احتفاء بالعدد مائة من مجلة الكلمة، خصنا الشاعر العراقي المرموق بهذا الديوان الشعري الذي يمثل خطوة جديدة في مسار تجربة هذا الشاعر الذي راكم منجزا غنيا في رحلة اغترابه، هو ديوان أقرب لجدارية على الزمن والتقاط شفاف لمفارقاته مع استدعاء لافت لمرجعيات شعرية خصبة تتقاطع بشكل لافت مع دلالات النص.

ديوان العدد

الطريق الملكي (Trakt Krolewski)

هاتف الجنابي

1

"أريدُ أنْ أصفَ الضوءَ الذي يَنْبَثِقُ في داخلي".

   رهانٌ على ما تَبَقّى مِن اللحمِ والعظمِ والقلبِ والرئتين

رهانٌ على النّفَسِ المُتَقَطّعِ والحرْفِ والخُطُوات الأخيرةْ

فهل أنتَ مُنْحَدَرٌ لا قرارَ لهُ أمْ ضَبابٌ يلفُّ الأعالي،

وأُنْشودةٌ من كواكبَ أخرى رَمَتْهَا العواصفُ خارجَ مغزى الكلام؟

أَجبْنِي، صدى البرقِ، قبلَ فواتِ الأوان!

سُعالكَ يَعْلُو وما أنتَ إلا نشيج صدى،

ما الذي تَرْتَجِي منكَ هذي البلادُ وهذي الطُرُق؟

أيها السائرُ الليلَ بعدَ النهار على الهاوية،

في فضاءٍ يَحُوُكُ الغيابُ بهِ تَمْتمَاتِ الوجود؟ 

ما الذي تَبْتَغِي منكَ هذي السماواتُ

هل كنتَ شهابا، مَلاكا، وصِرْتَ العدم؟

أكُنْتَ الحَوَارِيَّ أعْنِي الأخيرَ يُناجي جراحَ الحبيب

ويَسْمُو بأسْفاره الخارقاتِ على الحجر الآثم؟

أأصْبَحْتَ تَيْها لكي يَعْبُروا في النهايةِ من منفذ البحر

نحو الخلاص لِتَيْهٍ جديد؟

حَذَارِ، ف(لِيلِيثُ) في كلّ منعطفٍ وَهْيَ كائنةٌ

في شحوب الخريفِ وسحرِ الربيع،

تَطلّعْ فثمّةَ فَصْلٌ هُلاميٌّ يَرَاكَ ولا تَرَاه

تَطَلعْ إلى هذه القَوْقَعَةْ

أصِخِ السّمْعَ للصوتِ في لُجَجِ البحار.

 

2

وحدَهما- الحبُّ والصمتُ- يُصْغِيَان

الظلُّ مرآةُ مَنْ لا يَرَى نَفْسَهُ خارجَ المكانِ

أنا الباحثُ عن حلمٍ بين الأرض والسماء

أتلمّسُ شخصا يُشْبِهُ ظلّي

فأرى زورقا تائها وانْعِكاسَ نُهَيْرٍ بمَجرى دُموعي

واضْطِرابَ المعابدِ حولَ مرايا خطاي.

 أنّى التفَتُّ ثمةَ ثلجٌ، زَمْهَريرٌ، مَطرٌ،

 غيمٌ يَتباهى بغياب الشمسِ،

 بَشَرٌ تتطلّعُ  خلفَ تضاريس أيّامِها،

نظراتٌ تلمُّ رحيقَ المَحبةِ من كفِّ النجوم.

كلُّ شيءٍ تَتُوقُ إليهِ مُلْتَبِسٌ،

ساحرٌ كعرائسِ البحر

هل ْكنتَ تبحثُ عن مملكة التوقِ،

عنْ حُبٍّ لا تعرفهُ،  

عن غَمْزَةٍ أو قُبْلةٍ؟

عن صورةِ العمر في لحظةٍ،

عن تماثلِ الأرض والسماء؟

زُرْ إذنْ هذا الطريقَ الملكي

وارْكَعْ لحُوريةِ الماء.

 

3

أتَذْكُرُ كيف عَوَى القطارُ فاسْتيقظتَ مُرْتَعِبَا

مُتَعَثّرا بدُموعِ الوالدين،

كنتَ تعبرُ الحدودَ بين الجنوب والشمال

في لحظةٍ فاصلةٍ بين عالمينِ؟

مرحبا غاباتِ (زيْبزِيدوفيتسه)،

وداعا أيها الفراتُ والسّعَفُ

هل أفقتَ منْ صَعْقَةِ الصحراء والأنبياء،

و"أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي..."؟

قال له الأعمى:

سيبقى يحومُ جناحُ الفراشة

حول منبعِ النورِ للأبدِ...

 

 فجأة تنزلقُ الرؤى ويَزُوغُ المشهدُ

أسيرُ في شارعٍ مُثْقَلٍ بتاريخِ أسْلافِه

أدْخُلُ مَحَلّا، جنبَ مكتبةِ (بروس)،

لصائغٍ عِبْريّ (صارَ صديقا لفِلِسْتِينيٍّ

وكورديٍّ وَلِي،

غابَ الفلسطينيُّ فجأةً عن هذي المملكة)،

اختفى السّاميُّ دونَ وداع

مثل والديه وأنبيائه قبل سنين

لم يبقَ في مكانه سوى حانةٍ،

حُلمٍ نحاسيّ يَرِنُّ...والجدرانُ ترِنّ إليهِ

يا لَهَا من ذكرياتٍ

تبوحُ بها الأحجارُ قبل الشفتين.

 

4

سليلُ الخرافاتِ والطقوس

يريدُ أن يرى نفسَه مِنْ قَفا المرآة

أنْ يجلسَ في الظلِّ لأنه أكثرُ إشراقا وأعمقُ رؤيةً،

ما يَرَاهُ يَجْعَلُنِي أعودُ للداخل مُسْتَبْشِرا بِتَصَفّحِ الأفكار،

مُحْتَمِيَا بأوائلِ الكلمة:

كاف = لام= ميم = سين = أنا=...

كلُّ العناوين التي لم تُقْرَأْ هي أجنبية

حتى التي تَحْجُبُها العتمةُ لا تَزَالُ

تُحَدّقُ فينا بعيونٍ أليفةٍ - أجنبية

أُغْمِضُ عَيْنَيّ، أتأمّلُ في العالمِ،

يَمْلؤُني ضَوْءٌ، فَرَاشَةٌ تعبرُهُ   

تقرأُ وجهي،

تحطُّ فوقَ الشفتين.

 

5 

الصورةُ والصوتُ مرايا

بينما الأوراقُ ريازةٌ في مجرى الروحِ والعصبِ

أعمارٌ تتحركُ خارجَ أسوار الزمنِ

(بولسوافُ) مِدَادٌ- عَبَقٌ،

وانْبثاقُ سُؤالٍ وراءَ سُؤال

أراهُ فمَا يَسْتَغيثُ بجامعةٍ،

بتماثيلَ تحرسُ الطرقاتِ وأرْواحَها،

باسْمِ مَنْ رَحَلوا أو غدا سيرحلون.

ما مِنْ أحَدٍ باسْتغاثاتِهِ اليومَ يَكترثُ،  

لو كانَ (غووفاتسكي) هو الكسندرَ الكبيرَ،

لهجرَ الطلابُ دُرُوسَهُمْ

وانتظروا هُبُوطَهُ من بُرْجِ بابل،

لأصْبَحْنَا نحنُ المُحاضرين

عاطلينَ عن الكلام.

 

حتى جَدُّهُ الشامِخُ في مَيْمَنةِ القصرِ-

حارسُ أتباعهِ وخُصُومِهِ، القابضُ على جَمْرَةِ الشِّعْرِ،

بنظراتِهِ العابرةِ للمَجَرّاتِ، وسِحْرهِ الأبَوِيّ

لم يَعُدْ قادرا على إيقافِ هذا الزحفِ المهيب

لِمَنْ هُمْ في الصفوف الخلفية- أعني في قاع الجحيم-

أولئك الذين آمنوا ب(تاريخ الآتي)...

لأنّ الطليعةَ المُكابِرَة،

بِريشِها المنفوشِ وأصْباغِها المعاصرة

ما تَزَالُ تبحثُ عَنْ (سِفْرِها الضائع)،

لأنها لم تُشَفّرْ بعدُ طلاسمَ هذا الآدميَّ

لأنها اكْتَفَتْ بِنَبْشِ حجارةِ الماضي،

بتَفْتِيتِها ورَشْقِ حامِليها،

لأنّ هذه (المملكةَ المُنتفضةَ) منذُ قرون،

لم تَفِقْ بعدُ من لطمةِ المارد -

(زرنيخ الماضي) السائلِ في كلّ مكان.

حبيبتي، أَفِيقِي،

أيتها الساحرة!

 

6

آياتٌ نزلتْ في هذا الدرب

وأسماءٌ حُفِرَتْ،

أسْفارٌ نُفِيَتْ وملائكةٌ تَسْتغيثُ،

كنائِسُ بارَاتٌ، نُصُبٌ فنادقُ مَتَاجرُ، أشْجارٌ،

أثرياءُ، مُتَسَوّلونَ، أفلامٌ تَسِيلُ دَما وأُخْرى شَهْوَةً،

شعراءُ كتّابٌ فنانون يَتحدّثونَ مع النيازك والبراكين،

كهَنَةٌ يُناقشونَ عبرَ الهواتفِ مَصِيْرَ الموتِ الرحيم

ثمةَ طلابٌ يَتَغَيّبونَ عن درْسِ اللاهوت

ليجلسوا في أقربِ بَارٍ- مقهى،

سياسيون يَتَحَاوَرُونَ حَوْلَ المُثلِيّينَ في الحانات،

ماركسيونَ يَقذفونَ ماركسَ بالكوندوماتِ

وقناني الويسكي الفارغة، اشتراكيون منهزمون

 

وصحافيون يُهَيّئُونَنا لحروبٍ يَفترضها الآخرون!

سماسرةٌ يَسْخَرُونَ من الثقافة،

يَسْألونني عادةً مِنْ أينَ أنا؟

من اللامكان، أقولُ. يُقهقهون

ثم يَدْعُونني لكأسٍ كأنها مُسْتلةٌ من دِنانِ الآلهة

ثمة أنبياءُ تائهون، مُنْتَفِضُون يُشْبِهُونَنا،

ومُلوكٌ ينتظرونَ في محطات مهجورة.

ما أكثرَ الأنبياء في هذي البلاد! 

مِنْ هُنَا مَرّ - الكاهنُ الشاعرُ القدّيسُ-

الناجي من محرقة الأيام

كانَ يُرَتّلُ أناشيدَ الخلاص

رأيتُهُ مَرّتينِ، يَداهُ شُعْلَتَانِ ورأسُه فَنَار.

ألبَسُوهُ مؤخرا رَبْطةَ عُنقٍ حمراء

وسرَقَ الإنترنتيون صليبه!

سنلتقي أيها الحَبْرُ قريبا،

لنشربَ نخبَ الحالمين!

 

مِنْ هُنا رُشِقْنَا في الثمانينات

بعطورِ السلطةِ المُسيلةِ للدموع

كانَ الحاكمُ يَسْتحِمُ بِخَلّ الوَهْمِ،

تتناسلُ راياتهُ، كقُشُورِ البصل،

وسراويلُهُ الداخليةُ تُرفرفُ فوق الشرفات،

أما نحنُ فكنّا نعلكُ الرياحَ  

ونقرأ المستورَ من الأشعار.

حبيبتي، أفيقي،

أيتها الساحرة!

 

7

في الطريق الملكي-

مِنْ بدايةِ العالمِ الجديدِ

حتى سيفِ الملكِ المسلول

تحتَ رحمةِ السماء -

كلُّ المنافذِ والمَعَالم

تقودُ إلى قلبِ البلاد وأسراره،

تِكْ تِكْ تِكْ تِكْ، أنا أنت،

يلتقي الليلُ والنهارُ،

حيث منظرُ الفجرِ النديّ،

زرقةُ العيونِ لا تَزُول

ولا لهفةُ الشفاهِ والصدور

تِتِكْ تِتِكْ تِتِكْ، لهبٌ - شُهبٌ،

 

ما أسعدَ أنفاسٍ تَعْبُرُها دونَ رقيب!

مرحبا أيتها الفتنةُ - النبيذُ المعتّقُ،

أُقَبّلُ رقائقَ الثلج على الأهداب،

فتَنْسَابُ خمرا فوقَ الشفتين

دَوّني هذا الجمالَ يا قبلاتُ

واحْرسِي يا عواصفُ عاشقيهِ،

فثمة رِحْلةٌ أخرى لكلكامشَ -

 

عشْبةُ الخلود فينا وفيكِ والموقدُ لنْ ينطفيء.

مرحبا أيتها الثمارُ، يا عناقيدُ لا تَخْذِلينا،

يا أنهارَ حياتي وغاباتِ صَحْرَائِي،

تَذَكّرِي تلك الينابيعَ وابْتَهِلِي لها

 

كلُّ نَسْمَةٍ تَحْتَفِي بها الريحُ،

كلُّ نظرةٍ غَبَشٌ جديدٌ

بانْتظار مَنْ يُدوّنُهُ

العيونُ تكتبُ ونحنُ نقرأ.

 

8

موسيقى - أصداءٌ نجهلها،

لا نَدري هل عَقْلٌ يحملها

أمْ نبعٌ رَبّاني

أَصْغَى النهرُ لهذا الإيقاعِ طويلا

حتى اخْتَلَطَ اللحْنُ بأنْفَاسِ المَجْرَى

مَرْحَى، مرحى بإلهِ الأمواج

كلُّ الطرقات تُردّدُ وقعَ الآتي

من غِرْيَنِ فيستولا،

 

جوقاتٌ تَتْبَعُها جوقات

في كلّ مكانٍ (شوبان)،

في الحلمِ وفي اليقظة

تمَدّدَ هذا الصمتُ - الصوتُ،

حتى غَمَرَ الضوءُ الغيمَ

فصارَ الجنحُ يُصفّقُ للجُنْحِ

لشعاعٍ يَفتحُ أفقا للكونِ،

رأيتُ دُرُوْبَا تُنِيرُ

تُرَفْرِفُ فوقها أجنحة.

 

9

في هذا الطريق أبجديةٌ تَتَجَدّدُ،

دوّنَتْ طلائعُ الغدِ،   

بحبرِ الحياةِ عَصْرَها،

"نعيشُ في قاع الجسْمِ، في أسْفل الرّعْب،

يَنْحَتُنا جوعٌ صبورٌ، ويقطعنا زَمْهَريرٌ أبيضُ"

 

-كانَ (باتشِينسكي) يرفعُ سقفَ الخلاصِ،

ترتوي دَمَا ومَحبّةً من كأسِهِ الكلماتُ-   

تَسْتَعِيدُ حياتَها الذكرياتُ،

بعيونِ وتَوْقِ العابرين

كانتْ آلهةُ الإلهامِ لهذا الإيقاعِ تَسْجدُ.

فلا تَبْخلوا بالحديث إلى الأشجار،

ولا تَبْخلوا بالسلام على الأرواحِ

فهي في كلّ آجُرّةٍ وغُصْنٍ وشَفَة،

تَلُفُّ الفضاءَ بحثا عن الحالمين.

حبيبتي، يا أرضَ الجمال أفيقي!

 

10

مَنْ أنتَ بهذا اللغزِ الكونيّ؟

وهْمٌ مَسْحُورٌ أمْ سطوةُ أحلامٍ مُنْبَثِقة؟

أنتَ الأمضى فعلا،

الأعْمَقُ صمتا، لَسْتَ بعيدا عنّا

تجمعُ حولكَ ما يَتَنَافرُ من أصوات،

تحملُ أعباءَ الموتى والأحياء

 

تحرُسُنا بعدَ الموتِ وفي اليقظة

أنتَ المجهول الجنديُّ الحاضرُ في كلّ زمان

لسْتَ رداءً أو وَجْهَا،

الريحُ بلا شكلٍ أو طعمٍ أيضا

لكنْ، حينَ تعانق بالصدفةِ عاشقانِ

رأيتُ على خَدّيْكَ وتحْتَهُمَا

تَوَرُّدَا وابْتِسَامةً يأتلقان.

 

  11

مهاجرون يحلمون بالبحر،

وبحّارة أضاعوا بوصلةَ اليابسة

قُبْلَةٌ ملتهبة

 

في البحثِ عن الفَمِ.

غرباءُ يَبْحثونَ عن أرواحِهم  

في مدينةٍ تُرَمّم ذاتَها بعد غزوات

القائلين بنقاءِ الأعراقِ والبلدانِ،

أيها الغرباءُ لا تخافوا هذي البلاد

إنّ المحبةَ تكفي ها هنا

لمليونِ سنة.

 

12

لم يَنْتَظِروا أحدا يُنْهِي الكابوسَ فهَبّتْ عاصفةُ الفجرِ،

حتى أنّ الأيّامَ اشْتَقّتْ تقويما منْ جسدِ الموت

44 – رقمٌ بولنديٌّ مسحورٌ يَتَكرّرُ كالطيفِ،

مَنْ يحفرْ أعمقَ تحتَ الغاباتِ،

بذاكرة الريحِ، وفي أعماقِ اللهبِ،

 

    يكشِفْ سرَّ المشكاة الموقودةِ داخل أنفسِنا،

    قَبَسٌ من أرواحٍ يَرْبُطها بفتيلِ العمرِ المُشْتَعلِ،

    أعمارٌ نُذِرَتْ للآتين لكي يقفَ الواحدُ منتصبا في هذا البلدِ،

    قِفْ واسْتَلْهِمْ ما في الشارعِ، والساحاتِ

    فثمّةَ أعينُ للأحلامِ وللحبِّ شِفاهْ

    هلْ تَعْرِفُ أنّ الضوءَ المُنْسَلَّ من الأعماق لمنْ قالوا: لا،

    تُوْقِدُهُ أنْفَاسٌ ودماءٌ تَسْري في كلّ الأرجاء

    هذي الأنوارُ وهذي الآمالُ هِبَاتُ القتلى

     لولا مَنْ رَحَلوا وُلِدَ الأطفالُ شيوخا

     والقُبلاتُ الحرّى   ركَلَتْها الأقدار.

     يا ربُّ إذا كانَ الحبُّ بهذا المقدار،

     لِمَ تَقْبَلُ أنْ تحْتَرِقَ  الأنفاسُ بلا  جدوى؟

 

     يا ربُّ أهذي الرِّعْشَةُ بينَ اثْنينِ شعاعُ المعنى؟

 

13

 

     أهلُ الدارِ ضيوفٌ عندَ الضيفِ هنا،

     قد حَدّثَني الكرسِيُّ بهذا والكأسُ

     وحتى اللّقْلَقُ بين الأشجار

      كان "الإخْوَةُ" قدْ بحثوا عن سِرّ الحجرِ الناتيءِ

      من قلب الإنسان ومنبعهِ،

 

     لم يَنْتَبهوا للطرقِ الوحشيّ على الأبواب

     جمعوا ما أمكنَهم من قوتٍ في أيّارَ ليأكلَ منها نِيْسَانْ  

     لكنّ الشهوةَ للموتِ أزاحَتْ أُغْنِيَةَ الأَطْفالِ

     وألْغَتْ كلَّ الرِّحْلاتِ إلى العقلِ

     منْ حَاوَلَ أنْ يُطْفِيءَ مَحْرَقةَ الأيامْ

     لم يَلْحَقْ: أطبقَ خطمُ الوحشِ على الأسوار

     فعلوا ما بالوِسْعِ: الأرْوَاحُ تَلَوّتْ في الأفران

 

سَقَطَتْ أسوارٌ وارْتَفَعَتْ ذكرى

هل كانَ على هذي الأرواحِ طويلا

أنْ تَتعذّبَ أو تَتَفَحّمَ،

كي نعرفَ كَمْ في المرعى البشريِّ من الأدران؟

 

    "لم يتغيّرْ شيء، الجسدُ خزينُ ألم،

  عظامه هَشّةٌ/ مَفاصِلُهُ مَرِنَة،

  في التعذيبِ كلُّ هذا يُؤْخَذُ في الحسبان".

 

14  

أرى نجمةً مجنّحَةً فوق كلّ عابر

تتشابك الأصواتُ والنظراتُ

 

أجراسُ الكنائس تُقْرَعُ،

لأنّ الحاضرينَ ما عَادوا يَسْمَعُون:

طرَشُ الروتينِ وعَمَى المهانةِ اليومية

تطرقُ الأبوابَ وتقرعُ الطبول.

المعابدُ تهزلُ والحاناتُ تتكّرشُ،

غزواتُ العقل القضيبيّ تتواصلُ...

"السماءُ لنْ تسقطَ منْ تْلْقَاءِ نفسِها

ينبغي عَلَيْكَ أنْ تَبْلُغَهَا" قال ميتسكيفيتش.

 

صليبا أرى فوقَ شُعلةٍ،

جسَدا مُشْتَعِلا،

حُلُمَا نازفا من زمنٍ سحيق،

لم يَسْتَطِعْ(كوبَرْنيكُ)،

ولا أحْفادُهُ، أنْ يُوقفوا

نحيبَ الملائكةِ حَوْلَهُ،

ولا هذا الدمَ الصاعدَ نحوَ النجوم،

الخُبْزُ والنبيذُ شاهدان،

والقلبُ على نصفين!

لا أحدَ، سَيُرَتّلُ  أقانِيمَهُ بعدَ اليوم

(هل بوّاباتُ القُدسِ تقويمُ نِسْيَانِها؟،

إذنْ أينَ نشيدُ رَحْمَتِها وتاريخُ ميلادِها؟)

مثلما سالَ حبرُه سابقا

ستنزفُ الكلماتُ

في بَرْزَخِ الوقتِ،

بانْتظارِ أنْ تُفْتَحَ البوّابةُ الثامنة

بانْتظار اللحظةِ المجلجلة

حبيبتي، يا أرضَ الجمالِ، أفيقي!                  

 

برمنغهام  24 تشرين الثاني 2014- وارسو 23 نيسان 2015

 

(العراق ـ بولندا)

 

هوامش:

- "أريدُ أنْ أصفَ الضوءَ الذي ينبثقُ في داخلي" مقولة للشاعر زبيغنيف هربرت وردت في السياق التالي:

 „Chciałbym opisać najprostsze wzruszenie[ …], ale nie tak jak robią inni[…]chciałbym opisać światło, które we mnie się rodzi”.  

- زيبزيدوفيتسه- Zebrzydowice- مَعْبَرٌ حدودي بولندي مع دولة التشيك، دخل الشاعرُ منه إلى الأراضي البولندية فجر يوم 24 آب/أوغسطس 1976.

-"أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي...وأسمعتْ كلماتي مَنْ به صممُ" بيت شعري لأبي الطيب المتنبي(915- 965م)..

-بولسواف بروس(1847-1912) واسمه الحقيقي (ألكسندر غووفاتسكي) روائي وقاص بولندي شهير يعتبر أحد مؤسسي الواقعية في الأدب البولندي وله مكتبة باسمه امام جامعة وارسو.  وفيستولا- أكبر أنهار بولندا يشق وارسو نصفين. وسيف الملك المسلول- إشارة إلى عمود أو تمثال الملك البولندي زيغمونت الثالث(1566-1632) الموهوب فنيا. رُفِعَ التمثالُ في 1644م في ساحة القصر الملكي في وارسو وهو يشكل بداية المدينة القديمة. – "المملكة المنتفضة" إشارة إلى بولندا التي كانت متمردة عبر تاريخها المشاكس.

-آدم ميتسكيفيتش(1798-1855) أحد أعظم شعراء بولندا في الحقبة الرومانسية، وكان مفكرا وناشطا سياسيا ومترجما، يقع أحد أهم تماثيله في ميمنة القصر الجمهوري في وارسو. وله مخطوط مزقه الشاعر بعنوان (تاريخ المستقبل) حول منجزات الفتنازيا العلمية في أوروبا. وميتسكيفيتش أشاع فكرة الفيلسوف والقائد الروحي المسيحي البولندي (أنجي توفيانسكي 1799-1878)الذي وصف العبرانيين ب"الإخوة الأكبر سنا"واعتقد بأنهم والبولنديين وفرنسيّ نابليون هم من يُنفذ فكرة الخلاص التي بقيتْ حبرا على ورق!

-كشِيشْتوف كميل باتشينسكي(1921-1944) أكبرُ شعراء المقاومة البولنديين في فترة الحرب العالمية الثانية، قتل أثناءها. "نعيشُ في قاع الجسْمِ، في أسْفل الرّعْب، يَنْحَتُنا جوعٌ صبورٌ، ويقطعنا زَمْهَريرٌ أبيضُ" من قصيدته: (نعيشُ في قاع الجسد- 1942).

- فريدريك شوبان(1810-1849)-موسيقار بولندي كبير، أقيم له أول كونسرت، في بناية القصر الجمهوري الحالية في العام  1818 وكان له من العمر ثماني سنوات! كما وأقام لفترة في بناية كلية الاستشراق الحالية بجامعة وارسو حيث يعمل الشاعر، وهو حاضر في هذا الشارع الحيوي.

-الحَواريّ الأخير هو (متياس) الذي تم اختياره بدلا من يهوذا الأسخريوطي المنتحر، تنقّلَ بين الأمصار لنشر دعوة المسيح، لكنه رُجم بالحجارة وقُطع رأسه.

-ليليث: شيطانة أو روح شريرة ورد ذكرها لأول مرة في الميثولوجيا السومرية وصُوّرتْ كشيطان الليل في الكتاب المقدس.

-الطريق الملكي يخترق أهمَّ شوارع وارسو على الإطلاق، (يبدأ من ساحة القلعة الملكية في شارع كراكوفسكه بشيدميشتشه، وصولا إلى القصر الملكي في فيلانوف). ولهذا الشارع تاريخ وأهمية عظيمة حيث يوجد القصر الجمهوري وجامعة وارسو ووزارة الثقافة وعدد من الكنائس وبيت الأدب، والقصر الملكي، ومطاعم وحانات وفنادق متميزة، ومنها تبدأ حدود المدينة القديمة التي دُمّرتْ أثناء الحرب العالمية الثانية، وليس بعيدا منها كانت تقع أسوارُ الغيتو التي دُمّرَتْ هي الأخرى سنة 1943، ومناطقُ منتفضي وارسو في 1944، كما تُؤَدّي إليه شوارعُ وأزقةٌ، بعضُها يقود إلى نهر الفيستولا، والآخرُ نحو ساحة النصر، وضريح الجندي المجهول، ليُشَكّلوا كتلةً جغرافية- تاريخية – ثقافيةً واحدة. لا أهمية لوارسو بدون هذا الطريق التاريخي- الأسطوري.

- "لم يتغيّرْ شيء، الجسدُ خزينُ ألم..." من قصيدة (التعذيب) للشاعرة فيسوافا شيمبورسكا.

- "السماءُ لن تسقط من تلقاء نفسها ينبغي عليك أن تبلغها"، مقولة الشاعرِ البولندي ميتسكيفيتش وردتْ كالآتي

: “Niebo samo nie spadnie trzeba je osiągnąć”