حينما عبرت النهر الهادر الكبير ، هارباً من وطني ، كان الجو غائماً ، ينث رذاذاً رمادياً ، جلست على طين الضفة الأخرى ، مرعوباً ، خائفاً ، حينها عرفت لِمَ يبكِ المولود المفارق لرحم أمه الدافئ ، وددت لو أصرخ مثله ، آآآآآآآآآه يا عراق ، لم أكن أعلم أنك أدفأ من رحم أمي ، وأعذب من كف أبي المضمخة برائحة التبغ ، حتى جلست مرتعشاً على ضفة الغربة الرمادية الباردة ..
من يومها أصبت بعمى الألوان ، ولا أعني تمييز اللون الأخضر عن اللون الأزرق ، بل أصبحت كل الألوان في عيني المريضة ، رمادية ..
المروج الخضر في المنفى رمادية ، الأنهار رمادية ، السماء رمادية ، الأشجار تورق بالرمادي ، الفراشات الرمادية الجميلة تحلق فوق حديقة بيتي الرمادي الكئيب ، الشمس رمادية، الويسكي الأشقر الذي شربت سائله الرمادي المنعش ، عكر مزاجي الرمادي ، صوت حسين نعمة الرمادي يدعوني إلى البكاء ، القلب الذي أهدتني إياه زوجتي في عيد الحب رمادي، حروفي التي أكتبها بقلمي الرمادي لا تعبر عن حزني وشجني وأساي ، آآآآآآآآآآآآآآآآآه لو تعرفون قتامة هذا اللون اللعين، إنه لون الغربة، غربة الروح التي تتحرق للوطن، كالفراشات الليلية الحائمة حول ضوء الشموع.
العراق