رسالة المغرب

أسئلة الثقافة الشعبية وحوار الثقافات

عبدالحق ميفراني

عاد الحديث مجددا في المشهد الثقافي في المغرب على الثقافة الشعبية، وذلك من خلال رصد ظواهرها الأدبية والأسئلة المتعلقة بها. بعد الهيمنة الغير المحدودة التي بسطتها الثقافة العالمة عبر تاريخ تشكل المغرب الثقافي. على اعتبار أن الثقافة الشعبية ظلت رديفا غير مستحب تعبر عن أفكارها المنسية وتحفل بذاكرات اليومي. 

لايمكن التعامل مع الثقافة الشعبية كمتن قائم بذاته مؤسسا لجهازه المفاهيمي. فرغم الحضور القوي لبعض النصوص التي استلهمت متخيل هذا المتن إلا أن مستويات القراءة لا زالت أسيرة الثقافة العالمة والتي وإن بدت في السنوات الأخيرة تفتح نوافذها لبعض الاجتهادات النظرية، إلا أن العلاقة لم تؤسس بعد نظريا. وتعود هذه العلاقة الملتبسة لعدة اعتبارات، إلا أنها أفضت الى غربة مزدوجة لهذا المتن المرتبط بثنايا الذاكرة وبعمق الهوية. 

وقد انفتح الدرس الأكاديمي السنوات الأخيرة، ولو باحتشام، لهذه  الثقافة بغناها بل إن العديد من الندوات نظمت بموازاة بعض الملتقيات حاولت تأمل هذا المتن وصياغة الأسئلة والرؤى حوله.. وفي هذا المضمار انعقدت بمدينة آسفي {الساحلية} بموازاة انعقاد مهرجان العيطة السادس الذي تنظمه وزارة الثقافة كل سنة، ندوة فكرية حول هذا الفن الغنائي الشعبي المغربي وقد كانت المناسبة لإعادة استدعاء أسئلة الثقافة الشعبية بما هي أسئلة راهن الثقافة المغربية اليوم بكل تشعباتها.. 

* فن العيطة الأصول والامتدادات
بموازاة مع انعقاد الدورة السادسة لمهرجان العيطة الذي تنظمه وزارة الثقافة بمدينة آسفي، عرفت فعاليات ندوة فن العيدة: الأصول والامتدادات مشاركة الأساتذة : حسن بحراوي، سالم اكويندي، علي الصافي، خالد الخضري. الندوة التي أدراها مندوب وزارة الثقافة بآسفي الأستاذ الخراز، الذي أكد في مستهل الندوة على أن الندوة تنعقد كنشاط ثقافي مصاحب للسهرات الفنية وحفل التكريم وذلك سعيا من المنظمين لاستجلاء فن العيطة بأبعاده الثقافية والتاريخية... 

الباحث والناقد حسن بحراوي كان أول المتدخلين والذي أشار في بداية ورقته أن وصول المهرجان لدورته السادسة هو نوع من التتويج للمسار البحثي والفرجوي ودخول فن العيطة لمجال البحث الأكاديمي هو نوع من التتويج "العيطة بشهادة الدكتوراه" وتنبع أهمية الندوة من إعادة تأمل خصوصيات هذا الفن وتلاقحه مع أشكال تعبيرية أخرى. لكن الباحث حسن بحراوي ركز على مطلب محاول طرح الاسئلة وتجاوز مسالك التعريف، لأن الحاجة تتطلب نقاشا جماعيا يشارك فيه الجميع.. مادام هذا "فننا" نحن؟ لذلك فالمطلوب هو التفكير في مجموع القضايا التي تتقاطع مع هذا الفن سواء: السينما، المسرح، الرواية،... 

ويشير الباحث حسن بحراوي أن الأشكال التعبيرية في المغرب حديثة أو تقليدية تعيش على مفهوم القطيعة، ثمة تباعد يسكن علاقة الجنس التعبيري أو الإبداعي من داخله. فالتشكيلي يدرك فن التشكيل بعيدا عن أي علاقة بفن تعبيري آخر.. والحال يؤكد المداخل أن الفن ممتد، إن وضعية التنافر قائمة.. لذلك وجد المغاربة التراث في لحظة تلاشي والمطلوب اليوم هو ترميمه. 

يؤكد الباحث أن فن العيطة عاش مرحلة تجاهل رسمي، وتم وضعه في محطة الفلكلور، هذا التجاهل المبطن والمقصود، لا يعبر على وضعية هذا الفن الأصيل والذي يمثل هوية عميقة ومتجذرة. وإضافة للسلطة، تجاهلته النخبة المثقفة، لأنه يعبر عن مجتمع آخر.  

وتلتجأ إليه كنوع من الحنين. مع أن فن العيطة فن عضوي، يعيش وسط مجتمع، لا كديكور خاص. وإضافة للسلطة والنخبة المثقفة عانت العيطة من ظلم "ذوي القربى" والذي كان أشد، في ظل وضع غير صحي واعتراض متبادل. تنتظر العيطة اعترافا من الآخر.إن بقدر انغراس العيطة في الوجدان الشعبي المغربي، بقدر غيابها عن الأدب وتوظيفاته التخييلية. الأدب المغربي أدب حديث، طري لذلك لا نأمل أن تكون هناك علاقة جذرية بين العيطة والأدب. فن العيطة لا وجود له في الشعر المغربي الحديث إلا في نماذج محسوبة ( مع حسن نجمي..)، وهذه العلاقة الظرفية هي التي حكمت علاقة العيطة بالمسرح رغم أن اللقاء تم في وضع صحي أفضل (مسرح اليوم واشتغال على نص المسرحي محمد بهجاجي- سالم اكويندي والذي اجتمع فيه عنصر الدراية بالعيطة والاشتغال بالمسرح فقدم نص خربوشة). 

بالنسبة للرواية استفاض الباحث في مقاربة هذه العلاقة من خلال تقديم حفر سوسيوثقافي لهذا الحضور. فالوجود لفن العيطة في الرواية، وهذه مفارقة، خصوصا عندما يقدم الباحث انتماءات الكتاب من حيث الأصول، فرغم انتماء أصول الروائيين الى أصول قروية، فثمة نكران مضاعف. وفي لمحة استعارية بالغة يتساءل حسن بحراوي لماذا ليس للدارالبيضاء كتابها؟. ليعيد التأكيد أن رغم أصول الروائيين الترابية (الزراعية والرعوية) ،فإنهم يديرون ظهورهم لهذا الفن. باستثناء الروائي الميلودي شغموم. والذي لامس بعض أنماط تعبيرات العيطة في نصوصهم الروائية. كما وقف الباحث عند الريح الشتوية لامبارك ربيع والتي وظف خلالها هذا الفن منذ 30 سنة. ليؤكد الباحث حسن بحراوي أن فن العيطة فن تراجيدي جنائيزي بطبيعته. يؤكد الباحث في آخر مداخلته أن المسافة لا زالت قائمة بين فن العيطة والأشكال التعبيرية الأخرى في المغرب، وهو موقف عام وغير مفهوم، موقف الرفض. لقد سيق فن العيطة لهذا المسار الصعب، وتصحيح صورة العيطة كفيل بإعطاء فرصة للجيل القادم ليتصالح مع ذاته.. 

المداخلة الثانية كانت للباحث المسرحي سالم اكويندي والذي تحدث عن علاقة العيطة باستراتيجية كتابته لنص خربوشة. لكنه في البداية تساءل عن علاقة العيطة بالمسرح. باستحضار كل مااشتغل عليه. فاهتمامه بفن العيطة نابع من اهتمامه بالمسرح. وهذا الاهتمام هو الذي شده نحو سؤال ابستمولوجي كبير هو نشأة المسرح؟. رغم أن هذا السؤال سيق في الاشتغالات النظرية العربية على إطار النموذج الغربي وأصله وبداياته الاغريقية وامتداداته عند الرومان ودول غربية. 

لكن السؤال الأساسي في نظر الباحث اكويندي، هو كيف كانت الفرجة تنتظم عند أجدادنا؟ وما هي أنواعها؟ ألا يمكن التعرف عليها خصوصا بما هو موروث لدينا؟ الفرجة غير مدونة وليست وليدة المكتوب، هي وليدة سماع.. لذلك ظهرت اجتهادات نظرية على امتداد جغرافية العالم العربية من يوسف إدريس بمصر (الفرافير/ والموال المصري)، بحوث علي الراعي أما الباحث سالم اكويندي فعاد لعلاقته بالحلقة، والتي كانت تنظم خلالها الفرجة، وهي الفرجة التي كانت تتوزع بفضاءات الدارالبيضاء، والتي هي مجموع من القامرات/المداخل، حيث كانت تنظم سهرات مرة في الأسبوع، وكل جهة تقدم فرجتها الخاصة، بانتظام. وهذه الأنماط الفرجوية لها أصول ترتكز على فن القول، لا يقال إلا بالشكل الذي يؤدى به. كلام منظوم.. وكل عيطة تسمى حسب منطقتها رغم أن الباحث يقسمها الى نموذجين رئيسيين: المرساوي، والحصباوي. بتداخلهما في الأصل الذي هو أحواش وأحيدوس الممزوج بالغناء العربي، والذي معه تحقق نوع من الاتساع. يقف الباحث عند نموذج "برع" الذي يشتغل بتوظيف تقنيات المسرح من اكسسوار، وماكياج وأقنعة..، يعيد الباحث تأمل فن العيطة بعلاقته بالمقدس، ليشير أن عيطة آسفي عيطة مركبة. 

يؤكد الباحث سالم اكويندي أن أصل الفرجة عندنا هي العيطة، لذلك فكل الشعوب عرفت مسارحها، خصوص أن الباحث يتحدث على مسارح بالجمع. وعناصر بناء الفرجة كونية، وكيفية انتظامها تتشابه. إن أصل المسرح في العالم العربي، يجزم في الأخير المداخل، أصل بدوي. والوعي بالهوية والخصوصية، يدعونا للإيمان بالتعدد والعودة لذواتنا، أي الأصل مع إعادة الاعتبار لثقافتنا الشعبية. 

السينمائي علي الصافي، والناقد السينمائي خالد الخضري قدما شهادتهما من خلال تجارب سينمائية محددة. 

فالسينمائي علي الصافي سبق أن قدم فيلمه التسجيلي "دموع الشيخات" والذي حدد مرجعيات تفكيره في إخراج هذا الشريط رغبة منه في إعادة تمثل الواقع وإدراكه من خلال الاقتراب من "الشيخات" وعالمهن والتعرف عليهن يشير علي الصافي الى أن عنصري التجاهل والقطيعة ميزتا علاقة النخبة المثقفة بفن العيطة، وبالفنون الشعبية عامة والعيطة نموذج مصغر لحضارة عريقة متعددة يعرفها المغرب، خزان وإرث حضاري غني وعريق. اكتشف السينمائي الصافي نصوص العيطة، ومعه اكتشف غياب ثقافتنا التصويرية. "ليس لدينا تاريخ؟ بالتالي كيف كنا نعيش من قبل؟ كيف كان الناس يفرحون؟". وقدم الباحث مسارات تصوير فيلمه التسجيلي "دموع الشيخات"، مسار متشعب، مليء بالمفارقات. غير أنه يتساءل في نهاية مداخلته، هل الشيخات صورة ما لحضور "الغجر" في المغرب؟. 

أما الناقد خالد الخضري فقد قدم شهادة عبارة عن نص تخييلي سيناريستي مفترض، قدمه كمدخل للعلاقة التي جمعته بفن العيطة. وحاول تقديم بورتريه تخييلي لخربوشة النص الذي اشتغل عليه لفيلم فريدة بورقية. الفيلم الذي كان مشروع الخضري مع السينمائية إيزا جنيني، أساسا، ليتحول ولع الإنصات للعيطة الى بحث متواصل على خباياها، ومصادرها.. 

ليختتم الخضري بتقديم نماذج موسيقية أعاد توزيعها مع الفنان "الجديدي"، لكن في نفس الوقت قدم نصا تخييليا عبارة عن حوار داخلي مع "خربوشة".. 

"هلووو" عرض مسرحي لفرقة سكارابيه السويدية:

دراما موسيقية راقصة تدعو لحوار الثقافات 

قدمت فرقة سكارابيه السويدية الشهر الماضي عرضا مسرحيا بعنوان "هلووو.."، العرض المسرحي هو دراما موسيقية راقصة سهر على تنفيذ إخراجها وتصورها الدارماتورجي المسرحي العراقي لحسن هادي. 

عرض "هلووو.." مسرحية مقتبسة عن قصائد الشعراء توماس ترانسترومر الشاعر السويدي، والشاعر العراقي عدنان الصائغ..وقد سهر المسرحي لحسن هادي على رؤيته الدرامية والمكونة من أقانيم ثلاث الغريزة {اللذة}، العقل، الوقت {الزمن}. 

العرض المسرحي عموما قدم على شكل عرض مسرحي موسيقي مفتوح، فرقة موسيقية تتكون من عازفين سويديين وعرب، قدموا ريبيرتوارا متعددا من جغرافيات موسيقية متنوعة، عربية وغربية...وقد بدت الفرقة شبيهة بالتروبادور، أو "الحلايقية"= "الحكواتية" في تجوالها الاستعاري بين كافة التقاسيم والجمل الموسيقية من جون لينون الى ناس الغيوان، ومن درياسة الى البينك فلويد... 

هذه الفرقة الموسيقية ظلت حاضرة طوال العرض، فيما سهرت الشاشة الخلفية على الربط من خلال ترجمة فورية من والى العربية والسويدية..بين الفينة والأخرى تتمم المشاهد المسرحية من خلال مشاهد فيلمية مصورة خلال التداريب من يضفي على العرض طابعا منفتحا بتوظيفه لتقنيات الفرجة اللحظية. 

وقد اعتمد العرض المسرحي على فنون الرقص، الموسيقى، السينما داخل المسرح، والمسرح داخل المسرح..مع حضور لتقنيات الفرجة المسرحية المغربية الحلقة والتي اعتمدها المخرج لإضفاء نوع من خصوصية المسرحية خصوصا وأنها قدمت في المغرب لأول مرة.. إضافة الى الفنون، سهر العرض المسرحي على توظيف رؤيتين شعريتين غربية وعربية، مع حضور لافت لمستوى التقاطع التخييلي الشعري في توظيف الصياغات الشذرية والتي مزجت عنصر "المنفى"، كعنصر مكمل لتقنية التغريب الموظفة في الإخراج من خلال الدخول والخروج من الشخصية والذي سهر المسرحي لحسن هادي على صبغه لكامل مشاهد العرض.. 

ظلت المسرحية وفية لذرائعيتها المقترحة منذ البداية أي ما عبر عنه بأقانيم {الغريزة، العقل، الزمن}، لكي تخلق نوعا من الحوار المفتوح حول الهوية وحوار الحضارات، ولم تغيب بعض القيم الموازية لهذا الفعل الحواري كقيم التسامح..لكن العرض ظل يسقط في رؤية المسرحة داخل المسرح من خلال الخروج على مقاطع الشعر، والتي اختيرت بعناية كانت كافية أن تخلق حوارية شعرية خصبة لو تم الاكتفاء بهذا التوظيف المصاحب للموسيقى، كما أن إدخال الموسيقى كطرف فعلي في الأدرمة عموما، عوض تأثيث الركح خلق نوعا من الانسجام والتقاطع على مستويات عدة.. 

عرض "هلووو.." Hallaaa  لفرقة سكارابيه السويدية، دراما موسيقية راقصة، وحينما نؤكد أنها راقصة كما هو مثبت في أفيش العرض، فلأن الرقص وظف في إبراز الأحاسيس الداخلية للشخوص، وقد كان للرقص الشرقي فعل سحري على العرض، إذ تم الأداء عبر ممثلة سويدية وأخرى عربية، مما حول فرجة العرض لحظة الرقص الى حوار جسد مفتوح لا يحتاج للغة ولا لحوار، فقط إيقاع الجسد وهو ينصت لإيقاع الموسيقى.. 

الكلمة  ـ المغرب

Alkalimah_maroc@yahoo.com