يـا عرّوب ... أنت لم تمت، مرحى بروحك بيننا!

أوراق واخشيش: في وداع الشاعر المغربي العربي الذهبي

حسن المودن

جاءني العربي ليلة أمس،
هم وحدهم يقولون انه مات،
العربي لم يمت
بالتأكيد
سنجدك بّا عرّوب
في مكان ما
في زمان ما
تقول الشعر
تنشر مرحك وسخريتك
وكما عادتكّ
تشهر عنادك وجنونك

بّـا عرّوب .. أنت لم تمت
أريد أن أعيش حدادك صارخا حتى النفس الأخير
لكن الزمان علّـمني كيف أنكر الغيظ وأتحمّل الألم
لا أملك صوتا لأصرخ
أتذكر بّا عرّوب: كم كان بعض الناس يصرخون كثيرا
في السياسة والثقافة والأدب!
والقلم أصابه العيّ والحصر
لا يستطيع أن يفرّج عن نفسي
أن يخلّصني من كلّ هذا اليأس والإحباط

هل يدرك الآخرون ما معنى أن نفقدك؟
وحدنا نعرف كيف تلاعب بنا الزمان
هل يدركون الانكسار الداخلي العنيف غير المنتظر؟
وحدنا نعرف حاجة كل واحد منّا إلى الآخر
هل يدركون النزيف النفسي الذي يحدث عندما أجد الصاحب قد انتقل إلى مقبرة الصمت والنسيان؟
تدرك صديقي أن الكتابة شروع في الخروج من الحزن والحداد، وأنا لا لم أعد أملك الإرادة لأغادر عالم الموت والشرود والضياع،
لا أملك القدرة على رفع الألم ونسيان الوجع واستعادة الذاكرة والإحساس بمعنى ما للحياة والوجود؟
وصلني الخبر في اليوم التالي من موتك
قال أخي عبد الله ــ كنت له خير الصاحب ــ في الهاتف:
رحم الله بّـا عرّوب
ذهول.. شرود ..ضياع...جنون ..فقدت الإحساس بكل الأشياء.. فقدت الإحساس بنفسي
لا يمكن.. لا يعقل ..كيف لذلك أن يكون حقيقة؟
لم أصدّق، ولا أريد أن أصدّق

العربي ما يزال حيّـا
لا أستطيع أن أحضر جنازتك وعشاءك..وأهلك لم يستوعبوا غيابي وأنا أعزّ أصدقائك
لا أستطيع أن أصدّق أنك رحلت فعلا
لا أستطيع أن أصدّق أن الدهر بكل هذه القسوة 
العربي ما يزال حيّـا
هو جزء منّي، من حياتي، من ذاكرتي، من تاريخي، من عائلتي
واذا مات، فأنا أموت أيضا
فكيف لميّت أن يكتب عن ميّت؟
انتظرني بّـا عرّوب
أريد الذهاب معك
أنا ضائع تائه لم أعد أعرف من أكون
لا إدراك
لا إحساس
لا ذاكرة
أختنق بالحزن المكبوت
لا أجد كلمات لأقولها أمام عائلتك وأصدقائك
لازمت منزلي أياما عديدة..لا أفعل شيئا..شارد الذهن باستمرار
جامدا صامتا
كأن ما كان يسندني..قد انتزع منّي بعنف وقساوة..فقدت عقلي وانمحت ذاكرتي..فقدت الإحساس بالوجود

كانت لي حياة قبل معرفتك
وصارت لي حياة بعد مصاحبتك وصداقتك
ما معنى أن نحيى إذا كان الموت يستطيع أن يختطفنا قبل حتى أن ننعم بلحظة واحدة من الطمأنينة والهناء
في زمن غير الزمن ووطن غير الوطن
أحلامك، أحلام جيل، أحلام وطن
كلية آداب مراكش، الحي الجامعي، خلال الثمانينات

كنّا نجري باندفاع غامض
وراء شيء جميل مستحيل
عشناه  في نضالات الحركة الطلابية وسجالاتها وأمسياتها
لامسناه  في الحركات والخطابات الثورية التحررية
غنّيناه مع أغاني مارسيل وقصائد درويش
وجدناه في نصوص أدونيس والمجاطي وباقي مجانين الأدب والفكر

بحثنا عنه في شوارع الحب
أتذكر كان نصيبي امرأة ساحرة
دعتني إلى رقصة ليلية رومانسية وسط نخيل مراكش
ليلة لا توصف
اختفت بعدها دون رجعة
لا عنوان، لا هاتف، لاشيء...
وكان نصيبك امرأة
تعلّقت بها أيّـما تعلّـق
دام الأمر سنوات
ورحلت دون حتّى أن تعرف أنك تحبّها كل ذلك الحبّ

كنت دوما صاحبي
في رحلة الحياة والعلم والأدب
وكنّـا في طريقنا
صحبة تلك الروح التي تزداد اختناقا
كلما توغّـلنا في مدن الوطن وأزمنته

أتذكر كيف اشتغلنا معا على بحث جريء وقتئذ حول الخطاب الاشهاري في التلفزة المغربية؟
أتذكر كيف كانت مناقشة هذا البحث؟
سي محمد البكري، ذلك الأستاذ المشرف الاستثنائي، حزين أيضا لغيابك ورحيلك
أتذكر كيف كنّا نواجه الامتحانات
لم نكن أبدا من حفظة الدروس والمحاضرات..نقرأ كثيرا، نبحث عن الجديد في الفكر والأدب والعلم..نقتحم اللغات والثقافات الأخرى
نمارس النقد والسجال..نريد أن نمتلك التراث والمعاصرة معا

أتذكر كيف كنّا نسير على أقدامنا من الداوديات إلى جامع الفناء من أجل شراء العدد الجديد من الثقافة الجديدة أو الكرمل الفلسطينية أو فصول المصرية قبل أن ينفذ من السوق
أتذكر حلقتنا الصغيرة: الحسن وعمر وآخرون وأخريات ...
جئت صحبة الحسن لتعزيتك
مناضل نظيف صارم كما عهدته
لم يكن ممكنا أن تستمر الحلقة
الزمن كان أقوى
أتذكر أول إنتاج وآخره ترجمتنا معا لنص يعود إلى رولان بارت
ظهرت الترجمة بملحق العلم الثقافي
كانت خطوتنا الأولى في النشر والكتابة
أتذكر ليالي الشعر والخمرة الرخيصة
الحسن، بوشعيب ، محمّد، عبد الله، الطيّب، فاطمة، حجيبة ، ...

تفرقت بنا السبل
واصلت دراستك العليا بالرباط..وفضلت التوظيف أولا ثم مواصلة الدراسة بعد ذلك..حصلنا معا على الشهادات العليا
استمرت العلاقة وتوثقت
زيارات شخصية وعائلية متواصلة عبر السنين
انخرطنا في مسؤوليات مهنية وعائلية وجمعوية
توترات، صدامات، صراعات، حروب لا تنتهي

وشيء ما أصاب نفوسنا جميعا
شرخ كبير
تحول الحلم إلى كوابيس
العربي الذي رأيت فيه شاعرا كبيرا
لم يعد يقرأ عليّ قصائده
العربي الذي كان يفاجئنا باكتشافاته الجديدة في الفكر والعلم والمعرفة..صار طيلة الوقت يحدثني عن حروبه وصراعاته في النقابة والجامعة والثقافة
كم استعطفتك أن تبتعد مثلي عن صداع الراس..أن تهتم بأبنائك وكتبك وقصائدك..كنت مصرّا على الحرب والمقاومة إلى آخر رمق
لا مهادنة ولا تنازل ولا استسلام أمام هؤلاء الذين زرعوا الفساد في السياسة والثقافة والتعليم والجامعة... كنت تقول
كنت تطاردهم في كل مكان وزمان
ونسيت أنهم بذلك شرعوا في استنزاف جسدك وروحك
لم تعد كما كنت
وكم مرةسألتك ولا تردّ:
هل استطعنا أن نواصل حياة نحمي فيها ذلك الطيّب الذي يوجد في دواخلنا؟

أتذكر بّا عرّوب من قال هذه القولة: ارا واخشيش تصّـورت اروح ادلعاوني
انه جمال ابن الصويرة الذي علّـمنا منذ الثمانينات كيف نزور العوالم الأخرى
عوالم كناوة والملوك
جمال حزن كثيرا لغيابك
أقسم أن يكرمك في ليلة كناوية خاصة
وطيلة الليل كانت روحه تردد:
مولاي العربي
أهيا مولاي العربي!
جمال يقول انك حيّ
يقول انك حضرت الليلة
وقد استعادت روحك حياتها

أتذكر كم أدهشتك القولة الأمازيغية:
ارا واخشيش تصّـورت اروح ادلعاوني
ونحن معا أمازيغيان، وندرك المعنى والمغزى
ووضعتها في صدارة إحدى قصائدك التي تعود إلى الثمانينات
قولة تختصر وجودنا وحياتنا
واخشيش شخصية أسطورية، تقول الحكاية انه قرر السفر إلى مدينة الصويرة، وكان يعتقد أنه في الطريق إلى هذه المدينة، ولكنه وجد نفسه في مكان آخر لم يكن على باله اسمه: ادلعاوني.

بّا عرّوب
في كلّ مرّة
كنّا نقصد مكانا فنجده  غير المكان..وكنّا نقصد زمانا ، فنجده غير الزمان..
من المحزن جدا أن ندرك عجزنا على أن نكون ما نريد، وأن نبني العالم كما نريد..
عمّ الإحساس بالتعب والقلق والإحساس باللاجدوى
تركنا أنفسنا للعبة الحياة
وفضّلت أنت لعبة الموت
نال الموت من جسدك يا صديقي، لكنه لن ينال من روحك

قالت أمّك الطيبة:
العربي لم يكن به شيء
كأنه لم يمت
لم تشوهه الحادثة
كأنه لم يخرج من ذلك الحدث الرهيب
جسده هو هو
ونور عجيب يغطي وجهه
العربي لم يمت
أنظر إليه، انه أمام عيني
العربي ما يموت

بّـا عرّوب، يا ابن الشعب
ما يجمعنا ليس مجرد ذكريات...
بّا عرّوب ... أنت لم تمت
بالأمس في مدينة الرياح
رأيت سربا من النوارس يمرّ حاملا اسمك باتجاه جزيرة وسط البحر:
بّـا عرّوب...بّـا عرّوب ...بّـا عرّوب

الصويرة، صيف 2007