ الوقوف قليلا مع مصطلح اللّغة. إنّ اللّغة (langue) من أهم العناصر المشكلة للفن الأدبي، ولطالما قيست هذه الأعمال من خلال تشكيلها اللّغوي، "لأنّ اللغة الأدبيّة في العمل الإبداعي أنماط، كما أنها في العمل التّواصلي أنماط أيضا، واللّغة هي مجموعة الألفاظ اللّغوية، وخصائص الأساليب الكلاميّة الّتّي تميّز بها مؤلف ما، أو طائفة اجتماعيّة معّينة"[17]، واللّغة قدرة ذهنيّة تتكون من مجموع المعارف اللّغوية الممثّلة في المعاني والمفردات، والأصوات، والقواعد التّي تنظّمها، فهي تتولّد وتنمو في ذهن ناطق أو مستعمل اللّغة فتمكنه من إنتاج عبارات لغويّة كلاما أو كتابة، كما تمكنه من فهم مضامين إنتاج أفراد مجموعة هذه العبارات، وبذلك تتوافر الصّلة بين فكرة وأفكار الآخرين، وإذا كان للّغة علاقة بالفكر فإنّ علاقتها بالإبداع أوطد، ولمّا كان للإبداع أشكال متعدّدة يجب تنميتها؛ فإنّ تنمية الإبداع من خلال اللّغة يعدّ هدفا أساسيّا من الأهداف التّي تسعى إلى تحقيقها؛ إذ لم يعد ينظر إلى تعلّم اللّغة على أنّه عملية آليّة نمطيّة، وإنّما على أنّه عمليّة تواصليّة بوصفها وسيلة وأداة الكتابة الإبداعية وإتقانها
وبالنّسبة للجنس الرّوائي فإنّ باختين يقرّ بأنّها -أي الّرّواية- تسمح بأن يدخل إلى كيانها جميع أنواع الأجناس التّعبيريّة، سواء أكانت أدبيّة (قصص، أشعار قصائد، مقاطع كوميديا) أو خارج أدبيّة (دراسات عن السّلوكيات، نصوص بلاغيّة وعلميّة ودينيّة ... إلخ) فإنّ أيّ جنس تعبيري يمكن أن يدخل إلى بنية الرّواية، وليس من السّهل العثور على جنس تعبيري واحد، ما لم يسبق له في يوم ما أن ألحقه كاتب أو آخر بالرّواية، ثم يقول: "وجميع تلك الأجناس التّعبيريّة التّي تدخل إلى الرّواية تحمل إليها لغاتها الخاصّة"[18]، ولكن كيف كانت طبيعة اللّغة في هذه الرّواية في ظلّ ظاهرة الالتباس والخيال العلمي؟
لقد كرست البنية اللّغوية في هذه الرواية لنمط خطاب (type de discours) يتفرّد بقدرته النّوعية في استثمار الطّاقة التّخيلية العلميّة، وسعيه إلى دمج التّوجّهات اللّسانيّة المختلفة العلمي منها والأدبي، العامي منها والفصحى، خاصّة وأنّ زمن النّشر يحيل إلى فترة ما أرادت الرّواية الجزائريّة فيها أن تتخلّص من الرّجعية الإبداعيّة، كما مالت إلى خلق مغامرة سردية جميلة تهدف بها إلى ابتكار أفق تعبيري وأسلوبي متميّز سعيا للوصول للصّناعة الاستثنائيّة والمتفرّدة، الأمر الذّي وفّر الإمكانيات والاختيارات المتعدّدة والمتكثّرة.
ولعلّ هذا ما أفرز نسيجا لغويا يتمازج فيه العلم بالأدب في ظل الخيال العلمي، وسنرى من خلال مقاربة هذا النّسيج وصفا وتحليلا وجود هوة بين ما هو موضوعي، وبين ما هو لغوي، وإن كانت هذه الهوّة تبرّر على مستوى ما من حيث أنّها بنية لغويّة تسثمر فانتازيا التّعبير كمعادل فنّي لتلك التّوترات التّي يولّدها السّؤال الحضاري من جهة، وموجة العولمة من جهة أخرى، أو معادل فنّي لتلك العزلة التّي تعانيها الشّخصيات في المتن السّردي، والمتعلقة بشعور اغترابي مرتبط بدوره أساسا بفترات زمنيّة بذاتها.
إنّ القارئ لرواية الكلمات الجميلة سيجد نفسه في مواجهة شرسة مع لغة شاعريّة أدبيّة علميّة تغازل القارئ وجدانيا ومعرفيا في ظل فنتازيا التعبير الخالقة لمعادلات لغويّة كيميو أدبيّة، تستعرض طاقات تعبيريّة قادرة إلى حد ما على زعزعة وخلخلة المألوف اللّغوي في الأعمال الرّوائية الجزائريّة، كما تكشف عن مجهود معرفي يتغلغل في عمق هذا التّشكيل اللّغوي، ومن ثمّة فإنّ الولوج إلى البنية بمعالمها المتنوّعة لن تكون إلاّ من خلال ظاهرة أساسيّة فيها كونها تصنع خصوصيّتها، وتعكس تهويمات المخيال الابتكاري، الذّي يبدو في هذا المستوى متوقّدا مشعا يسحب القارئ من لحظة التّشكيل إلى لحظة اللاّتشكيل، ومن محدوديّة الدّلالة إلى لا محدوديتها، وهذه الظّاهرة هي ظاهرة الالتباس.
وتتشكّل الأخيرة من تعانق ما هو رمزي بما هو أسطوري، وما هو لغوي بما هو ثقافي، وما هو أدبي بما هو علمي، وما هو مهمّش منبوذ بما هو مركزي راقي فاللّغة الانزياحيّة الاستعاريّة ذات التّمظهر الأدبي علمي، واستحضار التّراث يشكّلان وفق مبدأ التّجانس رمزيّة اللّغة، في تشكيل فنّي ينزع إلى الالتباس الدّلالي المتقاطع مع القالب الحواري النّصي الذّي يحاكي التّسجيلية الجديدة
حيث إنّ وقائع الكتابة الرّوائية تستنبط من حالات الأشياء، بل من حالات المرجعيّات المتعدّدة والتيّ تفضي إلى صياغة الحقيقة بطريقة إشكاليّة فنيّة وليس بمجرد تصريح وتقرير هاته الحقائق على حد قول "يمنى العيد". فكل شيئ في جسد النّص يتحول إلى دال له مدلولاته في الفضاء الدّلالي للرّواية ثم تتحوّل هذه المدلولات بدورها إلى دال، وهكذا فإنّ التّشكيل الرّوائي يشهد توالد البنى الدّلالية داخل رحم النّص، وهي ممارسة ماكرة تقصد تقنيع المعنى بواسطة المعنى، وتقنيع المعنى بواسطة اللاّمعنى، تماما كتغليف العلمي بالأدبي، والمعرفي بالشّاعري.
وفي ظل هذه الممارسة الماكرة نجد حضورا ضاجّا للمصطلحات والنّظريات العلميّة الفلسفيّة وتتداخل فيه الأبعاد الفضائيّة، في حين يتمازج هذا الحضور مع الخطاب التّراثي فتشكل لنا لغة فسيفسائية أعطت النّص طابعا شموليّا تتشظى داخله القراءة المتحوّلة بدورها إلى فعل خلق دلالي موجّه بحيثيات اللّغة السّردية، وإن كانت هذه الحيثيات كما أشرنا تحتفل بكرنفالية التّأويل، ومنه فإنّ الادّعاء بالقبض على دلالة النّص، أو إدراك الصّوت الخفي بكلّ ما يحمله من همسات، وبكل ما تحمل هذه الهمسات من رسائل، لهو أشبه بالخرافة، وإن كان ما يعنينا في هذه الدّراسة هو البحث عن علاقة هذه الرّواية بمشروع كتابة الخيال العلمي ومكانتها بين نظيراتها من روايات الخيال العلمي في الجزائر، وهي مغامرة تستوجب الوقوف عند كل بنيات النّسيج اللّغوي بدء بالعتبة العنوانيّة رصدا لظاهرة الالتباس.
1– 1 - التّشكيل العنواني وظاهرة الالتباس:
إن المعادلة الكميائيّة للتّشكيل العنواني تفصح عن مشروع بوقلة العنوان في مقابل المتن السّردي، وهذه المعادلة لا تسعى إلى تحديد العمل بقدر ما تسعى إلى إثارة ذهن المتلقي وتحفيزه لإدراك لعبة التّشكيل، وكشف لحظة العري، وربما القبض عليها في حالة التّلبس، وقد راهن هذا التّشكيل على هذه الظّاهرة من حيث كونها معادل فنّي للمأزق التّاريخي الذّي تصوره الرّواية فهي من هذا المنطلق فن بوقالي يحوّل الكتابة قول مالا يقال في ظل سلطة ترفض النّقد والمساءلة.
والالتباس هاهنا هو ظاهرة تركيبية دلاليّة " يطرأ على البنيّة التّركيبيّة الاعتباريّة باعتبارها البنية المنتجة للمعنى، والأداة النّاقلة للأفكار، والمواقف، والعواطف، والانفعالات، ولا يطرأ على المفردات المستقلّة المعبّرة عن المعاني المعجميّة لأنّ هذه المفردات ما هي إلا لبنات في التّركيب دلالتها في حكم الجملة لا في ذاتها"[19] ولعل أوّل ما يصادفنا في التّركيب العنواني هو مبدأ الثّنائية؛ وهي قيمة مشحونة بالتّضادية النّاتجة عن الإفرازات الدّلالية التي تفرزها القيمة المعنويّة للمقطعين "الكلمات الجميلة" و"رحلة إلى الزّهرة"حيث يخاتل الأوّل بفلسفة الجمال وما تتضمّنه من قيم مختلفة جماليّة وتيماتيّة، في حين يدافع المقطع الثّاني بما تتضمّنه الرّحلة من قيم غربوية مختلفة فضلا عن التّعالق المحلّي بينهما، وهكذا فإنّ المركّب العنواني ذات الصّيغة الإسميّة المعرّفة يتحوّل إلى قطبين متنافرين.
ويمكن أن نتّخذ هذا التّضاد إحدى المنطلقات الأساسيّة في هذا التّشكيل مع الأخذ بعين الاعتبار التّعدّد الاحتمالي طبقا للتطوّرات المصاحبة للحظة القراءة، لتصبح هذه الثّنائية مبدأ تهويمي، وفعل إغرابي داخل الصّناعة العتباتيّة يعمل على سحب كل من القارئ والكاتب إلى صراع مع سراب المعنى، خاصّة عندما تتقزّم اللّحظة القرائيّة أمام خطاب استفهامي مضمر يغرقها في مكنوناته، ويرجمها بوابل احتمالاتي يحتفل احتفالا كبيرا بالمنظور الدّيكارتي كمبدأ تشكيلي ثان، فهل هذا معناه تكريس هذا التشكيل للاّمطلقية ؟ أم أنّها تسعى لخلق عالمها الاستيعابي الخاصّ الذّي تنتسف الأحاديّة واليقينيّة في إحداثيّاته المنصهرة؟
إنّ أول ما ينفتح به المضمر الاستفهامي هو افتراض ضمني بجهل وضبابيّة فعل الكتابة، تليها ضبابية لحظة القراءة يليها كثير لحظة الإدراك؛ وهذا الافتراض يستحضر آليّا قول إيكو:" ينبغي على العنوان أن يشوّش الأفكار وليس أن يوحدّها"[20]، وقد يتحوّل هذا القول إلى مسلّمة، لأنّ الجوهر التّشكيلي يتصادم مع تصوّر احتمالي آخر يفترض كون العنونة بنيت على أساس مبدأ الاختياريّة الذّي يعترف بالحضور الكرنفالي العبثي، السّاخر والتّهكمي جاعلا من طرفا العنونة عنصران متصارعان، والغلبة للأقوى خاصّة أن الواقع السّردي يفصح عن شرعيّة هذا الاحتمال كون الرّواية في حد ذاتها هي تصوّر لواقع فوضوي، سرمدي، وغامض .و بهذا تصبح الكتابة نقطة التقاء للحشد الإيديولوجي المتنافر، وهذا الطّرح الفلسفي يجعل من البحث الجدّي في خلفيّات التّشكيل العنواني مرتبط أساس بالأداة " أو" والتّي تتكشف عن طاقة تعبيريّة ضاجّة، وفضلا عن هذه "الأو" السّحريّة، نجد الفضاء النّصي الذّي تشغله العنونة، وهذان الإثنان يوجّهان السّيروة الدّلالية بالتّحالف مع المرجعيّة النّصيّة، كما أن النّظر في الوظيفة النّحويّة التّي تشغلها " أو" يقتضي البحث مسبقا عن حقيقة العلاقة بين "الكلمات الجميلة" وبين "الرّحلة إلى الزّهرة" حيث يفصح المضمون السّردي أن الزّهرة هو المكان الذّي يتوفّر على "الكلمات الجميلة الرّائعة المذاق، والحلوة الشّكل[التّي] تتموقع في كهف من كهوف الزهرة"[21].
وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على علاقة محليّة بين كلّ من الكلمات والزّهرة، ومن ثمّّة فإنّ الوظيفة التّخيريّة للأداة " أو" على المستوى الدّلالي مجرّد فعل إيهامي لأنّ الجمع بينهما يفترض الضّرورية لا التّخيرية، وهذا سينقلنا إلى مستوى آخر من التّحليل وهو متعلق بالفضاء النّصي الذّي تشغله الكتابة.
- إن التّركيب العنواني الأوّل "الكلمات الجميلة "يتوسّط الغلاف الخارجي متشكّلا بالبنط العريض، ولهذا النّمط الخطّي دلالته الخاصّة، وخصوصا إذا قارناه بالمقطع الثّاني "أو رحلة إلى الزّهرة" الذّي يتوارى خلف الغلاف الخارجي متموقعا على طرف الصّفحة الدّاخلية التّي تلي الغلاف الخارجي مباشرة وبخط رفيع، ولست أظنّ أنّ هذا التّواري مرتبط أساسا بالجانب القيمي للعنونة، فإذا ما رجعنا إلى الجانب النّحوي فإنّنا سنجد العنوان متعلّقا بمحذوف خبر تقديره، هذه رواية "الكلمات الجميلة" "أو رحلة إلى الزّهرة"،ممّا يمنح العنونة شرعيّة تحديد هويّة العمل الإبداعي، وبذلك فإنّه يضمّه بنوع من الارتجاليّة إلى الخيال العلمي، إذا ما صدع بالمقطع الثّاني
ومن هذا المنطلق فإنّ هذا التّواري هو معادل فنّي لمرجعيّة الكتابة المحكومة بأقطاب عديدة، منها ما هو متعلّق بالكاتب ومنها ما هو متعلّق بالقارئ، ومن ثمّة بالأقطاب التّجاريّة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّه يمكن اعتبار الاستقلاليّة التّي تمتّعت بها التّركيبة "الكلمات الجميلة" يمكن اعتبارها بؤرة دلاليّة تتوازى مع نقطة بؤريّة أيضا في رواية المركز، ومضمون هذه النّقطة يتمحور أساسا حول مسالة استقلال الجوهر الحضاري عن الرّحلة ومشاقّها، وخاصة ما تعلق منها بالانفتاح على الحضارة الغربيّة الممارسة لدعاياتها المغرضة عبر الشّعارات السّحرية، والمغرية التّي تزيّن عالمها المتعولم والمنسلخ من القيم الإنسانيّة، وهذا ما نلمسه في المقطع التّالي "يا عمي الحسين ..على مثل هذا يضربك السّلوقي سي علي، العيون الخضراء أو الزّرقاء موجودة فينا قبل فرنسا "[22]
والأمر مماثل أيضا بالنّسبة للشّعارات الكاذبة التي تلوكها السّلطات حول قداسة الثورة وبطولة صانعيها، أو حول المشاريع الحضاريّة وهذا ما يفصح عنه المتن السّردي. هذا ولم تكن الثّنائية هي الميزة الوحيدة التّي اشتغل عليها هذا التّشكيل في ظلّ تفعيل ظاهرة الالتباس، بل هناك خصّيصة أخرى متمثلة في خطاب التّأنيث حيث أنّ الصّناعة المفرداتيّة في مستواها الصّرفي قد راهنت على صيغة المؤنّث، وإذا افترضنا أن الكاتب قد اشتغل على محوري التّأليف والاختيار فهذا يعني أنّه كان أمام إمكانيّات تشكليّة مختلفة، وأخرى لغوية متعدّدة تنتمي إلى حقل الوحدات اللّغويّة الأربعة، كلام، رحيل، زهرة، جميل، وتمظهراتها الممكنة على مستواها التّركيبي والصّرفي، وهو ما أعطى هذه الخصّيصة قيمتها ضمن التّشكيل العتباتي.
وقد تزامن هذا التّشكيل مع الحضور السّبلي للعنصر النّسائي في المتن مما يؤكّد ضروريّة الاختيار الصّرفي، وبالرغم من أنّ هذه الأخيرة تفترض سبلا تأويليّة؛ فإنّه يمكن المراهنة على فكرة السّخرية والتّهكمية في تشكيل العنونة، فضلا عن مدلولات التّأنيث التّي منها: الرّقة، الضّعف،و النّقص وكلّها حاضرة في المتن الرّوائي وعبر سياقات مختلفة، وهذا ما نلمسه في بعض هذه النّصوص " هو جبان جبان لأنّه لم يتحمّل كل تلك المعدّلات ولم يفهم تلك الجدور التّربيعية لعمليّة المغادرة، كان يحلم بالخبز، والماء وكان يحصل على أكثر من ذلك ولكنه خاف وترك وذهب ليموت وحيدا ثم ورّث الموت الفرديّة المفردة تلك"[23]،"جدي كان يقول النّساء عقلهّن ناقص "[24]، "أه هذه برّاقة يا عمّي الحسين... يا عمي الحسين دافئة كلماتها جميلة تشبه الكلمات الموجودة في الزّهراء "[25].
وهكذا يتبيّن لنا أنّ التّشكيل العتباتي يفصح في ظلّ غائيّة التّجريب احتكامه الجاد لوقائع ومرجعيّات متعدّدة، قد تمّ الإشارة إلى بعضها في حين اختفى الآخر خلف الظّلال التّأويلية التّي يجود بها التّصوّر اللّدني الذّي يثمّن القراءات المتعاقبة.
2 – 1 - الالتباس وتمظهرات الخيال العلمي في النّسيج اللّغوي:
في هذه الرّواية حتّى اللّغة تخضع للتّجريب بحيث يصبح التّشكيل اللّغوي مختبرا لغويّا يجتهد في دمج البنى اللّغويّة المتناقضة والمتضادّة، ولعلّ هذا ما أفلح فيه الكاتب في مشروع تحرير روايته من الشّكل الرّوائي المأثور، حتىّ لكأنّها رواية تجريبيّة تجريديّة، ولقد حاول الكاتب أن يرقى بلغتها إلى اللّغة الرّمز، ما جعلها تشتغل على التّقولب والتّكور الذّي يشي بهسهسة اللّغة على حد قول رولان بارت، والوصول إلى القالب الأوّلي المحتضن للدلالة الحقّة هو مغامرة في حد ذاتها تفترض عملية اختزالية للتّشكل اللّغوي، كما تفترض حشدا جادّا للمخزون المعرفي لحظة القراءة. ولقد أشرنا سابقا أن ظاهرة الالتباس تراهن على فسيفسائيّة المادّة، فمن الحضور التّراثي إلى الانزياح اللّغوي، وإذا كان الأوّل يتجسّد في النّص من خلال توظيف كوكتال لغوي من الأمثال الشّعبيّة والأغاني المحليّة فضلا عن الحضور الأسطوري، واستنطاق الكلام المهمّش والمنبوذ، فإنّ الانزياح اللّغوي في شكله الأساس يتمظهر عبر المكوّن المعرفي الذّي يشحن اللّغة بإيقاعيّة خاصّة تنتقل به من الشّاعرية إلى الجماليّة في جانبها المعرفي، وبالتّالي التّكريس لصراع عنيف بين ما هو ميتافيزيقي وما هو علمي.
أ- الحضور التّراثي بين الانتمائيّة والتّهكميّة:
تشتغل معادلة الالتباس في النّسيج اللّغوي على تكثيف العنصر التّراثي في الرّواية وهي محاولة إبتكاريّة تستهدف تقديم تصوّرات مختلفة عن البيئة الحياتيّة بمختلف طبقاتها وصورها دون إسقاطها للأوساط الشّعبيّة البسيطة فضلا عن أنّها تحكي عن عقدة نفسيّة حضاريّة توحي بالانتمائيّة ولم يكن هذا التّوجه التّعبيري ابتداعا لهذا التّشكيل دون غيره، فقد "مال الرّوائيّون في هذه المرحلة إلى إنتاج رواية عربيّة أمينة لهذا الصّوت اللّغوي المعبر عن وعي فئة شعبيّة واسعة، فئة تشترك في المعاناة ولكنهّا تنفتح على تنوع لغوي إحساسي- إذا صح التّعبير- عميق نقرأه في الصّمت أو في سرد حواري تتميّز لغته بالاقتصاد، ولكن لتوحي بأبعاد، وبأكثر ممّا تقول، وربّما بمعرفي مختلف مضمر ومتروك للقراءة"[26]
لتنقلنا بذلك إلى عمق التّجربة الحكائيّة ممّا يخوّلنا أن نكون طرفا مشاركا فيها مثل: الضّامة، نطري، الكسكسي، ببراس، المهران، ولد الكلب، الجزاوي وغيرها كثير جدا، وهي لغة تشتغل على محورين: شحد الإحساس الانتمائي من جهة، بوصفها ممارسة كثيرا ما توسلتها الذات السّاردة من منظور أنّ الخطاب التّراثي على اختلاف بنياته وسيلة لدحض الانسلاخيّة، وتقوية القيمة الهوويّة، وذلك بين العامي التّقليدي الذّي يمثّل العامّة البسيطة، وبين الفصحى التّي تمثّل لغة النّخبة، ولكنّ التّشكيل اللّغوي في ظلّ توظيف هذا الّنّمط التّواصلي لا يسعى إلى تقديم لغة دارجة بقدر ما يسعى إلى نمدجتها وفق لغة فصحى، بحيث تأتينا منقّحة معرّبة تتداخل مع الفصحى، وتشكّل معها لحمة لغويّة عبر ممارسة تهجينيّة للغة الرّواية.
كما أنّ الوظيفة التّهجينيّة غالبا ما تشتغل على الحالات ذات الدّبدبات الانفعاليّة العالية والتّي يكثر فيها الإحساس بالانتماء من منظور ناقد، كما نلاحظ ذلك في مثل قوله "يا شلغومك يا عمّار ذا الدّسية علي كافوا، ياما تحلفوا فيك العديان وكي شافوك خافوا"[27] أو قوله "البشير يا لهواوي يالي شريت قطة زاوزي والما السّخون...، لوكان تتبع هذه الخدمة ترهن الزّيتون"[28]، كما تحضر الرّموز الشّعبية التّي تمارس تعاليا على الواقع التّعبيري المقرون بمنظوريّة السّرد، كما نجد ذلك في قوله " وأنّ مول الشّاش يقصد به ذلك البطل الخرافي والسّلاح الخفي لكل حروب الرّجال في ساحة الوغى[29] ، أو ما تمثله أسماء من مثل :السّيد علي، زرقاء اليمامة، بورجوانة، تاورا، بوبخة، وكلّها تحمل في قيمها التّعبيرية مداليل وعوية متنوّعة.
أما الثّاني فهو الغاية التّهكمية التّي يطرحها الوعي المثقّف تجاه وعي سلفي ساذج وهي غاية كثيرا ما تتداخل مع الغاية الانتمائيّة؛ بحيث لا يمكن الفصل بينهما إلاّ بالرّجوع إلى السّياق الدّلالي العام للنّص، وفي إحدى وجهاته لأنّ هذا السّياق في حد ذاته يغتني بتعدّد الرّؤى والمواضيع المطروحة في المتن النّصي، فبورجوانة مثلا، وتاورا، وبوبخّة، أسماء حضورها بقدر ما يحيل على ما تحمله من مضامين قضويّة تعكس الوعي الحاضر في النّص إلاّ أنّها تعمل على تقديم نقد تهكّمي لوعي مناقض، وحاضر في النّص أيضا، وبهذا فإنّ مثل هذا الحضور المتناقض يخلق نوعا من الصّراع الباطني الذّي يشترك فيه القارئ مع الشّخصية الحكائيّة ومع الكاتب.
ب-الانزياح اللّغوي والمكوّن المعرفي في ظلّ معادلة الالتباس:
ويبدو هذا العنصر متناسفا ضدّ العنصر التّراثي وهي قيمة فنيّة تجعل اللّغة ذاتها تتناسف داخل بنيتها بين العنصر التّراثي والمكوّن المعرفي ليتحول الصّراع الدّفين الذّي يعيشه القارئ عند احتكاكه بالخطاب التّراثي إلى صراع ظاهري عنيف، بين اللّغة العلميّة التي تعكس وعي المتلفظ المعولم، وبين أخرى عاميّة تنتج عن متلفّظ تقليدي بسيط شعبي، وهذان الملفوظان يشعّان من حيث كونهما ينتجان عن ذات ساردة واحدة تتبنّى الضّمير "أنا "ممّا يفتح المجال أمام متاهات تواصليّة لانهاية لها إلاّ باستحضار الدّخيرة الثّقافيّة المختلفة، ففي مقابل مفردات مثل: أبو لخماج، الطّناجر، يا خماج، التّمرميد، نجد أخرى من مثل المكّوك، الصّاروخ، المدار، مقياس الحرارة، الخودة، التّقنيّة، المفاعل النّووي، وغيرها، وهي وحدات لغويّة اشتغلت في الظّاهر على علمنة اللّغة وتذكيتها بما تحمله من برودة علميّة، أمّا في باطن السّرد، فهي تتحوّل إلى عنصر كنائي استعاري يراهن على تفعيل الالتباس من حيث كونه معادلا فنيّا لوقائع ما تعيشها الذّات السّاردة، والعاملة على تصوير متخيّل متوقّد يتماسّ مع خيال علمي، في محاولة شبه جادّة لفنثزة النّسيج اللّغوي، وتخليصه من روتينيّته، ولكن أين الكلمات الجميلة من كل هذا؟
يبدو أنّ الكلمات الجميلة لا تنتظر تمظهرا مادياّ في النّسيج اللّغوي بقدر ما تنتظر حديثا عن واقع دلالي يعمل على توضيح غايات ثيماتية مختلفة، ولهذا فقد نلاحظ وجود هوّة كبيرة بين ما هو موضوعي وبين ما هو فنّي لغوي –كما سبق أن أشرنا-، فالتّشكيل اللّغوي لا يتجاهل الكلمات الجميلة؛ بل هو يستنكف إلى درجة ما عن الفضاء الزّمكاني للرّواية فضلا عن تعرية الشّخصيات باستثناء السّارد المثقّف، وهذا الاستنكاف يجعلها محل توتّر دائم، ولكنّ هذه الاندفاعيّة الحكميّة قد تقنّن من منطلق العلاقة ّالتّي تحكم ما هو واقعي وما هو متخيل، في مغامرة سرديّة ترحل إلى محاكاة الواقع المعيش وتتفاعل معه مقدّمة لنا صياغة جديدة لمعادلة الإلتباس:
"الالتباس= العنصر التّراثي + المكوّن المعرفي"، وذلك في حضن بنيتين :الأولى بنية حكائيّة والثّانيّة بنية واقعيّة.
ومن منطلق تفعيل المكوّن المعرفي فقد حاول التّشكيل اللّغوي استثمار طاقة اللّغة العلميّة إلى أكبرحدّ ممكن؛ فلفظة الصّاروخ مثلا تجود بدلالتها المعجميّة، وواقع هذه الدّلالة في المدلول نفسه؛ أي خصائص الصّاروخيّة كوسيلة فعالّة لارتياد الفضاء الخارجي، وما يحمله هذا الارتياد من فلسفة حضاريّة تعكس لهفة الذّات السّاردة في اللّحاق بالرّكب الحضاري الغربي، وهذا ما يجعلها تتسامى على وسائل النّقل العاديّة كالحافلة، والطّائرة، وغيرهما، كما أنّ فلسفة الصّعود إلى الأعلى هو معادل موضوعي للمستقبل الأفضل فضلا عن إمكانيّة الانفتاح على أجواء أخرى قد تبدو في نظرها أكثر جاذبيّة ولمعانا.
أما لفظة المفاعل النّووي فهي تتّخذ بعدا تاريخيّا، يتجلىّ كإشارة لتلك التّجارب النّوويّة التّي أجرتها فرنسا في الجزائر؛ حيث يتحوّل هذا المصطلح العلمي إلى ذاكرة ناطقة كرّسها المتن السّردي لتحكي قصّة الجريمة الإنسانيّة التّي استهدفت الشّعب الجزائري،وربّما قد يرحل المصطلح إلى تلك التّوتّرات السّياسيّة العاكسة لإنقسامات إيديولوجيّة، كما نستشّف ذلك من خلال المقتطف التّالي "..معطيات جديدة كاللّون الأزرق الذّي يخيّم على العنصر، هذه المساحة من التّراب تحمل في ذرّاتها مفاعل نووي زمني خطير، كلّ حصاة لها قصّة مطبوعة بأشهر تواريخ الزّمن" [30]،وعلى غرار المصطلحات العلميّة نجد توظيفا لنظريّات علميّة وفلسفيّة تعكس هذا الجهد المعرفي الذي يؤثّث الرّواية، وقد تبدو هذه النّظريات متطفّلة على المتن السّردي، إلاّ أنّها تشتغل على لدغ لحظة القراءة وشحنها بكل قوى الإدراك .و سرعان ما تتكشّف الأبعاد الفلسفيّة العلميّة لهذا الحضور الإغرابي، فمثلا تشتغل نظرية الشّك الدّيكارتي على طرح فكرة العبثيّة والضّبابيّة، وتكرّس للاّمطلقيّة والارتيابيّة، وهذا الخطاب يعكس نظرة المثقف للواقع المعيش، وهي نظرة تأمليّة ذات أبعاد فلسفيّة؛ قد تجتمع فيها جميع المتناقضات في كيان واحد هو اللاّكيان.
كما تعادي الأطروحات السّادجة، والفكريّة التّراثيّة، ومن ثمّة فإنّ هذا المثقّف وفي ظلّ هذه الضّبابيّات لا ينفكّ لحظة عن البحث عن جوهر الحقيقة "لا يا عمي الحسين أحمل معي معدّات الأرصاد الجويّة علينا دراسة الجو جيّدا"[31]
أمّا نظريّة أينشطاين في النّسبيّة فهي تقدّم صورة شبه متكاملة عن سيرورة الزّمن في علاقته بالتّجربة الحياتيّة للذّات السّاردة، وقد تسلّل الخطاب الرّوائي إلى هذه النّظرية من خلال حديث "عمي علاّوة " عند وصفه لهذا الجسم الطّيفي، ويبدو أنّ هذا الوصف قد انبثق من عفوية المقول ذاته، وهذا في مقابل التفكير العلمي المؤسّس الذّي يمثّله الصّوت الدّخيل، وهو ما يتجلىّ في قوله " قديما يا ولدي كنت لا تحسّ للنّهار كيف يمرّ واليوم كأنّه عام، وجمال منذ راح لم يرسل ولا فرنك، قلت هذا هو مبدأ النسبيّة لأينشطاين يا عمّي علاوة..."[32]
وهكذا فإنّ ظاهرة الالتباس قد تشكلت في النّسيج اللّغوي من خلال دفع المتخيّل العلمي إلى بلورة مفاهيم حديثة تحاكي الواقع وتستمد خصوصيتها منه.
3- كوكب الزّهرة والفيض الدّلالي:
بقي لي من هذه الرّحلة المستهدفة للحضور التّجريبي في التشكيل الرّوائي أن أتعرّض لتمظهر آخر من تمظهرات الخيال العلمي، والذّي اخترت أن يكون موقّعا باسم الزّهرة العاكسة لفعل العوالم الفلكيّة، والكواكبيّة في تفعيل ظاهرة الالتباس في النّسيج اللّغوي. ويجدر الإشارة في هذا السّياق أن هذا الأخير قد كرّس للغة جويّة فضائيّة، فكادت هذه السّمة أن ترقى إلى السّمة الأسلوبيّة، لو تعدّد حضورها كمّا وكيفا؛ إذ تصادفنا أسماء من مثل زحل، القمر، المكوك، المركبة، وغيرها أما الزّهرة فهو يحضرنا فعلا كرمز لغوي يتّخذ قيمته داخل المنجز الإبداعي من خصائصه الفزيائية وموقعه الدّلالي، حيث نجده على مستوى النّص لا يظهر تابعا لأي مضمون أو موقف بعينه، لأنّه هو نفسه يصبح مصدرا للمعاني المتعدّدة واللاّمحدودة.
والفضاء الدّلالي الزّهري يضج بالمتناقضات، فهو الزّمان، والمكان، وهو الحلم والواقع، وهو الفضاء والدنيا، وهو المستقبل والماضي والحاضر، والغاية والمحذور .هكذا تتحول الزّهراء إلى عابر سبيل في لحظة القراءة، رمز متشرّد يكتسب دلالته حسب السّياق وبذلك يمكن القول أن هذا الكوكب هو سحليّة النّص، فهو يمثّل أو يكاد الرّواية بأكملها وهي الغاية التّي تصنع وقائع الاضطراب والتّوتّر في المتن السّردي، ومن ثمة فإنّي أراهن أنّها محور الفعل التّجريبي، خاصة بالنّسبة لمشروع رواية علميّة كما أنها تمثّل لحظة الانطلاق، ولحظة الوصول، وبناء عليه رأيت من الضّرورة الوقوف على بعض دلالتها في النّص.
إنّ أوّل ما تصادفنا الزّهرة في مطلع الرّواية تكشفها عن مشروع حضاري هو محور العمل الرّوائي من حيث احتواءها على الكلمات الجميلة، و" الكلمات الجميلة الرّائعة المذاق والحلوة الشّكل [والتّي] تتموقع في كهف من كهوف الزّهرة والمشكل كل المشكل هو الرّحلة وتكاليفها ثم إتمام برنامج العمل"[33] وغير بعيد من المشاريع الماديّة الحضاريّة، نجد المشاريع المعنويّة ذات القداسة، فالحقائق الفزيائيّة التّي تتمتع بها الزّهرة؛ من حيث كونها أقرب الكواكب إلى الشّمس وذات حرارة مرتفعة تحترق فيها أجود المعادن، فإنّ الرّحلة برغم احتواءها على مخاطر عديدة فهي رمز للحب :"...الحب، الحب هو الذّي دفعني إلى لبس الخودة، وتحمل عناء السّفر. "[34] والزّهرة رمز لأزليّة الزّمن الغدّار " آه لو كنت تعلم يومها أن الّسفر في الزمن ممكن وأنّ الزّهرة هو ذلك الكوكب اللّماع."[35]
ومن الزّمان إلى المكان وبالضّبط إلى المدينة؛ فالزّهرة رمز للحضارة والتّقدم ورمز للفردوس المفقود ".رأيت بنات الرّوم زينهم يمرضّ بالحمى ثلاثة أيام وأنا مريض –يا بنت العم -كم هنّ نظيفات، ويحسنون كلّ شيئ ليتك كذلك يا علجيّة، ولكنّهم لا يعرفون بوبخّة"[36] وهي رمز للمدينة السّاحرة " وذات يوم عندما علمت أن ابني سيسافر إلى الزّهرة بحثا عن الكلمات الجميلة كنت جائعا فدخلت المدينة"[37]، وبعيدا عن المدينة والتّحضر تنقلنا الزّهرة في عالم الرّواية إلى دلالة أخرى وهي "الدّنس" هكذا قيل لي وأنا عائد من تلك الرّحلة الطّويلة عند العودة أحاول دائما أن آخد حمّاما ساخنا حتى لا يقال عني أنّي بشع[38]، ويمكن أن أختم بكون الزّهرة رمز للانبعاث، والأمل فهي أدونيس الرّواية وهي نجمة الفجر التي تخاتل بدلالتها الانبعاثيّة: "تلك النّجمة هناك هي الزهرة التي أذهب إليها وأعود"، وكوني قد ختمت بالقيمة الانبعاثيّة لا يعني أنّي قد أتيت على طاقاتها التعبيرية كلّها بل على العكس من ذلك فإنّه يحيل إلى طاقة انبعاثية للدّلاليّة الزّهرية؛ لأن هناك دلالات كثيرة أخرى في النّص يولّدها التّصور القرائي، وكون الزّهرة تتمتع بهذا الفيض الدّلالي داخل المتن السّردي، فإنّه يمكن ترشيحها كعين باصرة ترصد ديناميكا النّص، وتوجهه ولا تؤطره بل تجعله ينفتح على هذه المآلات التفسيريّة المتكثّرة ممّا قد يثمّن الطّابع الشّمولي، والانفتاحي لهذا النّص الذّي برهن خلال هذه الوقفات التّحليليّة على قدرته الهائلة على امتصاص التّناص المعرفي، الواشي بضرورة التّسلح بالقدرة المعرفيّة المكافئة لحظة ولوج عالمه الحالم بالقيم العلميّة والتّكنولوجيّة والفلسفيّة المختلفة كما أنّه قد أمكن العمل الإبداعي من ممارسة فعل التّطهير الذي يستهدف بنى الحياة المختلفة.
وهكذا فإنّ التّحليق في ظلال التّجريب في رواية "الكلمات الجميلة" قد أفصح عن محاولة حاول هذا الأخير في أن يشكّل تقنيّة فاعلة في إخراج الرّواية الجزائريّة من برجها العاجي، ساعيّا إلى منحها صياغة جديدة لواقعيّة السّرد، والاقتراب بها من عوالم الخيال العلمي، فالتّوظيف السّطحي للمخيلة العلميّة؛ التي جنحت نحو الغرائبي والعجائبي أحيانا، قد ساهم في إعطاء النّص طابعه المتميّز، ومن خلاله عمل الخطاب الرّوائي على تجاوز الخطاب التّقليدي، وتجاوز الذّهنيّة التّقليديّة مقتحما تجربة جديدة في الكتابة الرّوائيّة الجزائريّة، وإن كان هذا الاقتحام قد جعل الرّواية تقف على هامش الخيال العلمي، وبالرّغم من ذلك فإنّه يمكن تصنيفها ضمن منجزات أدب الخيال العلمي اللّين؛ الذّي لا يسعى إلى اتخاذ العلم موضوعا له، بل يسعى إلى معالجة الواقع وفق آليات حداثيّة تستلهم التّجربة العلمية كمدخل للواقعية الرّوائية .
المراجع:
1المنصف عاشور- المعنى وتشكله.أعمال الندوة الملتفة بكلية الآداب منوبة في 17/18/ و19 نوفمبر 1999 منشورات كلية الآداب منوبة (د،ط.)2003 مج 18، ج 2
2المنعم تليمة. مقدمة في نظرية الأدب.،دار الثقافة .،القاهرة، (د،ط.).،(د،ت،ط)
3جروة علاوة وهبي .التجريب في القصيدة العربية.دار البعث .،قسنطينة، (د،ط)1984
4جميل صليبا. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية.دار الكتاب اللبناني.بيروت.(د.ط )1982 .ج1
5عبد الحميد عقار. الرواية المغاربية .تحولات اللغة والخطاب.شركة النشر والتوزيع المدارس.الدار البيضاء.ط1 2000
6عبد الرّحيم الكودي . البنية السردية للقصة القصيرة. دار النشر للجامعات.مصر.ط2. 1999
استون باشلار .جماليات المكان. ترجمة عالب هلسا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع .بيروت. لبنان. ط2 .1984
7سعيد يقطين القراءة والتجربة.حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب.دار الثقافة.الدار البيضاء.ط1 .1982
8صدوق نورالدين –البداية في النص الروائي-دار االلادقية، سورية.ط1. 1999
9مجدي وهبة.كامل المهندس.معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت ط2، 1984.
10مجمع اللغة العربية.،المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأمريكية، القاهرة.(د،ط.)1983،
11نبيل دادوة اللكمات الجميلة . أو رحلة إلى الزهرة – دار المعرفة. الجزائر. 2008
12نبيل سليمان- جماليات وشواغل روائية من منشورات اتحاد الكتب العرب.دمشق (د، ط )2003
13وليد إخلاص حكاية السرد محيلة الاستهلال، نوفمبر 2011 (د،ب)
14يمنى العيد –الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية- الفارابي،بيروت، ، ط1 .2011
هوامش:
[1]"..."بتصرف جميل صليبا. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية.دار الكتاب اللبناني.بيروت.(د.ط )1982 .ج1 .ص. 243-244
[2] مجمع اللغة العربية.،المعجم الفلسفي، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأمريكية، القاهرة.(د،ط.)1983، ص 39
[3]عبد المنعم تليمة. مقدمة في نظرية الأدب.،دار الثقافة .،القاهرة، (د،ط.).،(د،ت،ط)ص.18-19
[4] نبيل سليمان- جماليات وشواغل روائية من منشورات اتحاد الكتب العرب.دمشق (د، ط )2003 . ص.45
[5] جروة علاوة وهبي .التجريب في القصيدة العربية.دار البعث .،قسنطينة، (د،ط)1984 ص. 91
[6] وليد إخلاص حكاية السرد محيلة الاستهلال، نوفمبر 2011 (د،ب)ص.111
[7] سعيد يقطين القراءة والتجربة.حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب.دار الثقافة.الدار البيضاء.ط1 .1982 ص24
[8] عبد الحميد عقار. الرواية المغاربية .تحولات اللغة والخطاب.شركة النشر والتوزيع.المدارس.الدار البيضاء.ط1 2000 ص.6
[9] نبيل دادوة اللكمات الجميلة . أو رحلة إلى الزهرة – دار المعرفة. الجزائر. 2008. ص. 124
[10] المصدر نفسه ص. 81
[11] نبيل دادوة، الكلمات الجميلة، ص.100
[12] المصدر . نفسه ص68
[13] غاستون باشلار .جماليات المكان. ترجمة عالب هلسا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع .بيروت. لبنان. ط2 .1984 .ص 31
[14] نبيل دادوة، الكلمات الجميلة ص. 22
[15].المصدر نفسه ص. 55
[16] نبيل دادوة الكلمات الجميلة .ص .6
[17] مجدي وهبة.كامل المهندس.معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب .ص.319
[18] عبد الرّحيم الكودي . البنية السردية للقصة القصيرة. دار النشر للجامعات.مصر.ط2. 1999 ص. 106
[19] المنصف عاشور- المعنى وتشكله.أعمال الندوة الملتفة بكلية الآداب منوبة في 17/18/ و19 نوفمبر 1999 منشورات كلية الآداب منوبة (د،ط.)2003 مج 18، ج 2، ص.849
[20] صدوق نورالدين –البداية في النص الروائي-دار االلادقية، سورية.ط1. 1999 ص.71
[21] نبيل دادوة، الكلمات الجميلة، ص. 08
[22] نبيل دادوة، الكلمات الجميلة ص.81
[23] نبيل دادوة، الكلمات الجميلة ص.44
[24] المصدر السابق ص35
[25] المصدر نفسه ص.115
[26] : يمنى العيد –الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية- الفارابي،بيروت، ، ط1 .2011 ص.20
[27] نبيل دادوة، الكلمات الجميلة ص.72
[28] المصدر نفسه ص.113
[29] المصدر نفسه، ص.113
[30] المصدر السابق ص.95
[31] المصدر نفسه ص.95
[32] المصدرنفسه، الصفحة نفسها
[33] المصدر السابق- ص.8
[34] المصدر نفسه ص.17
[35] المصدر نفسه ص.39
[36] المصدر نفسه ص. 61
[37] المصدر السابق ص. 16
[38] المصدر نفسه ص. 91