يتابع مراسل (الكلمة) في باريس هنا تأملاته في ما دار في «مهرجان كان» الأخير، وتوقف بشكل خاص عند دور المهرجان في إحياء ذاكرة السينما، مما يدفعه إلى اقتراح أن يقوم مهرجان القاهرة السينمائي القادم بعمل مشابه يحيي به ذاكرة السينما المصرية العريقة، ويرهف وعينا بروائعها في زمن التردي والهوان السينمائي.

رسالة باريس

«كلاسيكيات كان» مهرجان داخل "المهرجان الرسمي" للدورة 68

كيف نحافظ على تراثنا السينمائي.تساؤلات الهوية والذاكرة؟

صلاح هاشم

من أهم أقسام مهرجان " كان " السينمائي العالمي التي أحرص دائما على متابعة أفلامها وفعالياتها - وبعد قسم "المسابقة الرسمية" في المهرجان مباشرة، الذي يستقطب بالطبع الاهتمام الاكبر من النقاد والصحفيين في أضخم "تجمع سينمائي في العالم، قسم "كلاسيكيات كان" CANNES CLASSICS الذي يعني بالتراث السينمائي في العالم، والمحافظة على "ذاكرة" السينما وتاريخها، ويسلط الضوء على "الاضافات الفنية والفكرية" التي حققها عمالقة الإخراج في العالم،على سكة تقدم وتطور الفن السابع.

ملصق المهرجان وعليه أنجريد برجمان

وكان قسم "كلاسيكيات كان" في الدورة 68 التي عقدت في الفترة من 13 الى 24 مايو - الذي يعرض من جانب بعض "الروائع" السينمائية التي دلفت الى تاريخ السينما من أوسع باب - وبعد أن تكون مرت بعمليات "ترميم" جراحية تجميلية، تعيد اليها رونقها وألقها القديم وتلمعها، فتبعث فيها الحياة من جديد، وتخرجها الى النور. كما يعرض من جانب آخر للأفلام الوثائقية، التي تحكي عن السينما من خلال تاريخها وشخصياتها المؤثرة – عرض في دورة سابقة من المهرجان، فيلم "المومياء" للمخرج المصري الكبير شادي عبد السلام، وذلك بعد أن تم ترميمه من خلال مؤسسة الفيلم FILM FOUNDATION التي يترأسها المخرج الامريكي الكبير مارتين سكورسيزي.

من عند لوميير ومرورا بسمبان عثمان ولحد أوليفييرا
وخلال الدورة 68 توزعت فعاليات وأفلام قسم "كلاسيكيات كان" في المهرجان على عدة محاور، وبما يمثل، كما سوف نرى هنا، مهرجانا سينمائيا موازيا – ولانقول على هامش – المهرجان الرسمي .. فقد عرض القسم – أو ذلك المهرجان داخل المهرجان - عرض أولا مجموعة كبيرة من الأفلام التاريخية الروائع بعد أن تم ترميمها وتلميعها مثل: فيلم "Z" بطولة ايف مونتان وجان لوي ترنتنيان وايرين باباس، ومن اخراج الفرنسي من أصل يوناني كوستا جافراس – رئيس السينماتيك الفرنسي حاليا - وإستضاف المهرجان مخرجه بالمناسبة، كـ"ضيف شرف" في القسم المذكورفي الدورة 68 وحضور عرض فيلمه- وفيلم "الجنوب" للارجنتيني فرناندو سولاناس، وفيلم "مصعد الى المشنقة" للفرنسي لوي مال، وفيلم "الفتاة السوداء" للسنغالي ابو السينما الافريقية سمبان عثمان، وفيلم "حكاية زهرة الاقحوان الذهبية الأخيرة" للمخرج الياباني العملاق كينزي ميتسوجوتشي وغيرها، وجميعها من كلاسيكيت السينما العظيمة. وعرض القسم من خلال هذا المحور أكثر من 12 فيلما من ضمنها فيلم "روكو وأخوته" للمخرج الايطالي العملاق لوشينو فيسكونتي.

كما خصص القسم محورا للاحتفال بمرور 120 عاما على إختراع الشقيقين الفرنسيين لوميير للسينماتوغراف – جهاز عرض وتصوير في نفس الوقت - عرض فيه فيلما بعنوان "لوميير" عبارة عن مونتاج لأكثر من 114 فيلما من الأفلام التي التقطها وصورها لوي لوميير بنفسه ومجموعة كبيرة من مصوري شركته الذين انطلقوا لتصوير العالم ومدنه الكبرى في الفترة من عام 1895 الى عام 1905، وضم الفيلم بعض المشاهد التي التقطت في مصر والصين وانجلترا وغيرها. وكرس محورا كذلك لتكريم المخرج البرتغالي العملاق مانويل دو اولفييرا - 102 سنة- الذي توفي حديثا، عرض فيه فيلما بعنوان "زيارة حافلة بالذكريات والاعترافات".

الإخوة لوميير

وعرض القسم في محور ثالث مجموعة من الافلام الوثائقية الجديدة عن السينما تاريخها وذاكرتها واعلامها عرض فيه 8 أفلام دفعة واحدة: فيلم عن الممثلة السويدية إنجريد برجمان التي فرضت حضورها الجميل من خلال ملصق المهرجان  للدورة 68 بعنوان "أنا إنجريد برجمان" لستيج بورغمانن وفيلم "هيتشكوك – تروفو" وفيلم عن الممثل الفرنسي جيرار دوبارديو، وفيلم عن الممثل الامريكي ستيف ماكوين وفيلم عن المخرج الامريكي الكبير سيدني لوميه وفيلم عن المخرج السنغالي سمبان عثمان بعنوان "سمبان"SEMBENE  لجاسون سيلفرمان وسامبا جادجيجو وفيلم "هارولد وليليان، قصة حب هوليوودية" كما عرض فيلما وثائقيا عن اسطورة سعفة كان الذهبية بمناسبة مرور ستين عاما على إنشائها في المهرجان، ويتحدث في الفيلم العديد من المخرجين: مثل الصربي أمير كوستوريكا والنيوزيلاندية جين كامبيون والامريكي كوينتين ترانتينو وغيرهم، عن المشاعر التي انتابتهم  لحظة الاعلان عن فوزهم بالجائزة في المهرجان، وكيف تأثرت حياتهم، وتغيرت، بعد حصولهم عليها.

لقطة  من مصر من فيلم لوميير

عثمان سيمبينا

هذا هو أورسون ويلز
وأفرد "قسم كلاسيكيات كان" محورا خاصا كذلك، للمخرج الامريكي العملاق أورسون ويلز بمناسبة مرور 100 سنةعلى ميلاده، وكان ويلز اخترع السينما من جديد في رائعته السينمائية الملهمة "المواطن كين" CITIZEN KANE ولم يتجاوز عمره 24 سنة بعد! وكان الفيلم الذي أخرجه ويلز عام 1941 بمثابة "انقلاب" في تاريخ السينما. ونقطة تحول، حفرت للفن السابع مسارا جديدا، وخلصته من هيمنة التراث المسرحي على صناعة الفيلم واخراجه، وحررت يقينا السينما من قبضته، ووضعتها على سكة "الحداثة". وعرض القسم في ذلك المحور فيلمين وثائقيين جديدين مهمين عن المخرج الاسطورة، هما فيلم "أورسون ويلز. تشريح لإسطورة" لاليزابيث كابنيست، وفيلم "هذا هو أورسون ويلز". كما عرض ثلاثة افلام تم ترميمها له من اخراجه وتمثيله هي فيلم "المواطن كين" وفيلم "سيدة من شنغهاي" بطولة ريتا هيوارث من اخراجه 1948 وفيلم "الرجل الثالث" تمثيل اورسون ويلز واخراج المخرج الانجليزي الكبير كارول ريد من انتاج 1949. وشهد قسم "كلاسيكيات كان" وبحضور كوستا جافراس كضيف شرف القسم، إقبالا كبيرا على حضور فعالياته ومشاهدة أفلامه.

ملصق فيلم اورسون ويلز

ملصق فيلم ويلز سيدة من شنغهاي

تراثنا السينمائي في المخازن
من "كلاسيكيات كان" 68 الى " كلاسيكيات القاهرة" 38 .لماذا؟
مهرجان "كان" يحافظ هكذا على التراث السينمائي العالمي من الضياع، ويعرض لقيمه وتقاليده وإضافاته في كل دورة من خلال قسم "كلاسيكيات كان" ونحن نهمل "تراثنا السينمائي المصري العريق" المعبر عن هويتنا، ونودعه "مخازن" المركز القومي للسينما في مصر و"دكاكين" الوزارة، ونغلق عليه بالضبة والمفتاح، ونتركه هكذا، نهبا للضياع والفناء والاندثار. خسارة، بل هى يقينا "جريمة" في حق أجيال المستقبل في مصر.. لماذا – هكذا فكرت - لماذا لايخصص مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 38 لعام 2016 قسما بعنوان "كلاسيكيات القاهرة" إسوة بكلاسيكيات كان، يعرض فيه لروائع التراث السينمائي المصري العريق- بالتعاون مع مؤسسة الفيلم المذكورة آنفا- وبعد أن يكون تم ترميمها، اوحتى من دون ترميم. كما يعرض ايضا في ذات القسم لبعض الافلام التي تحكي عن تاريخ السينما في مصر، والشخصيات السينمائية المصرية المؤثرة، التي لعبت دورا في نشأتها وتطورها، مثل فيلم "محمد بيومي" للمخرج المصري المتميز محمد كامل قليوبي، والفيلم الذي صنعته ماريان خوري عن المنتجة المصرية آسيا، وغيرها. مع التذكير هنا بان الكثيرين من النقاد والصحفيين المدعوين من خارج مصر، قد لايهمهم مشاهدة الأفلام المصرية والعربية الجديدة المشاركة في مسابقة المهرجان.. بقدر مايهمهم أكثرالتعرف على روائع تراثنا السينمائي العريق، ومشاهدة بعض أعماله في ساحة المهرجان، والكتابة عنها، على اعتبار أن السينما المصرية صاحبة التقاليد والاضافات الفنية العريقة، وعبر تاريخها الطويل، لم تخلق. أو تنشأ من فراغ؟ وربما كانت الافلام المصرية الجديدة المشاركة في مسابقة المهرجان، لاتمت اليها بصلة وأبعد ماتكون عن الوعى بتلك التقاليد التي ارستها، والاضافات التي حققتها، ومقطوعة الصلة تماما بماضيها .. ولم تعد تقدم "صورة تشبهنا". إن اكتشاف رائعة من روائع الافلام المصرية لمخرجينا الكبار من امثال صلاح أبوسيف وتوفيق صالح ويوسف شاهين وكمال الشيخ وغيرهم في المهرجان قد تدفع لاكتشاف مصر من جديد في مرآة السينما، والاقتراب أكثر من حضارة مصر العريقة أم الدنيا، وبما يساهم أيضا في تطوير السياحة في بلدنا.

ملصق فيلم أنا أنجريد برجمان