نشرت مجلة (الكلمة) على حلقات (الأعداد 48، 49، 50)، لقاء موسعاً مع المستعرب الاسباني بدرو مارتينث مونتابث، تناولت فيه محررة "الكلمة" سيرة المستعرب وحال الاستعراب الاسباني، وخلال الحديث معه طلبنا منه الكلام عن منجزه الثقافي، فكان رده بأنه يفضل ترك المجال للآخرين للحديث في هذا الشـأن، فكان هذا الحديث.

حول مشروع بدرو مارتينث مونتابث الثقافي

حديث مع المستعربة الاسبانية كارمن رويث برابو-بياسانت

أثير محمد على

أجرت الحوار وترجمته

 

مقدمة

نشرت مجلة "الكلمة" على حلقات متعاقبة، في كل من الأعداد (48، 49، 50)، لقاء موسعاً مع المستعرب الاسباني بدرو مارتينث مونتابث، حمل عنوان: "فسيفساء لذاكرة حاضرة"، تناولت فيه محررة "الكلمة" سيرة المستعرب الذاتية وحال الاستعراب الاسباني في القرن الماضي، كما نشرت في العدد 52 لقاء معه بين فيه رأيه في حراك "الربيع العربي".

وخلال الحديث معه طلب منه الكلام عن منحزه الثقافي، فكان رده بأنه يفضل ترك المجال للآخرين للحديث في هذا الشـأن. وعليه، لجأت للبروفسورة كارمن رويث برابو-بياسانت، لأنها الشخصيّة المناسبة والمستعربة القادرة على الإحاطة بالمنحز الفكري لمونتابث، خاصة أنها عاصرته منذ كانت طالبته إلى مرحلة الزمالة في فضاء العمل الجامعي.

على التوالي يستبين القارئ من الحوار مع المستعربة كارمن رويث برابو-بياسانت إضاءات على الانعطاف التاريخي الذي أنجزه مونتابث في مشروعه الخاص بالاستعراب الاسباني، والإضافات الهامة التي قدمها، وطبيعة الظرف التاريخي الذي حكم مشروعه ويتحكم به في راهن اليوم.

* * * *

* بداية أود أن أتعرف على وجهة نظرك حول الشواخص التي وجّهت مسار علاقة البروفسور بدرو مارتينث مونتابث مع الثقافة العربية، وما هي العوامل التي أدت لتأسيسه دراسات الأدب العربي الحديث في فضاء الاستعراب الاسباني والذي كان جلّ تركيزه يتمحور على التراث العربي عامة والأندلسي على نحو الخصوص.

** بدأ مونتابث تكوينه الثقافي من ازدواجية معرفيّة أكاديميّة، وأقصد هنا دراسة التاريخ من جهة إضافة للدراسات الخاصة بالاستعراب من جهة أخرى.

في مرحلة أولى من شبابه نشر أبحاثاً حول التاريخ القروسطي، تناول البعض منها موضوعة الأندلس، كما عالج في دراسات أخرى التاريخ المصري، خلال المرحلة المملوكية وعنها قدم أطروحته لنيل درجة الدكتوراه.

كان للاحتكاك المباشر مع الواقع العربي والمثقفين العرب، وحتى مع المفكرين المختصين بالقضايا الثقافية العربية التقليدية، أثره الحاسم في اكتشافه لأهمية الأدب العربي الحديث المغيّب عن دراسات الاستعراب الاسباني حتى منتصف القرن الماضي. ويمكن القول أن الإرهاصات الأولى لهذا الاحتكاك تعود لسنة 1956 أثناء وجود مونتابث المؤقت في المغرب خلال فترة "الحماية الاسبانية"، حيث كانت تصل من أمريكا اللاتينية أخبار ومنشورات ومطبوعات من أدب المهجر العربي. في تلك الأوقات المبكرة، كان تواصل الشاب مونتابث يتفتح على أفق جديد شيئاً فشيئاً، ولكن المرحلة الحاسمة لتبلور الوعي وقصدية التوجه في منجز بدرو مارتينث مونتابث الفكري تعود بلا أدنى شك إلى السنوات التي أقام بها في مصر (1957-1962).

* ما هي الخصائص التي تميّز منجز المستعرب بدرو مارتينث مونتابث؟!

** يتميز منجز بدرو مارتينث مونتابث بمعرفة نقدية تأمليّة موثّقة، معرفة موسوعية مرنة ترفض التحجّر، وتنفتح على السجال وعلى الاستدلال الجدلي والنسبي، وتتناول الثقافة العربية الحدثية على ضوء ثلاثة عوامل أساسية:

- السيرورة التاريخيّة.

- رؤية الإبداع الأدبي كجزء مركزي في الثقافة ولا يمكن فصله عن التاريخ.

- وعامل آخر جديد حينئذ بالنسبة للاستعراب الاسباني، ألا وهو العناية بالمجتمع العربي المعاصر من حيث تطوره وبنيانه البشري.

في مؤلفه المبكر "مدخل إلى الأدب العربي الحديث" (1974) يؤكد مونتابث بشكل جلي على تواشج ثلاثية (التاريخ، والأدب، والاجتماع) في مقارباته الفكرية ومعالجاته النقدية التحليلة للثقافة العربية. ويمكن فهم وتبرير هذه المسألة بشكل أفضل فيما لو أخذنا بعين الاعتبار أن مواقف مونتابث تجاه التاريخ والمجتمع، تتوافق مع توجهات مدارس علم التاريخ الفرنسي من حيث انتباهه للوجوه الاقتصادية والتطور الاجتماعي والتي تبتعد عن "الاستشراق" بالمعنى السلبي للكلمة.

ولو قاربنا التحليل والنقد في دراسات مونتابث حول التاريخ والمجتمع والأدب، والثقافة العربية عموماً، نلاحظ أن منطق البحث الذي يعتمده يتكئ على حركيّة جدليّة تبتعد عن السكونيّة المثاليّة، وعن ميكانيكيّة التقدم الخطي على حد سواء، كما أنه يشدد على آليات التفسير التي تساهم في توضيح أبعاد موضوع البحث ودلالاتها، والأساس التاريخي للمعيش اليومي، ويستبين أثر التمايز والاختلافات بين الفئات الاجتماعية، وشؤون أخرى كفرص التعليم المتاحة أو إمكانية ممارسة وتلقي الأدب والفن لدى المكونات البشرية المختلفة في المجتمع الواحد.. إلخ. بهذا المعنى فإن الاستعراب الذي مارسه، وما يميز مجمل منجزه، هو استعراب حديث لأنه يقوم على تبلور منهجيّة بحثيّة جدليّة، وفاعليّة حجاجيّة، وموقف نقدي واضح من العالم.

* حسناً، أعتقد أن هذا يقودنا للقول أن الحديث عن مونتابث يتجاوز التوصيف التبسيطي الذي يركز على أنه "مؤسس دراسات الأدب العربي الحديث في الاستعراب الاسباني" فقط، نحو الحديث عن سؤال النوع والكيف لمشروعه الثقافي والتعليمي.

** تماماً!! وأعتقد أن البعض من الزملاء الجامعيين، وأقصد هنا بعض النقاشات التي حصلت في جامعة آوتونوما في مدريد، بسّط منجز مونتابث ولم يفهم عمقه التحليلي وإضافاته الفكرية الهامة، وحصر دوره في كونه البادئ أو محض مؤسسٍ لدراسات الأدب العربي الحديث في المراكز الأكاديمية الاسبانية، وعليه تمّ تناسي أن الدراسات الحديثة التي قدمها مونتابث متعالقة مع معرفة علم الاجتماع والتاريخ في مراحله وإيقاعاته المتعددة.

حالياً، هناك أساتذة في أقسام الأدب العربي في الجامعات، يقولون أنهم يناصرون النزعة المعاصرة لدراسة الأدب العربي الحديث، وبناء على رؤيتهم البنيوية المنغلقة وقطيعتهم مع مفهوم التراكم التاريخي، تتم إزالة مواد تعليمية تخص الماضي العربي من البرنامج التدريسي، مثل المواد التي تتناول التراث أو الأدب العربي التقليدي أو من مراحل ثقافية سابقة على الحداثة العربية.

هذا يعني أنهم لم يستوعبوا موقف وإضافات البروفسور مونتابث الفكرية، ولا فهمه للبنية الكليّة لمجمل سيرورة الأزمنة التاريخيّة، وحواره الحجاجيّ، وتفكيره النقدي، فعلى الرغم من أنه ركّز في دراساته على ما هو معاصر وراهن، إلا أنه في ذات الوقت تطلع للمستقبل، وامتلك رؤية منتفتحة على الآتي وعلى مستقبل الإنسان في المجتمعات، كما أنه لم يقطع الصلة مع معرفة الماضي والآليات المتحكمة في منجزاته الأدبية، بل شدد بعمق، وعلى نحو خاص في دراساته الأخيرة، على ضرورة إدراك وتمثل سيرورة التاريخ وكيفية حراك مساراته المختلفة وصلة الوصل فيما بينها.

هناك قلة من المستعربين المعاصرين، أو من "أنصار المعاصرة"، ممن يولي عمله البحثي، ووجهة نظره المعرفية عناية خاصة بالثالوث المتواشج: التاريخ، المجتمع، والمنجز الإبداعي الأدبي.

وأخلص للقول، إن نواة منهجية مونتابث تتركز على رؤية الحاضر المنفتح على المستقبل وغير المقتلع عن ماضيه، بل تعيه وتتغذى من منجزاته بشكل حيوي.

إضافة لذلك، أعيد وأكرر، أن طريقة مونتابث في تسليط الضوء على التاريخ هي طريقة حديثة متكاملة، يتعالق فيها المنتج غير المادي (الفن والمنجز الابداعي الثقافي) ويحبك بشكل جيد مع الواقع المادي.

ويلاحظ ذلك في مراحل كتاباته المختلفة، فمنذ السنوات الأولى التي كان فيها في مصر، انعكس الواقع المصري، بكافة تغيراته وتجلياته وفروقاته المجتمعية، في دراساته على نحو حي، خاصة أنه كان يعيش هذا الواقع ويتواصل معه بشكل مباشر دون أحكام مسبقة أو رؤية نمطيّة، بل كشاهد ومشارك فيه، سلاحه الإصغاء وسؤال السؤال، كما أنه أقام مروحة واسعة من العلاقات مع مختلف الفئات الاجتماعية، وكان لهذا الأمر أثر كبير في تزويده بفهم واسع لطبيعة حيواتها الاجتماعية وتطلعاتها الفكرية ومصالحها المختلفة خاصة مع انعطاف القرن العشرين نحو نصفه الثاني، والتغيرات الكبيرة في الخطاب وتطلعات التحرر والاستقلال.

* فيما لو أردنا أن نتعرف على مونتابث الباحث والإنسان ما الذي تقوله لنا كارمن رويث برافو-بياسانت، زميلة الدرب المهني منذ مرحلة الطلب على العلم إلى الزمالة في العمل الجامعي، والشراكة في المشروع الاستعرابي لاحقاً؟!

كل ما حاولت الإجابة عنه، في كلامي السابق حول مميزات منجز مونتابث هو عام بالمجمل، وأعتقد أنه من المناسب، كما ترين، الكلام عن مفرد شخصه وطبيعته كأستاذ وإنسان. وفي هذا المجال أقول أنه منضبط فيما يتعلق بالعمل وإنجازه البحثي، كما أنه دقيق جداً، ينقب عن مصادر الدراسات الأدبية ليخضعها للتحليل النقدي، ويتميز بقدرة هائلة على الاقتباس الأكاديمي الجامع والقيّم من مراجع تنتمي لمروحة ثقافية واسعة من البلدان العربية أو الغربية على حد عادل.

وفي هذا المجال، أذكر أن بعض الباحثين في مواضيع تخص فضاء لغوياً ما، يقتبسون من المراجع المكتوبة بهذه اللغة فقط، ويتجاهلون أو يقصون ما كتب حول نفس المواضيع في لغات أخرى؛ وعليه فإن ما يميّز فعل مونتابث البحثي هو ذلك الفهم والتأكيد على القيمة الكونيّة للمعرفة من خلال الاقتباس، والضمّ الحواري بين دراسات مختلفة من لغات متعددة، يراها رئيسة حول مادة دراسية أو موضوع محدد في الثقافة العربية.

ثمة بالمقابل مونتابث الإنسان الذي يتمتع بسلوك متواضع قريب من الناس، دون تلك الرسميّة أو التمييز الاجتماعي أو التراتبية التي يتثبت عندها البعض، بل يرى فيها ما ينقض المساواة والتعامل الإنساني بين الأفراد والثقافات، إضافة لإعاقتها سبل البحث عن المنابع المعرفيّة. وهذا الأمر سهّل لمونتابث الولوج إلى الثقافة الشعبيّة إلى جانب التعامل مع النخب المثقفة.

على سبل المثال، لو فكرنا بالثقافة الاسبانية، فإن مونتابث هو قارئ لأعمال نقدية أكاديميّة رفيعة المستوى ولآداب كلاسيكية أو حديثة مرموقة، وبذات الوقت هو متلقي للممارسات الشعبية الفنيّة كمقامات الفلامنكو أو غيرها من الموروث الشعبي وفنون الشارع أو ما تنظمه البلديات المحلية الصغيرة من نشاطات. كما أنه حريص على مدّ جسور صلاته الإنسانية وصداقاته مع فاعليّ ومستقبلي الثقافة والإبداع بغض النظر عن التصنيفات التراتبية التمييزيّة المكرسة والتي يرفضها تماماً كما أشرت.

بالتأكيد الأمر نفسه ينطبق على تعامل مونتابث الأخلاقي مع أهل الثقافة العربية، فقد رأيت كيف يتعامل مع الرجال العرب والنساء العربيات، حيث عقد صداقته مع قامات ثقافية معاصرة محترمة، يشابهها في السلوك والأخلاق، ويلتقي معها في القدرة على التواصل المحترم مع شخصيات سياسية أو الثقافية، دون فقدان أهمية الاقتراب من الناس في الشارع.

من جانب آخر، وبالتوافق مع ما رآه الباحث أميركو كاسترو، والذي كان أول من تطرق لقضية الهويات الثقافية في المجتمع الاسباني، اعتبر مونتابث مثل كاسترو أن الثقافة العربية تتمتع بتجاور أو امتزاج أشكال تعبير نخبويّة عالمة مع أخرى شعبية، وأدعوها أنا بأشكال تعبير "مختلطة"، حيث الأعمال الإبداعية العربية التقليدية، تتميز بالجمع ما بين ما هو متخصص رفيع مع ما هو شعبي متداول.

بالمقابل فيما لو فكرنا في هذه الخاصية المميزة للآداب العربية، ونقلناها إلى سلوك الأشخاص، نجد أن مونتابث، كما أصداقائه من المثقفين العرب، لديه ملكة في التعامل السلس والانتقال في التعامل مع جانب سياسي أو ثقافي نخبوي لآخر شعبي، كما هو الحال في النص والبنية الكلامية المميزة للغة العربية، وهذا الانتقال يتبدى كسلوك ورغبة تواصل طبيعيّة لا مخاتله فيها، ويستمر مونتابث من خلالها، أي من خلال انفراج زاوية تفاعله مع الآخرين، على بناء وتطوير نفسه.

وخاصية الاختلاط هذه، بين العلمي المرموق وبين الشعبي العفوي، والقدرة الانتقالية بينهما انعكست على نحو واضح في مقاربات ومؤلفات مونتابث النقدية العلمية، كما انعكست على المواد التدريسية الجامعيّة التي وضعها، وسلوكه كأستاذ في المؤسسة الأكاديميّة.

* ما هي طبيعة العلاقة بين مونتابث كباحث مع من تعامل معهم من بحاثة خلال المراحل التاريخية المختلفة لاسبانيا؟

** كأستاذ وباحث، أعتقد أنه كان سخياً لأبعد الحدود في تقديم المقتراحات وصياغة الأسئلة والأفكار حول المواضيع والأطروحات التي تتطلب أو تصلح للبحث، ومساعدة البحاثة في إنجازاها وتحقيقها ما تيسرت له السبل بالنقاش وتقديم المراجع والمواد التوثيقية. وأعتقد أنه يحتم على الباحثين الاعتراف بفضله هذا على مسار بحثهم.

وفي معرض الحديث هنا، آمل أن الفهرسة وأسماء المراجع والدوريات والأرشيف البحثي الخاص الذي راكمه مونتابث على مدار 25 سنة على الأقل، دون أي دعم مؤسساتي، وصنفه حسب اسم المؤلف أو الموضوع أو المحتوى، ويصل لحوالي نصف مليون عنوان و250 ألف ملف من الوثائق، سينتقل خلال أيام إلى ممتلكات "المجلس الأعلى للبحوث العلميّة" ليكون متاحاً أمام جميع الباحثين.

* ما هو مدى انتشار الاستعراب الاسباني عامة، ومنجز مونتابث على نحو الخصوص، على المستوى العالمي والاسباني والعربي؟!! وهل هناك تنافس أو احتكار للمعرفة أو سيطرة على تسويق البحوث النقدية والفكرية الاستعرابية التي تنتمي لبلدان مختلفة؟!

** السؤال يدفعني للتنويه بأن المستعرب الايطالي المشهور فرانشسكو غابريليّ (1904-1996) ذكر في مؤلفه Orientalisti del Novecento، أن المستعرب الأهم من بين المستعربين الأوربيين الدارسين للأدب العربي الحديث هو بدرو مارتينث مونتابث. هذا الرأي يدعونا للتساؤل عن مدى الانتشار والاطلاع على أبحاث الاستعراب المنتمي لبلدان الجنوب الأوروبي، كالاستعراب الايطالي والاسباني، أو الايبيري، على المستوى العالمي.

في كل الأحوال الإجابة عن ذلك تشير إلى ضرورة توسيع رقعة انتشار هذه الأعمال الاستعرابية، والمسؤولية تقع على عاتقنا نحن المستعربين، للعمل أكثر والتواصل فيما بيننا كي نوصّل مؤلفاتنا ونشاطنا الفكري إلى نطاق واسع عالمياً، بحيث نقدر على إلغاء احتكار تسويق دراسات الاستعراب من قبل بعض البلدان أو القوى الكبرى.

على المستوى الاسباني، يمكن القول أنه منذ سنوات السبعينات كانت منجزات بدرو مارتينث مونتابث، كما منجزات المتلقين لمبادراته، تجد لها سبيلاً معترفاً بها ومقبولاً، وتلاقي الدعم والتفهم من قبل المجتمع عامة، والمجتمع العلمي والثقافي خاصة. ولكن مع بداية سنوات الثمانينات وبدء عملية التحول الديموقراطي في اسبانيا، بدأنا الاحساس بأمر متناقض وغريب، مبطن وغير مصرح به، فبدلاً من استمرار الدعم والمساعدة على تأكيد أهمية تيار الاستعراب حسب تصور مونتابث، أخذنا نتلمس نوعاً من الهجران التدريجي لخطه وفكره ومنجزه وشخصه. بالتأكيد ما أذكره هنا يطال مراحل عايشتها وأعرفها مباشرة، مراحل أعتقد أنها تحتاج لدراسة تاريخية عميقة لتأكيد الكيفية التي سارت عليها ومعرفة أسبابها البعيدة.

* هل للتحول الديموقراطي علاقة مباشرة بنقص الدعم الذي تشيرين له، أم أن السبب يعود لطبيعة مشروع مونتابث الاستعرابي والمواجهات الثقافية التي حتم عليه خوضها؟!

** من جهتي، لا أعتقد أن ما حدث من ابتعاد عن مفهوم مونتابث الاستعرابي أتى كمؤثر مباشر للمضي قدما في التحول الديموقراطي في اسبانيا. من المؤكد أن ظاهرة الابتعاد، المقنع وغير المعلن، جديرة بالتحليل والاستدلال السببي وتسليط الضوء لفهمها والإحاطة بالأبعاد والعوامل المختلفة لها. ولكني أعود للتأكيد بأنه مع نهاية السبعينات وبداية الثمانيات، بدلاً من تجمع القوى الثقافية بقصدية تتغيى تطوير استعراب اسباني متعدد ومتنوع ضمن وحدته الاسبانية الجامعة، حدثت ظاهرة الابتعاد التي ذكرتها عن تيار مونتابث، ولوحظ النقص في دعمه، بل والهجوم عليه في بعض الأحيان.

وهذه المسألة تقودنا، في جانب من جوانبها، إلى ربط سبب الجهل بالاستعراب الاسباني بوسائل الإعلام الاسبانية، ومسؤوليتها في إنارة مناطق محددة من الاستعراب في اسبانيا، وترويجها وتقديمها على غيرها، في الحين الذي تناور فيه على تعتيم مناطق أخرى ومن ضمنها مشروع مونتابث الاستعرابي.

* ما هو أثر التغيير والتقسيم الإدراي السياسي الذي شهدته اسبانيا مع التحول الديموقراطي على دراسات الاستعراب فيها؟

** مع نهاية السبعينات وبداية الثمانيات، كان للتقسيم الإداري السياسي في اسبانيا والقائم على الاستقلال الذاتي أثره الكبير على دراسات الاستعراب، حيث تحققت لامركزية الدراسات العربية واستقلت بشكل من الأشكال الأبحاث الاستعرابية في مدن الأقاليم وفي مناطق الضواحي، وبقيت مدريد العاصمة متخلفة عن غيرها في تلك السنوات، وكما لو أنها أخضعت لعقاب سياسي وتاريخي، فمدريد سابقاً مثلت مركزية الحكم الدكتاتوري، وبالتالي لم تنافسها آنئذ، ولم يسمح أن تنافسها، أي من المدن الأخرى، ولكن مع التحول الديموقراطي، بدأت تتأسس الجامعات في مدن الأقاليم الاسبانية المتعددة، وبدأت لامركزية العملية التدريسية تفرض نفسها على الواقع المعرفي وتنهي سنوات الاحتكار لصالح العاصمة/ المركز، حتى أنه يمكن القول أن مدريد تبدو كما لو أنها عُوقبت إلى حد تخلفها عن غيرها في مجال التعليم والبحث العلمي، وأخذت تتعرف حينئذ على معنى الهامش، وأن تكون المدينة على هامش المركز، كما كان الحال في النظام المركزي.

وبالطبع كان لهذا التحول التاريخي أثره على مشروع مونتابث الذي كان أحد الآباء المؤسسين لجامعة أوتونوما في مدريد في 1968، والذي لم يكن توجهه الفكري لصالح المركزية سواء السياسية أم المعرفية في يوم من الأيام.

ولكن مع بداية سنوات الثمانيات التي أتحدث عنها هنا اعتبر مشروع مونتابث، لأسباب لا تتعلق بطبيعة عمله ولا بموقفه من الواقع، كواحد من التمثيلات المركزية بسبب وجوده في جامعة في العاصمة.

العملية السياسية لتحقيق الاستقلال الذاتي للأقاليم الاسبانية، كانت دافعاً أساسياً لايصال الكم الأهم من المساعدات والتمويل للمؤسسات العلمية والمراكز الأكاديمية (من منح وتفعيل التنمية والبحث العلمي وطباعة الدراسات) في مدن الأقاليم المختلفة على حساب العاصمة. مما أدى لقلة الموارد التي تصل إلى جامعة أوتوموما التي عمل فيها مونتابث. بالطبع هذا الأمر منطقي وحق عام، والحديث عنه هنا ليس لنقده سلباً، وإنما لتفهمه ومعرفة أبعاد مؤثراته الموضوعية على مشروع مونتابث الذي تباطأ وكاد يتوقف ليفسح المجال لغيره بالتقدم.

إلى جانب ذلك لابد من الإشارة إلى أن الصراع ضد ماهو مركزي ولد احساساً في غير مكانه، ألا وهو أن تجديدات مونتابث في الاستعراب هي شأن من شؤون الاستعراب في المركز/ مدريد التي تحوي على جامعتي كومبلوتنسي وآوتونوما الحكوميتين. بالتالي كما لو أن لامركزية الحكم والاستقلال الذاتي حمل معه تقسيماً لمفهوم الاستعراب إلى: استعراب المركز واستعراب اللامركز.

الآن هناك مدن، من مثل غرناطة، والتي تمتع الاستعراب فيها بثقل معتبر منذ سنوات الأربعينات، زادت من قدرتها ومكانتها وضاعفت من قيمتها الاستعرابية مع نظام الاستقلال الذاتي.

وكان لهذا الاستقلال أثره الإيجابي على الاستعراب في مدن من مثل سرقسطة واشبلية ومالقا، خاصة على الجيل الذي يبلغ الآن عقده السادس والسابع وعايش سنوات التحول، واستثمر هذه اللحظة التاريخية لبناء استعرابه الخاص، على ضوء رؤية تفاعلت مع حدوث الديموقراطية والاستقلال الذاتي، وأهمل على نحو ما العمود الفقري لهيكلية الاستعراب الكلية الجامعة. بالطبع هناك استثناءات لهذه الفكرة، خاصة ممن تنبه لأهمية الكلية وحاول خلق حلقات توصل بينه وبين المراكز العلمية في مختلف المدن نحو جهد جمعي للاستعراب، وتحضر ذاكرتي أسماء من مثل ميرثيدس دل آمو، وماريا ايسابل لاثارو دوران من غرناطة، وكلارا ماريا توماس من اشبيلية من بين أسماء أخر.

* بناء على ما تذكريته، كيف يمكن تفسير التأكيد بأن مرحلة التحول الديموقراطي شهدت ازدهاراً ملحوظاً في مجال البحث العلمي ودراسات الاستعراب؟!

** من الصحة بمكان الإشارة إلى أن بحوث الاستعراب تضاعفت بعد الشروع في التحول الديموقراطي في الثمانينات، وزاد الاهتمام بإصدار الكثير من العناوين القيمة التي تتناول المواضيع والأدب العربي المعاصر، إلا أن العمود الفقري والملاط اللاصق لكل هذه الإصدارات كان مفككاً وضعيفاً، وفاقداً للبوصلة الموجّهة، ومقسماً إلى مناطق بحثية لا تواصل فيما بينها وأشبه ما تكون بغيتوات بلا هيكيلة رابطة. وما أقوله يصب في القول أن اعتراف المرء بسلبيات تاريخه الخاص هو أمر صحي.

* بالعودة لفكرة طرحتها في بداية حوارنا، ما هي طبيعة التواصل والتعاون بين بدرو مارتينث مونتابث وبين الجانب العربي، كيف ترين إلى أفق تأثير مشروعه الاستعرابي فيه؟

** حرص مونتابث باستمرار على تأييد الحراك الاجتماعي المؤدي لتطور الواقع العربي، والتوجهات التجديدة في الثقافة العربية، حتى المغامرة أو المخاطرة منها، مدفوعاً بالالتزام تجاهها، وبموقف نقدي ينقض التيارت التي يمكن أن توصف بالهدامة والمهددة للثقافة. وبدافع عمله في الحقل التعليمي الجامعي كان التواصل مع الجانب العربي يتم عبر المؤسسات الاسبانية كما العربية، كالمشاركة في المؤتمرات والاجتماعات والمهرجانات المختلفة، هذا الأمر يعني، بشكل من الأشكال، ضرورة التعامل مع الوزارات الرسميّة المعنيّة مثل وزارات الثقافة والتعليم والإعلام والخارجية ومختلف التمثيلات الدبلوماسية.. إلخ سواء من الجانب الاسباني أم العربي، ويتحتم القول أن مختلف التمثيلات الدبلوماسية العربية أبدت تعاونها الايجابي، ومازالت، إلى حدّ معين، كتسهيلها التنقل في الأمكنة المختلفة والمشاركة في النشاطات الثقافية المقامة فيها.. الخ، ولكن ما إن يصل الأمر إلى تقديم موقف نقدي مكتوب ومعلن، وإن على نحو محترم، ولكنه لا يتوافق مع الموقف الرسمي، يبدأ العزل المقنع وإشاحة الوجه غير المصرح به عن المستعرب صاحب هذا الموقف. وهذا الأمر حصل مع مونتابث ومشروعه التجديدي رغم أنه عُرف على نطاق واسع في العالم العربي وكتب عنه وعن موقفه من قبل الإعلامين والنقاد والأدباء العرب، إضافة إلى أنه حصل على تكريمات معتبرة آخرها جائزة الشيخ زايد في الإمارات العربية المتحدة.

ولكني بصراحة، إلى حانب كل ذلك، أعتقد أن هناك نقص في التعاون والتفاهم بين الفضاءات العربية، وكان لهذا الأمر أثره في توقف دعم وترويج مشروع مونتابث الاستعرابي.

ومن كل ما سبق أخلص للقول، كما الاستعراب الاسباني تنقصه هيكلية توجيهيه تجمعه، فإن التعاون والعمل المنهجي المنفتح بين المؤسسات والتمثيلات الثقافية في البلاد العربية يعاني نقصاً واضحاً هو الأخر.

وهنا لا أود أن أغفل جهد الباحثين والإعلاميين والطلبة العرب ممن كنّ الولاء لمشروع مونتابث، وكان له الفعل الأكبر في تسليط الضوء عليه وإيصاله عالمياً. لعل ما أقوله هنا يتفق مع طرافة فكرة أن كثير من المغنين الاسبان ينطلقون من أميركا اللاتينية، حيث يتم توزيع أعمالهم وتنتشر منها أغانيهم، ويعرفون عالمياً قبل بلدهم الأم نفسه.

ولا أود أن أهضم حق شخصيات سياسية، عربية واسبانية، كان لتأييدها المفرد أثره الهام على مشروع مونتابث، إلا أن قلة الحيلة على العمل المشترك، وتنسيق الجهد الموسساتي أودى بفعلهم الفردي إلى مهب الريح.

* ألا تعتقدين بضرورة مراجعة تاريخ الاستعراب الاسباني ونقد النقد مع تراكم منجز مونتابث الاستعرابي وغيره في اسبانيا.

** مع منتصف سنوات السبعينات، بدأت تظهر تدريجياً مقالات وتقارير مكتوبة تتناول تاريخ الاستعراب الاسباني حتى اللحظة المعاصرة. وفيما لو تمعن المرء فيها فإنه سيلاحظ أن الإشارات المرجعية إلى تيار مونتابث الاستعرابي الحديث، تقتصر على اقتباسات عابرة أو ملاحظات نسبية صغيرة، أو حتى إشارات كمية تتراكم على حساب النوعية والتحليل، وتجعل من خطه أشبه ما يكون بمرحلة انتقالية ميكانيكية لاجدلية. وهو أمر غير عادل لأنه غير واقعي.

مع الوقت وتراكم هذه الكتابات المتشظية شبه النافلة تنبهت للمسألة، وأخذت أفكر بأنه من المسؤولية بمكان الحديث عن فعل مونتابث الثقافي، خاصة من قبل من عاصروه، وتقديم شهادة مكتوبة عن تلك السنوات وتحليل الجهود الحاسمة في الاستعراب الذي أسسه مونتابث، وشق له طريقاً متحرراً من سلطة الخطاب المكرس.

كما على البحاثة المهتمين بالتأريخ، الكلام عن سيروة هذا التيار ضمن سياقاته وظروفه المختلفة، وتحليله وفقا لأسس منهجيّة علميّة، وإلا فإن هذه التجربة الثقافية الهامة في تاريخ الاستعراب الاسباني ستبقى مفتتة إلى مقالات وملاحظات وانطباعات متفرقة لا جامع نقدي يلمها في رؤية نقدية تاريخية.

مونتابث نفسه لم يولي عنايته لتأريخ تجربته والحديث التوثيقي عنها، وأكد باستمرار أن مهمته هي أن يعالج الثقافة العربية ويقارب آدابها بالدراسة، وأن التأريخ التحليلي، ونقد النقد، لفعله يقع على عاتق البحاثة الآخرين.

على سبيل المثال، أسرد تجربة لمونتابث مع "مجلة المنارة"، التي كانت تصدر في مدريد سنوات السبعيات، وكان مونتابث رئيس تحريرها وكان لها هيئة تحرير مرموقة.

كانت "المنارة" مجلة متخصصة بالعالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وأولت عناية كبيرة للفعل الابداعي العربي. وبما أنها مجلة علميّة جديّة مستقلة وجريئة وملتزمة مع الواقع العربي، لم تستطع أن تحصل على دعم مادي من أي مؤسسة من المؤسسات الرسمية الثقافية أو العلمية الاسبانية كي تستمر بالصدور، وبحالة واحدة تعاون معها "المعهد الثقافي الاسباني العربي للثقافة"، وهو مؤسسة حكومية، يعود تأسسها عام 1954 لجهود المستعرب الكبير اميليو غارثيا غومث.

حسناً، تعاون "المعهد الاسباني العربي للثقافة" مع مجلة "المنارة" توقف عند الحديث عن "فلسطين" في صفحات المجلة، مما أدى لانقطاع الدعم مباشرة، فالقضية الفلسطينة كانت موضوعاً ممنوعاً يجب عدم التطرق له.

ولفهم الأمر، أقول أن أشخاص مثل مونتابث، ممن لم ينتسب أو يتنتطم في صفوف أي حزب سياسي رغم أنه يمتلك أفكاره وقناعاته السياسية، كان وفياً لأفكاره حينما حتم عليه اتخاذ موقف أخلاقي واضح من قضية سياسية ما، ولم يفقد استقلاليته من أجل مصالح أي حزب من الأحزاب.

وتوقفت مجلة "المنارة" وغابت عن الساحة بعد العدد/ الكتاب العاشر، لتحضر مجلات أخرى بأسماء مختلفة، تحاول أن تقلدها في محتواها وطرازها الإخراحي، كما حاولت أن تعطي الانطباع بأنها متقدمة على رصيفاتها، ولكنها في حقيقة الأمر تنازلت عن استقلاليتها بحرصها على تمثّل الخطاب السياسي الرسمي وعدم الإنزياح الحرّ الأخلاقي عنه.

وأعود لأكرر قناعتي أن مشروع مونتابث العلمي البحثي والثقافي، هو مشروع عابر للأجيال، لقدرته التجديدة والتفاعل مع مستجدات الواقع ومتطلبات المرحلة التاريخية. ولم يكن في يوم من الأيام مشروعاً فردياً، أو يتعين باقتصاره على جيل واحد، أو توصيفه كمشروع مرحلي محدود أو قصير الأمد، بل هو مشروع حي يقاوم الزمن بحوار أفكاره مع المتلقي مما يعني إمكانية تطوره المستمر. وهذا ما يرى من خلال سيرورة أدبيات مونتابث المنشورة، فعند إعادة قراءة الأعمال السابقة ومقارنتها مع الأعمال اللاحقة فإنها لا تسقط أو تتداعى بفعل الزمن، بل يتلمس فيها المتلقي قدرة على المقاومة وإثارة القلق المعرفي.

أكرر، لم يتلق مشروعة أي تمويل أو معونة مؤسساتية من قبل أي جهة من الجهات، وحتى حينما كان في منصب رئيس جامعة أوتونوما، في أوقات تغيرت فيها المراكز الأكادمية والمجتمع الاسباني بشكل ايجابي، إلا أن ذلك لم يعن حصوله على أي امتياز مادي لمشروعه، وكان هو يعرف أنه سيواجه صعوبات جمّة، حتى أن "المعهد الاسباني العربي للثقافة" التابع لوزارة الخارجية، كانت ينتظر منه أن يكون الأوفى للمشروع التجديدي الاستعرابي في المراكز الأكاديمية لكونه الكيان المؤسساتي المتعلق مباشرة بشؤون الثقافة العربية، إلا أن الواقع يقول العكس لابتعاده عن الجامعة منذ استلام مونتابث رئاسة آوتونوما، مروراً بكافة الفترات اللاحقة حتى راهن اليوم.

والأمر نفسه حصل مع الجهات المؤسساتية التي ورثت "المعهد الاسباني العربي للثقافة" بعد أن غيرت من أسماءها وأسقطت "الثقافة" من اسمها، وبدأ الاسم ينمو اعتباراً من "معهد التعاون مع العالم العربي"، إلى "الوكالة الاسبانية للتعاون الدولي"، ومن ثم "الوكالة الاسبانية للتعاون الدولي والتطور"، إلا أنه عند التدقيق في نمو الاسم وزيادة طوله واحتوائه على مناطق واسعة من العلاقة التعاونية مع ما هو عربي، نجد أن هذا الكمّ الآخذ في التوسع هو على حساب نوعية الاهتمام بالعالم والثقافة العربية، أو على الأقل لم يترافق الكم مع النوع في هذه العلاقة والتعاون.

الآن بعد تأسيس "البيت العربي" في مدريد من قبل وزارة الخارجية، تمت محاولة لاستعادة روح "المعهد الاسباني العربي للثقافة" السابقة، دون الانتباه إلى أن سنوات طوال مرت على تلك التجربة والأوضاع التاريخية تغيرت.

* ما هو تعليقك على الفكرة المجازفة والرديكالية التي يطرحها البعض والتي ترى إلى أن المنجز الثقافي بين 1939 حتى 1975 مرتبط بالديكتاتورية أو بخطاب السلطة حينها.

** ردا على السؤال فيما لو أن المثقفين الاسبان ممن اشتغل في المؤسسات التعليمية والثقافية، خاصة عقود الستينيات والسبعينيات، كانوا مرتبطين بالنظام الدكتاتوري، أو أن حصولهم على مراكز إدارية فيها كان على حساب موقفهم الأيديولوجي منه. أجيب أنه ما من أحد يمتلك عمقاً في التحليل النقدي يستطيع أن يطلق مثل هذا الحكم التبسيطيّ، لأنه في المقام الأول غير صحيح، إضافة لأن مثل هذا التعميم الجائر يتجاهل الفارق بين الدولة ومؤسساتها وبين النظام والسلطة الحاكمة، ويوحد بينهما، في حين أن التاريخ الاجتماعي ومنجز بدرو مارتينث مونتابث نفسه يبرهنان على خطأه. ذلك أن كافة كتابات مونتابث وما حققه للاستعراب الاسباني يشهد على استقلاليته كمثقف عن الخطاب المهيمن، وعلى حرصه الدؤوب على تحرير المؤسسة الثقافية من سطوة السلطة، واقتناص امكانية العمل، أو خلقها، ضمن الهوامش المتاحة.

* هل يمكن القول أن مشروع مونتابث الاستعرابي حصل على مايروم من نتائج عملية؟

** مشروع مونتابث التجديدي مازال حياً، يقوم على حالة سجال مستمر، منفتح على الجدل الثقافي الاستعرابي، لذلك فإنه لا يتوقف عند فكرة تحصيل النتائج، بل هو عمل دائم ودؤوب، وعلى نحو ما يحكمه تطلّع يوتوبي يتغيى تكثيف العلاقة الخصبة والتفاعل الندّي بين المجتمعات العربية ومجمل المجتمعات الناطقة باللغة الاسبانية.

للوهلة الأولى تحفظت على إمكانية تحقيق آماله، وفكرته حول خصوبة العلاقة بين المجتمعات المختلفة، لكني فهمت أن الشعوب تتواصل مباشرة فيما بينها ولا تحتاج لوصاية أحد، والأمر يتعلق فقط بإزاحة العوامل المعيقة من الأفكار المسبقة، والتنميط المعتمد، والكلشيهات الاستيهامية، وتلفيقية القيم في خطاب السلطات التمثيليّة المختلفة.

* كيف ترين لعلاقة مشروع بدرو مارتينث مونتابث الاستعرابي مع الأجيال الجديدة.

** لست متأكدة من أن بعض الباحثين الشبان تصدى للدراسة والتأمل في ما كتب عن مشروع مونتابث من الوجهة البحثيّة الأكاديمية، التي تقوم على نقد نقد الاستعراب الحديث، ويحضرني اسم الباحثة الشابة باربارا اريرو مونيوث كوبو التي تعمل في الميريه، وخريجة جامعة آوتونوما في مدريد، التي حاولت تقديم دراسة نقدية حول منجزات مونتابث.

في كل الأحوال، ينتابني الاحساس أن الأجيال الشابة التي لم تتزامن مع مونتابث أثتاء عمله في الجامعة، ولم يتح لها المجال للتعامل معه، ولم تصلها أعماله سابقاً، واقتصر تواصلها مع فكره على الثقافة السمعيّة العامة، بدأت تولي عنايتها للتأمل النقدي مع تواصلها المعرفي ومطالعتها المباشرة لأعماله النقدية، وبدأت تكتشف بشكل أفضل وبعمق معنى المشروع الاستعرابي الذي كان مونتابث قد بدأه لعقود مضت، كما أخذت تمتلك القدرة على موضعته التاريخية في واقع الاستعراب الاسباني.