تبني القاصة المغربية فكرة قصتها على محنة الأنثى، فهي مرغوبة لجذوة مزروعة في النفس البشرية وهي سبب استمرار الحياة، لكنها الأعراف والدين والثقافة الذكورية جعلت من شكلها عورة. هنا تقدم في حدث القصة تناقضا صارخا ببن الشهوة والقيم بشخصية الرجل القاتل الذي حول النساء إلى أجساد دون روح.

مـدينـة النّسـاء

منيرة درعاوي

شعاع ورديّ جريء يتوغّل رويدا رويدا في السّماء،  تتلوه حزيمات من ضوء شفّاف كأجنحة الملائكة. شرفة المنزل الكبير الواقع قبالة المسجد  جلست صبيّة كالبدر أسدلت جدائلها وشرعت تمشط تحت ضوء الفجر القادم من وراء الأفق. كان شعرها سبطا طويلا، داكنا. صعد المؤذّن إلى الصّومعة واسترسل النّداء:  اللّه أكبر، اللّه أكبر، فجأة وقعت عينا المؤذّن على الفتاة الجالسة في الشّرفة تمشط، ارتبك فارتبك الأذان  :   

   " أستغفر اللّه، أستغفر اللّه، "     

لمَّا عرف الناس السبب، عمّت الفوضى في المكان بين لائم ومستنكر ومناد بحلق جدائل كلّ النّساء في المدينة. في الصّباح وصلت رسالة إلى والد الصّبية. " لقد وقعت عينا المؤذّن على ابنتك، فارتبك وارتبك الأذان ".

فصاح الأب  :   

ــ اذبحوها وجيئوا بكوب من دمها لأغسل به عاري.

تطوّع أحد أبناء العمّ لإنجاز المهمّة،  فشحذ نصل خنجره ومضى نحو البيت حيث الفتاة، ناداها فأقبلت وقد تورّد خدّاها خجلا.اضطرمت في صدره الرّغبة فلم يكن قد رآها منذ مدّة طويلة. استيقظت غرائز الذّئب وعوى داخله الاشتهاء وتمتم بينه وبين نفسه  :

 ــ هي ستموت لا محالة،  فلماذا لا أنال منها، ومن بعدها أذبحها؟  

أحكم إغلاق الأبواب، وقد تجمهر في الشّارع مئات الوجوه في انتظار الدّم الذي سيغسل العار.

ويلها. لقد وقعت عليها عينا المؤذّن فارتبك وارتبك الأذان.

تقدّم منها ومزّق رداءها ثمّ طرحها أرضا وهو يفحّ فحيح الأفاعي ثمّ ملأ الكوب من دم بكارتها وذبحها ذبح الشّاة من الوريد إلى الوريد. صاح المتجمهرون بعد أن خضّبوا أياديهم بقطرات من دمها:

ــ لن تقع عليها عينا المؤذّن بعد اليوم، ولن يرتبك الأذان.

في البيت،  كان الدّم يسيل حارّا غزيرا من الجسد المسجّى وارتفع، وحين بلغ سقف الغرفة انقسم أجزاء عديدة سرعان ما تحوّلت إلى شظايا عبرت من خلال الجدران وانتشرت في كلّ الأرجاء باحثة عن صدور النّساء فولجتها وسكنتها.

يقال أنّ أكبر شظايا جسد الصّبية،  سكن في صدر بنت المؤذّن الذي ارتبك حين وقعت عيناه على الصّبية فارتبك الأذان.

منذ أن سكنت الشّظايا صدورهنّ،  أصبحت النّساء عازفات عن الحياة مع الرّجال،  فاتّفقن على أن يغادرن المدينة، ويقمن مدينة خاصّة لهنّ بعيدا، بعيدا جدّا عن ذلك المكان. حملن جراحهنّ القديمة قدم التّاريخ وبعض الأحلام، ونظراتهنّ الزّائغة،  ثمّ رحلن بعيدا، ولم يتركن في البيوت غير الأجساد جوفاء،  خالية من الأحاسيس.اعتادت النّساء ذلك الانقسام في ذواتهنّ،  فإذا الأجساد تروح وتجيء في البيوت،  تقوم بكلّ أشغالها في حين تستقرّ أرواحهنّ في مدينتهنّ التي تلتقي فيها انفعالاتهنّ،  أوجاعهنّ وانكساراتهنّ على مرّ العصور.

كان الرّجال يمضون في الشّوارع دون انتباه إلى أنّ اللّواتي تركوهنّ بين جدران البيوت ما هنّ إلاّ أجساد غادرتها الأرواح إلى مدينة الوجع، وما كان أحدهم ينتبه إلى أنّه يضاجع جسدا لا يحتوي في داخله امرأة.

في مدينة النّساء تلتقي الأجساد بأرواحها،  فيلملمن شظايا من عبرن قبلهنّ على درب حياة أتينها وهنّ حاملات للعنة أنوثة ما لهنّ فيها ذنب،  فإذا هنّ يعاقَبن على جرائم لم يرتكبنها.

ذاع صيت المدينة في أوساط النّساء،  فتركت كلّ واحدة منهنّ جسدها كجذع نخل خاوية، وقصدتها إلى أن بلغ الأمر مسامع بنت المؤذّن الذي وقعت عيناه على الصّبية فارتبك وارتبك الأذان. قرّرت البنت أن تغادر البيت وأن ترحل إلى مدينة النّساء. جنّ جنون المؤذّن فأحكم الحصار حول الفتاة  قائلا  :

ــ تلك المدينة الحرام فلا تقربيها.

استبدّت الحيرة ببنت المؤذّن،  إلى أن خطرت ببالها فكرة، فقرّرت أن تدخل بيتا مقابلا للمسجد الثّاني في طرف المدينة، وأن تمتشط فجرا،  فيراها المؤذّن فيرتبك ويرتبك الأذان،  فترحل بعدها إلى مدينة النّساء تشاركهنّ ما حملن من أوزار الأنوثة عبر العصور، وكان لها ما أرادت ولكنّ المؤذّن الذي وقعت عيناه عليها،  تعرّف عليها فأبلغ زميله بالأمر.

حين اجتمعت عشرات العيون في الشّارع منتظرة كوب الدّماء لتتخضَّب به وتغسل العار،  صعد رجل قد غطّت العمامة شطر رأسه واسترسلت لحيته حتّى البطن، وخطب في النّاس قائلا  :   

ــ أيّها النّاس، لقد قرّرنا أن نستثني بعض أصناف الإناث من قانون "غسل العار " وهنّ  :   

 بنات الحكّام وبنات المؤذّنين،  صاح الجميع  :   

ــ عاش الحاكم،

ــ عاش الإمام،

بين جدران البيت كانت الدّماء تسيل غزيرة حارّة من الجسد المسجّى وكانت بنت المؤذّن تشدّ الرّحال إلى مدينة النّساء.